ارشيف ل

ملخص زيارة العلامة عبدالله بن بيه للمملكة العربية السعودية

رئيس وأعضاء #مجلس_الإمارات_للإفتاء يصلون جدة مساء الأمس في زيارة رسمية برئاسة معالي العلامة عبدالله بن بيه، وكان في استقبالهم في مطار الملك عبدالعزيز الدولي

معالي الشيخ د. #محمد_العيسى .

#خادم_الحرمين_الشريفين يستقبل معالي الشيخ عبدالله بن بيه رئيس #مجلس_الإمارات_للإفتاء وعدد من أعضاء المجلس، جرى خلال اللقاء استعراض أوجه التعاون بما يخدم العمل الإسلامي، ويسهم في نشر الوسطية والاعتدال. #السعودية #الإمارات

استقبل معالي الشيخ د.#محمد_العيسى أمين عام #رابطة_العالم_الإسلامي في مكتبه بمحافظة جدة رئيس مجلس الإفتاء بالإمارات العربية المتحدة معالي العلامة #عبد_الله_بن_بيه والوفد المرافق له من أعضاء المجلس . وقد بحث الجانبان عدداً من الموضوعات ذات الاهتمام المشترك.

الأمين العام لمنظمة #التعاون_الإسلامي، الدكتور يوسف العثيمين يستقبل العلامة عبدالله بن بيه رئيس #مجلس_الإمارات_للإفتاء والوفد المرافق له في مقر المنظمة في #جدة

الدين والسلام والأمن – كلمة العالمة عبدالله بن بيه في قمة الامم المتحدة – جنيف

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلّ على سيدنا محمد وآله وصحبه وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وسلم تسليما

كلمة في افتتاح القمة العالمية الثانية

الدين والسلام والأمن

معالي العلامة عبد الله بن بيه

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء

 

أيها السادة والسيدات،

أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

Permettez-moi de remercier l’Association Internationale pour la Defense de la Liberté Religieuse et le Bureau de la prévention du génocide et de la responsabilité de protéger pour l’invitation à cette importante conference.

 

اسمحوا أولاً أن أشكر جمعية الدولية للدفاع عن الحرية الدينية، ومكتب الأمم المتحدة لمكافحة التطهير العرقي والحماية على الدعوة لهذا المؤتمر الهام.

 

إننا نجتمع اليوم للتفكير في التحديات التي تواجه حضارتنا الإنسانية المريضة، وهي تحدّيات يفرض إلحاحها وخطرها، على أطباء الحضارة من الفلاسفة ورجال الدين وأصحاب الفكر، المبادرة إلى الربط الدائم بين التفكير والفعل في آن واحد.

كلّ يوم تستيقظ البشرية على أنباء جريمة نكراء جديدة، بالأمس القريب شهد العالم مجزرة وحشية استهدفت مسجد النور في نيوزلندا، ثمّ تجدّدت الفجيعة بسلسلة تفجيرات شنيعة استهدفت دور العبادة في سيريلانكا، وقبل أشهر كان الدّور على معابد يَهوديّة في ولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية ليتلوه العمل المدان على الكنيس اليهودي في كاليفورنيا يوم أمس.

إنه الإرهاب العبثي  يكشف في كلّ مرة عن حقيقته الهمجية، تحت مسميات مختلفة، تارة كراهية الإسلام، وتارة أخرى كراهية المسيحيين، وأحيانا باسم معاداة اليهود، كل العائلة الإبراهيمية في ذلك سواء، ولكن الحقيقة التي تختفي وراء ذلك وتوحّد جميع الإرهابيين هي كراهية الإنسان، واستغلال الأديان.

أيها السادة إنّ الإرهاب يدعونا إلى اليأس بعضنا من بعض، وتجاهل المشتركات الكثيرة التي تجمعنا نحن أبناء البشر، من قيم الفضيلة والأخوة، إنّه يدعونا إلى تنازع البقاء الذي يؤدّي إلى الفناء، وإنّ أقوى ما نواجهه به أن نبقي جذوة الأمل حية في القلوب، وأن لا ندع مرض اليأس العضال يستولي على النفوس، وأن نعي أننا مثلُ ركاب  السفينة، تجمعنا وحدة المصير والمسار، فلا نجاة لبعضنا إلا بنجاة الجميع.

إن صبر أوروبا يختبر اليومَ، أمام السّفن التي تَمْخُر البِحار تحمل المئات من الجياع الذين طردتهم الحروب الغبيّة والإرهاب المجنون.

بروح التسامح التي تتجاوز منطق الاعتراف إلى أفق التعارف، تستقبل الإنسانية غدا مشرقا، يفتح فيه بعضها لبعض حضنه، ليرى كل واحد في الآخر أخا له، نظيرا له في الخلق وشريكا في الوطن، فلا يضيق به صدرا ولا أرضا، فما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيقُ.

إن واجبنا أن نحافظ على هذه الروح، روح التسامح المفعم بالأمل والإيمان، حتى أمام أحلك الأزمات، وتنامي حركات تبني فكرها على فرض التناقض بينها وبين الغير، وتدعوا إلى المفاصلة الدينية وصدام الحضارات، وكذلك بروز الخطابات الإقصائية ذات النبرة العالية والتعابير الساخطة. كل هذا المشهد المتغيّر الحالك لا يمكن أن ينسينا الجانب المضيء، حيث لم تزل غالبية الإنسانية شرقا وغربا، تؤمن بإمكانية العيش المشترك، وتتصدّى لخطاب العنف والكراهية.

سادتي سيداتي، أيها الحضور،

لقد كانت دولة الإمارات العربية المتحدة سباقة إلى تبنّي رُؤية حضارية قائمة على قيم السماحة والتسامح، تقدّم المقاربات الحية والمبادرات القويّة في هذا الصّدَد على مختلف الصُّعُد وفي المحافل الدولية والإقليمية بجسارة وكفاءة، ووثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعت في أبوظبي شاهد على هذه الجهود المميزة.

ومن أبوظبي انطلقت دروب السلام التي اختطها منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، حيث دعا منذ تأسيسه إلى رفض كل اضطهاد يوجّه إلى أقلية دينية أو عرقية أو ثقافية، ونبذ استغلال الدين في هذه الأعمال الشنيعة التي لا يبرّرها عقل أو يقرُّها دين.

وفي هذا السّياق عقدنا في مدينة مراكش يوم 25 يناير 2016   مؤتمر ” حقوق الأقليات الدينية في المجتمعات المسلمة: الإطار الشرعي والدعوة إلى المبادرة” بمشاركة عدد معتبر من علماء المسلمين وبحضور شهود من الديانات الأخرى ومن الأقليات المعنية .

وصدر عن المؤتمر إعلان مراكش التاريخي لحقوق الأقليات باتفاق ومصادقة جميع الحضور من العلماء المسلمين وبمباركة القيادات الدينية من غير المسلمين، الذين كانوا شهودا، ومن بينهم ممثلون عن الأقباط واليزيديين والصابئة المندائيين والنصارى الآشوريين وغيرهم.

وقد حرَص المؤتمر أن يبين بقوة أن اضطهاد الأقليات الدينية وكافة أشكال العدوان التي يقترفها الإرهابيون مخالفة لقيم الإسلام الذي أقر للأقليات الدينية حقوقها الدينية والثقافية والسياسية، في وقت لم تكن البشرية قد عرفت مثل هذا النوع من التسامح الموثّق بصحيفة المدينة من قبل خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.

وقد استهدفنا المصالحة بين الهوية الدينية والهوية الوطنية، فلا نرى أن قوة الانتماء إلى الهوية الدينية تؤدي إلى انهيار روح المواطنة بل نرى أن الانتماء الديني قد يمثل حافزا لتجسيد المواطنة وتحييد سلبيات تأثير عامل الاختلاف الديني عليها.

إن أهم مقومين من مقومات المواطنة في إعلان مراكش هما مقوم المساواة في الواجبات والحقوق المتساوية، ومقوم الاعتراف بالتعددية وإقرار الحرية الدينية ،حيث جاء في البند الثاني من الإعلان في سياق التذكير بالمبادئ الكلية والقيم الجامعة التي جاء بها الإسلام: “إن تكريم الإنسان اقتضى منحه حرية الاختيار: (لا إكراه في الدين) (ولو شاء ربُّك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)”، وجاء في البند 13 في سياق ذكر الأسس المرجعية للمواطنة المتضمنة في صحيفة المدينة المنورة، ما نصُّه: “إن السياق الحضاري المعاصر يتوافق مع وثيقة المدينة لأنها تقدم للمسلمين الأساس المرجعي المبدئي للمواطنة، إنها صيغة مواطنة تعاقدية ودستور عادل لمجمتع تعددي أعراقا وديانة ولغة، متضامن، يتمتع أفراده بنفس الحقوق، ويتحمّلون نفس الواجبات، وينتمون رغم اختلافهم إلى أمة واحدة”.

إن من مكامن القوة في هذا التصور الذي أبرزه إعلان مراكش هو الربط الواصب بين المواطنة وإطارها الناظم والمتمثل في مقصد السلم. فلاسبيل إلى تحقيق المواطنة الحاضنة للتنوّع، إلا من خلال استراتيجية السلم.

تلك هي المقاربة التي نعتقد نجاعتها وهي التي بها ترتقي المواطنة إلى المؤاخاة وتنتقل من الوجود المشترك إلى الوجدان المتشارك.

وختاماً أشكركم على استماعكم وأتمنى لمؤتمرنا النجاح والتوفيق.

 

والسلام عليكم ورحمة الله.

العلامة عبدالله بن بيه يفوز بجائزة السلام الدولية في جنيف

منحت الجمعية العالمية للدفاع عن الحرية الدينية التابعة للأمم المتحدة في جنيف “الجائزة الدولية لسفير الحريات الدينية” للشيخ عبدالله بن بيّه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي ورئيس منتدى تعزيز السلم، وهي من أهم الجوائز التي تمنح سنويا تكريما للشخصيات الدولية التي أسهمت بشكل كبير وفعال في مجال الحرية الدينية وتعزيز ثقافة السلام والتعايش بين الأديان.

جاء هذا التكريم في إطار أعمال القمة العالمية الثانية حول الدين والسلام والأمن، المنعقدة في الفترة من 29 أبريل الجاري إلى الأول من مايو المقبل في مقر الأمم المتحدة بجنيف، وسط حضور نوعي لرجال الدين والأكاديميين وخبراء دوليين في مجال حقوق الإنسان.

ويأتي فوز الشيخ بن بيه بالجائزة لهذه السنة تقديرا واعترافا دوليا بجهوده الجليلة والمستمرة في تأصيل خطاب السلم والتسامح في الإسلام وتفعيله في مبادرات ناجحة مثل “إعلان مراكش” و”قافلة السلام” و”حلف الفضول”، ومن خلال إشرافه ودعمه لجهود المصالحة في عدد من الدول التي تشهد حروبا أهلية وصراعات دموية وحركات متطرفة.

وقد عرف عن الشيخ بن بيه دفاعه عن حقوق الأقليات المسلمة في الدول الأوروبية، وسعيه لتقديم خطاب متوازن يشجع الإدماج الإيجابي بهذه الأقليات ضمن نسيجه المجتمعي.

كما قام الشيخ بن بيه بمبادرات علمية وعملية لحماية حقوق الأقليات غير المسلمة في الدول المسلمة، وقد توجت هذه الأعمال بصدور “إعلان مراكش” مطلع عام 2016، الذي حظي بتقدير وإشادة دولية واسعة من طرف صناع القرار والقادة الدينيين، كان آخرها تنويه البابا فرانسيس بهذا الإعلان خلال زيارته الأخيرة للمملكة المغربية.

وكان الشيخ عبد الله بن بيه قد سبق أن فاز بجائزة الحرية الدينية كأول رجل دين لعام 2016، التي يمنحها متحف الصحافة والإعلام الأكبر في العالم “نيوزيام” في واشنطن، لأبرز الشخصيات التي عرفت بدورها في دعم حرية التعبير والدفاع عن الحرية الدينية في العالم.

(انتهى)

بن بيه ورؤية العالَم – بقلم الدكتور يوسف حميتو

د/ يوسف حميتو
مدير إدارة البحث والنشر – مركز الموطأ

 

من طبيعة المشاريع التصحيحية ارتباطها بروح العصر حسب تعبير هيجل، وهي الروح التي تفرضها طبيعة الزمان والمكان وما غلب عليهما من سمات. لكن التعامل مع هذه الروح، أيضا -ودائما حسب هيجل- يستلزم أن تمتلك هذه المشاريع نظرة للعقل ترى خلف الأحداث، وذلك لتكون أكثر لصوقا بدنيا الناس، وأكثر واقعية في منهجية التعامل مع ما يجري فيها من أحداث. فروح العصر حسب الاصطلاح الهيجلي هي التي تحدد ما ينبغي أن نفهمه، وكيف نفهمه، وكيف نتعامل معه بعد فهمه. وطبيعة هذه الروح لا تنحصر بالزمان والمكان، وهذا ما يؤكد شموليتها ومعقوليتها، كونُها لا تختص بمجتمع دون مجتمع، ولا أمة دون أخرى، بل هي الحاضر في كل تجليات الوجود الإنساني.

ولئن كان هيجل ينطلق في تقريره لروح العصر من رؤيته الفلسفية التي تتناسب مع واقع ألمانيا في زمنه، فإن من حظ المجتمعات الإسلامية أنها تمتلك مرجعية أقوى وجودا وأبعد امتدادا لقضية روح العصر أو ما يسميه العلماء المسلمونبواجب الوقت الذي يجد شرعيته في عدد كبير من النصوص الدينية الإسلامية، وفي كثير مما حملته كتب التراث الإسلامي المفترى عليه جهلا به وبملهمات مقترحات حلول بعض أزمات الواقع المعاصر الكامنة في طياته.

ومن حظ المجتمعات المسلمة الذي يمتد إلى غيرها أن يوجد بين علمائها اليوم من يستحضر أهمية واجب الوقت في بعديه: المحلي والعالمي، ويجعله ثمرة لمشروع فكري وتصحيحي تبلور في إطار مؤسسي يحمل اسم “منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة”، والذي نحتفي بذكرى تأسيسه الخامسة على أرض الإمارات العربية المتحدة يوم 09 مارس 2014.

كثيرون هم أؤلئك الذين يجهلون الامتداد الزمني للمنتدى كفكرة ومضمون ومنهج، ويربطونه باعتبارات فسادها يغني عن إفسادها كما يقول الأصوليون، ويكفي تأمل بسيط بعين الإنصاف في المسار الفكري لمعالي العلامة عبد الله بن بيهرئيسِ مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي ورئيس منتدى تعزيز السلم على مدى أزيد من ثلاثين سنة ليفضي إلى أن المنتدى كان استجابة لواقع ملح اقتضى الحفر المعرفي في أصول وبنية خطاب منحرف عن جادة الوسطية فرض نفسه على المجتمعات المسلمة نتيجة مجموعة من العوامل المعقدة والمتشابكة، والذي  تميز بثلاث سمات:

– اختلال في منهجية تأصيل المفاهيم الشرعية خاصة تلك التي تتعلق بالمخالف ديانة واعتقادا.

