ارشيف ل

هل يحل لبس المعطف المصنوع من جلد الخنزير؟

جواب بعض العلماء: ما يتخذ من جلد الخنزير بعد دباغته هل يدخل في حكم الجلد النجس، أم يطهر بالدباغ؟

الذي تدل عليه الأدلة أن جميع الجلود النجسة تطهر إذا دبغت؛ لقوله –صلى الله عليه وسلم-: “إذا دبغ الإهاب فقد طهر” (رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس)، وفي رواية: ” أََيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ” (رواه الترمذي)، فأفاد هذا الحديث بروايتيه أن الدباغ مطهر لجلد ميتة كل حيوان، وذلك أن لفظ (أي) و(إهاب) لفظان عامان، فيشمل كل إهاب، ولم يأت من ذلك استثناء خنزير أو ميتة.

وعليه فلا حرج في استخدام جلد الخنزير المدبوغ في اللباس ونحوه.

تعليق العلامة عبدالله بن بيه :

قلت : حديث الترمذي رواه النسائي وابن ماجه ومذهب جماهير العلماء استثناء جلد الخنزير من الطهارة بالدبغ لأنهم حملوا الإهاب في الحديث على ما تنفع فيه الذكاة لو ذكي خلافاً لرواية عن أبي يوسف ذكرها في المنية (تراجع الحاشية ابن عابدين)

وقد أشار الزرقاني إلى وجود قول ضعيف في مذهب مالك بطهارته بالدباغ وهو قول الإمام عبد المنعم بن الفرس من أن جلد الخنزير كغيره يطهر بالدبغ في اليابس والماء.(يراجع تعليق الصاوي على الشرح الصغير)

كما أن طهارة الخنزير بالدبغ هو مذهب داود وأهل الظاهر ورجحه الشوكاني في نيل الأوطار بناء على عموم الأحاديث.

قلت : ينبغى تقييد استعماله بالحاجة لقوة المعارض.

المصدر: كتاب صناعة الفتوى وفقه الأقليات

معان إيمانية في ذكرى الهجرة النبوية الشريفة – العلامة عبدالله بن بيه

الهجرة حدث كبير، فارق بين الظلام والنور، فارق بين الجاهلية و الإسلام، فارق بين الحق والباطل. فهي حدث كبير يمكن ان تستلهم منه كل الدروس. دروس الهداية ودروس الصبر ودروس الجهاد الحق الذي هو دفاع عن الحق والنفس و عن الدين وليس الجهاد الذين يقتل المسلمين والمسالمين.

 الهجرة، هي هجرة القلوب و النفوس معرضة عن الباطل منتقلة إلى الحق.

هي هجرة الأبدان أيضا من مكان تسام فيه الخسف وتمنع فيه من دينها الى مكان آمن ، وهي نقلة عن الأهل والأقارب من أجل الخير ومن أجل العمل الصالح . كل تلك الدروس تستفاد من الهجرة.

النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (لا الهجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية واذا استنفرتم فانفروا) ، ولكنه أيصا عليه السلام يقول: (المهاجر من هجر مانهى الله عنه).

 اذا فالهجرة لها معانٍ متعددة و النبي صلى الله عليه وسلم أطلعنا على تلك المعاني. فليست هي فقط الهجرة من مكة للمدينة للالتحاق بالنبي صلى الله عليه وسلم وهذه بلاشك هي أفضل الهجرات. ولكن هناك هجرات أخرى:

يمكن للمرإ أن يهاجر وهو في بيته بأن يهجر ما نهى الله عنه. فإذا فهمنا كل هذه المعاني وفهمنا أن الهجرة هي انتقال من حال الى حال ومن مكان إلى مكان هنا تتسع معانٍ الهجرة ويمكن للمؤمن أن يجتهد في هذه المعاني. فمثلا قد يكون بلد متخلف تكون هجرته بأن يصلح حاله ليكون بلدامتطورا هذه نوع من الهجرة، قد يكون المؤمن مقيما في بلد ترتكب فيه المعاصي فيهاجر إلى بلد لا ترتكب فيه. أو يهاجر بقلبه ونفسه عن ارتكاب المعاصي ، هي هجرة تشمل الفرد والجماعة .

