الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد…
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. السؤال يشتمل على عدة شعب أو فروع، وقد يكون من المناسب أن نتكلم عن كل واحدة منها:الشعبة الأولى: هي تشهير الشباب بالعلماء، وهذا كما هو معروف لا يجوز، والعلماء من المؤمنين والعلماء العاملون هم قمة المؤمنين، والله سبحانه وتعالى يقول: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)[الأحزاب:58].
فهم مؤمنون لا يجوز إيذاؤهم، ولا يجوز قذفهم، وهو من باب البهتان والإثم العظيم، والإثم المبين، فهذا التشهير في غير محله، وبخاصة إذا كان صادرًا عن صغار السن، قليلي العلم، ضعيفي المعرفة، فحري بهؤلاء ألا يشهروا بالعلماء، وأن يتبعوا العلماء في أقوالهم وأفعالهم؛ حتى يصلوا إلى درجة من العلم والتبصر تسمح لهم بتمييز الطيب من الخبيث، والغث من السمين، والصحيح من السقيم، والتعامل مع هؤلاء هو تبصيرهم، وأن نطلب منهم أن يدرسوا الفقه، أن يتعلموا، أن يتفقهوا؛ لأن الإنسان إذا لم يتفقه فهو أعمى يخبط خبط عشواء، ويخبط في ليلة ظلماء، فالذي أوصي به جميع إخواننا وشبابنا أن يتعلموا؛ لأن العلم لا بديل عنه، فإنك إذا تعلمت عرفت الحق، وكما قال أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه: (اعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال).
حينما قال له رجل: أتظن أن طلحة والزبير، رضي الله عنهما، كانا على باطل؟ قال له: (إنك رجل ملبوس عليك).
فهذا سببه هو الجهل، فعلى الإنسان أن يتعلم الكتاب والسنة، واختلاف العلماء وأقوالهم، ومواضع الخلاف ومواضع الإجماع، وحينئذ سيكون متبصرًا، وبالتالي يستطيع أن يعرف صدق القائل أو كذبه، أو أن كل الأقوال هي أقوال مقبولة، وكثير من الأقوال في الشريعة، وكثير من الاختلاف بين العلماء هو اختلاف حميد كما يقول الشيخ العلامة ابن القيم- رحمه الله تعالى، فالاختلاف سنة من سنن الحياة، يعني لابد أن نوسع صدورهم للاختلاف، ولابد أن نعلمهم الفقه، أن يتفقهوا، فإذا عرفوا الفقه وعرفوا اختلاف العلماء ومواضع الاختلاف ومواضع الإجماع، وأسباب اختلاف العلماء فعسى أن يكونوا على بصيرة، وأن يعالج جهلهم وغلوهم، وتنطعهم في بعض الأحيان.
الشعبة الثانية: وهي ما يتعلق بالسلفية، السلفية هي نسبة إلى السلف، وطبعًا لا يوجد تعريف على الأقل بالنسبة لي كامل شامل متفق عليه، ومجمع عليه، بل يمكن أن نقول: إن السلفية توجه فكري، أو مدرسة فكرية عقدية، ترى الالتزام بما كان عليه السلف من عدم التأويل في الصفات، والوقوف مع نصوص القرآن والسنة، مع الاحتراز والابتعاد من البدع، هذه تقريبًا الخطوط العريضة للسلفية دون دخول في تفاصيل قد تؤدي إلى شيء من الأمور المختلف فيها، فالسلفي يتميز بالابتعاد من البدعة، طبعًا بعدم القول بانقسام البدعة إلى حسنة وقبيحة، بل يستقبح كل البدع، وتقول بعدم التأويل فيما ورد في القرآن والسنة من الصفات، طبعًا في أصلها تمنع الخوض، تمرها كما هي، كما جاء عن الإمام أحمد- رحمه الله تعالى- مع تفاوت في هذه المدرسة بين من يتشدقون بالتمسك بالظواهر وبين من يكون دون ذلك، المهم هذه الخطوط العريضة في ذلك.
الشعبة الثالثة: الموازنة أصل في كتاب الله، يقول الله سبحانه وتعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا)[البقرة:219].
هذا أصل في التوازن بين المصالح والمفاسد، بين الإثم والنفع، فالتوازن أصل وبنى العلماء على قاعدة التوازن بين الشرين فيرتكب أخف الشرين، وأخف الضررين، وأخف الحرامين، وأخف المكروهين،
كما يقول ابن تيمية في منهجه: أخف المكروهين أو أخف الضرين إن لم يكن بد من الضرين قُدِّم.
فهذه قاعدة شرعية اتفق عليها العلماء، وكذلك شرحها ابن القيم شرحًا طويلاً، وكذلك الشاطبي في الموافقات، وهي قاعدة لا يختلف العلماء في أصلها، ولو اختلفوا في تفاصيلها وفي أمثلتها، ولهذا لابد من معرفة المصالح والمفاسد، وما من مسألة، وما من قضية في هذه الدنيا، أو عمل في هذه الدنيا إلا وفيه مصلحة ومفسدة، كما يقول الشاطبي: لا توجد مصلحة عَرِيَّةٌ عن المفسدة في هذه الدنيا. يعني: المصالح العارية عن المفاسد في الحياة، في حياة الناس، ما يسمى بالعادات والمعاملات، ولا توجد مفسدة عارية عن مصلحة، ولكن العبرة بالغالب من المصلحة أو المفسدة، من الإثم أو النفع، كما جاء في الآية الكريمة، فالموازنات لها قيمتها ولا يكون الفقيه فقيهًا إلا بمعرفة أن المحرمات ليست على وزان واحد، وهي عبارة الشاطبي- يرحمه الله تعالى- والواجبات- أيضًا- ليست على وزان واحد، فقد تترك بعض الواجبات لمصلحة، وقد تترك بعض المحرمات لمصلحة أخرى، وهذا أمثلته كثيرة، عدم الخروج على ولاة الأمور حتى لو اتسموا بالجور والظلم،
وهذا مذهب أهل السنة- رحمهم الله تعالى- لماذا؟ لما يؤدي إليه من المفسدة، فلا يمكن أن ننظر إلى مصلحة قد تكون المفسدة في الأمر أرجح من المصلحة، ونعتبر أن هذه المصلحة، هناك ما يسمى بالمصالح الملغاة؛ لأن المصالح إما أن تكون معتبرة وإما أن تكون ملغاة، والاعتبار في المصالح متفاوت، فهناك المناسب المعتبر بالنص، وهذا يسمى بالمناسب المؤثر، وهناك المناسب الملائم، وهناك المناسب المرسل، الذي لم يشهد له الشرع باعتبار ولا إلغاء،
فهذه توازنات فيما يسمى بالمناسب، وهو يقوم على المصلحة، وهو الحكم الذي إذا رتب على الوصف نشأت عقبه مصلحة من نوع المصالح التي يهتم الشارع بجلبها، أو درئت من نوع المفاسد التي يهتم الشارع بدرئها، وهو أمر طويل في أصول الفقه، على صاحبه أن يراجع ما كتبه العلماء، وما كتبناه أيضًا في بحث عن المصلحة المرسلة. والله أعلم. |