– غياب تصور صحيح لمنهجية تنزيل المفاهيم الشرعية على الواقع، والمؤسف أن هذا الغياب شمل فئة النخبة التي كان من المفروض أن تكون حامية حمى المنهجية السليمة في التعامل مع الدين ونصوصه ومفاهيمه.

– ضمور القيم الأربعة الكبرى للشريعة الإسلامية (الرحمة – العدل – الحكمة- المصلحة)، والتي من المفروض أن تكون القيم المؤطرة للتعامل مع واقع الإنسان فردا وجماعة ومجتمعات.

هذه الموجبات الثلاث، هي التي أسهم التفاعل الإيجابي معها في التأسيس للنظرة العقلية التي ينظر من خلالها العلامة عبد الله بن بيه إلى ما وراء الأحداث التي عرفتها المجتمعات المسلمة في العقد الأخير، وهي النظرة التي شكلت جزءا من رؤيته للعالم، أو ما أسميته في وقت سابق ب“براديغم السلم”، فمن خلال هذه النظرة يطرح علامتنا رؤيته للعالم مقابل براديغمات تتمسك بها عقليات إما أنها تتبنى عقيدة المغالبة والصراع الدائم داخل المجتمعات المسلمة وخارجها، وإما تتبنى منطق التقوقع في ركام التاريخ وتتغطى بغباره وتعيش في دهاليزه سواء كانت مجتمعات مسلمة أم مجتمعات مسلمة تعيش وسط و مجتمعات غير مسلمة لكنها لا تزال تحمل فكرة الغربة الدينية وعداوة المخالف الذي تعيش على أرضه وبسلطة قوانينه.

لقد فرضت النظرة العقلية للعلامة بن بيه نفسها على أنشطة المنتدى، باعتبارها مسلكا من مسالك الكشف عن الواقع ومآلاته، وإطارا يجعل من التاريخ وخاصة التاريخ الإسلامي جزءا من حل مشاكل وإشكالات الواقع لا سببا من أسبابها، فالتاريخ حاضر بقوة في رؤية العالَم في فكر العلامة بن بيه، إذ يرى فيه أنه رافد عظيم الأهمية بكم هائل من النماذج التي يمكن استلهامها وإحياؤها لتقديم مشاريع حلول لأزمات العالم التي قد يكون الدين عاملها المهيمن ومسعر الحروب والصراعات، والدليل مبادرة إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية التي تأسست على صحيفة المدينة المنورة، وإعلان واشنطن لتحالف القيم وإعلان أبوظبي لحلف الفضول اللذين تأسسا على حلف الفضول العربي الذي كان قبل الإسلام وزكته النبوة المحمدية.

لذلك، فإن النظرة العقلية لما وراء الأحداث عند الشيخ بن بيه تثبت أنه لا يتنكر لتاريخ الأمة الإسلامية، ولا لرمزيته في وعيها المهزوز، وإنما يحاول أن ينأى بكثير من الفئات عن فهمه وتفسيره السطحي الذي يجعل الأمة تغيب عن مقام الفاعلية والشهود الحضاري.

إن رؤية العالَم لدى العلامة بن بيه والتي تجمع بين النظرة الدينية والنظرة العقلية لما وراء الأحداث تحاول:

1-  أن تنظم وتؤطر “مبدأ الحق” بجعل السلم بيئة لكل الحقوق لا يتعداها ولا يغني عنها، وهو من أجل ذلك يقوي ويدعم نظرته العقلية لما وراء الأحداث بالنظرة الشرعية الممثلة في المنهجية الأصولية الأصيلة التي هي جوهلا روايته للإسلام ورؤيته للواقع، وهي منهجية تعتمد بعدين: “موقعة النصوص والمفاهيم”، و“موضعتها بنفس الروح في البيئات الزمانية والبشرية“، وهي النظرة التي من بين تمثلاتها صناعة المفاهيم، لأن المنطق العقلي والشرعي يوجبان أن أي مشكلة تحتاج مفهوما يلتصق بها لا يمكن حلها بعيدا عنه، وهو ما يتطلب أحيانا تصحيحا للمفهوم أو إعادة صياغته بما يراعي المتغيرات الطارئة التي تؤثر فيه.  وبما أن بعض المفاهيم قد تكون هي نفسها المشكلة لا لعيب فيها وإنما بسبب الفهم السطحي أو الاجتزائي لها، أو بسبب المتغيرات التي قد توجب فقدان بعض جزئياتها التي قام بناؤها عليها، أو تفرض انضمام جزئيات أخرى مؤثرة عدم مراعاتها في تنزيل المفاهيم يؤول إلى نتائج معاكسة للمقاصد التي من أجلها كانت وتأسست.

2- أن تستبق أزمة أخرى ستنشأ إذا لم يبادر علماء الدين ورجال الدين في الملل الأخرى والفلسفات الروحية إلى العناية بها، فهو يدرك تمام الإدراك قضية عودة الناس إلى مساءلة الدين بعد أن أحبطتهم الحداثة وأصابتهم شظايا الفشل الأخلاقي للعولمة، وتنامي خطر التدمير الذاتي الذي ولدته التكنولوجيا ، ومن ثم يدرك الحاجة الملحة لأن يتدخل علماء ورجال  الدين ليكونوا عامل جذب للسلام من خلال العمل في دائرة المشتركات الإنسانية وترسيخ ثقافة التسامح المتكافئ.

د/ يوسف حميتو
مدير إدارة البحث والنشر – مركز الموطأ

تفاصيل استقبال العلامة عبدالله بن بيه لإمام مسجد النور في كرايستشيرش بنيوزيلندا

استقبل رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، الشيخ عبد الله بن بيه، أمس، إمام مسجد النور في مدينة كرايستشيرش بنيوزيلندا الشيخ جمال فودة، وذلك بحضور علي راشد النعيمي، رئيس المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، ومحمد مطر الكعبي، رئيس الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف.

ورحّب بن بيه بإمام مسجد النور مجدداً تعازيه لشعب نيوزيلندا في حادث كرايستشيرش الإرهابي، ومشيداً بتعامل حكومة نيوزيلندا الاحترافي مع الأحداث.

وأكد ضرورة العمل على محاربة خطاب الكراهية ونشر قيم الحب والخير والسلام التي تخاطب الفطرة السليمة بوصفها أساس الدين الإسلامي، مشيراً إلى أن الأعمال الإرهابية، أياً كان مصدرها، تتنافى والفطرة السليمة، فالإرهاب لا دين له.

وأضاف أن نهج دولة الإمارات الذي أرسى دعائمه المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – طيب الله ثراه – وتمضي عليه قيادة الدولة الرشيدة، يقوم على تعزيز التسامح، ويؤمن بالقيم الأصيلة وفهم روح العصر. وتابع: «لن نتخلى عن مسلمي نيوزيلندا، ولن نحجم عن ما ينفعهم، ولن نقصر في حقهم».

حرص

وأكد بن بيه حرص دولة الإمارات على تعزيز قيم التسامح والسلم من خلال مؤسساتها المختلفة، وأبرزها منتدى تعزيز السلم والمجلس العالمي للمجتمعات المسلمة ومجلس حكماء المسلمين.

شكر

من جانبه، قدم إمام مسجد النور في كرايستشيرش الشكر لدولة الإمارات على موقفها المشرف مع مسلمي بلاده عقب الحادث المأساوي الذي تعرضوا له على أيدي الإرهاب الغاشم.

وأوضح أن الإمارات كانت سباقة في الاطمئنان على أوضاع مسلمي نيوزلندا عقب حادث كرايستشيرش مباشرة، مشيراً إلى أن أول اتصال تلقاه عقب الحادث، كان من السفير الإماراتي لدى نيوزيلندا.

وكان وفد من دولة الإمارات برئاسة معالي الدكتور علي راشد النعيمي، زار، في 20 مارس الماضي، مدينة كرايستشيرش التي شهدت الهجوم الإرهابي الدموي على المسجدين أثناء صلاة الجمعة، ما أودى بحياة العشرات.

ومثلت الزيارة تعبيراً عن التضامن الكامل الذي أعلنته دولة الإمارات قيادة وشعباً مع شعب وحكومة نيوزيلندا، والوقوف معها تجاه كل ما تتخذه من إجراءات لحفظ أمنها واستقرارها وسلامة المقيمين على أراضيها. وأشاد الوفد بالجهود التي بذلتها الحكومة النيوزيلندية برئاسة جاسندا أرديرن، رئيسة الوزراء.

أهمية ودوائر الوحدة : بين المثال والواقع

 

* هذا النص جزء من بحث بعنوان : الوحدة الإسلامية في مواجهة تيارات التطرف و خطاب الكراهية

 

أهمية ودوائر الوحدة : بين المثال والواقع- بقلم العلامة عبدالله بن بيه

الكلمة الأولى: عن الوحدة أهميتها ودوائرها  

ولعلنا هنا لا نحتاج إلى إطالة الرشاء لنبرهن على أهمية الوحدة ومكانتها بالنسبة للمجتمعاتعامة والمجتمعات المسلمة خاصة، فهو أمر معروف وعلى أطراف الثُّمام.

ونكتفي بالتذكير بأنّ الوحدة مفهوم إسلامي عظيم، يشمل جميع دوائر الوجود الإنساني، ويغطي جميع العلاقات الفردية والجماعية والدولية، فالإسلام هو دين التوحيد ودين الوحدة، وحدة الشعور والشعائر.

إنّ هذه الوحدة لها أسسها ولها دوائرها:

فأساس الوحدة هو روح الأخوة الإسلامية: (إنّما المؤمنون إخوة) والمحبة: (لا تدخلون الجنّة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا)، الحبّ قيمة من أعظم القيم وشيمة من أمثل الشيم فهو وحده الذي يقوّي روح التّواصل وينسج لحمة التضامن والتكافل ويعطي بعداً وجدانياً لعملية التبادل.

وأما دوائر الوحدة التي تتجلّى فيها مظاهرها، فمتعددة تعدد مجالات حياة الفرد والجامعة، وهي على درجات يؤكّد بعضها بعضا ويكمّله،

فمن أشملها دائرة التضامن والتكامل، التي تتسع لتغطي جميع أنحاء التعاون المأمور به بين المسلمين وبين جميع البشر، في سبيل الخير والمصلحة، والتي تنطلق من مستوى وحدة الشعور والاشفاق “كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد”، لتتجسّد من خلال التكتلات الاقتصادية والثقافية والسياسية.  

كما أنّ منها دائرة لزوم الجماعة ومعناها الجماعة الفقهية -عند بعضهم- وهذا من أصول دليل الاجماع خلافا للنظام ومن معه من نفاة الإجماع الذين ادعوا أن المقصود هو الجماعة الإيالية أو السياسة بالمعنى الاصطلاحي والتي سمّاها الطوفي “الهيئة الاجتماعية”.  

لمشاهدة المحاضرة :

الكلمة الثانية: الوحدة بين المثال والواقع

وهذه الدوائر والمستويات كلّها مطلوبة إلا أنّ الإسلام يضع مثالاً لكنّه يتعامل مع واقع ومصالح ومفاسد التي تطرأ على البشرية، فالمثال يتجلى في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا) وقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).

ذلك هو المثال ولكن المثال مؤطّر عند التنزيل بمُقتضيات الواقع والإمكان.

فالوحدة وإن كانت مطلباً شرعياً ومقصداً عظيماً ومثالاً يطمح إليه في خدمة الدين والدنيا، إلا أنها ينبغي أن تكون اختيارية وطواعية، وينبغي أن يُراعى في التدرج إليها السياقات الزمانية والمكانية والإنسانية.

ان مفهوم الوحدة لا يعني بالضرورة أن يكون المسلمون في كيان واحد، ولا يجوز إعلان الحروب وإلحاق الضرر بالناس من أجل ذلك.فالاقتتال من أجل توحيد الأمة يكرُّ على الأصل بالإبطال ويجرُّ الصحيح الى الاعتلال والإعلال.

فالخلافة مثلاً هي أمر مصلحي وليس تعبدياً، قال الجويني  وهو من العلماء الدستوريين: ( ثم الغاية القصوى في استصلاح الدين والدنيا ربطُ الإيالات بمتبوع واحد إن تأتى ذلك، فإن عسر ولم يتيسر تعلق إنهاء أحكام الله تعالى إلى المتعبدين بها بمرموقين في الأقطار والديار)، وقال ابن الأزرق المالكي : (إن شرط وحدة الإمام بحيث لا يكون هناك غيره لا يلزم مع تعذُّر الإمكان).

ومن ثمّ فإن أولئك الذين يقاتلون من أجل إقامة خلافة في الأرض تغيب عنهم المقاصد الشرعية وطبيعة العصر ومقتضيات النّهي والأمر، فكيف يتوسل إلى مصلحة بأعظم مفسدة؟ ولهذا فإنَّه في محلّ الاختلاف يلجأ إلى المجمع عليه ويتمسّكُ به، فحرمة الدماء أمر لا مرية فيه والانتقال عن هذا الأصل المجمع عليه يحتاج إلى قيام أسباب أكيدة وانتفاء موانع عنيدة وتوفر شروط عنيدة، فهذه مكونات خطاب التكليف التي لا ينفك عنها أية تكليف حتى الإيمان حسب عبارة القرافي في التنقيح، فإذا علمنا عدم توفرها أو جهلنا قيامها فلا يصح تنزيل هذه الأحكام.

           وعند جهل بعض هدى الخمس             ما العمل اليوم كمثل أمس

كما قال علامتنا النابغة الغلاوي -رحمه الله تعالى- وهو يتحدث عن شروط إجراء العمل .      

وعلى هذا دلّت الممارسة التاريخية للأمة، حيث تعدّدت دول الإسلام وتعدد أئمتهم وسلّم ذلك العلماء.

 فأفق الوحدة المنشود لا يمكن أن يكون مبررا لسلب الدولة الوطنية حقها في الشرع والشرعية والمشروعية. فالدول الوطنية في عالمنا الإسلامي اليوم مع اختلاف أشكالها وصورها، هي نظم شرعية لها من المشروعية ما كان للإمبراطوريات الكبرى التي كانت قائمة في التاريخ بناء على قانون المصالح والمفاسد الذي تدور حوله أحكام الشرع.

….

