كلمة معالي العلامة عبد الله بن بيه
رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه.
وبَعدُ، فَإنَّ دَرَجةَ الإِفْتَاءِ في سُلَّمِ الشَّريعةِ مُنِيفَةٌ، ومَرتَبَةَ صَاحِبِه مَرتَبةٌ شَرِيفَةٌ، لها شأن عظيم في الإسلام، فهي خلافة للنبيe في وظيفة من وظائفه في البيان عن الله تعالى، ولذلك، كانت الفتوى محل عناية المسلمين بمختلف مراتبهم، أمراء أولي أمر، أو علماء أهل رأي ونظر، أو مستفتين باحثين عن حكم الله في ما ينزل بهم من النوازل، ويحيق بهم من الملمات.
تعريف الفتوى
الفتوى: اسم مصدر من أفتاه في الأمر، إذا أبانه له، وهي: الإجابة على مـا يشك فيه حسب عبارة الراغب، كمـا في التاج، يُقال: استفتى الفقيه، فأفتاه، والاسم: الفتيا والفتوى، ويُجمع على فتاوٍ، وقد يُفتح تخفيفاً، كمـا نص عليه مرتضى([1]).
والفتيا اصطلاحاً: (تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه)([2]). قال القرافي: إنها إخبار عن الله تعالى، فالمفتي كالمترجم.
الفتوى والحكم:
الفتوى أعم من الحكم، إذ أن الأحكام قسمان منها ما يقبل حكم الحاكم مع الفتوى فيجتمع الحكمان، ومنها ما لا يقبل إلاّ الفتيا([3]).
أما القسم الثاني فهو العبادات، وقد بيَّن ذلك القرافي خير بيان في الفرق بين قاعدة الفتوى وبين قاعدة الحكم.
فالفتوى تدخل في الأحكام الاعتقادية وتدخل في الأحكام العملية جميعها من عبادات ومعاملات وعقوبات و أنكحة، وتدخل في الأحكام التكليفية من واجبات ومحرّمات ومندوبات ومكروهات ومباحات، وتدخل في الأحكام الوضعية من أسباب وشروط وموانع وصحة وفساد([4]).
5- ذكر أكثر المؤلفين الفتوى في فروض الكفاية كقول خليل المالكي في باب الجهاد: (كالقيام بعلوم الشرع والفتوى “ودفع” الضرر والقضاء والشهادة والإمامة والأمر بالمعروف)([5]).
والأصل أن السلطة مدعوة إلى القيام بهذه الفروض بالتعاون مع المجتمع ولهذا ورد في بعض الآثار: لا يفتى الناس إلا ثلاثة أمير أو مأمور أو متكلف”. قال المدني على كَنُّون: فالأمير هو الإمام والمأمور نائبه والمتكلف غيرهما وهو الذي يتقلد تلك العهدة من غير حاجة ولا تكليف رسمي.
وقد كان العلماء يشكون من جهل المفتين وتجاوز المنتحلين، حتى قال القرافي في “الفروق”: ولاعتبار هذا الشرط يحرم على أكثر الناس الفتوى، فتأمل ذلك فهو أمر لازم”.
وإذا كان ذلك في زمانهم فكيف تكون الحال في زماننا الذي عمت فيه الأهواء فأعمت البصائر ودارت على العلم وأهله الدوائر. فمَا أحْوَجَنَا فِي هَذَا الأَوَانِ لِضَبْطِ الفَتَاوَى، التِي تَرَاوَحَتْ بَيْنَ شِدَّةٍ فِي غَيْرِ مَوضِعِهَا، وسُهُولَةٍ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، فَاسْتَحَالَتِ السُّهُولَةُ إِلى تَسَاهُلٍ والشِّدَةُ إِلى غُلُوٍ وتَنَطُعٍ. وذَلِكَ نَاشِئٌ عَنْ عَدَمِ الإِلْمَامِ بأُصُولِ الفَتْوى عِنْدَ الأَوائِلِ مِنْ مُجْتَهِدينَ ومُقَلِدِينَ، فانْتَحَلَ صَفَةَ المُجْتَهِدِ مَنْ نَزَلَ عَنْ دَرَجَةِ المُقَلِدِ البَصِيرِ، واسْتَنْسَرَ البُغَاثُ واسْتَبْحَرَ الغَدِيرُ، وانتشرت فتاوى التكفير التي مهدت لاستباحة الدماء والأموال بوسائل التفجير والتدمير بالإضافة إلى أن لِكُلِ زَمَانٍ نَوازِلَه وفَتَاوِيه، تَنَوعَتْ بِتَـنَوعِ الحَوادِثِ والوَقَـائِعِ، وتَعَدَدتْ بتَعَدُدِ اجْتِهَاداتِ المُجْتِهدِينَ واخْتِلافِ أَهْلِ الصَّنَائِعِ.