*ملاحظة : هذا النص هو تفريغ لحوار مرئي للتلفزيون الماليزي مع تصرف بسيط.

ابن بيه.. المجتهد ورائد الإصلاح – بقلم المفكر اللبناني د.رضوان السيد

الدكتور رضوان السيد
مفكر لبناني

 

منذ أربعين عاماً وأكثر يعمل الشيخ الجليل عبدالله بن بيه من أجل سلامة الدين وسلام العالم. وقد تابعت عمله عن كثب في منتدى تعزيز السلم، ولاحظتُ كيف التقت في فكره وعمله أربعة أمور: استعادة السكينة في الدين عبر مكافحة التطرف والإصلاح، ونشر فكرة السلام بين الأديان عبر التسامح والتعارف وإقامة الشراكات، والإسهام في التأسيس لعهدٍ جديدٍ في الزمان الجديد للدولة الوطنية العربية والإسلامية المتقدمة والجامعة، والدخول بقوة الفكر والفكرة على عالم العصر وعصر العالم في مجال تدافُع القيم بين السلم والعدل.

في هذه المجالات الأربعة أودُّ المرور بأربع محطات في فكر الشيخ وعمله: محطة مؤتمر مراكش مع وزارة الأوقاف المغربية، حيث بلور الشيخ العلاّمة مشروعاً لعلاقاتٍ أُخرى بين المسلمين والآخرين العائشين معهم في ديارهم من المختلفين ديناً أو اعتقاداً ونهج عيش وحياة. وقد قام مشروعه ذاك على التسامح، ودولة المواطنة الدستورية، والعيش المشترك والمتنوع من دون تمييز ولا مثنوية. وقد استكمل الشيخ هذا المشروع في جانبه الآخر المتعلق بعيش المسلمين في العالم، حيث تصدى لمشكلات الهوية والخصوصية وعوائق الاندماج، والتصادم بين الشعبويات والإسلاموفوبيا من جهة، والمرارات التي تتحول إلى تطرف أو انعزال لدى الأقليات الإسلامية من جهة أُخرى. وقد بدا ذلك في مؤتمراته ولقاءاته بالمسؤولين الدينيين والسياسيين في الولايات المتحدة والأقطار الأوروبية.

ولدينا في فكر الشيخ وعمله محطة أو اهتمام الدولة الوطنية المدنية والتعددية والدستورية. وقد استند في ذلك إلى عهد أو كتاب المدينة الذي عقده الرسول، صلواتُ الله وسلامه عليه، بين فئات الناس المختلفة ديناً وتنظيماً اجتماعياً، لتأسيس كيانٍ قال إنه «أمةٌ من دون الناس»؛ يقوم على العيش المشترك والإنصاف والتضامُن وحفظ الحقوق والحريات. صحيحٌ أنّ مستشرقين سمَّوا الكتاب دستوراً من قبل، لكنّ اكتشاف الشيخ هو الطابع التعاقُدي والتعددي والمدني للكيان الجديد الطالع في أفق القرن السابع الميلادي بديلاً للكسرويات والقيصريات. وهنا الاقتران بين السلم والمساواة والإنصاف والتشارك. ثم البعد الثالث لعهد المدينة، وهو الخروج من عبء التاريخ بالعودة لأصول التصور أو التجربة التي تلتقي مع الدولة الدستورية القائمة على التداوُل المفضي إلى التوافق على المصالح الأساسية.

أما مقولة حلف أو تحالف الفضول والفضائل؛ فتمثل استقراءً خالصاً للشيخ. ولها جوانب وأبعادٌ ما تنبه إليها غيره. فقد قام بالمبادرة الحارث بن عبد المطلب عم النبي صلواتُ الله وسلامُهُ عليه قبل الدعوة المحمدية. وكان المقصود بها حماية الضعيف والغريب، وتحويل أخلاق الفضيلة إلى أعرافٍ مُلزمةٍ في مجتمعات التجارة والقوافل التي يكثر فيها الفساد ويظهر المطففون والمتجاهلون لحقوق الضيافة والجوار. وقد لفت الشيخ الجليل إلى أنّ رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، قد أقرها بعد أربعين عاماً على الدعوة إليها، إشارةً إلى أنّ القيم والفضائل الإنسانية هي نفسُها «المعروف» الذي يدعو إليه الإسلام، والدين الإبراهيمي الواحد. ويتصور الشيخ بن بيه أنّ فضلاء العالم، كما توافقوا على ميثاقٍ عالميٍّ لحقوق الإنسان، يمكن أن يتوافقوا على قيم المعروف وفضائل الجوار والهجرة والضيافة، التي دعا إليها وطبقها على أنفسهم أجدادُنا الأقدمون وأقرتها الرسالات المفتوحة على الآفاق الشاسعة لفضائل الفطرة الإنسانية السليمة.