* هذا النص جزء من بحث بعنوان : الوحدة الإسلامية في مواجهة تيارات التطرف و خطاب الكراهية

لنشاهدة المحاضرة كاملة :

فقه السلام.. مع الشيخ بن بيّه فى زيارة موريتانيا

 

أحمد المسلمانى

 كاتب صحفي وإعلامي مصري،

 

موريتانيا بلدٌ رائع يقع فى آخر بلاد العرب.. ثُلث السكان من الشعراء والثلثان يحاولان. هى بلاد القصائد والحكايات، الخيمة والكتاب.. بحار الرَّمل ووجْه القمر. تزيد مساحة موريتانيا على أربعة أضعاف مساحة بريطانيا.. يسيْطر اللون الأصفر على صحرائها الشاسعة.. ثم ينحنى قليلًا أمام اللون الأخضر فى الواحات والأراضى الزراعية.. حتّى ينهزم تمامًا أمام اللون الأزرق على امتداد الساحل الأطلسي. فى موريتانيا شعبٌ آسِر.. يأسِرك هدوءً وطيبة.. كرمًا وثقافة. يتكئّون على البلاغة فى منازلة الركاكة، ويستعينون بالتاريخ فى مواجهة العولمة. زرتُ موريتانيا – ربيع 2019 – بدعوة من وزير الشئون الإسلامية الدكتور أحمد ولد أهل داوود.. للمشاركة فى مؤتمر وحدة الأمة الإسلامية فى مواجهة تيارات التطرف وخطاب الكراهية.. والذى انعقد تحت رعاية الرئيس الموريتانى محمد ولد عبد العزيز. ألقيتُ كلمتى بعنوان الخوف من الإسلام والخوف على الإسلام.. واستمعتُ إلى نخبة من العلماء والفقهاء من بلدانٍ شتّي، وقد مثّلتْ كلماتهم زادًا مهمًّا فى الإطلاع والتفكير. ولقد ارتأيتُ أنْ أتّوقف عند المحاضرة التى ألقاها العلّامة الموريتانى الشيخ عبد الله بن بيّه.

الشيخ بن بيّه من أكابر العلماء فى العالم الإسلامي.. تشرفّتُ بمعرفة الشيخ وأسرته فى السنوات الفائِتة، وسعدتُ بلقائه عدة مرات من أبوظبى إلى نواكشوط. وفى كلِّ مرة كنتُ أزدادُ إعجابًا برؤيته المتزّنة ومعرفته الواسعة. حظيَ الشيخ باهتمام عالمى كبير، وقد راجتْ مقولته الشهيرة يجب أن نعلن الحرب على الحرب.. لتكون النتيجة سِلمًا على سِلم.. بعد أن استشهد بها الرئيس باراك أوباما فى خطابٍ له بالأمم المتحدة. تُمثِّل هذه العبارة جوهر المشروع الفكرى للشيخ بن بيّه. إنّه داعية الأمن والسلام.. وحسب تعبير أحدهم إنّه يجمع ولا يفرِّق، ويُنير ولا يثير. وحسب تعبير الشيخ عن مشروعه: يجب الاتفاق على الاختلاف. إن قضية الوحدة الإسلامية هى قضية شائكة للغاية، حيث اختزلتها حركات الإسلام السياسى لقرونٍ طويلة فى فكرة الخلافة وإقامة دولة مركزية واحدة لكل المسلمين.. وجرى القول بقتال أيّ دولة مسلمة لا تكون جزءًا من مشروع الخلافة. لقد أدّت هذه الفكرة إلى تفجير بحار الدم على مرّ التاريخ الإسلامي، ولم تكن راية الخلافة فى حقيقة الأمر سوى راية الحرب الأهلية فى الإسلام.. حيث أصبح المسلمون بعضهم لبعض عدوا، وبدلًا من أن يكون المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، صار المسلمون ضدّ المسلمين.

أفتى الشيخ بن بيّه بأن الدولة الوطنية هى دولة شرعية، وليست ابتداعًا فى الإسلام. ودلّل الشيخ على ذلك بدولة المسلمين فى الحبشة بقيادة الملك النجاشي، والتى لم تكن جزءًا من الدولة الإسلامية فى المدينة المنورة وقتها. ومع ذلك لم يطلب المسلمون العرب من أهلها الهجرة، وحظيتْ دولة المسلمين فى الحبشة باحترام دولة المسلمين فى الجزيرة العربية. ولم يطالب أحدٌ بدمج الدولتيْن معًا فى دولةٍ واحدة أو خلافةٍ واحدة. يقول الشيخ بن بيّه: إن راية الخلافة التى يحملها المتطرفون.. راية وهميّة، ولا تقوم على أسس شرعيّة.. إن دولة الخلافة هى صيغة حُكم غير ملزِمة.. ولا يجوز نزع الشرعية عن الدولة الوطنية.. فى زمن النبى – صلى الله عليه وسلم – كانت توجد دولة أخرى رأسها ملكٌ مسلم.. هو النجاشى الذى أسلم، وتركه النبى فى مُلكِه هناك فى الحبشة، ولم يأمره بالهجرة أو المجيء.. لقد تجاوز علماؤنا ذلك، وذكروه فى باب الجنائز.. حين أَطْلع الله نبيّه غيبًا على وفاة النجاشي.. فقام وكبّر أربع تكبيرات عليه.. إن دولة الخلافة وهْم، وقتْل النفوس من أجلها لا مبرِّر له شرعيًّا.

كان ذلك ما سمعته من الشيخ فى أبوظبي، وفى نواكشوط زادَ الشيخ: الوحدة الإسلامية محلّ أشواق لدى البعض، ومحل إشفاق لدى البعض الآخر.. يقوم الإسلام على مركزية قيم العدل والإحسان: لا تؤمنوا حتى تحابّوا، ومثل المؤمنين فى توادّهم وتراحمهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمي.. إن الوحدة لا تعنى أن يكون المسلمون كلهم فى كيان سياسى واحد. الدولة الوطنية شرعيّة، والإسلام يحرِّم القتال لأجل إقامة الكيان الواحد.. دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم حرام.

يعمل الشيخ بن بيّه على تفكيك الإدعاءات الشرعية للخوارج الجُدد، ويذهب للقول: إن تقسيم العالم الإسلامى إلى داريْن: دار الإيمان ودار الكفر.. كان له سياقُه التاريخي.. حيث كان المغول يغيرون على أراضى المسلمين وبلدانهم، والآن يجب إعادة النظر فى ذلك فى ضوء التغيّرات السياسية.. إن فتوى ماردين التركيّة قبل (700) عام والتى قال بها الشيخ ابن تيميّة قد تم تحريفها لتصبح أساس فتاوى الجهاد والولاء والبراء.. لقد تمّ التحريف أثناء الطباعة. كان النص قبل التحريف يُعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقّه.. وأصبح النص بعد التحريف: يُقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه. لقد تمّ حذف كلمة يُعامل ووضع كلمة يُقاتِل. أبدى الشيخ بن بيّه شكوكه إزاء مآلات الثورات العربية المعاصرة، وانتقد بعضًا منها قائلًا: الثورات التى أمامنا.. هى حروب تدميرية، وتقطيع للأرحام، وتشتيت للأمّة. ودعا الشيخ إلى عودة الأمن والسلام، وأعادَ إلى الأذهان حديثًا لم يعد متردّدًا.. رغم وروده فى البخارى – عن أنّهُ من الإيمان بذل السلام للعالم. وحسب الشيخ بن بيّه العالم هو كل ما سوى الله.. وعلى ذلك فالعالم يشمل كل الموجودات والكائنات.. والإسلام يتضمن السلام للعالم.. للإنسان وللبيئة معًا.

يحتاج المشروع الفكرى للعلامة الموريتانى الشيخ عبد الله بن بيّه إلى دراسة واسعة. إن المواجهة الأمنية للإرهاب لا يمكنها البقاء من دون المواجهة الفكرية، كما أن المواجهة الفكرية لا يمكنها البقاء من دون مواجهة شرعيّة. لا يكفى أن نقول للمتطرفين: أنتم عملاء. يجب تحطيم غرورهم تحطيمًا.. يجب أن يدركوا أنهم جهلاء.

الغباء جريمة كبرى ضد الدين والدنيا.. العلم هو الحلّ.

الوحدة الإسلامية في مواجهة تيارات التطرف و خطاب الكراهية – كلمة العلامة عبدالله بن بيه

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه

:كلمة حول

الوحدة الإسلامية في مواجهة تيارات التطرُّف وخطاب الكراهية

معالي الشيخ عبد الله بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلممة


أصحاب المعالي والفضيلة والسعادة،

أيها السادة والسيدات،

كل باسمه وجميل وسمه،

أحمد الله تعالى على تجدد اللقاء بكم على هذه الأرض الطيبة، أرض العلم والعمل والفقه والحكمة، في هذه المحفل السنوي المبارك، الذي أصبح سنة حسنة، حيث تتاح لنا الفرصة للمذاكرة والمدارسة حول جملة من قضايا الأمة وآمالها وآلامها.

وقد وقع اختيار الجهة المنظمة هذه السنة على موضوع (الوحدة الإسلامية.. في مواجهة تيارات التطرف وخطاب الكراهية)، وهو موضوع متسع الأرجاء مترامي الأطراف، ولا يزال محلّ الأشواق ومحلّ الإشفاق.

أود في هذه الكلمة الموجزة أن أُدْلي بدلوي وأسهم برأيي من خلالخمس برقيات سريعة، تتعلق بالعنوان دون الإفاضة في المقتضيات والمتعلقات، البرقية الأولى عن الوحدة وأهميتها والثانية عن الوحدة بين المثال والواقع، والثالثة عن التطرف، والرابعة عن ضرورة الوحدة الفكرية في وجه التطرّف، والخامسة عن الوحدة في سياق العولمة ومقاربة أولي بقية.

الكلمة الأولى: عن الوحدة أهميتها ودوائرها  

ولعلنا هنا لا نحتاج إلى إطالة الرشاء لنبرهن على أهمية الوحدة ومكانتها بالنسبة للمجتمعات عامة والمجتمعات المسلمة خاصة، فهو أمر معروف وعلى أطراف الثُّمام.

ونكتفي بالتذكير بأنّ الوحدة مفهوم إسلامي عظيم، يشمل جميع دوائر الوجود الإنساني، ويغطي جميع العلاقات الفردية والجماعية والدولية، فالإسلام هو دين التوحيد ودين الوحدة، وحدة الشعور والشعائر.

إنّ هذه الوحدة لها أسسها ولها دوائرها:

فأساس الوحدة هو روح الأخوة الإسلامية: (إنّما المؤمنون إخوة) والمحبة: (لا تدخلون الجنّة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا)، الحبّ قيمة من أعظم القيم وشيمة من أمثل الشيم فهو وحده الذي يقوّي روح التّواصل وينسج لحمة التضامن والتكافل ويعطي بعداً وجدانياً لعملية التبادل.

وأما دوائر الوحدة التي تتجلّى فيها مظاهرها، فمتعددة تعدد مجالات حياة الفرد والجامعة، وهي على درجات يؤكّد بعضها بعضا ويكمّله،

فمن أشملها دائرة التضامن والتكامل، التي تتسع لتغطي جميع أنحاء التعاون المأمور به بين المسلمين وبين جميع البشر، في سبيل الخير والمصلحة، والتي تنطلق من مستوى وحدة الشعور والاشفاق “كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد”، لتتجسّد من خلال التكتلات الاقتصادية والثقافية والسياسية.  

كما أنّ منها دائرة لزوم الجماعة ومعناها الجماعة الفقهية -عند بعضهم- وهذا من أصول دليل الاجماع خلافا للنظام ومن معه من نفاة الإجماع الذين ادعوا أن المقصود هو الجماعة الإيالية أو السياسة بالمعنى الاصطلاحي والتي سمّاها الطوفي “الهيئة الاجتماعية”.  

 

الكلمة الثانية: الوحدة بين المثال والواقع

وهذه الدوائر والمستويات كلّها مطلوبة إلا أنّ الإسلام يضع مثالاً لكنّه يتعامل مع واقع ومصالح ومفاسد التي تطرأ على البشرية، فالمثال يتجلى في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا) وقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).

ذلك هو المثال ولكن المثال مؤطّر عند التنزيل بمُقتضيات الواقع والإمكان.

فالوحدة وإن كانت مطلباً شرعياً ومقصداً عظيماً ومثالاً يطمح إليه في خدمة الدين والدنيا، إلا أنها ينبغي أن تكون اختيارية وطواعية، وينبغي أن يُراعى في التدرج إليها السياقات الزمانية والمكانية والإنسانية.

ان مفهوم الوحدة لا يعني بالضرورة أن يكون المسلمون في كيان واحد، ولا يجوز إعلان الحروب وإلحاق الضرر بالناس من أجل ذلك.فالاقتتال من أجل توحيد الأمة يكرُّ على الأصل بالإبطال ويجرُّ الصحيح الى الاعتلال والإعلال.

فالخلافة مثلاً هي أمر مصلحي وليس تعبدياً، قال الجويني وهو من العلماء الدستوريين: ( ثم الغاية القصوى في استصلاح الدين والدنيا ربطُ الإيالات بمتبوع واحد إن تأتى ذلك، فإن عسر ولم يتيسر تعلق إنهاء أحكام الله تعالى إلى المتعبدين بها بمرموقين في الأقطار والديار)، وقال ابن الأزرق المالكي : (إن شرط وحدة الإمام بحيث لا يكون هناك غيره لا يلزم مع تعذُّر الإمكان).

ومن ثمّ فإن أولئك الذين يقاتلون من أجل إقامة خلافة في الأرض تغيب عنهم المقاصد الشرعية وطبيعة العصر ومقتضيات النّهي والأمر، فكيف يتوسل إلى مصلحة بأعظم مفسدة؟ ولهذا فإنَّه في محلّ الاختلاف يلجأ إلى المجمع عليه ويتمسّكُ به، فحرمة الدماء أمر لا مرية فيه والانتقال عن هذا الأصل المجمع عليه يحتاج إلى قيام أسباب أكيدة وانتفاء موانع عنيدة وتوفر شروط عنيدة، فهذه مكونات خطاب التكليف التي لا ينفك عنها أية تكليف حتى الإيمان حسب عبارة القرافي في التنقيح، فإذا علمنا عدم توفرها أو جهلنا قيامها فلا يصح تنزيل هذه الأحكام.

           وعند جهل بعض هدى الخمس             ما العمل اليوم كمثل أمس

كما قال علامتنا النابغة الغلاوي -رحمه الله تعالى- وهو يتحدث عن شروط إجراء العمل .      

وعلى هذا دلّت الممارسة التاريخية للأمة، حيث تعدّدت دول الإسلام وتعدد أئمتهم وسلّم ذلك العلماء.

 فأفق الوحدة المنشود لا يمكن أن يكون مبررا لسلب الدولة الوطنية حقها في الشرع والشرعية والمشروعية. فالدول الوطنية في عالمنا الإسلامي اليوم مع اختلاف أشكالها وصورها، هي نظم شرعية لها من المشروعية ما كان للإمبراطوريات الكبرى التي كانت قائمة في التاريخ بناء على قانون المصالح والمفاسد الذي تدور حوله أحكام الشرع.

الكلمة الثالثة عن التطرف

(التطرف L’extrémisme) هو الخروج عن الوسط إلى الأطراف، واسم الفاعل متطرّف.

وهذا المفهوم ليس مفهوما علمياً في الثقافة العربية الإسلامية،بمعنى أنه لم يستعمل في وصف الأفكار والآراء والممارسات والسلوك، بل اسْتُعْمِل مُقابلُه وهو الوسط لوصف حالة الاعتدال الفكري والسلوكي والاتزان.

واستعمل نظير التطرُّف وهو: الغلو وهو: الخروج عن الاعتدال والتجاوز عن المعهود والمطلوب في الأقوال والأفعال.

