بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه
إن الحج عبادة من أشرف العبادات فهو خامس أركان الإسلام ومحطة للذنوب والآثام ومنجاة من سخط الرحمن ووسيلة لرضا الملك المنان، وطريق إلى ديار الأفراح في فراديس الجنان، “وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةَ ” جعلنا الله ووالدينا والمسلمين من أهل هذا الوعد الكريم بلا سابقة عذاب.
والحج فرض مرة واحدة في العمر إلا أن يطوع المرء { فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} ولذلك فإن المسلم وهو يؤدي هذه العبادة يجب أن يكون حريصاً على سلامتها من الشوائب والمنغصات بله المفسدات والمبطلات.
والمفسدات على نوعين: مفسدات تفسد الحج وتبطله؛ لأنها منافية للصحة. ومفسدات لا تنافي الصحة لكنها تنافي القبول لأن الصحة لا تستلزم دائماً القبول.
فبالنسبة للقسم الأول: من المعلوم أن مفسدات الحج منها تروك ومنها أفعال، أما التروك فهي تتمثل : 1- في ترك الأركان كلها أو ترك ركن منها وهي: الإحرام وطواف الزيارة والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة؛ على اختلاف نقصاً أو زيادة، فالأحناف جعلوا السعي واجباً وليس ركناً، والشافعية زادوا الترتيب في معظم الأركان.
أما الأفعال المفسدة فهي: الجماع بالتفاصيل المعروفة.
أما النوع الثاني من المفسدات فينقسم إلى قسمين: محظورات تجبر بدم أو فدية أو صيام منها: أفعال ومنها تروك.
فمن الأفعال: قتل الصيد، والطيب، واللباس المنافي للإحرام بالنسبة للرجال، ودواعي الجماع، وإزالة الشعر والأظافر.
أما التروك فهي: ترك واجب من الواجبات كترك المبيت بمنى أو بمزدلفة أو طواف الوداع عند الجمهور بلا عذر حيض أو طواف القدوم عند مالك.
أما النوع الثاني: فهو مؤثر في سلامة الحج من حيث القبول وهذا النوع من الجنايات التي لم يرتب الشارع عليها فداء ولا هدياً ولكنها منافية لحرمة الحج وقبوله.
قال تعالى{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}.
وقال عليه الصلاة والسلام:” مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ”.
وإذا أردنا أن نعمق فهمنا لعلاقة ذلك بالحج فعلينا أن نضيف حديث البخاري: “الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِه”.
ونرى سلامة الحج من خلال السلامة من لسانه ويده، وبذلك ندرك أنَّ الخصومات والمنازلات تكتسي طابعاً تنافسياً وتظاهرياً قد لا يكون بعيداً عن المفاخرات التي كانت في الجاهلية والتي قضى عليها الإسلام، وجعل مكانها ذكر الله تعالى.
قال تعالى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
فكل ما من شأنه أن يعرض السكينة للقلق والأمن للاضطراب فهو مناف لسلامة الحج ومظنة لمنافاة القبول.
فمن هذا ندرك أنّ الحج عبادة لا تمكن ممارستها إلا في ظل السلطة الشرعية. والحكمة من ذلك واضحة؛ فإن الحج يحتاج في تعيين يومه لثبوتٍ شرعي، هذا الثبوت يصدره الإمام بعد إعلان العلماء له، ويلزم الناس بالوقوف في يوم واحد؛ حتى لا تتفرق بهم الأهواء، وتختلف أيام نسكهم.
ثم إن الحج مناسبة يجتمع فيها أعداد كبيرة من الناس الذين يأتون من كل فج وعميق ومن كل حدب وصوب؛ يريد خيارهم العبادة، ويبحث الأشرار عن الغنيمة. وفي كل زمن خيار وأشرار. فإذا لم توجد سلطة مهيبة وولاية معتبرة لذهب الأخيار ضحايا الأشرار، وذهبت العبادة بالكلية؛ لأنها لم تعد مطلوبة شرعاً، وهذا ما كان يقع في فترات من التاريخ.
إن الحج يحتاج إلى طمأنينة وسكينة بنص الشارع ففي حديث جابر الطويل الذي وصف فيه حج النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه مسلم في صحيحه وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى « أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ ».
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الصوت بالدعاء في الحج، وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًاً”.