ج- مسؤولية الدولة في ضبط الفتوى
أخطر ما أنتجه الواقع المعاصر أن صارت الفتوى سلاحا للمتطرفين وحملة الفكر المأزوم بكل أطيافه وتمظهراته، استحل به الأديان ودمر الأوطان وجنى على الإنسان فاصطلت بناره كليات الشريعة، واجتثت به جزئياتها ومفاهيمها، وانبتت نصوصها عن سياقاتها، ولذلك فالواقع اليوم يبدو ملحاً إلحاحا لا ينتظر تنظيرَ المنظرين ولا تأصيلَ المؤصلين، واقع معقد في تركيبته، وفي إكراهاته، وفي تقلباته وتغيراته، وهو ما يلزم الدولة في المجتمعات المسلمة أن تستعمل نفس السلاح في مواجهتها المباشرة وغير المباشرة للتطرف، وفي تدخلاتها العلاجية والوقائية الاستباقية ضد ثقافة العنف والكراهية والإرهاب، وتحصين المجتمع بفتاوى رصينة ضد الفتاوى المارقة التي تفضي إلى المفاسد دون المصالح، وتحش نيران الحرب المجنونة بدل السلم بيئة كل الحقوق، ومظلة لكل مكونات المجتمع.
وقد كان لعلماء المسلمين وعي بأهمية تدخل الدولة في تنظيم الفتوى، قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: «إذا نهى الحاكمُ العالمَ أن يفتي فليس له أن يفتي، فإن أفتى فهو عاصٍ.
ونصوا على منع ولي الأمر جهال المفتين من الفتوى، قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله عن المفتين الجهلة: ويلزم ولي الأمر منعهم، كما فعل بنو أمية وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبُّ الناس، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم لذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبّب من مُداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟
ويأتي القرار المبارك لمجلس الوزراء بدولة الإمارات العربية المتحدة في عام زائد عام الوفاء لمنهج التسامح والاعتدال والحكمة بإنشاء مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي في سياق تحقيق غاية ضبط الفتوى ومأسستها، ليمثل مع غيره من المؤسسات في الدولة سياجا وحصنا من الفتاوى المارقة، والتيارات الهدامة التي تهدد الأمن الروحي والسلم الأهلي والاجتماعي والإقليمي بل والدولي، ولا يقف هذا المجلس عند هذه الغاية، بل سيكون معلما وملهما ليس فقط للعلماء المفتين في هذه الدولة الكريمة المباركة، ولكن لنظرائهم وزملائهم، والمجالس والهيئات الأخرى في العالم الإسلامي التي سيكون محاورا لها، ومشاركا معها كما نص على ذلك القانون التأسيسي.
فقد كانت دولة الإمارات سباقة في تنظيم مراكز الفتوى لتقدم الخدمة الدينية للمواطن والمقيم إرشاداً وهداية وتوجيهاً ونصحاً حيث ينشر المفتون، وهو سعي محمود وجهد مشهود، وهو ما يتوج اليوم بإنشاء مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي لرفع مستوى الرعاية والعناية التي توليها دولتنا حرسها الله لهذا القطاع الحساس دينيا ووطنيا، وذلك للتأكيد على الاختصاص الحصري في إصدار الفتاوى العامة الشرعية لمجلسكم هذا الذي أنيط به أيضا ضبط الفتوى الشرعية وتوحيد مرجعيتها وتنظيم مسئوليتها وتأهيل المفتين وتدربيهم.
كما أنيط بمجلسكم بالخصوص مواجهة الإساءة إلى المقدسات والتكفير والتعصب المذهبي، كما أضيف له بُعد بحثي لتقديم الدراسات الشرعية بمختلف مجالات التنمية.
إنها صلاحيات يشرف مجلسكم الموقر أن تناط بعهدته، وأن يكون محل ثقة قيادة دولتنا -وعلى رأسها رئيس الدولة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد حفظه الله ونائبه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد ولي العهد ونائب القائد العام للقوات المسلحة، وسائر شيوخ الإمارات.