كما استُعمل مصطلح التنطع وهو: نوع من المبالغة والشدة والتجاوز عن حدود المطلوب.

كما استُعملت كلمة التشدد وهو إظهار الشدة في الدين.

وهذه المصطلحات المرادفة والمجاورة للتطرف وردت كلها في سياق الذم والتنديد في أحاديث معروفة، نورد منها بعضها:  

فقد نُهيَ عن التشدد في حديث أنس:”لا تُشدّدوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم”.

ونُهي عن الغلو في الدين ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام:” إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين”.

ونُهيَ عن التنطع، ففي حديث ابن مسعود (مرفوعاً): “هلك المتنطعون قالها ثلاثاً”.

خلاصة القول: إن التطرف سواء كان فكرياً أو سلوكياً، مفهوم يختلف باختلاف الزمان والمكان والإنسان، ويمكن تعريفه بأنه: خروج على النظام العام فكرياً وسلوكياً، يحمل إمكانية التحريض على العنف أو الإخلال بالأمن.

وخطاب التطرُّف خطاب حادٌّ وآحادي، له مظهران: أولهما: التكفير في العقائد ، ثانيهما: ضيق الصدور بالخلاف في الفروع.

إنَّ آثار هذا الخطاب بمظهريه مدمّرة، حيث إنه المقدمة الفكرية لاستباحة الدماء والأموال والأعراض، وبالتالي الإخلال بمقاصد الحق ومقاصد الخلق، الذي يترجم بمقاصد الشرع ومقاصد المكلفين.

والإسلام براء من كل تطرّف، مع أن التاريخ الإسلامي قد عرف غلاة ومتطرفين ومتنطعين، وكان من مآسيه في التاريخ حركات الخوارج والباطنية، وفي الزمن الحاضر حركات التكفير والعنف والشغب والقلق السياسي والاجتماعي.

إلا أن تيار أهل السنة والجماعة ظل متمسكاً بالمنهج الوسط، الذي لا إفراط فيه ولا تفريط. وما فتئ العلماء بالمرصاد لكل غلوّ في الاعتقاد أو الأحكام العملية الفقهية لتصويب الخطأ وتوضيح الجادة، التي كان عليها سلف هذه الأمة.

ولهذا فإن توحيد الخطاب وتأصيله وتفصيله لإبراز زيف خطاب التطرف والكراهية وضعف مستنده ومخالفته لمنهج السلف وقانون المصالح المعتبرة، هو ما على الأمة اليوم أن تقوم به. فالوحدة الفكرية للأمة هي السبيل الأمثل للتصدي للتطرف، من خلال القيام بجهود تربوية.

 

الكلمة الرابعة: الوحدة الفكرية سبيلا لمواجهة التطرُّف

إنّ روح الإقصاء التي يحذر منها مؤتمرنا اليوم تنبع أساساً من الانغلاق الذي يسبب رفض الآخر وإساءة الظن به، التي هي الداء. ولذلك فإنّ من أبرز وسائل تحقيق الوحدة اليوم تنمية أوجه التّضامن، من خلال تعزيز المشتركات، والإيمان بأن التنوع المتناغم هو القاعدة الذهبية، وأنه أساس الوحدة والانسجام وليس القطيعة والانفصام.

إن أهم قيمة يمكن أن تكون مفتاحا لتعزيز الوحدة هي احترام الاختلاف بل حبه بحيث ينظر له كإثراء وكجمال وكأساس لتكوين المركّب الإنساني، إن الاختلاف ليس بالضرورة عداوة وحربا بل إنه يمكن أن يكون جمالا كاختلاف ألوان الطبيعة.

إنّ الاختلاف بين أهل الحق سائغ وواقع وما دام في حدود الشرع وضوابطه فإنه لا يكون مذموما، بل يكون ممدوحاً ومصدراً من مصادر الإثراء الثقافي والفكري، إذا احترمت آداب الاختلاف، كاحترام رأي المخالف وعدم تجريحه وإنصافه وعدم المعاداة وتغليب مصلحة الألفة وحسن الظن بالمخالف والبحث له عن أقرب الأعذار.

مع احترام آداب الاختلاف يكون الاختلاف رحمة كما جاء في الأثر المشهور على ألسنة الناس: (اختلاف أمتي رحمة).

وهذا الاختلاف يمكن أن يتصور في ثلاثة مستويات:

على مستوى العرق والقبيلة وهو موضوع أشبعته النصوص المحكمة من الكتاب والسنة ايضاحاً وألغت الفوارق وجعلته من أمر الجاهلية، ووضعت المعيار الوحيد للفضل وهو التقوى. فالوحدة في الإسلام تّتسامى على الفئوية ولا تلغيها، تستوعب الانتماءات الضيقة ولا تنفيها، حيث تكون الانتماءات ثراء والاختلاف جمالا وإغناء.

المستوى الثاني: هو مستوى اختلاف المصالح والتي تكون تارة حقيقية وتارة موهومة، ويزداد هذا المستوى أهمية في وقت كثرت فيه التصنيفات وتشعبت فيه الفرق والتفاريق، بما أنتجته الحداثة أو زادته حدّة من اختلاف المصالح بين الرجل والمرأة وبين الشباب والأقلّشبابا، وبين الفقراء والأغنياء وبين العمال وأرباب العمل والعاطلين،وبين أهل الريف وأهل المدينة.

ولم يعد مبدأ التكافل الطبيعي والتكامل والتضامن الأصلي الذي يقوم عليه مجتمعاتنا وينبع من صميم ديننا قائماً في حالات كثيرة بل أصبح التغالب والتضارب والاضراب هو الوسيلة المتبعة.

وعلى هذا المستوى لا بدّ من جهد تأصيلي يعيد مركزية قيم العدل والإحسان والمؤاساة والتآسي في العسر، التي أصابها الضمور في المنظومة التربوية في المجتمعات المعاصرة.

المستوى الثالث هو الاختلاف الفقهي والمذهبي.

وهذا المستوى من أخطر المستويات فبسببه تُشنّ الحروب ومن جرائه ترهق النفوس وتقطع نياط القلوب، ذلك أنّ منه ما يتعلق بدائرة التكفير المنهي عنه، ودعاوى الزندقة والبدعة.

وهذا النوع من الاختلاف علاجه النافي لآثاره الضارة هو أحد ثلاثة أشياء:

أولها: التسليم بأن الاختلاف من طبيعة الناس وفطرتهم فإنهم يختلفون في الإدراكات ويتباينون في التقديرات والأذواق وهو كذلك من طبيعة الأشياء، حيث يكون الاختلاف في المحكوم عليه لا في أصل الحكم فيسمى اختلافاً في حال أو في شهادة. كما يكون الاختلاف من الاحتمال في الدليل والاشتباه أو الحمل في التأويل،

ومن أهم من وسّع جيوب التأويل وبين تباين سبله لينفي التكفير أبو حامد في كتابه “فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة” وذلك عندما اعتبر أن الحامل لنصّ من المتشابه على أحد الوجودات الخمسة لا يعد كافرا، وهذه غير الوجودات الأربعة في المنطق سوى الأول منها الذي سماه هنا الذاتي وهو الحقيقي الخارجي وميّز بينه وبين الحسّي القاصر على الحس.

ثانيها: معرفة أسباب الاختلاف فإذا عرف السبب اتسع الصدر وارتفع الحرج، وقد حاول العلماء حصر هذه الأسباب فذكر الشاطبي عن ابن السيد أن أسباب الخلاف ثمانية وفصّلها وأكثرها يرجع إلى الألفاظ. ومنها ما يرجع إلى الثبوت كمسألة علل الرواية،ومسألة الاجتهاد والأقيسة وهي تنقسم إلى أقسام.

وقد حصرها ابن رجب في ثلاثة واعتبرها ابن رشد الحفيد ستة بالجنس.

ولا اختلاف في الحقيقة بين هذه الأنقال إلا أن بعضهم فصل وبعضهم أجمل، ولو أردنا الاختصار لرددنا جميع الأسباب المذكورةإلى أربعة عناوين:

اختلاف في دلالات الألفاظ وضوحاً وغموضا واعتبارا ورداً
اختلاف في أدلة معقول النص التي ترجع إلى مقاصد الشريعة وأخرى أيضا قبولا ورفضا
اختلاف في وسائل ثبوت النصوص الشرعية ودرجات الثبوت.  
اختلاف في ترتيب الأدلة عند التعارض في سلم الاحتجاج قوة وضعفا.

الكلمة الخامسة عن مقاربة أولي بقية

هل يمكن أن نتحدّث عن وحدة الأمة في عصر العولمة من دون أن نربطها بسياقها العالمي، حيث إن ظاهرة التطرف وخطاب الكراهية والعنف، ظاهرة معولمة، تنبغي محاربتها من خلال معالجة كلية تنبذ التطرف مهما كان مصدره أو مصدّره، على الضفتين وفي الساحتين الدولية والإسلامية.

فإن اليمين الشعبوي أصبح خطابا طاغيا على امتداد العالم وبخاصة في ديار الغرب وذلك لأسباب شتى منها: الضيق بالمهاجرين، واستحضار الذاكرة التاريخية، والبحث عن الشهرة، واستجلاب الأصوات في الحملات الانتخابية. كل هذه الأسباب أصبحت ترمز لأكثر الأعمال وحشية وأكثر الأفعال همجية بما في ذلك ارتكاب المجازر ضد المصلين في دور العبادة، كما حدث في نيوزيلندا مؤخّرا، تلك الحادثة البشعة والعملية الإرهابية الشنيعةالتي ندد بها جُلّ القوى الحية في العالم، وقد قامت الحكومة نيوزيلندا بإجراءات لحماية مواطنيها المسلمين وللحد من الجنون الذي يؤججه تارة الحقد وتحش جاحمه خطب البغضاء.

قد لا تكون تلك نهاية القصة.

فالأمر يحتاج منا معشر المسلمين إلى تحرك عاقل ومدروس، مبنيٍّعلى القيم والإقناع، وليس على مجرّد الإدانة للتنفيس عن الغضب المستحق، وذاك مشروع إلا أنه نفثة مصدور، لا تحلُّ إشكالاً في عالم مُعولم، وقد يقيم بجهتنا من لا يزن العواقب ولا يقدر المئالات ليرتكب جريمة ضد أبرياء من الجانب الآخر لا ذنب لهم سوى ذنب أصحاب المسجد، أنّهم أغيار.

وهكذا يستمرُّ الفعل ورد الفعل في تسلسل، تضيع فيه القيم وتذهب فيه العقول وتهدر فيه المصالح وينال فيه السفيه المتطرف بغيتَه،بقيام حرب عبثية دائمة لا تخدم الأديان ولا الإنسان، ويُصْدّق كهّانُ صراع الحضارات ظنّهم، فيحيل الإرهاب على الإرهاب والتعصب على التعصب، وتذهب مصالح العباد والبلاد سدى.

أذلك خير أم استثمار الإمكانات المتاحة بوجود طاقات فكرية ونظم حديثة وقيم أصيلة ومصالح اقتصادية ونخب ليبرالية وأخرى دينية في الغرب والعالم الإسلامي بوسعها أن تفعل الشيء الكثير وأنتُفَعّل لتكون سداً منيعاً وحصناً حصينا ضد الهستيريا.      

وهكذا تغدو الحريّة في خدمة القيم والتعايش وليست حرية التدمير والتكسير والسماح لنزعات الشر ونزوات السوء بالإفلات من عقالها لتعيث في الأرض فسادا.

ذلك ما نعتقد أنه الأولى والأكثر نجاعة والأوفق بأصولنا، وهو ما تتأسس عليه جهودنا المختلفة.

ومنها ما قمنا به في منتدى تعزيز السلم من حوارات جادة مع مختلف الديانات السماوية في أمريكا تحت عنوان “حلف الفضول”. لصناعة جبهة موحّدة بين محبّي الخير والدخول في تحالفات عابرة للثقافات ومتجاوزة لحدود الانتماءات.

وفي هذا الصدد، جاء إعلان مراكش التاريخي في يناير 2016 ليضع الأسس المعرفية لهذا المسعى من خلال الكشف عن المبادئ الكلية للخطاب الإنساني في الإسلام.

وتأسيسا على هذا الإعلان؛ قامت قيادات دينية أمريكية تمثل العائلة الإبراهيمية الكبرى في الولايات المتحدة، بوضع ملامح مبادرة تتصف بالديمومة للتعاون الإيجابي بين أتباع الديانات الكبرى، من أجل التّخفيف من النبرة العدمية وإبعاد شبح الكراهية والعنصرية الذي أصبح يلقي بظلاله القاتمة على مجتمعاتهم وعلى العالم أجمع.

لقد جمعت القافلة الأمريكية فئتين من الفئات الثلاث التي وجه إليهاالخطاب الإلهي، وهما مجتمع (يايها الذين آمنوا) ومجتمع (يا أهل الكتاب)

والمجتمع الثالث وهو مجتمع (يآيها الناس)،

وبعد عقد مؤتمر واشنطن، الذي لم يكن فقط خاصا بهذه الديانات بل شارك فيه ممثلون لهيئات دولية وأعضاء من الكونغرس الأمريكي، عقدنا مؤتمر “حلف الفضول” في أبوظبي عاصمة دولة الإمارات في فضاء التسامح والسماحة.

وكان من أهم النقاط التي وضعت للنقاش والبحث: ما هو الإمكان المتاح في الإسلام لمثل هذا الحلف؟

وقد خرج المشاركون في هذا اللقاء وهم نخبة من أفضل العلماء والفقهاء والباحثين من أنحاء العالم، بنتائج ومقترحات رائعة أثبتوا فيها بما لا يدع مجالاً للشك أن الإسلام يزكي كل اتفاق يؤدي إلى الفضائل والمصالح مهما كانت أطرافه إذا صلحت غاياته وأهدافه.

لقد حاولنا في حلف الفضول أن نفكّر معًا كيف نضع خارطة طريق لتحقيق بعض هذه الأهداف ولتجربة تعاوننا ميدانيا وتفعيل المشتركات. إنّ ذلك يمثل أفضل رد على المتطرفين من كل الاتجاهات الذين يستغلون الجماهير لإشعال الحروب والفتن ويبثون روح الكراهية؛ وبه نقدم خير برهان على أن الأخلاق الدينية قادرة من جديد على أن ترشد العالم إلى سبيل الخلاص من مشكلاته العضالية في هذه الدنيا، والتي منها الظلم والجهل والتعصب والحروب والإرهاب، والتهديد بالحروب النووية والكيمياوية والإبادة، لتحل محلَّ ذلك روح الأخوّة والعدل وحبّ الإنسانية والمصالحة والتسويات بالحسنى، فيكون الدين أساسا للوحدة والأخوة.