إنّ المحطة الرابعة هي منهج الشيخ بن بيه في الفكر والعمل، إذ يجمع بين اجتهاد الفقيه، وعقلانية المفكر والفيلسوف، ورائد الإصلاح الإسلامي والسلام الديني والإنساني. فمعه ومع المنهج القائم على الاجتهاد النهضوي، والعقلانية الفلسفية، وإرادة الإصلاح والتغيير، نُخرج ديناً وأمةً من مأزق تدافُع القيم في النفوس والأخلاد والأعمال، والعلاقة المضطربة بالعالم. إنّ قول الشيخ بتقديم السلم على العدل، يتجاوز مسألة الأولويات، إلى تعقلٍ جديدٍ للدين، وللقيم والأخلاق النابعة منه. فقِدْماً اختلف علماؤنا في تقديم العدل أو الرحمة في علاقة المولى بعباده. وأشدّ ما يحتاج إليه المسلمون اليوم وجوداً واعتباراً قيمة السِلْم والسلام. إنهم يحتاجون إليها في عيشهم وتعاملهم فيما بينهم، وفي علاقاتهم بالعالم. والأمر صعبٌ إذا نظرنا إلى الظروف المحيطة بالمسلمين وحالات الغلبة والاستقواء.

بالأمس حصل العلاّمة بن بيه على جائزة خدمة الإسلام من ملك ماليزيا. وهي ليست التقدير الأول من جانب الجهات العربية والإسلامية والعالمية. وإذا كان في ذلك اعتبارٌ بارزٌ للشيخ الجليل؛ فإنه يحمل دلالةً كبرى أيضاً على تقدم دعوته وعمله في مجال خدمة الإسلام، وخدمة السلام، وخدمة الإنسانية.

الاتحاد

ذكرى عظيمة في وجدان كلّ مسلم وفي وُجود كلّ إنسان – العلامة عبدالله بن بيه

تمر بنا هذه الأيام ذكرى عظيمة في وجدان كلّ مسلم وفي وُجود كلّ إنسان، ذكرى الهجرة النبوية الشريفة،
هجرة إمام المرسلين وسيد الأولين والآخرين، والرحمة المهداة للعالمين، والنعمة المسداة للناس أجمعين،
نبي الرحمة ورسول السلام، رحمة في الأولى والآخرة، وسلام في الظاهر والباطن، سلام في النفوس وفي القلوب وسلام مع الذات ومع الآخرين،
هجرة نبينا صلى الله عليه وسلّم الذي أمر بإفشاء السلام كما في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: (“لا تدخلوا الجنـّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، ألا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم ؟)
وأمر بقراءة السلام كما في الحديث المتفق عليه أي الإسلام خير؟” قال ” تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف”،
وأمر ببذل السلام للعالم كما في الصحيح في حديث عمار المحكوم له بالرفع (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من إقتار).
العلامة عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