وما اختياركم لهذه المهمة إلا لمكانتكم العلمية والخلقية، وهو اختيار يشعرنا بمسئوليتنا الدينية والوطنية وكيف نقوم بواجبنا في هذا العالم.
إنه تحد كبير ومهمة جسيمة إلا أن الظروف الجيدة والأجواء الكريمة والروح الإيجابية ووتيرة البناء والنماء ووضوح الأهداف وإتاحة وسائل البلوغ وجودة الآليات وقدرات كل واحد منكم بعد توفيق الرحمن الرحيم يبشر بأنَّ مجلسنا سيرفع التحدي ويكون عند حسن ظن القيادة ويلبي متطلبات المرحلة، ويسهم في النهضة التي تنجزها بكفاءة واقتدار قيادة بلدنا.
الفتوى وفقه الواقع
إن مهمة الفتوى تنزيل أحكام الشرع على واقع المكلفين، ولذلك فهي ترتبط بحياة الناس ومعايشهم، ومصالحهم في العاجل والآجل، ومن ثم فإن ما ينبغي أن يرعاه المفتي هو حفظ مقاصد الشارع وما يحققها في واقع الناس.
ولقد كان هذا شأن المفتين منذ العهد النبوي، وعهد صحابته رضي الله عنهم، وخاصة الخلفاء الراشدين الذين كانوا يحققون مناطات النوازل بناء على الواقع، وتبعا لظروف تغيرت وأحوال تطورت، وكان الفقه في الدين عاصمهم من الفتنة، وكانوا يفسرون ويتأولون ويعللون وعلى الواقع ينزلون([6])،ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا ([7])، فإنهم كانوا يدركون تأثير الواقع في النظر الفقهي، بل كانوا يعدونه شريكا في عملية استنباط وتطبيق الأحكام([8])، كما دلت عليه النصوص والأصول وممارسة السلف الراشد.
فما علاقة الواقع بالفتوى؟
قال ابن القيم رحمه الله:>ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع. ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً”.
والمطلوب من المفتي هو معرفة الواقع بكل تفاصيله، وليس الواقع بمعنى اللحظة الحاضرة، ولكنه الواقع الذي يعني الماضي الذي أفرز الحاضر وأسس له، والذي بدون تصوره لا يمكن تصور حاضر هو امتداد له وحلقة من سلسلة أحداثه وإحداثياته. غير أن ذلك لن يكون كافيا دون استشراف مستقبل تتوجه إليه تداعيات الحياة وتفاعلات المجتمعات، وذلك ما نسميه بالتوقع([9])،.
إن الواقع الذي يبحث عنه الفقيه هو الذي يحقق العلاقة بين الأحكام وبين الوجود المشخص، لتكون كينونتُها حاقةً فيه، أي ثابتة ثبوتاً حقيقياً، يتيح تنزيل خطاب الشارع على هذا الوجود سواء كان جزئياً أو كلياً، فردياً أو جماعياً، وذلك يفترض مراحل تبدأ من ثبوت حكم موصوف لتنزيله على واقع مشخص معروف. فالواقع المطلوب فقهه هو الواقع المحكوم فيه والمحكوم عليه؛ لأن المحكوم به هو ما سماه ابن القيم “الواجب في الواقع”، وهذا هو الحكم الشرعي الباحث عن محل مشخص.
والواقع هو الإنسان فرداً ومجتمعاً، ولهذا فإنَّ المناط لا يتحقق إلا بالإنسان، ومن خلال الإنسان نفسه، فهو المحقق الأول والأخير، لأنه الفاعل والمحل. وهذا يعني أن علاقة الفتوى بنوازل الواقع تنبع من كونها “المؤطر القانوني للنشاط الاجتماعي والاقتصادي” كما يقول جاك بيرك باعتبارها تتعلق ب”مشكلة عقائدية أو أخلاقية يصطدم بها المسلم في حياته اليومية، فيحاول أن يجد لها حلا يتلاءم وقيم المجتمع بناء على قواعد شرعية” بحسب عبارة روجي ادريس.