وفي الختام أجدّد الشكر لقيادة بلدنا الرشيدة، داعيا لهم بالتوفيق والنجاح، قائلا مع الزقاق:

فيا ربّ سلم من تولى أمورنا             وسدّد وأصلح حاله ومع الملا

فحمداً وشكراً للإله الذي هدى     على كلّ ما أسدى وأندى وأكملا

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بيان بخصوص الهجوم الإرهابي الذي استهدف المصلين في نيوزيلاند

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله،

وبعد،

فإننا ندين المجزرة الوحشية التي استهدفت المصلين في مسجدي كرستشرش بنيوزيلندا، داعين للشهداء بالمغفرة وللجرحى بالشفاء والعافية ولذويهم بالصبر والسلوان، ونستبشع أشد الاستبشاع هذا العمل الارهابي والجريمة الشنعاء النكراء التي أقدم عليها أناس انخلعوا من ثياب الانسانية وقيمها.

وإننا إذ ننوه بتضامن الحكومة والشعب النيوزيلندي مع مواطنيهم من المسلمين، لندعو إخوتنا المسلمين للصبر والتسامح امتثالاً للتوجيهات الربانية: (أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ۚ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ).

فالصبر محمود الغبّ والعاقبة، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيه
رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي
رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

المواطنة بين إطلاقية المبادئ ونسبية التنزيلات

——-

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وآله المطهّرين وجميع إخوانه من النبيئين والمرسلين، وعلى صحبه الطيبين.

المواطنة بين إطلاقية المبادئ ونسبية التنزيلات

معالي الشيخ عبد الله بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

أيها السادة الأفاضل،

أيتها الأخت رئيسة الجلسة،

أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

يسرني أن يتجدّد لقاؤنا اليومَ، هنا في ولتن بارك، لنستأنف ما كنّا بدأناه في الحلقات الحوارية السابقة في روما وأبوظبي، من التفكير في موضوع المواطنة، وبذل الوسع في وضعِ تَصوّر مؤصَّل، مستمدّ من النصوص الدينية ومراع للسياق الحضاري المعاصر المتجسّد في الدساتير الوطنية والمواثيق الدولية.

لقد رمت في كلمتي التأطيرية في لقاء أبوظبي أن أقدّم بعض الأسس والمحدّدات المنهجية لتعريف المواطنة في مفهومها الحديث الذي هو عبارة عن رابطة اختيرية معقودة في أفق وطني يحكمه الدستور. وفي هذا الصدد أوليت جلّ عنايتي لإبراز مقوّمات المواطنة في إعلان مراكش باعتباره وثيقة نموذجية وجهدا اجتهاديا صالحا لتأصيل المواطنة التعاقدية في المجتمعات الإسلامية. كما حرصت على ربط هذا التصوّر بإطاره الناظم، المتمثّل في مقصد السلم والمحافظة على النظام العام، باعتبارهما الأفق الذي ينبغي أن تتحرّك في ضمنه كلّ تصوراتنا النظرية وتدابيرنا الميدانية لإحقاق المواطنة وتعزيزها.

ورجائي أن نكون جميعا قد تسنّت لنا الفرصة لتقليب النظر وإمعانه في مضامين هذه الورقة، لتُحَقِّق غايتَها في إثراء الحوار والدفع بأعمالنا نحو مزيد من الإحكام في التأصيل والحكمة لدى التنزيل.

ووصلا لما انفصل، وبناءً لللاحق على السابق، سأكتفي في كلمتي اليوم باستخلاص النتائج التفصيلية التي كانت الكلمة الأولى بمثابة المقدمة النظرية لها، وذلك من خلال توجيه القول إلى زوايا من الموضوع أكثر التصاقا بمقصودنا وهو صياغة وثيقة للمواطنة الشاملة، على أن أهمّية الموضوع وحساسيته تستدعي لا محالة مزيدا من التدقيق والتفكير والحوار، لن تستنفده هذه الإثارات السريعة.

إن المواطنة لم تكن على مرّ الأعصر واختلاف الأقطار، على نمط واحد، ووزان واحد، في حقيقتها ومقوّماتها، بل ربما الأصوب أن نتحدث عن مواطَنات، تتّسع أو تَضيقُ، بحسب السّياقات.

فأصل المواطنة كما هو ملحوظٌ من لفظها اللاتيني مشتقٌّ من المدينة، CITY، بوصفها المُنْتَظَم السياسيّ للوجود الإنساني في المجتمع. ومن ثَمّ فهي حالة خاصة أو صلاحية قانونية في علاقة الشّخص بالوطن، وبسكان الوطن الآخرين، فهي أَمْر زائد ونسبة إضافية تفترض علاقة بين مواطنين ووطن، وعيش مشتركا، تقوم في الأصل على الانتماء المشترك للعرق أو الدين أو التاريخ المشترك أو على عنصر نقاء النسب.

هذا التصوّر القديم للمواطنة هو الغالب على المجتمعات البشرية تاريخيا، ولكنّه لم يكن الوحيد، حيث شهدت بعض البيئات ذات الطبيعة التعددية، تطوّر صيغة مختلفة للمواطنة، تنحو منحى تعاقديا، لا يتركز على الانتماء المشترك ولا على الذاكرة التاريخية الموحدة، أو الدين الواحد، وإنما على عقد مواضعة واتفاق طوعي يؤطّر الوجود المشترك في شكل قوانين ونظم تحدّد واجبات وحقوق أفراد الجماعة.

وقد فَشا هذا التصوّر الدستوري التعاقدي للمواطنة في العصور الحديثة في سياق ما شهدته البشرية من التمازج والتواصل وغلبة سمة التعددية في كلّ أقطار المعمورة. وهو تصوّر يقوم على الإحالة إلى مرجعية قيمية مشتركة يعترف بها المجتمع، من خلالها يتعرَّفُ على هويته، وبواسطتها يتعارف أبناؤه في ما بينهم.

فما هو المرجع القيمي الذي نريد أن نقدمه أساسا للمواطنة، إذ ليس هناك نموذج واحد ملائم لكل البيئات. فهل كلُّ عقد توافقي هو في حدّ ذاته مرجعية قيمية كافية، أم لا بدّ من منظومة نموذجية.

قد تكون مرجعية حقوق الإنسان كما تجسدت في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي انبثق عن الثورة الفرنسية سنة 1789، وما عقبه من مواثيق وطنية وإعلانات عالمية، وما لحق ذلك من أجيال الحقوق، تعتبر الأساس الصالح المعتمد لدى المنظرين المعاصرين.

بيد أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة والذي يعتبر أسمى وثيقة دولية ، هو نفسه غير حاسم في هذا الصدد، إذ يتصف بازدواجية تعبّر عن وعي واضعيه بعُسر الجمع بين كونية المبادئ ونسبية التنزيل. ففي الفصول الأولى من الإعلان، تتوالى الحقوق مفصلة مطلقة، ثم يأتي الفصل 29 بمثابة الفصل المقيّد لإطلاق كل ما سبقه، حيث يعيد التوازن بين الحقوق والواجبات، وبين الفرد والجماعة، وبين الحريات والنظام العام. ونص هذا الفصل : “

على كلِّ فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه وحده لشخصيته أن تنمو نموّا حرا كاملا.

يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقرّرها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي. “

إن هذه القيود تعيد للمرجعية المحلية شيئا من الحاكمية، وتفرض علينا عند الحديث عن تصور كلي للمواطنة الكثير من النسبية، والتأني في توظيف المفاهيم والمفردات، والوعي بما يفرضه اختلاف المشارب الحضارية من ضرورة الحوار المستمة حتى نتوصّل إلى أرضية مفهومية متينة، بعيدا عن منهج الفرض من الخارج أو من الأعلى بسلطان القوة، الذي تثبت التجربة التاريخية أنه دائما ما تأتي نتائجه عكسية.

ومنا هنا أيضا تأتي ضرورة سلوك منهج التدرّج من خلال التفريق بين مستوى الاعتراف المبدئي ومستوى التفعيل، ومن خلال التمييز بين مستويات الحقوق في المواطنة، بين مقوماتها الأصلية وبين مكملاتها ولوزامها التي تختلف من بيئة إلى بيئة، والتي يلزم التدرج في اكتسابها عن طريق استراتيجية المحافظة على السلم المجتمعي، لكي لا تعود هذه المكملات على الأصول بالإبطال، فلا يمكن أن ننزع عن عقد اجتماعي سار في بلد صفة المواطنة بدعوى تخلّف بعض اللوزام الثانوية أو التنظيمية في التصور المثالي للمواطنة، ولذلك أرى أن نستعيض عن وصف الشمول بالمواطنة الحاضنة للتنوع فهو أكثرُ وضوحا وأنسب لحاجة الواقع.

كما يفرض علينا عدم تجاهل الفروق المجتمعية والتباينات التاريخية والثقافية، والخصوصيات المحلية. فلا يمكن أن نؤسس لمواطنة متينة متجذرة في نسيجها المجتمعي إلا بالحرص على ربط مفاهيمها بثقافتها الموروثة، فلا يغترب الناس عن موروثهم فتلتبس عليهم المفاهيم.

إن ذلك ما نقوم به من خلال ترجمة لغة الدين إلى لغة المدينة والفضاء العمومي، لغة الحياة والقانون، حيث نستعير من نصوص التاريخ لإنزالها على العصر الحاضر مع الاحتفاظ لكل عصر بلغته وبيئته الزمانية والمكانية.

بهذا المنهج التأويلي تمكنّا في إعلان مراكش من تقديم مصالحة بين الهوية الدينية والهوية الوطنية، ورفع التنافي المزعوم بينهما، وذلك من خلال تأصيل المفهوم الجديد للمواطنة، انطلاقا من صحيفة المدينة المنورة بوصفها تقدّم أساسا متينا للمواطنة التعاقدية في المجتمعات الإسلامية، وخيارا يرشّحه الزمن والقيم للتعامل مع كلي العصر لتفعيل المشترك الإنساني وتحييد عناصر الإقصاء والطرد، فهي اتفاق أتى من غير حرب ولا قتال ولا عنف ولا إكراه، اتفاق تداعت إليه أطرافه طواعية للالتفاف حول المبادئ التي تضمنها ضمن دائرة التفاعل الإيجابي بين مكوّنات مجتمع المدينة، من أجل تحقيق السلم الاجتماعي القائم على الاعتراف المتبادل بالحقوق والواجبات، والقبول بما يفرضه التنوع من اختلاف العقائد والمصالح وأنماط الحياة، مع وجود مرجعية حاكمة يفيء إليها الجميع حال التنازع والاختلاف.

إن الإسلام وضع الأسس القانونية لحماية التعددية الدينية، إذ يعتبر وجود هذه التعددية مقصدا شرعيا وإرادة قدرية، حيث ذكُرت التعددية في القرآن كثيرا، ومنها قوله تعالى: (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)،

تتحدّث هذه الآية عن أماكن العبادة وتوعز بل تأمر بالدفاع عنها، إن الأماكن المذكورة ليست للمسلمين فقط وإنما هي للملل التَّوحيدية جميعها، فقد قال كبار المفسرين من الصحابة وغيرهم إن هذه الآية توجب على المسلمين الدفاع عن كنائس النصارى وعن بيع اليهود كما يدافعون عن مساجدهم، فلم يكتف الإسلام باحترام التعددية الدينية وإقرارها، وإنما دعا المسلمين إلى حمايتها والدفاع عنها.

إن هذا النموذج دالٌّ على ضرورة أن نتجاوز النظر الإقصائية للإسهام الديني في بناء نموذج إبداعي للمواطنة يتسق مع طبيعة البيئات التي يراد تنزيلها عليها. وهي مراجعات شرع فيها بعض كبار فلاسفة العصر، على ضوء متغيرات البنية الاجتماعية في أوروبا وأمريكا الشمالية، وما أصبح يعرف بعودة الدين، مما حدا بهم إلى وضع تصورات جديدة لمواطنة مفتوحة على الثقافة الدينية. وأشير هنا إلى موقف هابرماس الذي أفضى به التفكير في شروط العيش المشترك في المجتمعات المعاصرة إلى الدعوة إلى إفساح المجال العام للإسهام الديني ليقدم كل دين من تراثه الخاص ونصوصه المقدسة ما يراه من مقترحات أخلاقية.

ولعل الإسهام الديني في تعزيز المواطنة يتجلّى كذلك في بعده التربوي، إذ الدين في كثير من البيئات هو الذي يوعز للإنسان بالفعل ويضع له منظومة التصورات الذهنية التي تحكم النسق السلوكي والمعياري في حياته الفردية والجماعية. فالمواطنة أكثر من كونها معرفة تتعلّم أو مبادئ تُلَقّن هي سلوك وممارسة تكتسب، من خلال التربية، التي تعنى بتهذيب السلوكيّات وتقويم التصرفات وتحسين الأخلاقيات. فبالتربية يكتسب الإنسان طرق العيش في الجماعة، وتتجذّر في شخصيته قيم المواطنة.

وبهذه القيم التي تقدمها التربية ترتقي المواطنة إلى المؤاخاة، وتنتقل من الوجود المشترك إلى الوجدان المتشارك. لتكون المواطنة بذلك بوتقة تنصهر فيها كل الانتمـاءات، وبقدر الانسجام والانتظام بين هذه العناصر في الجمـاعة يجد المواطن نفسه والجمـاعة مكانتها.

وفي الختام أجدّد دعوتي للمضي قدما في سلسلة الحوارات المجتمعية، حوارات جدية ومفتوحة تشارك فيها كافة فعاليات المجتمع، وخاصة المجامع الفقهية ومجالس الإفتاء وسائر الشركاء الأساسيين.

إن المواطنة تقوم على أسس كبرى هي المساواة في الحقوق والواجبات، ومبادئ الحرية وقبول التعددية، وهي أسس تحميها الدساتير، فلا ينبغي أن تكون محلّ خلاف، والإسلام كسائر ديانات العائلة الإبراهيمية لا ينافي ما وصلت إليه التجربة الإنسانية في هذا المفهوم الحديث للمواطنة. وإن زاد عليها بالروح الأخلاقية التي يصبغها بها، والتي قد تعوز الصيغ المعاصرة أحيانا كثيرة.

فلنتفق على أنّه حيثما وجدت قوانين تحمي هذه الأسس الكبرى، فثمة المواطنة، مهما كانت نسبيتها لدى التفسير أو التطبيق، بحسب الظروف الحضارية والسياقات التاريخية. فتلك تباينات طبيعية لا تعود على أصل المواطنة بالنقض والإبطال.

فلا ينبغي أن نجعل ملتقياتنا الحوارية هذه منابرَ لمحاكمة الدول وسلب عقودها الاجتماعية وصف المواطنة، وإنما ينصبّ الحوار على ما وراء ذلك من إشكالية المعيارية ومقصد تحسين المواطنة.

فما هو المعيار الأمثل لقياس جودة المواطنة؟ وكيف يتنزّل هذا المعيار في كل بيئة بيئة، مراعيا ظروفها وتوفر شروطها التنموية والاجتماعية؟ ما هي مؤشرات هذه الجودة؟ وما هي التدابير الحكيمة للارتقاء بها؟ كيف نحسن ظروف المواطنة ونرفع من مؤشراتها بتحقيق مكملاتها ضمن إطار يحافظ على السلم الأهلية والنظام العام؟

تلك هي الأسئلة المحورية التي يلزم أن نجعلها موضوعا لحواراتنا الممهدة لوثيقة المواطنة.

