بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلّ على سيدنا محمد وآله وصحبه
معالي الشيخ عبد الله بن بيه
رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي –
رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة
…
جلالة السلطان عبدالله رعاية الدين المصطفى بالله شاه، ملك ماليزيا المبجل
و جلالة الملكة
صاحب الفخامة تون دكتور *محاضر* بن محمد ، رئيس وزراء ماليزيا
و السيدة قرينته
أصحاب المعالي، أصحاب السعادة والفضيلة
أيها الحضور الكريم
كل باسمه وجميل وسمه،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
يطيب لي بادئ ذي بدء أن أحمل إليكم جلالة السلطان، تحيّات أخيكم صاحب السّمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات، وأخيكم وصديقكم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان وليّ عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وتهانيهما بمناسبة العام الجديد، نسأل الله أن يجعله عام خير وبركة ومزيد من الاستقرار والازدهار لبلدَينا الإمارات وماليزيا وللعالم أجمع.
كما أتوجّه بأسْمى عبارات الشُّكر والامتنان إلى الحكومة الماليزية لتشريفها لي باخْتياري لنيل هذه الجائزة العظيمة التي تقترن بذكرى عظيمة في وجدان كلّ مسلم وفي وُجود كلّ إنسان، ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، هجرة إمام المرسلين وسيد الأولين والآخرين، والرحمة المهداة للعالمين، والنعمة المسداة للناس أجمعين، نبي الرحمة ورسول السلام، رحمة في الأولى والآخرة، وسلام في الظاهر والباطن، سلام في النفوس وفي القلوب وسلام مع الذات ومع الآخرين، هجرة نبينا صلى الله عليه وسلّم الذي أمر بإفشاء السلام كما في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: (“لا تدخلوا الجنـّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، ألا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم ؟) وأمر بقراءة السلام كما في الحديث المتفق عليه أي الإسلام خير؟” قال ” تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف”، وأمر ببذل السلام للعالم كما في الصحيح في حديث عمار المحكوم له بالرفع (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من إقتار).
لقد عرفت ماليزيا هذه الحقيقة منذ قرون طويلة عندما أضاء ربوعها الإسلامُ، فعاشت دينَها رحمة ونعمة، عاشته سلاما ووئاما وأخوة ومحبّة.
انطلاقا من هذه الفضيلة التي جاء بها نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم “وما أرسلناك إلا رحمة الله للعالمين”، سيكون حديثنا في هذا المحفل البهيج واليوم الأغرّ عن هذه القيمة، قيمة الرحمة والسلام. وسأغتنم هذه السّانحة بين يدي جلالة السلطان الحاج عبد الله للتعريف بما نقوم به في منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة من جهود ومشاريع، أحسب أنّها الموجبةُ لهذا التكريم.
جلالة السلطان الحاج عبد الله شاهْ،
أيها الحضور الكريم،
إن لكُلِّ وقتٍ واجباً لا ينبغي الانشغال فيه بسواه، واجبا يمثّل تحدّيا لأبناء ذلك الوقت ويلزمُهم التصدّي له، واجبا يفرضه عليهم الواقع بضَروراته الحاقّة ومصالحه الملحّة.
واجب الوَقت اليوم هو البَحث عن السَّلام، فالإنسانية كلّها اليوم محتاجة إلى السّلام، والعالم الإسلامي ربّما أشد فاقةً إليه من غيره، فما شهدته المنطقة في العقد الأخير وما تزال تشهده يفرض علينا جميعا أن نصرف جهودنا وجهادنا لإطفاء الحريق المشتعل ولبثّ روح السكينة في النفوس، والتصدّي لتحدّي الإرهاب والتطرُّف.
تلك هي المهمة التي انتدَبنا لها طيلةَ العشريّة المُنصرمة، تَأصيلا وتوصيلا، عقدنا من أجلها المؤتمرات وأطلقنا لها المبادرات، فحيثما كنا، دعوتنا دعوةٌ واحدةٌ لإحلال السلم محل الحرب والمحبة مكان الكراهية والوئام بدل الاختصام، نبحث عن مسوغات السلام والعافية بدلا من مبررات الفتن والحروب الجاهلية. السلام والمحبة والصداقة هي رسالتنا إلى البشرية، وشعارُنا هو شن الحرب على الحرب لتكون النتيجة سلما على سلم، ذلك هو واجبنا الديني ومسؤوليتنا الإنسانية.