لقد أنتجت العولمة واقعا جديدا معقدا، فرض نفسه على الدول والمجتمع والأسرة والتعليم، والسياسة والاقتصاد، واقترح الواقع الجديد صورا مغايرة للصور التي نزلت فيها الأحكام الجزئية، والمواثيق الدولية شبه حاكمة، واستقرت الحدود بين الدول الوطنية على أساس هذا الواقع، وأسلحة الدمار الشامل تهدد الوجود البشري بل الكون كله، وهو واقع يؤثر في النظم والقوانين، ومدى ملاءمتها للنصوص الشرعية مجردة عن مقاصد التعليل وقواعد التنزيل([10]).
لذلك، فليس أمام المفتي من وسيلة سوى فهم الواقع بتركيبته ومتغيراته وإكراهاته، المرتبط بتركيبة الكينونة البشرية في سعتها وضيقها، ورخائها وقترها، وضروراتها وحاجاتها، وتطوراتها وسيروراتها([11])، وعليه الحرص على تطابق كامل بين الأحكام الشرعية وتفاصيل الواقع، بحيث لا يقع إهمال أي عنصر له تأثير من قريب أو بعيد، في جدلية بين الواقع وبين الدليل الشرعي، تدقق في الدليل بشقيه الكلي والجزئي، وفي الواقع والمتوقع بتقلباته وغلباته، والأثر المحتمل للحكم في صلاحه وفساده، بحيث لو تنزل بالفعل كان محمود الغب جار على مقاصد الشريعة بحسب عبارة الشاطبي.
إذا ثبتت العلاقة بين الواقع والفتوى، فكيف يتعرف المفتي على الواقع؟
المجتهد أو المفتي يتوسط بين النص وبين الواقع، فإذا كان الحكمُ يعرف من خلال النصوص الشرعية وما يستنبط منها، فإنّ الواقع بحاجة إلى مُعرِّفات وهي الموازين الخمسة عند أبي حامد الغزالي في كتابه >أساس القياس<، وقد جعلها معيارا للتحقق من الواقع المؤثر في الأحكام، ويمكن تسميتها بمسالك التحقيق، وهي: اللغوية، والعرفية، والحسية، والعقلية، والطبيعية. ويمكن أن نضيف إليها ميزانَ المصالح والمفاسد، والنظر في المئالات، واعتبار الحاجات في إباحة الممنوعات كاعتبار الضرورات في إباحة المحظورات، كما يقول ابن العربي.
هذه المسالكَ تشرح الواقع وتفسره بمنزلة القول الشارح عند المناطقة، وإذا اعتبرنا المصالح والمفاسد من حيث إدراكُها بالعقل داخلةً في العقلية، واعتبرنا الاكتشافاتِ العلميةَ راجعةً إلى الطبيعية، وهي العلوم الطبية أو طبيعة الأشياء، كان هذا الميزان حاوياً بل حاصراً لأدوات تحقيق المناط.
إن تحقيق المناط يعمل في ثلاث مجالات: في الأشخاص، وفي الأنواع، وفي الأحوال، وهو بذلك يعتبر الاجتهاد الثالث إلى جانب الاجتهاد في دلالات ألفاظ النصوص، والاجتهاد في المصالح والمفاسد المتعلق بالمعاني والمقاصد، فهو نظر في طبيعة التكليف، وفي أحوال المكلفين مجتمعا وأفرادا، فيكون في الذوات والصفات والمعاني، فهو مجمع العزائم ومنبع الرخص…هو حكم على الأفعال، وعلى الأشياء وهو المبرهن على ديمومة الشريعة وصلوحيتها لكل زمان ومكان([12])، وبعبارة جامعة: تحقيق المناط مواكب للتكليف في جميع تفاصيله…يعدل ويغير اطراد النصوص والقواعد من خلال تعامله بالمقاصد، ويضبط حركة المكلف باستعماله مختلف الأدوات حتى يكون التكليف موافقا للأصول المرعية([13])، رغم ما فيه من عمق أحيانا يدق عن فهم المتعاملين.
الوسطية في الفتوى
إذا كان الاعتدال محبباً للإنسان كله، فإنه بالنسبة لنا نحن المسلمين وفي دولة الإمارات يعني الوسطية النابعة من تعاليم الإسلام ودعوته بالحكمة والموعظة، تلك الوسطية التي تقدم الإسلام كما هو في قيمه وتفاعله البناء مع الحضارات الأخرى في ما هو إنساني مشترك عام([14])، فهي الميزان الشرعي الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، هو نبذ المبالغة والمغالاة([15]).