وتلك هي المبادئ الموجهة لرؤية قيادتنا في دولة الإمارات العربية المتحدة، رؤية قائمة على قيم الابتكار والجودة والتميّز، حيث يتعزّز كل يوم واقع المواطنة الإيجابية من خلال مبادرات إبداعية تدعم مؤشرات الجودة في المواطنة، وتسهم في الارتقاء بميثاق المواطنة وتعزيز الولاء والانتماء للوطن، بل تحسّن كذلك جودة المواطنة العالمية من خلال حسن الرعاية وكريم العناية التي توليها الدولة لكل المقيمين فيها على اختلاف ثقافاتهم ودياناتهم.

“التربية على التسامح : السبيل لمكافحة التطرف” – العلامة عبدالله بن بيه

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِّ على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم

>>>

نص الكلمةPDF :  “التربية على التسامح : السبيل لمكافحة التطرف”

>>

معالي العلامة عبد الله بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان

سعادة السفير سام براون باك،

أيها الأخُ رئيس الجلسة،

أصحاب السعادة والفضيلة ،

 أيها المشاركون ،، كلٌّ باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

سأحاول أن أسهم في هذا اللقاء بكلمات قليلة ورسائل سريعة حول موضوع التربية على التسامح.

إنه موضوع له أهمية كبرى، له راهنيته وضرورته، لكنه صعب فكما يقول الفيلسوف أمانويل كانت  “إن ثمة اكتشافين إنسانيين يحق للمرء أن يعدهما أصعب الأمور، وهما: فن حكم الناس، وفنُّ تربيتهم”.

بيد أن تلك الأهمية تزداد وهذه الوجاهة تتضاعف إذا كان الحديث عنه في بلد التسامح بلد زايد المؤسس لقيم التسامح والتعايش، وفي عام التسامح الذي اختارته قيادة البلاد  لتجعله القيمة المركزية التي عليها مدار كافة المبادرات والتدابير في الدولة.

 

الكلمة الأولى: عن التربية

التربية ليست مطابقة للتعليم، فالتعليم يكتفي بنقل المعلومات والإمداد بالقدرات والمهارات، بينما تهتم التربية بتهذيب السلوكيات وتقويم التصرفات وتحسين الأخلاقيات.

إن التربية هي جوهر التّعليم، وكلّما حصل فك الارتباط بينهما، آل الأمر إلى نوع من الاختلال؛ فالإنسان كائن أخلاقي، وكل تعليم يستبعد التربية ولا يعتني بالمواصفات التي سيكون عليها سمت وسلوك المتعلمين إنما يخل بالشرط الجوهري الذي يكمن في الدور القيمي الأخلاقي للتربية.

إن التّربية ليست مجرّد موادّ تدرس أو مضامين تلقّن، إنها مسارٌ إنساني متكامل تلعب فيه شخصية المعلم القدوة دورا أساسيا، قد يكون أمرا يسيرا أن تدرس الرياضيات أو الأحياء، ولكن الصعوبة تظهر عندما نحاول أن ننشأ الأجيال على سلوكات إيجابية متسامحة.

 

 

الكلمة الثانية : التربية المتهم الدائم

ولهذا كانت التربية هي المتهم الدائم في كل ما يصيب الإنسانية من انحرافات وأزمات، وحتى حين  تقتضي الطبيعة الاستعجالية لبعض الأزمات اللجوء إلى علاجات سريعة تستهدف الأعَرَاض كالوسائل الزجرية، فإن التّعويل الأكبر يظلّ على كشف العلاقة الخفية بين المنظومة التربوية وبين تلك الانحرافات.

ويزداد هذا الاتهام حدّة حين يتعلق بالتعاليم الدينية ومواد العلوم الإنسانية ذات الطبيعة الحساسة كالتاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع، فهي التي توعز للإنسان بالفعل وتضع منظومة التصورات الذهنية التي تحكم النسق السلوكي والمعياري في حياة الفرد والجماعة.

ففي كلّ حرب أو فترة جفاء في العلاقات يتم توجيه أصابع الاتهام إلى الدّين وبعبارة أخرى إلىى التّعاليم الدينية؛ ويتقوّى هذا الاتهام بما تدلّ عليه التجربة التاريخية من أن الحروب الدينية لها نصيب في تاريخ الحروب البشرية التي بدأت منذ اعتدى قابيل على هابيل، في عهد أب البشريّة، هكذا نعتقد نحن المؤمنين بالنبوّات، وخاصة أبناء العائلة الإبراهيمية.

الكلمة الثالثة : فشل مقاربة إبعاد الدّين من التعليم

في كثير من بلدان العالم وفي بعض البلاد الإسلامية سادت مقاربة إخراج الموادّ الدينية من المجال العام لتحييد التأثير “الضارّ” لها، وهو أمر يعتمد أحيانا على قوة القانون.

وقد نَظّر لهذه المقاربة الكثير من فلاسفة العصر الحديث كحلٍّ سحريّ في الغرب المكتوي بنار الحروب الدينية، معتبرين أن طغيان الانتماء إلى الهوية الدينية يؤدّي إلى انهيار روح المواطنة وإلى القضاء على التسامح وخاصة في المجتمعات الهشة ذات الطوائف المتعدّدة، فحين تضعف سلطة القانون تطغى سلطة الهوية الدينية وتَفيء كلُّ طائفة إلى حاضنتها الدينية التي تضمن لها نوعا من الحماية النفسية وحتى الوجودية.

 وقد ساندت هؤلاء الفلاسفةَ مجموعات دينيّة عاشت اضطهادا شديدا جَرّاء تسيّد مجموعات دينية أخرى عليها، وفرضِها التجريم الديني على كل مخالف، فإن كان مخالفا في العقائد  تمّ اتهامه بالهرطقة –الزندقة، وإن كان مُخالفا في الممارسة التعبدية يُوصَم بالانشقاق – البدعة.

في هذا السياق المفعم بالصراع الديني، نشأ مفهوم التسامح العابر للمذاهب والطوائف، وقد لجأ جون لوك أحيانا في الاحتجاج لهذا المفهوم إلى التوسُّل بالتأويل لنصوص الكتاب المقدّس.  ولهذا فإن بعض البروتستانت يقولون إن التسامح هو هدية البروتسانتية إلى العالم.

ولكن التّجربة التاريخية أثبتت عدم نجاعة هذه المقاربة حتى في البلدان ذات التقليد العلماني الأصيل، حيث بدأت بعض الدول التي أصبحت التعددية الدينية واقعا عميقا فيها، تبحث عن موائمات جديدة، لإصلاح المناهج وإدخال تعليم الأديان بشكل يتيح للنشأ التعرف على معتقدات بعضهم البعض والتعارف فيما بينهم.

 

الكلمة الرابعة : مقاربة الرواية البديلة عن التطرّف  

في مقابل هذه المقاربة المحدودة، فإننا في دولة الإمارات نعتمد على مقاربة أكثر نجاعة وألصق بالسياقات المحلية، وهي مقاربة ترتكز على  الوعي بأن الدين كالطاقة قد تجلب الازدهار والاستقرار لكنّها قد تجلب أيضا الخراب والدمار، فالدّين في الأصل طاقة سلام ومحبة ووئام، ولكن صناعة التدين يمكن لها أن تتحول من رحمة إلى نقمة.

ونحن نعلم يقينا أن الديانات المنتمية للعائلة الإبراهيمية وغيرها من الديانات والفلسفات الإنسانية تحمل في نصوصها الكثير من الأسس التي تدعو إلى التعايش والتي لا تخطئها العين، وأن تعاليمها الأساسية حول السلام والتعايش وحول عالمية الكرامة الإنسانية، واحترام الاختلافات الدينية هي مضادات قوية للتطرف الديني العنيف.

ولذلك فإن قوام هذه المقاربة هو تقديم الرواية البديلة عن الرواية المتطرفة، باللجوء إلى التأويل المقارب والملائم للزمان والمكان ومصالح الإنسان، والذي يجيده العلماء الراسخون. الاختيار بين الأقوال والآراء سيكون الأساس الأمثل لمراجعة المناهج لتصحيحها واعتماد المقاربة الأكثر قبولا للتعايش والمعاصرة من خلال توسيع مساحة فقه المقاصد الكلية الذي يعتبر الأداة المثلى في عقلنة الخطاب والفتيا.

الكلمة الخامسة: نماذج من تنزيل رواية التسامح

إننا في منتدى تعزيز السلم نضطلع بهذا العمل التأصيلي لتقديم الرواية البديلة في كثير من القضايا الحساسة التي ظلت لحقب طويلة حكرا على الخطاب المتطرف، وقد اجتهدنا في التفكيك المنهجي لبنية خطاب الكراهية وتصحيح المفاهيم، وتقديم البدائل المؤصلة، لأنّ الساحة لا تقبل الفراغ، ولا يمكن أن يكتفى بالإدانة المبهمة لخطاب التطرف بدون إحلال الرواية المتسامحة محله.

 وهذا ما قمنا به في إعلان مراكش التاريخي الذي أعلن فيه العلماء الحقوق المتساوية والمواطنة الكاملة وحرية الممارسة الدينية للطوائف غير المسلمة في البلاد الإسلامية. وقد مثّل وثيقة تاريخية في تأصيل قيم التسامح والتعايش بين الديانات والثقافات.

ولقد اعتمدنا إعلان مراكش مادة للتدريس في مركز الموطأ للدراسات والتأهيل،  في برنامج إعداد العلماء الإماراتيين، حيث نكون نخبة من أبناء البلاد شبابا وفتياتٍ، على الرواية الصحيحة للدين والرؤية الواعية للواقع، ليستنى لهم القيام بدورهم في الإرشاد الديني بشكل إيجابي يخدم قيم التسامح والسلام.

إننا في مركز الموطأ قد شرعنا في تدريس مادة التسامح حيث قمت شخصيا بتقديم الدروس الأولى وعرض المقاربة أمام الطلبة والأساتذة.

فنحن نعلمهم من رحم الدين ومن نصوصه المقدّسة الموثقة، نعلمهم أن النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم استضاف المسيحيين في مسجده حيث أدوا فيه صلاتهم وطقوس دينهم بإذنه وحمايته.

نعلمهم أن القرآن الكريم يذكر أهمية حماية دور العبادة لليهود والمسيحيين في نفس الآية مع مساجد المسلمين وإن كبار العلماء من أصحاب الرسول قالوا إنّ هذه الحماية لا تخصّ أصحاب هذه الدّيانات بل إنها مسؤولية المسلمين أيضا،  ارتقاءً بالتسامح إلى مستوى التضامن وحرصا على إيجاد شروط التعددية وإبعاد دور العبادة عن الخصومة.

ونحن متأكدون بأن الإيمان والتعايش والدين والسلام يمكن ويجب أن تتساكن كما يمكن للمواطنة التعددية أن تقلب المعادلة ليكون الانتماء الديني حافزا لتجسيد المواطنة وتحييد سلبيات تأثير عامل الاختلاف الدّينيّ عليها.

إن منهجيتنا تقوم على ثلاث مراحل:

  • جمع النصوص المتعلقة بموضوع التعايش، لنسنتنطقها ونجمع متفرقاتها ونغوص إلى الحكم والمقاصد.
  • تقديم التفسير الصحيح للنصوص التي يقدمها المتطرفون ضد التعايش، لتفنيد استشهادتهم قولا بالموجب، طبقا لضوابط الاستنباط ومسالك التأويل المقارب،
  • إنزال المفاهيم على الواقع المعاصر، مترجمة إلى لغة الفضاء العام، حسب عبارة هابرماس، أي لغة الحياة المدنية والقانون،

  وكذلك نقوم بتقديم عناصر الرواية البديلة، في مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، في تجربة نأمل أن تصبح نموذجية، مما يثير ردود فعل، بناء على أن الساحة قد أصبحت بحكم العولمة وتقنيات التواصل ساحة واحدة، وهو ما يجعل عناصر رواية التسامح تثير حوارا قد لا يكون أحيانا وُديا ولكنه يظل مفيدا وصحيا، حتى مع أشد الجهات تطرفا.

وعلى مستوى جميع مؤسسات التعليم والتربية، أعلنت الدولة عن اعتماد وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها حضرة الحبر الأعظم البابا فرانسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وفضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب، لتكون وثيقة مرجعية في التربية على التسامح والسلام.

 

الكلمة السادسة: إهابة وتنويه

وبالمجمل فهذا الموضوع يحتاج إلى إعادة نظر وإلى بحث عميق لا يلغي البرامج بصفة تلقائية ولا يتهمها جملة وتفصيلا ليتخذ منحى التطرف المضاد؛ بل ليتعامل معها بصفة انتقائية وبكثير من الفهم والحكمة والعمق الذي به يتسنى لنا أن نسدِّد وأن نصلح ما أساءته وأفسدته يد التطرف ويد الجهل الذي هو أساس المشكلة مضافا إلى عوامل أخرى.

وفي الختام يتعيَّن أن نشير إلى أن مناهج التعليم تعاني عجزا واضحا يتجلى في انكماش مساحة الاجتهاد الفقهي مما نتج عنه عجز في مواكبة مستجدات العصر في المعاملات وضحالة الإنتاج الفكري.

 فنرى لزاما أن تسد هذه الثغرة التي تتعلق بالعلوم الإنسانية وبالمنطق وفلسفة اللاهوت التي قد تبدّت ضرورتها لإيجاد البعد العقلاني  والحواري في الدراسات الدينية في الوقت الحاضر حتى لا يكون التعليم مجرد تلقين جامد لا يقوم على أساس التعقل بل يعتمد تدجين العقل وتعطيل الفكر.

وأخيرا نقول مع المدير السابق لمنظمة اليونسكو فريدريكو مايور:  ” فلنمارس التربية على التسامح في مدارسنا، في جماعاتنا، في بيوتنا، وفي مواطن عملنا، وبخاصة في قلوبنا وفي أرواحنا”.

وذلك ما سنفعله في دولة الإمارات العربية المتحدة، والسلام عليكم ورحمة الله.

«العلامة ابن بيه».. والتجديد الديني – بقلم د.محمد البشاري

«المكون المسلم جزء من الحل لا جزء من المشكلة»، هذا ما يراه العلّامة فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه، رئيس «مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي»، رئيس «منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة»، ويجيء في زمن كثر خطباؤه من دعاه التجديد، وقل فيه العاملون على ذلك، ليقدم بشخصه أنموذجاً برّاقاً يتعامل بمنطقية وعقلانية وحكمة مع الحالة بالغة التعقيد التي وصلت لها المجتمعات الإنسانية بشكل عام، والإسلامية خاصةً، معتلياً منصة إعمال العقل والتدبر قبل الإطفاق على طرائق لا منهجية، وقديمةً من جني ثمار علماء أجادوا طرحها، ولكن لضرورة ارتبطت بزمنهم وانتهت الحاجة لها بانقضاء ذلك العصر، فللشريعة الإسلاميةِ ثقل وثروة أفرغت من مضمونها بفعل إدارة بعض الدعاة التي أثبتت قصوراً حاداً في مهمتها من خلال تعطيل الاجتهاد والتجديد، وما يمثلانه من جسر وحيد وطريق قويم في مواكبة الدين الإسلامي للتحولات الاجتماعية المتسارعة، القضية الحقيقية التي أدركها العلّامة «بن بيه»، مفسراً بذلك التحول الجذري الذي طرأ على فسيفساء الرقعة الإسلامية بمجالاتها الاجتماعية والسياسية بتجربة لم يسبق لها خوضها مسبقاً.