انطلقنا في رحلة السلام من أبوظبي فضاء الإنسانية، وعاصمة التسامح والتعايش، نعتمد على ركيزتين أساسيتين ومتكاملتين:
فعلى مستوى الركيزة الأولى قمنا بعملية حفر معرفي في الأصول الإسلامية للكَشف عن نصوص السلم المنسيّة ومقاصده المعطّلة والتذكير بقيمه الضامرة وفقهه المطمور، لقد استنفرنا النصوص وأثرنا التراث للبرهنة على الدعوى التي نؤمن بها، وهي أنّ الإسلام دين سلام وأن السّلم بوصفه مقصدا شرعيا هو أوثقُ ضمانا للحقوق وحفظِ الضروريات الخمس من الحرب والفتنة.
وفي هذا السّياق خصصنا أكثر بحوثنا لتصحيح المفاهيم المتعلّقة بالسلم، وذلك أن جزءا كبيرا مما يعيشه العالم اليوم من فتن مردُّه إلى التباس مفاهيم دينية في أذهان شريحة واسعة من المجتمعات المسلمة، كدولة الخلافة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وطاعة أولي الأمر وهي مفاهيم كانت في الأصل سياجا على السلم وأدوات للحفاظ على الحياة ومظهرا من مظاهر الرحمة الربانية التي جاء بها الإسلام على لسان نبيّ الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلما فهمت على غير حقيقتها وتشكلت في الأذهان بتصور يختلف عن أصل معناها وصورتها، انقلبت إلى ممارسات ضدّ مقصدها الأصلي وهدفها وغاياتها.
هذه الرّكيزة التّأصيلية لا توتي ثمارها إلا إذا عُضّدت بركيزة تنزيلية، تقوم على أهمية الوعي بطبيعة العصر، حيث نلاحظ لدى الكثير من المسلمين قصورا في إدراك الواقع، فكثير منا ما يزال يعيش وكأن شيئا لم يكُن، ما يزال يرى العالم كما كان في العصور الوسطى، عصر الامبراطوريات، عصر التمايز والعيش المنفصل ويتجاهل ما استجدّ من أسباب التمازج والعيش المتّصل.
ما يزال بعضُنا عاجزا عن استيعاب المتغيرات التي حدثت في العالم، حيث انتهى العهد الامبراطوري ودخلت المجتمعات المسلمة ضمن إطار ما صار يعرف بالدولة القطرية أو الدولة الوطنية.
وكذلك لم تَعد الولاءات في الوقت الراهن دينية حصرا، بل أصبحت ولاءات مركبة ومعقدة تتحكم فيها عوامل متداخلة لا تَنفصل عن بعضها، وظهرت النّزعة الفردية بحيث لم تعد الجماعة في بعض البيئات مؤطّرة لفعل الفرد. واستجدّ مستوى غير مسبوق من التشابك بين مصائر الشعوب وأوضاعها في سياق العولمة وغدت التعددية الثقافية والعرقية والدينية واقعا في كل قطر.
وكذلك توصلت البشرية إلى مواثيق أممية وقوانين دولية بها تُؤطّر العلاقات بينها، وبرزت ثقافة الحريات عاملا مؤثرا وفاعلا في الواقع، واعتمد نظام حقوق الإنسان وسيلة لعيش الأقليات بين ظهراني الأكثرية، واعتمدت المجتمعات عقدا اجتماعيا وسياسيا جديدا يوزّع ممارسة السيادة بين سلط متكاملة ومستقلة.
وعلى مستوى الاقتصاد حصل انفصام حادّ في منظومة الإنتاج والتوزيع بين الاقتصاد وروح الأخلاق، حيث سادت القيم المادية الخالية من كل قيم إلهية أو إنسانية نبيلة، وغدا الإنسان كائنا ماديا، يعيش لِذاته مستغرقا في لَذّاته، فلا نبل ولا كرم ولا إيثار ولا تضامن ولا نظر في المآلات إلا مآلات الربح بلا روح والثروة بلا رائحة.