والوسطية هي الميزان والموازنة والتوازن بين الثبات والتغير بين الحركة والسكون هي التي تأخذ بالعزائم دون التجافي عن الرخص في مواطنها. وهي التي تطبق الثوابت دون إهمال للمتغيرات، تتعامل مع تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع، تقيم وزناً للزمان ولا تحكمه في كل الأحيان، تفرق بين المتماثلات وبين المتباينات. هي إعمال للحاجات وللمصالح وعموم البلوى والغلبة وعسر الاحتراز.
ونعني بالوسطية هنا المقارنة بين الكليّ والجزئيّ، والموازنة بين المقاصد والفروع والربط الواصب بين النصوص وبين معتبرات المصالح في الفتاوى والآراء، فلا شطط ولا وكس. قال الشاطبي:>المفتي البالغ ذِروة الدرجة هو الذي يَحمِلُ الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهبَ الشِّدَّة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال. وأيضا: فإنَّ الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق. أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضاً، لأن المستفتي إذا ذُهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة، وهو مشاهد. وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلكة. والأدلة كثيرة.([16])
فأن يكون المفتي وسطياً في فتواه معناه أنه ليس ممن يؤثر التشدد ويلزم العامة بالورع والاحتياط فيفسد عليهم معاشهم في أمر لهم فيه مندوحة. ولا متحلّلاً يحل كل شيء حتى يكاد يُلغي التكاليف الشرعية ويتطاول على الضروري من الدين.
والوسطية تقضي:
1- أن يكون المفتي ناظراً في المئالات متطلعاً إلى المتوقعات، فرب مصلحة يدركها ببادئ الرأي في فتوى تنقلب إلى مفسدة في عاقبتها. ولهذا يقول الشاطبي: “النظر في مئالات الأفعال معتبر مقصود شرعاً”.
2- أن يكون عارفا بتوازنات المصالح والمفاسد وتوازنات الأدلة مرتكباً أخف الضررين وأهون الشرين مراعياً أصلح المصلحتين وخير الخيرين. قال ابن القيم: “ومن أصول الشريعة إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم أرجحهما”([17]). وقال المقري: وعند التساوي فإن عناية الشرع بدرء المفاسد أشد من عنايته بجلب المصالح<. وقال الشاطبي: والمصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة بدليل النهي عن تلقي السلع وعن بيع الحاضر للبادي.
وهذه التوازنات تراعى في التعارض بين الكلي والجزئي فيقدم الأول غالباً وفي تعارض الأدلة وهو المسمى بالتعادل والتراجيح في أصول الفقه.
منهجية الفتوى
1- مؤهلات المفتي:
لقد شغلت صفات المفتي حيزا كبيرا من عناية العلماء وفصلوا القول في العلوم المشترطة فيه وغيرها من الصفات الشخصية تفصيلا، نجمل ثمرته في ما يلي:
1- عنصر العلم: فمن لا يَعلم لا يُعْلِم ومن لم يتبيَّن لا يُبيِّن.
2- معرفة الواقع بجميع تفاصيله لتكون الفتوى مطابقة له.
3- القدرة على تقدير تأثير الفتوى على المستفتي وغيره في الحاضر والمستقبل بحيث يقدر المصالح والمفاسد التي قد تنشأ عن الفتوى والنتائج والمئالات تقديراً سليماً.
4- الاتصاف بالصفات الشخصية العاصمة من الانحراف كالديانة الوازعة والعدالة المتمكِّنة والرزانة والحصافة.
2- تصنيف القضايا النازلة:
يمكن ترتيب قضايا الإفتاء في مرحلتين”: أ، ب
قضايا (أ) وهي قضايا فروض الكفايات وبخاصة السلطانية عند الفقهاء: كقضايا الجهاد والحرب والسلم وأنظمة الحكم والتكفير والعلاقات والمعاهدات الدولية، وهو ما سماه سيدي زروق “الأمور الجمهورية[18]” وهذه لا يفتي فيها إلا الجهات المكلفة من قبل الدولة بالفتوى لما قد يترتب على ذلك من المفاسد وتهديد السلم في المجتمعات المختلفة.
قضايا (ب) القضايا المعروفة التي يحتاجها الفرد كل فرد ويعلمها أكثر الناس لأنها مما علم من الدين ضرورة كالصلاة والصوم والزكاة والحج والمواريث.