مشروع اجتهاد النضوج الفكري والاستيعاب العابر للأزمان والحضارات الذي يقدمه الشيخ المجدد ابن بيه كأنموذجٍ فريد، لا يحتمل الانتظار والوقوف على عتبة «الحجج» والمراوغة أكثر، فقد بين خطة متناغمة الحيثيات متراصة النسيج، من خلال انطلاقه من الإشكاليات التي تدور حول تجديد مناهج التفكير الشرعي وسبل الاستنباط في المرتبة الأولى، من خلال الفهم السليم لما يعنيه «التجديد» ومراجعة أدواته، مشبهاً عملية التجديد بالبناء، إذ أن لكل بناء أدواته الخاصة به، كما للتجديد، وهنا ينبه بحنكة عن الجانب المفتقر للاهتمام من رجالات هذا الدين ومنابره، فلمَ ندأب لاختراع آلات وأدوات متقنة الإنتاج متعددة التقنيات، باستخدام أرفع وأرقى الخامات لتلبية السلع الاقتصادية والترفيهية، ونغفل عن صناعة استحداثات ضرورية ليس لسلع بل للتأصيل والتأسيس لحضارة وفكر ونهضة ومواكبة وريادة وبناء أجيال نقية من ملامح وباء التطرف والغلو الذي يحوم حولها؟!

هذا العالِم والعلّامة الفذ، والذي لا أستطيع إخفاء ما يعنيه لي من قدوة و أنموذج حضاري، ومن صورة تنبض بالخير والإرادة، لم يقف على عتبات الثمانينيات من عمره، بل ما زال يستمر بزخرفة المشروع الحضاري، بدأب المجتهد المحنك الحريص على إنجاح مشروع الإصلاح الديني، الذي أراه مأسسةً تبنى عليها باقي النجاحات والإصلاحات، فهي البذرة الدافعة بالإنسانية للسير على نهج الحق بلا شائبة تشوبها، ولربما يتجلى ذلك من خلال مواقفه وآرائه، فعلى سبيل المثال لا الحصر تصريحه بضرورة كسر حاجز الانغلاق والعزلة، والدعوة للانفتاح عل التراث الإنساني، ومدحه للموروث الفلسفي وما حمله من حكم للبشرية، مع إشارته لضرورة الأخذ بالنافع منها فقط، وما ينتج عنها من تنظيم وسمو للأفكار والآراء وسعة وإذكاء للرؤى.

بين طيات جلبابه الأبيض، حمل للمجتمعات المسلمة وغيرها أفكاراً أكثر نصوعاً مما يرتدي. وأجمع تلاميذه ممن رافقوه خاصةً، على ما عكسته مواقفه من ذكاء واطلاع وسعة علم ورحابة في نهجه وطرحه، ومن ذلك ما عاشه مستمعوه من ذهول، ذات مؤتمر في إحدى الدول الأوروبية، حين أطرقت الآذان مصغية لورقته المشبعة بقيم ومعاني التعددية، وتبيان حكمة الله بها، وضرورتها، لينتهي بالإشارة للوحة معلقة على مدخل القاعة كان قد سأل أحد الوزراء قبل دخوله عن راسمها، وهو «بيكاسو»، ليحرك حس التفكر، مبرزاً براعته في الإقناع بالحق، سائلاً الحضور، عمّا إذا كانت ستعجبهم ذات اللوحة لو أنها خُطّت بلون واحد! ليترك بأذهانهم جميعاً صورة حية لا يمكن أن تنظر للتعددية إلا كمقياس إثراء وتكامل وبهاء.

ما حمله العلماء على اختلاف مناهجهم وتوجهاتهم يمثل رسالة معينة، وما حمله العلامة ابن بيه في جعبته هو نداء ضرورة، فاتحاً الحيز للعلماء على اختلاف الحقبة الزمانية أو المكانية، بهدف إعادة رسم مقاصد الشريعة بما يلبي حاجات المجتمعات البشرية، تحقيقاً لحكمة الشارع في تشريعها، والوصول لأقصى مستوى من التطور المعرفي والواقع الدولي، إزهاراً وازدهاراً من روح الشريعة وقواعد التشريع، بشرط التمسك بقواعد أصول الفقه، ودرء التقوقع في «المقاصد» كما حددها فلان أو فلان – مع خالص احترامنا وتوقيرنا لعلماء الشريعة – ولكننا علينا أن نعي بأننا بصدد تطور راسٍ لا يتعرض للتحجر أوتحجيم الفكر، مما يحتم حاجتنا لمنهج الشيخ المجدد ابن بيه كمشروع من الطراز الأول.

بقلم الدكتور محمد البشاري

رئيس الفيدرالية لمسلمي فرنسا

نص كلمة العلامة عبدالله بن بيه في اللقاء الذي جمعه مع البابا فرانسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلِّ وبارك على سيدنا محمد النبي الخاتم وآله وصحبه وعلى جميع إخوانه من النبيين وسلِّم تسليما،

حضرة الحبر الأكبر البابا فرانسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، ضيف الإمارات العربية المتحدة،

فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر أحمد الطيب

سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان

أصحاب الفضيلة والنيافة والسعادة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

يطيب لي باسم صاحب الفضيلة رئيس مجلس حكماء المسلمين وكافة إخواني أعضاء المجلس وباسم بلدنا الإمارات أن أرحّب بضيفنا الحبر الأعظم ووفده المُكْرَّم.

مرحبا بكم ضيفا لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ودولة الإمارات، في دار زايد، التي أسّسها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان من أول يوم على روح التسامح والسماحة، فلم تزل منطلق دروب السلام ومهوى الأفكار البناءة والمبادرات الريادية، نموذجا فريدا، تحوطه الأطر القانونية الملائمة لحمايته واستدامته.

فمرحبا بكم وأهلا وسهلا، لتلمِسوا بأنفسكم وتَرَوْا بأعْيُنِكم وتَشْعُروا بوجدانكم بروح التسامح وبعبق أريج المحبة وما راءٍ كمن سَمِعا.

إننا نلتقي اليوم برجل من صُنّاع السلام ومحبي الخير، الذين يشهد لهم الجميع بجهودهم الجليلة في المدافعة عن المستضعفين والمرافعة عن المظلومين.

حضرة الحبر الأعظم

نستقبلكم اليوم، في بيت جميل من بيوت الله، جامع الشيخ زايد،  كما سبق أن اسْتَقْبَلَنا إخوتُنا المسيحيون في كنيسة القديس بطرس، وهو ما يدعوني للتذكير بأنّ دُور العبادة في الإسلام لا سيما دور عبادة العائلة الإبراهيمية محترمة، بل نَدَبَ القرآنُ المسلمين إلى حمايتها والدّفاع عنها، قال تعالى (ولولا دفع الله النّاس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا).

لقد أسست هذه الآية الكريمة لمفهوم الحماية القانونية للتعددية من جهة، ومن جهة أخرى لمبدإ تحييد العامل الديني عن الصراعات والنزاعات، وأنّ الموقف من الآخر لا يحدّده دينه بل تصرّفه ومعاملته.

ولذلك فإننا نؤكّد لكم أنّ المسيحيين في الشرق وجدوا ليبقوا، وولدوا ليحيوا، وهم أصلٌ من أصول شجرة العائلة الإبراهيمية، وجذر من جذورها لا يمكن أن يُجْتَثّ مهما عتت العواصف وغلت مضلات العواطف.

أيها الحبر الأعظم،

إن اجتماعنا اليوم يمثل رفضا لنظرية مسؤولية الدين عن الحروب والكراهية، وتفنيدا لهذه التهمة التي ألصقت بالدين حتى جعلها بعض الفلاسفة مثل كانت وغيره، قانونا اجتماعيا على أساسه يجب عزل الدين عن المجال العام، باعتباره عاملا يفرّق ولا يجمع، يضرُّ ولا ينفع.

إننا نعترف أنّ الدين كالطاقة النووية قد تجلب الازدهار والاستقرار لكنّها قد تجلب أيضا الخراب والدمار، فالدّين في الأصل طاقة سلام ومحبة ووئام، لكنه قد يسيء استعمالَه من لا يعرفه بحسن أو سوء نية فيجلب الخراب والدمار.

إن واجب الوقت يحتّم على رجال الدين العودة إلى نصوصهم الدينية وتراثهم ليستمدوا أسسا متينة للتسامح، ونماذج مضيئة يسهم إحياؤها في إرساء قيمه، في نفوس أتباعهم ، عن طريق التأويل الملائم للزمان والمكان ومصالح الإنسان، وذلك هو ما نقوم به في مجلس حكماء المسلمين برئاسة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب.

أيها الحبر الأعظم،

إن لدينا مشتركات كثيرةً أَدَّى تجاهلها وإذكاء الخصوصيات عوضها إلى ما هو مشاهد من الحروب والاقتتال، وهي مشتركات متينة نبهت عليها الوثيقة المجمعية الصادرة عن مجمع الفاتيكان الثاني، وأسسّنا عليها في وثائق الأزهر الشريف وفي إعلان مراكش التاريخي، وفي إعلانات أبوظبي، أنه يجب أن تصحّح الذاكرة التي تختزل العلاقة بين الديانتين في الحروب والصراع حول البحيرة.

إننا نحن أبناء العائلة الإبراهيمية نتشارك في الرواية الأصيلة للقيم والفضيلة وأصول الأخلاق التي تؤسس للسلام والتعايش بين مختلف الشعوب. ونحن المسلمين نعتبر أنفسنا امتدادا للديانات السابقة،  فقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننظر إلى الأنبياء جميعا كعناوين للحقيقة، قال تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيئون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون).

ولذلك فإننا ننظر إلى الديانات نظرة احترام وتكامل وانسجام، فلا نُنْكِر أو نَتَنَكّر لإسهام الأديان والحضارات في تشييد العمارة الأخلاقية للبشرية فرسول الله صلى الله عليه وسلم يرى نفسه في سلسلة من الأنبياء فيقول (إنما بعثت متمما لمكارم الأخلاق) ويؤكد أنه لبنة متممة لهذا البناء العظيم، الذي قال عنه نيتشه في لحظة وعي شاردة، في كتاب “ما وراء الخير والشر”: (إن الذين أوجدوا القيم في البشرية قلة في التاريخ ومنهم موسى وعيسى ومحمد ).

إن إيماننا بهذه المشتركات يتيح مدّ الجسور فوق التباينات وينيط بنا مسؤولية التعاون لئلا تغرق سفينة البشرية ولا يحترق البيت الإنساني، نحن أيها السادة إطفائيون إنقاذيون، فعلينا أن نتضامن جميعا، وأن تتكامل أدوارنا انطلاقا من مواقعنا ودوائر تأثيرنا، لنسهم في استعادة الضمير الأخلاقي للإنسانية، وأن ندعو إلى أن يتوازى التقدم العلمي مع التقدم الأخلاقي ، فالتاريخ يعلمنا أن الحضارة المادية بلا أخلاق تدمر نفسها.

حضرة الحبر الأعظم،

إن زيارتكم وما نرجو أن يَتْلُوها من حوارات جادة ومتجددة تبعث الأمل وتؤكد القناعة بأن اليوم الذي ننبذ فيه جميعُنا التصورات النمطية ومشاعر الكره لتجمعنا مشاعر الأخوة الإنسانية وحب الخير والصداقة، سيكون بحق يوما مشرقا في تاريخ الإنسانية.

فدعونا جميعا نتعاون على البر والتقوى ونعمل بما جاء في رسالة بولس إلى أهل روما (فنلعكف إذا على ما هو للسّلام، وما هو للبنيان، بعضُنا لبعض).

وفي الختام أُجَدِّدُ الترحيب وأشكركم جميعا. Gracias

معالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

التسامح وأسسه المنهجية في الإسلام

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه

التسامح وأسسه المنهجية في الإسلام

معالي الشيخ عبد الله بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان

سعادة الأستاذ الدكتور جمال سند السويدي

أصحاب الفضيلة والسعادة،

أيها السادة والسيدات،

كل باسمه وجميل وسمه،

أود في هذه الكلمة المقتضبة أن أتحدث عن مفهوم التسامح وأسسِه المنهجية في الإسلام، وأن أختم كلمتي بإطلاعكم على بعض جهود منتدى تعزيز السلم في نشر وترسيخ ثقافة التسامح وقيَّمه بوصفها جهودا تندرج ضمن الرؤية العامة للدولة.

ولكن بادئ ذي بدء دعوني أتقدم مجدّدا بالتهنئة والمباركة إلى القيادة الرشيدة بمناسبة اختيار موضوع التسامح عنوانا لهذا العام، وهو اختيار حكيم يأتي انسجاما مع رؤية دولتنا القائمة على قيم السماحة والتسامح التي جسدها مؤسس هذه البلاد، المغفور له زايد بن سلطان آل نهيان.

لقد كان عامُ زايد الخير مناسبةً متجددة للتنويه بقيم السماحة، قيم الجود والبذل والعمل الإنساني، وستكون السنة الجديدة مناسبة أخرى للتنويه بقيم التسامح، وقبول الآخر والتعايش السعيد والأخوة الإنسانية.

والتسامحُ والسماحة صِنوان في الشخصية الإماراتية، سجيتان غير متكلفتين وطبعان غير مبتدَعيْن.

 كما أتوجّه بالشكر الجزيل إلى القائمين على هذا المركز على توجيههم لي الدعوة للمشاركة في هذه الندوة المهمة حول هذا الموضوع المهم.

وأوّل ما أفتتح به القول في التسامح أن أذكّر بجذوره اللغوية وسياقاته الحضارية المختلفة.

التسامح في اللغة والنصوص الإسلامية:

التسامح مصطلح أصيل في اللغة العربية وإن كان استعماله المعاصر ترجمة موفّقة لمصطلح أوروبي مستحدث، فالتسامح في العربية هو الجود والكرم والسخاء ومن معانيه أيضا المساهلة  والسعة.

وقد وُصفت الشريعة بأنها حنيفية سمحة، كما قال عليه الصلاة والسلام ” بعثت بالحنيفية السمحة”، أي السهلة الميسّرة، حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل، مما يدل على رفع الإصر والحرج فيها والبعد عن التشدُّد.

وقد يعبّر عن التسامح في القرآن الكريم بأربعة مصطلحات: العفو والصفح والغفران والإحسان. فالتسامح معنى فوق العدل، الذي هو  إعطاء كل ذي حق حقه، أما التسامح فهو بذل الخير لا في مقابل، فهو من قبيل الإحسان الذي يمثل قمة البر وذروة سنام الفضائل.