نص كلمة بمناسبة جائزة الهجرة لشخصية العام المتميزة -ماليزيا – بوتراجايا

بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلّ على سيدنا محمد وآله وصحبه
معالي الشيخ عبد الله بن بيه
رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي –
رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة
 …
جلالة السلطان عبدالله رعاية الدين المصطفى بالله شاه، ملك ماليزيا المبجل
و جلالة الملكة
صاحب الفخامة تون دكتور *محاضر* بن محمد ، رئيس وزراء ماليزيا
و السيدة قرينته
أصحاب المعالي، أصحاب السعادة والفضيلة
أيها الحضور الكريم
كل باسمه وجميل وسمه،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
يطيب لي بادئ ذي بدء أن أحمل إليكم جلالة السلطان، تحيّات أخيكم صاحب السّمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات، وأخيكم وصديقكم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان وليّ عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وتهانيهما بمناسبة العام الجديد، نسأل الله أن يجعله عام خير وبركة ومزيد من الاستقرار والازدهار لبلدَينا الإمارات وماليزيا وللعالم أجمع.
كما أتوجّه بأسْمى عبارات الشُّكر والامتنان إلى الحكومة الماليزية لتشريفها لي باخْتياري لنيل هذه الجائزة العظيمة التي تقترن بذكرى عظيمة في وجدان كلّ مسلم وفي وُجود كلّ إنسان، ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، هجرة إمام المرسلين وسيد الأولين والآخرين، والرحمة المهداة للعالمين، والنعمة المسداة للناس أجمعين، نبي الرحمة ورسول السلام، رحمة في الأولى والآخرة، وسلام في الظاهر والباطن، سلام في النفوس وفي القلوب وسلام مع الذات ومع الآخرين، هجرة نبينا صلى الله عليه وسلّم الذي أمر بإفشاء السلام كما في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: (“لا تدخلوا الجنـّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، ألا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم ؟) وأمر بقراءة السلام كما في الحديث المتفق عليه أي الإسلام خير؟” قال ” تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف”، وأمر ببذل السلام للعالم كما في الصحيح في حديث عمار المحكوم له بالرفع (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من إقتار).
لقد عرفت ماليزيا هذه الحقيقة منذ قرون طويلة عندما أضاء ربوعها الإسلامُ، فعاشت دينَها رحمة ونعمة، عاشته سلاما ووئاما وأخوة ومحبّة.
انطلاقا من هذه الفضيلة التي جاء بها نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم “وما أرسلناك إلا رحمة الله للعالمين”، سيكون حديثنا في هذا المحفل البهيج واليوم الأغرّ عن هذه القيمة، قيمة الرحمة والسلام.  وسأغتنم هذه السّانحة بين يدي جلالة السلطان الحاج عبد الله للتعريف بما نقوم به في منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة من جهود ومشاريع، أحسب أنّها الموجبةُ لهذا التكريم.
جلالة السلطان الحاج عبد الله شاهْ،
أيها الحضور الكريم،
إن لكُلِّ وقتٍ واجباً لا ينبغي الانشغال فيه بسواه، واجبا يمثّل تحدّيا لأبناء ذلك الوقت ويلزمُهم التصدّي له، واجبا يفرضه عليهم الواقع بضَروراته الحاقّة ومصالحه الملحّة.
واجب الوَقت اليوم هو البَحث عن السَّلام، فالإنسانية كلّها اليوم محتاجة إلى السّلام، والعالم الإسلامي ربّما أشد فاقةً إليه من غيره، فما شهدته المنطقة في العقد الأخير وما تزال تشهده يفرض علينا جميعا أن نصرف جهودنا وجهادنا لإطفاء الحريق المشتعل ولبثّ روح السكينة في النفوس، والتصدّي لتحدّي الإرهاب والتطرُّف.