3- معالجة الفتوى:
إن الحكم في القضايا أما أن يكون ثابتاً بنص قطعي الثبوت والدلالة منطبق على الواقعة انطباقاً لا مرية فيه، كأحكام الصلاة والصوم.
قد يكون النص من كتاب وسنة أو نص مذهبي في مسألة اجتهادية فيفتي بالصحيح أو الراجح والمشهور أو ما جرى به العمل أو يعمل بالضعيف بثلاثة شروط: أن لا يكون ضعيفاً جداً، وأن تدعو إليه الضرورة وأن يكون معزوا.
وأما أن يكون في القضايا الجديدة بالنوع حتى ولو كانت قديمة بالجنس فهذه تحتاج إلى معالجة يُولَد فيها الحكم بعد مخاضٍ ليس باليسير ويمر بمحطاتٍ عديدةٍ، نجملها في مرحلتين أساسيتين:
– المرحلة الأولى: تشخيصُ المسألة المعروضة مِنْ حيثُ الواقع، فإذا كانتْ عَقْداً يكون ذلك بالتعرّف على مكوناته وعناصره وشروطه([19]).
وإذا كان الأمر يتعلّق بذاتٍ معيّنة لإصدار حكم عليها كالنقود الورقية، فإنَّ الباحثَ يجب أن يتعرَّض إلى تاريخ العملات، ووظيفتِها في التداول والتعامل والتبادل، وما اعتراها على مرّ التاريخ من تطور يتعلّق بذات النقد، كمَعْدِنٍ نفيس إلى فلوسٍ، أو يتعلّق بعلاقته بالسلطة وهي جهةُ الإصدار أو بالسّلَع والخدمات، وهذه هي مرحلة التكييف والتوصيف التي لا تنئ كثيراً عن “تحقيق المناط” عند الأصوليين؛ لأنه تطبيق قاعدةٍ متفقٍ عليها على واقعٍ معيّنٍ أو في جزئيةٍ من آحادِ صورِها.
وهذه المرحلة لا غنى عنها للفقيه فإنّ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، وبدون هذا التصور والتصوير يمكن أَنْ يكونَ الحكمُ غيرَ صائبٍ؛ لأنه لم يصادف محلاً. وتزدادُ أهمية هذه المرحلة عندما ندرك تعقُّد العقود المعاصرة وانبنائَها على عناصر لم تكن موجودةً في العقود المعروفة لدى الفقهاء مِنْ بيعٍ وسلَم وإجارة وكراءٍ وقِراض وقَرْض ومساقاةٍ ومزارعةٍ وكفالةٍ ووكالةٍ إلى آخرها.
فهنا يتوقف الفقيهُ فترةً من الوقت للتعرف على مكونات العقد وردّه إلى عناصرِه الأولى لتقرير طبيعته، وهل هو مشتملُ على شرطٍ ينافي سَنَن العقود المجمع عليها والمختلف فيها.
ومن الواضح أن عملية التشخيص في معظمها تستدعى من الفقيه رجوعاً إلى بيئات هذه العقود وأصول التعامل عند أهلها قبل أَنْ يزنَها بميزانِ الشرع.
وأعتقدُ أنَّ الخلاف بين أعضاء المجامع الفقهية في جملةٍ من المسائل يرجعُ إلى تفاوتُ بين الباحثين في قضية التصوُر والتشخيص أكثرَ مما يرجع إلى اختلافٍ في فهم النُّصوص الفقهية، إذاً فالخلاف هو خلافٌ في علاقة المسألة بتلك النصوص تبعاً للزاوية التي ينظر إليها الفقيه مِنْ خلالها.
– المرحلة الثانية: مَرْحلةُ المعالجة الفقهية لإصدار حُكْم شَرْعي([20])
وهذه المرحلة الثانية فيها صعوبة كبيرةٌ تبدأ بالبحث عنْ نصّ في المسألة أو ظاهر يقتضيها أو عموم يشملها أو مفهوم موافقة أو مخالفة أو دلالةِ اقتضاءٍ أو إشارة.