إن التسامح هو التسامي عن السفاسف، إنه عفة اللسان عن الأعراض، وسكون اليد عن الأذى. إنه التجاوز عن الزلات والتجافي عن الهفوات. التسامح هو (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم).  التسامح هو أن تعطي من منعك وتصل من قطعك.

التسامح في السياق الغربي:

أما لدى الغربيين فيقابل كلمة التسامح في اللغتين الإنجليزية والفرنسية (Tolérance) والتي تعني احترام حرية الآخر وطريقة تفكيره وتصرفاته وآرائه السياسية والدينية.

وقد ظهر هذا المصطلح في أوربا خلال نهاية القرون الوسيطة وبداية الأزمنة الحديثة،  في مرحلة تميزت بالصراع بين البروتستانت والكنيسة الكاثوليكية؛ حيث ظهرت أصوات كثيرة تطالب بالتسامح المتبادل والاعتراف بحق المخالفين في حرية التعبير عن قناعاتهم المغايرة، وممارستهم لشعائرهم الدينية.

ويعتبر كارل بوبر أنه ما من أحد يضاهي فولتير في روعة التعبير عن التسامح؛ حين ربط بين التسامح وبين الوعي بالضعف الملازم لكينونة الإنسان، الذي يعرفه كل واحد من نفسه فيجعله قادرا على تفهم خطأ الآخر وضعفه.

 ورغم هذا التصور الإيجابي،  لم يكن دعاة التسامح أنفسُهم يعتبرون الحق في التسامح  حقا مطلقا، وإنما ربطوه – على غرار ما فعل جون لوك وفولتير- بمقصِد السلم من خلال مفهوم النظام العام للمجتمع، فإن حدود التسامح تقف حيث يصبح الفعل أو الفكر يُقْلِق راحة المجتمع ويهدد سِلمَه الأهلي.

وهكذا نشأ مفهوم التسامح بوصفه مفهوما وظيفيا يقصد تحييد التأثير السلبي للاختلاف في المعتقد والاختلاف الجِبِليِّ أيضا في الآراء والرؤى. ولذلك يرى بعض الفلاسفة أن مفهوم التسامح في بعده الإجرائي لا يمكن أن يقصر على  عناصره الأخلاقيِّة بل لن يؤتي أُكله مكتملا إلا حينما ينظر إليه بوصفه مفهوما سياسيا قانونيا.

ولعل هذا هو ما تَــغَــيَّـاهُ إعلان المبادئ حول التسامح الصادر عن اليونسكو في 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1995م حيث ربط بين التسامح وحقوق الإنسان والديمقراطية والسلم، وارتقى بالتسامح إلى صورة قانونية تتطلب الحماية من قبل الدول والمجمتع الدولي بأسره.

ولا يفوتني هنا وفي سياق المفهوم القانوني للتسامح أن أشيد بالرؤية الرشيدة لقيادتنا في ترسيخ ثقافة السلم والتعايش، وبنائها على أسس متينة من الحقوق والواجبات المتبادلة، وهي رؤية تتسم بالواقعية في مراعاة خصوصية السياق المحلي وفي وضوح الهدف، وذلك من خلال سَنِّ القانون الاتحادي رقم 2 لسنة 2015 لمكافحة التمييز وخطاب الكراهية وازدراء الأديان، الذي يعمل على تحصين المجتمع وحمايته من خطابات الكراهية والتحريض على العنف، وأنشات لهذا الغرض أيضا وزارة التسامح.

 

الأسس المنهجية للتسامح في الإسلام:

إن التسامح في الإسلام يشكل ثقافة متكاملة لها قيمها ومظاهرها ومجالاتها، كما له أسس منهجية عليها ينبني ومن خلالها يتجذّر، وسنستعرض بعضها: الرؤية الإسلامية للآخر، وموقف الإسلام من الاختلاف والتعددية، ومكانة الحوار في الإسلام.

أولا: الرؤية الإسلامية للآخر:

 إن الإسلام يعتبر البشر جميعا إخوةً، فيسد الباب أمام الحروب الكثيرة التي عرفها التاريخ الإنساني بسبب الاختلاف العرقي.

إن الآخر في رؤية الإسلام ليس عدوا ولا خصما بل هو على حد عبارة الإمام عليّ رضي الله عنه: ” أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخَلْقِ”، فالآخر هو كما تقول العرب الأخُ بزيادة راء الرحمة والرأفة والرفق، إنه الأخ الذي يشترك معك في المعتقد أو يجتمع معك في الإنسانية.

ويتجلى هذا بسُمُوٍّ في تقديم الإسلام الكرامة الإنسانية بوصفها أولَ مشترك إنساني، لأن البشر جميعا على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ومعتقداتهم كرّمهم الله عز وجل بنفخة من روحه في أبيهم آدم عليه السلام، (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)(سورة الإسراء الآية 70). ولهذا فإن الكرامة الإنسانية سابقة في التصوّر والوجود على الكرامة الإيمانية .

وهذا التصور الإيجابي للعلاقة بين الذات والآخر أساس متين للتسامح.

ثانيا: الإسلام والاختلاف والتعددية

 إنّ التعدد هو سنة كونية، وكذلك هو فطرة بشرية، فالناس من فطرتهم أن تخلتف رؤاهم وتصوراتهم ومعتقداتهم ومصالحهم.  ولم يكن الإسلام في يوم من الأيام إلا معترفا بهذا المبدأ ومعلنا بضرورة احترامه.

وإن اعتراف الإسلام بالتعددية الدينية ليس مجرد اعتراف بل هو احترام وحماية:

ولَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ

فقد جعل الله عز وجلّ البِيَعَ والكنائس محمية لا يمكن أن تمتد إليها يد الاعتداء، والتاريخ يثبت أنه لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه هدموا كنيسة ولا بَيْعةً ولا بيت نار، وتلك هي الديانات التي كانت موجودة في المجال الحضاري للإسلام يومئذ.

وقد علم الإسلام المؤمنين أن الإيمان المطلق بالدين لا يعني عدم قبول الاختلاف، فالمسلم يؤمن بدينه ويتقبل الاختلاف والتنوع، ولا يمكن أن يكون هذا الاختلاف مبررا للتدابر والتقاطع.

ولقد مثلت صحيفة المدينة المنورة إطارا ناظما لترسيخ ثقافة التسامح من خلال التأسيس للتعددية الاختيارية، وبناء عقد اجتماعي على أساسها، يقدم مصالح التضامن والتعاون في شكل حقوق وواجبات. فكانت هذه الصحيفة بحق وثيقةً مؤسسة للمفهوم القانوني للمواطنة المحققة والضامنة للتسامح.

ومن أهم ملامح حقوق الإنسان المؤسسة للتسامح في الصحيفة الاعتراف للجميع بحقهم في ممارسة دينهم، فسدّ الإسلام بذلك الباب أمام الحروب الدينية التي كاد التاريخ البشري أن يكون مجرد سجل لها.

ثالثاً: تعزيز ثقافة الحوار

إن الحوار واجب ديني  وضرورة إنسانية، وليس أمرا موسميا؛ ولذا أمر به الباري عز وجل فقال “وجادلهم بالتي هي أحسن” وبالحوار يتحقَّق التعارف والتعريف، وهو مفتاح لحل مشاكل العالم؛ حيث يقدم كما يقول أفلاطون البدائل عن العنف؛ لأنه بالحوار يُبحث عن المشترك وعن الحل الوسط الذي يضمن مصالح الطرفين، وعن تأجيل الحسم العنيف، وعن الملائمات والمواءمات، التي هي من طبيعة الوجود، ولهذا أقرها الإسلام، وأتاح الحلول التوفيقية التي تراعي السياقات، وفق موازين المصالح والمفاسد المعتبرة.

إن اعتماد وسيلة الحوار لحل المشكلات القائمة يوصل إلى إدراك أن الكثير منها وهمي لا تنبني عليه مصالح حقيقية، وبهذه الحلول التوفيقية التي يثمرها الحوار، تَفقد كثير من القطائع والمفاصلات والأسئلة الحدّية مغزاها، وتتعزز ثقافة التسامح وقبول الآخر في النفوس.

جهود منتدى تعزيز السلم في نشر التسامح:

 إن دولة الإمارات العربية المتحدة بلدُ زايد ومعدنُ المجد تقدم المقاربات الحية والمبادرات القوية على مختلف الصُّعُد وفي المحافل الدولية والإقليمية بجسارة وكفاءة. ولعل آخر هذه المبادرات ـــ ولن يكون الأخير بإذن الله ـــــ ما بلادنا بصدده في الأيام المقبلة من استقبال البابا فرانسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وهي زيارة تندرج في الإطار الحضاري للرؤية الإماراتية المرتكزة على مبادئ تعزيز السلم في العالم وغرس ثقافة التسامح وترسيخ معاني الأخوة الإنسانية في العالم.

إننا في مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي نعمل داخل هذا الإطار ووفق هذه الرؤية؛ حيث إن من أهدافنا ضبط الفتوى لما لها من دور أساسي في ترشيد التدين وبث الوعي الديني الصحيح وترسيخ التسامح في النفوس، وذلك من خلال إنشاء جيل من المفتين الراسخين في دينهم وثوابته، الواعين بعصرهم ومتغيراته.

ونحن بصدد تنظيم دورات تدريبية للمفتين والأئمة في الدولة وخارجها على ثقافة التسامح ووسائل تجسيدها في فتاويهم وخطابهم التوجيهي.

إن نفس الرؤية هي التي تندرج جهودنا ضمنها في منتدى تعزيز السلم كذلك، حيث لم نزل نعمل منذ حظينا بكريم الرعاية وجميل العناية من قيادتنا الرشيدة على تقديم الرواية الصحيحة للإسلام والرؤية السليمة للسلم، من خلال معالجة ثقافية شاملة، وتجديد فكري كامل، مرتكز على محورية قيم السلم والتسامح.

وكما مرّ معنا آنفا ليس السلم والتسامح إلا وجهين لمفهوم واحد، فلا سلام إن لم تتجذر قيم التسامح في النفوس، كما لا تسامح عندما يستعاض عن السلام بالاحتراب والاقتتال. فكل واحد منهما لازم عن الآخر.

إننا ننطلق في المنتدى من الإيمان بأن التأويل المقارب الذي يجيده العلماء الراسخون هو السبيل الصحيحة والإطار الأمثل الذي يعيد للدين طاقته الإيجابية، ليغدُوَ بلسما لجراح الإنسانية، ودواء لمآسيها، وسكينة تنزل على القلوب، وحُبّا يَسْكُن في النُّفوس.

ولم نزل منذ محطاتنا التأسيسية الأولى نعمل على صناعة جبهة موحّدة وتحالف بين محبّي الخير في إطار الدوائر المختلفة : دائرة البيت الإسلامي الخاص، وفي دائرة الديانات الإبراهيمية، وبشكل عام في دائرة الأفق الإنساني الأرحب .

  وفي هذا الصدد، جاء إعلان مراكش التاريخي في يناير 2016 ليضع الأسس المعرفية لهذا المسعى من خلال الكشف عن المبادئ الكلية للخطاب الإنساني في الإسلام.

وتأسيسا على هذا الإعلان؛ قامت قيادات دينية أمريكية تمثل العائلة الإبراهيمية الكبرى في الولايات المتحدة، بوضع ملامحِ مبادرةٍ تتصف بالديمومة للتعاون الإيجابي بين أتباع الديانات الكبرى، من أجل التّخفيف من النبرة العدمية، وإبعاد شبح الكراهية والعنصرية، وتعزيز روح التسامح والتعارف.

وتتويجا لهذا المسار واستكمالا لحلقاته، عقد منتدى تعزيز السلم في العاصمة الأمريكية واشنطن في مطلع فبراير 2018، مؤتمرا دوليا بعنوان “حلف الفضول من أجل الصالح العام”، وقد مثّل هذا اللقاء التاريخي محطة بارزة في مسيرة العمل الديني المشترك من حيث شكله وأبعاده؛ إذ هذه هي أول مرة يلتئم فيها شمل العائلة الإبراهيمية بكل فروعها على أسس جديدة لحوارٍ دينيّ يتجاوز منطق الجدل الديني والتبشير بالحقيقة الخاصة لكلّ دين إلى منطق التعارف والتعاون انطلاقا من القيم والفضائل المشتركة.

وتأسيسا على الآمال التي نشأت لدى الكثيرين في مؤتمر واشنطن خصصنا الملتقى الخامس الذي انعقد في أبوظبي ديسمبر 2018 للدعوة لحلف فضول جديد بين الأديان يقوم على مبدإ التعارف وآلية الحوار، وهو حلف يضمُّ أديان العائلة الإبراهيمية باعتبارها تتشارك في الرواية الأصيلة للقيم والفضيلة وأصول الأخلاق التي تؤسس للسلام والتعايش بين مختلف الشعوب، ومن ثم فهي تؤمن بقيم المحبة والرحمة والإحسان على الإنسان، وهي قيم ترتقي بالتسامح إلى مرتبة الإخاء وبالمساواة في المواطنة لتكون تضامنا بين المواطنين. وإننا نعتزم بإذن الله تخصيص الملتقى السادس للتسامح ودور الأديان في تعزيز قيمه في العالم.

وفي الختام أجدد شكري وعرفاني للمنظمين،

ونسأل الله عز وجل أن يسبغ على الإمارات نعمه ظاهرة وباطنة وأن يديم عليها روح التسامح والسماحة، في ازدهار واستقرار دائمين إلى يوم الدين.

العلامة ابن بيّه: فقيه الفلاسفة وفيلسوف الفقهاء

العلامة ابن بيّه: فقيه الفلاسفة وفيلسوف الفقهاء

 

تتولّى أعمال الشيخ العلامة ابن بيه استجلاءَ مظاهر العقلانية المقاصدية الواقعية التي تجمع بين التَّفقُّه والتّفلسُف من خلال التجديد في النظر المقاصدي الذي يسترعي أن ينظر العقل من وراء الشرع، ومن خلال ترشيد التدبير العملي الذي يستوفي أن يُسدَّد العمل من جرّاء رعْيِ المآل؛ وبذلك حقَّق سمو العقلانية المقاصدية على العقلانية الأداتية.

يجوز لنا أن نستعير لقب أبي حيان التوحيدي لعلامة الشيخ ابن بيه فنعتبره، من غير أن نعدم دليلا، فيلسوف الفقهاء وفقيه الفلاسفة. فهو فيلسوف الفقهاء؛ لأنه لم يفرِّط في طلب التجديد بإعمال النظر العقلي من وراء الشرع في نطاق ووفق منطق العقلانية المقاصدية، كما أنه لم يفرط في طلب الترشيد بإدخال الواقع في بنية التدليل الشرعي فراعى المآل من وراء واقع الحال في نطاق ووفق منطق الشرعانية الواقعية؛ وهو فقيه الفلاسفة لأنه ينظر من وراء الشرع دون أن يهمل التساؤل الحِكْمي الفاحص في تسويغ التجديد؛ إذ لم يتوان عن طلب الترشيد النظري والتسديد العملي.

 

 

أ.د. إبراهيم مشروح

أستاذ الفلسفة وعلم المنطق

بدار الحديث الحسنية

جامعة القرويين