تلك هي المهمة التي انتدَبنا لها طيلةَ العشريّة المُنصرمة، تَأصيلا وتوصيلا، عقدنا من أجلها المؤتمرات وأطلقنا لها المبادرات، فحيثما كنا، دعوتنا دعوةٌ واحدةٌ لإحلال السلم محل الحرب والمحبة مكان الكراهية والوئام بدل الاختصام، نبحث عن مسوغات السلام والعافية بدلا من مبررات الفتن والحروب الجاهلية. السلام والمحبة والصداقة هي رسالتنا إلى البشرية، وشعارُنا هو شن الحرب على الحرب لتكون النتيجة سلما على سلم، ذلك هو واجبنا الديني ومسؤوليتنا الإنسانية.
انطلقنا في رحلة السلام من أبوظبي فضاء الإنسانية، وعاصمة التسامح والتعايش، نعتمد على ركيزتين أساسيتين ومتكاملتين:
فعلى مستوى الركيزة الأولى قمنا بعملية حفر معرفي في الأصول الإسلامية للكَشف عن نصوص السلم المنسيّة ومقاصده المعطّلة والتذكير بقيمه الضامرة وفقهه المطمور، لقد استنفرنا النصوص وأثرنا التراث للبرهنة على الدعوى التي نؤمن بها، وهي أنّ الإسلام دين سلام وأن السّلم بوصفه مقصدا شرعيا هو أوثقُ ضمانا للحقوق وحفظِ الضروريات الخمس من الحرب والفتنة.
وفي هذا السّياق خصصنا أكثر بحوثنا لتصحيح المفاهيم المتعلّقة بالسلم، وذلك أن جزءا كبيرا مما يعيشه العالم اليوم من فتن مردُّه إلى التباس مفاهيم دينية في أذهان شريحة واسعة من المجتمعات المسلمة، كدولة الخلافة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وطاعة أولي الأمر وهي مفاهيم كانت في الأصل سياجا على السلم وأدوات للحفاظ على الحياة ومظهرا من مظاهر الرحمة الربانية التي جاء بها الإسلام على لسان نبيّ الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلما فهمت على غير حقيقتها وتشكلت في الأذهان بتصور يختلف عن أصل معناها وصورتها، انقلبت إلى ممارسات ضدّ مقصدها الأصلي وهدفها وغاياتها.
هذه الرّكيزة التّأصيلية لا توتي ثمارها إلا إذا عُضّدت بركيزة تنزيلية، تقوم على أهمية الوعي بطبيعة العصر، حيث نلاحظ لدى الكثير من المسلمين قصورا في إدراك الواقع، فكثير منا ما يزال يعيش وكأن شيئا لم يكُن، ما يزال يرى العالم كما كان في العصور الوسطى، عصر الامبراطوريات، عصر التمايز والعيش المنفصل ويتجاهل ما استجدّ من أسباب التمازج والعيش المتّصل.
ما يزال بعضُنا عاجزا عن استيعاب المتغيرات التي حدثت في العالم، حيث انتهى العهد الامبراطوري ودخلت المجتمعات المسلمة ضمن إطار ما صار يعرف بالدولة القطرية أو الدولة الوطنية.
وكذلك لم تَعد الولاءات في الوقت الراهن دينية حصرا، بل أصبحت ولاءات مركبة ومعقدة تتحكم فيها عوامل متداخلة لا تَنفصل عن بعضها، وظهرت النّزعة الفردية بحيث لم تعد الجماعة في بعض البيئات مؤطّرة لفعل الفرد. واستجدّ مستوى غير مسبوق من التشابك بين مصائر الشعوب وأوضاعها في سياق العولمة وغدت التعددية الثقافية والعرقية والدينية واقعا في كل قطر.
وكذلك توصلت البشرية إلى مواثيق أممية وقوانين دولية بها تُؤطّر العلاقات بينها، وبرزت ثقافة الحريات عاملا مؤثرا وفاعلا في الواقع، واعتمد نظام حقوق الإنسان وسيلة لعيش الأقليات بين ظهراني الأكثرية، واعتمدت المجتمعات عقدا اجتماعيا وسياسيا جديدا يوزّع ممارسة السيادة بين سلط متكاملة ومستقلة.
وعلى مستوى الاقتصاد حصل انفصام حادّ في منظومة الإنتاج والتوزيع بين الاقتصاد وروح الأخلاق، حيث سادت القيم المادية الخالية من كل قيم إلهية أو إنسانية نبيلة، وغدا الإنسان كائنا ماديا، يعيش لِذاته مستغرقا في لَذّاته، فلا نبل ولا كرم ولا إيثار ولا تضامن ولا نظر في المآلات إلا مآلات الربح بلا روح والثروة بلا رائحة.