ذلك هو الواقع اليوم، الذي صار يفرض تأويلا جديدا وتنزيلا متجدّدا، فالواقع شريك أساسي في الاستنباط وفهم النصوص وتطبيقها.
انطلاقا من هذه المقاربة، ووعيا بهذه المستجدات أصدرنا في شهر يناير 2016 إعلان مراكش لحقوق الأقليات، وقد جاء الإعلان يجلي القيم الإسلامية والأسس المنهجية لواجب التعايش السعيد والتعامل الحسن مع سائر أتباع الديانات، وقد دعا الإعلان علماء ومفكري المسلمين إلى العمل لتأصيل مبدأ المواطنة الذي يستوعب مختلف الانتماءات بالفهم الصحيح والتقويم السليم للموروث الفقهي والممارسات التاريخية وباستيعاب المتغيرات التي حدثت في العالم.
لقد استلهم الإعلان روحه ومبادئه من صحيفة المدينة، وهي وثيقة موثقة وصحيحة من رحم الإسلام وتراثه الأصيل، كادت أن تنسى في ظروف وفترات من التاريخ، في هذه الصحيفة يعلن النبي صلى الله عليه وسلم الحقوق والواجبات المتساوية والمتكافئة بين جميع سكان المدينة على اختلاف دياناتهم وجذورهم القبلية كأول دستور تعاقدي في الإسلام. في هذه الصحيفة لا عبرة بالأكثرية ولا الأقلية، إذ عندما يطبّق القانون العادل الرحيم فلا أقلية ولا أكثرية بل يصير الجميع مواطنين متساوين في الكرامة والحقوق والواجبات.
كما استهدف إعلان مراكش المصالحة بين الهوية الدينية والهوية الوطنية، حيث يرى البعض أن قوة الانتماء إلى الهوية الدينية تؤدي إلى انهيار روح المواطنة، ويفترض تعارضا ذاتيا بين الولاء للدين والولاء للوطن، وخاصة في المجتمعات الهشة ذات الطوائف المتعدّدة حين تضعُف سلطة الدولة فتطغى سلطة الهوية الدينية، وتفيء كلُّ طائفة إلى حاضنتها الدينية التي تضمن لها نوعا من الحماية النفسية وحتّى الوجودية. لقد كان الاهتمام في إعلان مراكش متوجّها إلى قلب المعادلة ليكون الانتماء الديني حافزا لتجسيد المواطنة وتحييد سلبيات تأثير عامل الاختلاف الدّينيّ عليها.
جلالة السلطان،
أيها الحضور الكريم،
إنني قادم إليكم من أبوظبي، حيث نحتفي هذه السنة في الإمارات بالتسامح عنوانا لسنة 2019، حيث اختاره حيث اختاره صاحب السموّ الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة قيمة مركزية، عليها مدار كافة المبادرات والتدابير طيلة العام، فأطلقت البرامج التوعوية والتعليمية والتثقيفية واتخذت التدابير العملية التربوية والقانونية لغرس ثقافة التسامح وترسيخ معاني الأخوة الإنسانية وتعزيز السلم في العالم.
إن الحديث عن هذه القيم، قيم السلام والمحبة، ليس بدعا من القول ولا بدعة من العمل، هنا في بلادكم، ماليزيا، حيث لم تفتؤوا تقدّمون للعالم النموذج الحيّ على الرواية الإسلامية الأصيلة والرؤية الحضارية المتينة، من خلال عقدكم الاجتماعي القائم على مبادئ التعايش والوئام، والتي طبعت الشخصية الماليزية وأتاحت لها بفضل الله أسباب الازدهار والاستقرار.
وفي الختام أيها الحضور الكريم إننا في دولة الإمارات العربية المتحدة نشاطركم في ماليزيا القناعة الراسخة بأنه لا مستقبل للبشرية إلا من خلال السّلام والوئام، وأن التعايش هو الخيار الوحيد لنا في العالم، هكذا يبرهن العقل وتكشف التجربة الإنسانية، وهكذا تعلّمنا النصوص الدّينية، قال تعالى: “والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم”.
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.