فإذا لم يرد بخصوصها نصّ مِنْ كتاب أو سنَةٍ بمعنى من المعاني المشار إليها، ولا قولٌ لإمام من أئمةِ المسلمين المقتدى بهم -: فإن الباحث يلجأُ إلى الأشباه والنظائر إنْ كانتْ لها أشباهٌ ونظائر، لمحاولة القياس إذا انتفتْ موانعُه وتوفرتْ شروطُه مِنْ قيامِ أصلٍ منصوص عليه أو مجمع عليه، غير مخصوص بحكم ولا معدول به عن القياس، ووجود علةٍ جامعةٍ بين الأصل والفَرْع منصوصة أو مستنبطة بشروطها من انضباط وظهور سالمةً من القوادح.
فإذا تعذرتْ هذه الضوابط فإن القياسَ لا يصحُ، لأن قياسَ العلة إنما يكونُ في فرعٍ له أصلٌ بالنوع أو الجنس ولا يصح إلا بعد “ثبوت الحكم في محل منصوص باسم خاصٍ”، كما يقول علاء الدين شمس النظر السمرقندي.
عند تعذر القياس فإن الباحثَ قد يلجأ إلى بعض الأدلة المختلف فيها كالمصالح المرسلة عند مالك وهي أهم دليل يُعْتَمَد عليه في معركة التحليل والتحريم، حيث يكتفي الفقيهُ بالمناسبةُ التي معناها أن يحصُلَ على ترتيب الحكم على الوصف مصلحة مِنْ نوع المصالح التي يهتمُ الشارعُ بجلبها، أو درءُ مفسدةٍ من نوعِ المفاسد التي يهتم الشارع بدرئها، ولكن الباحث عليه أن يلتزم هنا أيضاً بجملةٍ من الضوابط، منها:
– أن تكون هذه المصلحة في خدمة مقصِدٍ من مقاصد الشريعة الثلاثة وهي المقصِد الضروري والحاجي والتحسيني، ولا يعتبر أكثر الأصوليين إلا المقصِد الضروري خلافاً للشاطبي.
– أما الضابط الثاني: فهو أن لا تكون المصلحة ملغاة.
– والضابط الثالث: أن تكون عامة قطعيةً كما يراه الغزالي في “المستصفى” أوْ ظنية كما يراه الشاطبي، -وهو الذي ذهب إليه الغزالي في “شفاء العليل”- وقد يلجأ الباحث إلى قاعدة سدّ الذرائع والنظر إلى المئالات.”([21]).
إنّ إهمال هذه المنهجية إفراطاً أو تفريطاً أو الإخلالَ بها يؤدي إلى أخلال كبيرة، توقع أحياناً في تضييق شديد وحرج لعدم اقتدار المتعاطي على فتح الأبواب وولوج السُّبُلِ الموصلة إلى مقاصد الشرع والميسرة على الخلق، وفي نفس الوقت المنضبطة بضوابط الاستنباط.
إنَّ الفتوى لا يحسنها كثير من الناس في بعض القضايا، لوجوب النظر في وقت واحد إلى عناصر متعددة لإدمـاج كل واحد منها بالآخر، أو استبعاده إذا لم تُر ضرورة لذلك، أو مراعاته بمقدار، بدءً بمنشإ النازلة وهي الواقعة ومـا يحيطها من ظروف وملابسات، إذ أنَّ اختلاف جزئية بسيطة في ملابسات الواقعة قد يؤثر في مسار الفتوى.
موازين الفتوى([22])
يحتاج المفتي إلى موازين لضبط التجاذبات التي تعرض له أثناء النظر في النوازل بين الأمر والنهي، وبين المقاصد والوسائل، وبين الكلي والجزئي، ونذكر من بين هذ الموازين:
1- ميزان الأوامر والنواهي: فالأوامر والنواهي ليست على وزان واحد، بل هي مرتبطة بكل مرتبة من مراتب المقاصد الثلاث، أي: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات، وبالتالي فالفروع عند التوارد على محل واحد ردت إلى كليها، ليقدم ما كليه ضروري على ما كليه حاجي أو تحسيني. كما ينظر إلى درجات النهي التي تحدد قوته وضعفه من حيث الدلالة اللغوية، وتردده بين الوسائل والمقاصد.
2- وزن حالة الأشخاص: وهو نوع من تحقيق المناط الذي أشرنا إليه سابقا، وإلى هذا الميزان يرجع اختلاف الأئمة بالنظر إلى حال المكلفين من قوة وقدرة تتحمل العزائم، ومن ضعف أو فقر يوجب الترخيص والسهولة. كما يرى الشعراني في كتابه “الميزان”.