ذلك هو الواقع اليوم، الذي صار يفرض تأويلا جديدا وتنزيلا متجدّدا، فالواقع شريك أساسي في الاستنباط وفهم النصوص وتطبيقها.
انطلاقا من هذه المقاربة، ووعيا بهذه المستجدات أصدرنا في شهر يناير 2016 إعلان مراكش لحقوق الأقليات، وقد جاء الإعلان يجلي القيم الإسلامية والأسس المنهجية لواجب التعايش السعيد والتعامل الحسن مع سائر أتباع الديانات، وقد دعا الإعلان علماء ومفكري المسلمين إلى العمل لتأصيل مبدأ المواطنة الذي يستوعب مختلف الانتماءات بالفهم الصحيح والتقويم السليم للموروث الفقهي والممارسات التاريخية وباستيعاب المتغيرات التي حدثت في العالم.
لقد استلهم الإعلان روحه ومبادئه من صحيفة المدينة، وهي وثيقة موثقة وصحيحة من رحم الإسلام وتراثه الأصيل، كادت أن تنسى في ظروف وفترات من التاريخ، في هذه الصحيفة يعلن النبي صلى الله عليه وسلم الحقوق والواجبات المتساوية والمتكافئة بين جميع سكان المدينة على اختلاف دياناتهم وجذورهم القبلية كأول دستور تعاقدي في الإسلام. في هذه الصحيفة لا عبرة بالأكثرية ولا الأقلية، إذ عندما يطبّق القانون العادل الرحيم فلا أقلية ولا أكثرية بل يصير الجميع مواطنين متساوين في الكرامة والحقوق والواجبات.
كما استهدف إعلان مراكش المصالحة بين الهوية الدينية والهوية الوطنية، حيث يرى البعض أن قوة الانتماء إلى الهوية الدينية تؤدي إلى انهيار روح المواطنة، ويفترض تعارضا ذاتيا بين الولاء للدين والولاء للوطن، وخاصة في المجتمعات الهشة ذات الطوائف المتعدّدة حين تضعُف سلطة الدولة فتطغى سلطة الهوية الدينية، وتفيء كلُّ طائفة إلى حاضنتها الدينية التي تضمن لها نوعا من الحماية النفسية وحتّى الوجودية. لقد كان الاهتمام في إعلان مراكش متوجّها إلى قلب المعادلة ليكون الانتماء الديني حافزا لتجسيد المواطنة وتحييد سلبيات تأثير عامل الاختلاف الدّينيّ عليها.
جلالة السلطان،
أيها الحضور الكريم،
إنني قادم إليكم من أبوظبي، حيث نحتفي هذه السنة في الإمارات بالتسامح عنوانا لسنة 2019، حيث اختاره حيث اختاره صاحب السموّ الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة قيمة مركزية، عليها مدار كافة المبادرات والتدابير طيلة العام، فأطلقت البرامج التوعوية والتعليمية والتثقيفية واتخذت التدابير العملية التربوية والقانونية لغرس ثقافة التسامح وترسيخ معاني الأخوة الإنسانية وتعزيز السلم في العالم.
إن الحديث عن هذه القيم، قيم السلام والمحبة، ليس بدعا من القول ولا بدعة من العمل، هنا في بلادكم، ماليزيا، حيث لم تفتؤوا تقدّمون للعالم النموذج الحيّ على الرواية الإسلامية الأصيلة والرؤية الحضارية المتينة، من خلال عقدكم الاجتماعي القائم على مبادئ التعايش والوئام، والتي طبعت الشخصية الماليزية وأتاحت لها بفضل الله أسباب الازدهار والاستقرار.
وفي الختام أيها الحضور الكريم إننا في دولة الإمارات العربية المتحدة نشاطركم في ماليزيا القناعة الراسخة بأنه لا مستقبل للبشرية إلا من خلال السّلام والوئام، وأن التعايش هو الخيار الوحيد لنا في العالم، هكذا يبرهن العقل وتكشف التجربة الإنسانية، وهكذا تعلّمنا النصوص الدّينية، قال تعالى: “والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم”.
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ماليزيا تختار العلامة عبدالله بن بيه ” كافضل شخصية اسلامية”