ونهى عن رجز وحث الركاب في النفرة. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ فَسَارَعَ قَوْمٌ فَقَالَ امْتَدُّوا وَسُدُّوا لَيْسَ الْبِرُّ بِإِيضَاعِ الْخَيْلِ وَلَا الرِّكَابِ قَالَ فَمَا رَأَيْتُ رَافِعَةً يَدَهَا تَعْدُو حَتَّى أَتَيْنَا جَمْعًا.( رواه أحمد)
والحج عبادة منضبطة في أقوالها وأفعالها، حتى أن عمر بن عبد العزيز الإمام العادل كان إذا سمع الناس يكبرون بمنى أرسل إليهم الحرس لإسكاتهم.. قائلا: إنما هي التلبية، كما رواه مالك في الموطأ.
فهذا الخليفة لم يسمح حتى برفع الصوت بالتكبير في هذا الوقت؛ لأنه ليس وقته، فأين هذا من أولئك الذين يقومون بمسيرات، ويعلقون براءة كانت بلاغاً قد تم في سنة تسع، ولم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه ولا علماء الأمة وأمراؤها.
فأمن الحرمين وضبط الحجيج كل ذلك لا يتم دون سلطة شرعية، هي سلطة هذه البلاد المباركة وفقها الله تعالى وأعانها على هذه المهمة العظيمة وعلى المسلمين أن يساعدوها في ذلك فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه “الخلاف شر”.
لذلك فإن شعار البراءة الذي قد يظن بعض الأخوة أنه مشروع! نود أن نقول له إن الأمر ليس كذلك.
ولشرح ذلك يجب أن نبين أن البراءة تمثلت في قراءة فواتح سورة التوبة سنة تسع للهجرة من طرف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه مبعوثاً من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم لينظم إلى الصديق عليه رضوان الله الذي كان أمير الحج لإبلاغ المشركين الذين يحضرون موسم الحج بأن لا سماح لهم بعد الآن وأن لهم عهدا لمدة أربعة أشهر يدخلون فيه ويخرجون. وأن من كان له عهد من أهل المسجد الحرام فهو على عهده وأن لا يطوف بالبيت بعد هذا العام مشرك وأن لا يطوف بالبيت عريان.
كان بياناً وبلاغاً إلى هؤلاء القوم وقد أديت المهمة وتوقف المشركون عن الحج إلى بيت الله الحرام وحج رسول الله صلى الله وسلم حجة الوداع وما نادي فيهم وحج خلفاؤه من بعده وهلمجرا، وما نادي أحد به فهو قرآن يتلى تم تنزيله وقد وقع تأويله.
فلا ينبغي أن نضع الأمور في غير نصابها، وندخل إلى هذه القضية من غير بابها.
خلاصة القول:
إن مفسدات السلامة أعم من مفسدات الحج لأن السلامة أعم من الصحة سواء فسرنا الصحة بأنها موافقة الفعل ذي الوجهين للوجه المشروع أو فسرناها بأنها سقوط طلب القضاء لتكون مرادفة للإجزاء وهو أخص لأنه خاص بالعبادات؛ لأن الموافقة للوجه المطلوب في الجملة وسقوط طلب القضاء هي أحد أفراد السلامة أما الجزء الثاني فهو قبول العبادة.
ولهذا فمفسدات السلامة هي: المبطلات الكبرى من ترك الأركان وجماع النسوان، وهي المفسدات الصغرى من ترك واجبات وإتيان منهيات منجبرة لغير عذر، إما مع العذر المبيح أو الموجب. فترك الرخص مناف للسلامة، فما أمر الشارع الذي يشكو هوام الرأس بالحلق، وما قدم ضعفة العيال قبل الفجر إلا لأن ذلك أولى في حقهم.
ومن مفسدات السلامة منافيات القبول، فالزحام الذي يضر بالآخرين مناف للسلامة، فما نهي عمر عن الزحام حتى لا يؤذي الناس إلا لأن ذلك أولى.
وقل مثل ذلك في كل ما يضر بالآخرين من توقيف مركبة في غير محلها أو شغل مرفق بلا حاجة أو سد طريق أو رفع صوت.
وختاماً:
فعلى الحاج ليضمن السلامة من المفسدات أن يبتعد عن الشبهات في المأكل والمشرب وأن يلمح جوانب المفسدات العامة في كل الأحوال والأمكنة والأزمنة “المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُؤْمِنُ مَنْ أمِنَهُ النّاسُ عَلى أمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَاجَرَ الخَطَايَا وَالذَنُوبَ وَالمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في طَاعَةِ اللهِ تَعَالى”.
وأن يعظم الشعائر والحرمات وذلك (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ)
(ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ)
وأصل التقوى اجتناب وامتثال في الظاهر والباطن.
رزقنا الله وإياكم التقوى وتقبل حجنا وحجكم وشكر سعينا وسعيكم.
ولمعالي وزير الحج والمشرفين على هذه الندوة كل الشكر وخالص الدعاء.
عبدالله بن بيه
|