3- بين الحال والمآل: فقاعدة النظر في المآلات إنما هي في حقيقتها قاعدة الموازنة بين مصلحة أولى بالاعتبار، أو بين مصلحة ومفسدة، إلا أنها في الغالب تعني أن المصلحة أو المفسدة المرجحة متوقعة، وهذا التوازن أساس من أسس الاجتهاد والفتوى باعتبار أن المصالح والمفاسد ليست على وزان واحد.
4- التوازن بين الكلي والجزئي: فالمفتي مطالب بألا يغيب عن بصره الجزئي، ولا يغيب عن بصيرته الكلي…وفي هذا تندرج الموازنة بين المقاصد والنصوص الجزئية، وبين القواعد والفروع.
5- الموازنة بين المصلحة المتقاضاة بالعقل، ومقتضيات النقل، بين من يقول باعتبار المصلحة إذا تعارضت مع النقل، وبين من يقول إن للمصلحة أصلاً تعبدياً.
6- وزن ما كان حقا لله وما كان حقا للعبد، أو متجاذبا.
7- وزن نية المكلف وما تنطوي عليه تصرفاته.
8- ضبط المقصد هل هو في مرتبة العلة طبقا لعلاقته بالنص الخاص أم في مرتبة الحكمة.
9- وهل العلة منصوصة أم مستنبطة لا يمكن أن تلغي النص؟
هذه الموازين، إلى جانب عمل المفتي على استنفار النصوص، واستنطاق التراث، واعتماد مسالك تحقيق المناط والتعرف على الواقع، واستغلال الإمكان المتاح في الشريعة من خلال استنفاره المنهج الأصولي الثري يمكنها أن توفر قراءة جديدة للفتوى في ظل للواقع وفي ضوء الشرع للتذكير بالكليات التي مثلت لبنات الاستنباط بربط العلاقة بين الكليات وبين الجزئيات، وهي جزئيات تنتظر الإلحاق بكلي أو استنتاج كلي جديد من تعاملات الزمان وإكراهات المكان والأوان، أو توضيح علاقة كلي كان غائماً أو غائبا في ركام العصور وغابر الدهور ليكون الاستنباط محكوماً بالانضباط.
أيها الأخوة الأفاضل:
تلك شذرات واضاءات وصوى وامارات على دروب ستعبدونها ومسالك ستسلكونها لتنيروا سبل الرشد والسداد أمام شباب الأمة.
سائلين منه سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يعيننا على حمل الأمانة وأدائها إلى أهلها، وأن يحفظ بلدنا هذا وسائر بلاد المسلمين والعالم، إنه الوهاب الكريم الرحمن الرحيم.
([1]) تاج العروس(39/211)، مـادة: «فتي».
([2]) الموسوعة الفقهية الكويتية (32/20)، وشرح المنتهى(3/456).
[3]– المنجور شرح المنهج، ص616
[4] – القرافي الفروق 4/48 وما بعدها دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة
[5] – مختصر خليل، ص: 88.
[6] – تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع، ص: 96 و98.
[7] – إعلام الموقعين، 1/69.
[8] – تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع، ص: 22.
[9] – تنبيه المراجع، ص: 72.
[10] – تنبيه المراجع، ص: 56.
[11] – تنبيه المراجع، ص: 57.
[12] – ينظر تفصيل ذلك في كتابنا: تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع.
[13] – تنبيه المراجع، ص: 123.
[14] – ينظر كتابنا: خطاب الأمن في الإسلام، ص: 13.
[15] – خطاب الأمن في الإسلام، ص: 34.
[16]– الموافقات 5/277
[17] – إعلام الموقعين، 2/6.
[18]– وهي عنده كل ما يحتاج إلى يد سلطانية، أو ما يقوم مقامها من الخطط الشرعية، واعتبر الاخلال بهذا الشرط مفتاحاً لباب الفتنة وإهلاك الضعفاء من المسلمين بغير حق ولا حقيقة، ومثله له بالجهاد ورد المظلومات، وتغيير المنكر بطريق القهر والاقتدار.(عدة المريد ص68)
[19] – ينظر كتابنا: “مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات، ص: 16.
[20] – مقاصد المعاملات، ص: 17.
[21] – مقاصد المعاملات، ص: 18
[22] – ينظر كتابنا: مقاصد المعاملات، ص: 96 وما بعده.