 

بوتراجايا (ماليزيا) -1 – 9 –2019م

أعلنت دولة ماليزيا عن اختيارها العلامة عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيه -رئيس مجلس الإمارات للإفتاء – لنيل جائزة (افضل شخصية اسلامية) في حفل استقبال السنة الهجرية (مع الهجرة) الذي ستقيمه الحكومة الماليزية في مدينة بوتراجايا بحضور ملك البلاد السلطان عبدالله أحمد شاه.

وجائزة الهجرة النبوية جائزة كبرى تمنح لكبار الشخصيات التي قدمت خدمات جليلة للأمة الإسلامية والإنسانية جمعاء، على المستوى المحلي داخل دولة ماليزيا، أو على المستوى العالمي.

ويشغل معالي العلامة عبدالله بن بيه رآسة مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، و رآسة منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، ورآسة مؤسسة الموطأ للدراسات، وعضو مؤسس في مجمع الفقه الإسلامي بجدة.

ولدى معالي الشيخ مؤلفات عديدة في الفقه وأصوله  والدراسات الاسلامية و الحوار الفكري. كما يعد معالي الشيخ رائدا في تأسيس فقه السلم والتأصيل للتسامح والتعايش انطلاقا من فهم عميق للخطاب الشرعي ووعي بالواقع المعاش. تُرجم عدد من كتب معالي العلامة عبدالله بن بيه  الى اللغة الملايوية إضافة إلى مئات من مقالاته ومحاضراته واستفاد منها أرخبيل الملايو المتمثل بماليزيا واندونيسيا وسنغافورة وبروناي وجنوب تايلند وجزء من الفلبين.
(النهاية)

الاهتمام بمستقبلنا المشترك – النص الكامل لكلمة العلامة عبدالله بن بيه في مدينة لنداو الألمانية

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين

الاهتمام بمستقبلنا المشترك

مؤتمر منظمة أديان من أجل السلام، لنداو، ألمانيا — ٢٠ أغسطس ٢٠١٩

معالي الشيخ عبد الله بن بيه

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

فخامة السيد فَرَانْك- وَالْتَرْ شْتَانـْمَايَر، رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية

سعادة الدكتور وليام فندلي، الأمين العام لمنظمة أديان من أجل السلام

أصحاب المعالي، أصحاب السعادة، أصحاب السماحة، أصحاب الغبطة والنيافة، أصحاب الفضيلة،

أيها الحضور الكريم، كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

نجتمع اليوم في هذا المحفل العظيم، باستضافة كريمة من دولة ألمانيا، وبدعوة من منظمة “أديان من أجل السلام” التي أسعد بأن أكون جزءً منها. نجتمع اليوم لنتحدّث عن همومنا المشتركة، وعن آمال السلام وآلام الواقع، لنتحدث عن المستقبل.

إن الحديث عن المُستقبل، هو في الواقع حديثٌ بشكل أو بآخر عن الحاضر، وما المُستقبل إلا ثَمرة للحاضر. ففي صيرورة الواقع المستمرة، يتشكّل المستقبل من الحاضر، كما تَشَكّل الحاضر من الماضي، تَشَكُّلَ النّتيجة من مقدّمتها وتشكُّل الفرع من أَصله.

الحاضر محلُّ صناعة المستقبل، ولكي يكون اهتمامنا بالمُستقبل صادقا ينبغي أن يتجلَّى ذلك في اهتمامنا بالحاضر، وإلا كانَ مجرّد تمنّ، فكلُّ رجاء لمستقبل أفضل إذا لم يُبن على العمل في الحاضر، ليس برجاء وإنما هو غُرور؛ تلك حال من لم يزرع الأرض ولم يبذر البذور وهو ينتظر الحصاد.

ومَعرفة المستقبل واستشرافُه ليست ضَرْباً من الرَّجم بالغَيب ولا نوعاً من التَكَهُّن، وإنّما هي استنطاق لمعطيات الحاضر، وفق قانون السببيّة المُطَّرد في ظواهر الأَشياء، قانون الحياة الذي لا انفصام له: ما نصنع في حاضرِنا هو ما يُشكل مُستقبلَنا.

أيها السادة،

إن مصائر الأمم متشابكة فلا مستقبل لبعضنا إذا لم نهتم لمستقبل الجميع. تلك هي طبيعة العصر الذي نعيش فيه. إن البشرية جميعها في سفينة واحدة، حالها كحال السفينة التي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم حين وصف المسافرين في سفينة من طابقين، وحين أراد الذين في الطابق الأسفل أن يخرقوا خرقاً في جهتهم من السفينة، “فلو تركوهم لهلك الجميع ولو أخذوا على أيديهم نجوا ونجى أهل السفينة.”

إننا مثلُ ركاب هذه السفينة، تجمعنا وحدة المصير والمسار، فلا نجاة لبعضنا إلا بنجاة الجميع، ولا توجد سفينة نوح إنما هي سفينة التضامن والتعاون بين ذوي النيات الحسنة من أهل الأديان والعقول.

الاهتمام بالمستقبل صار واجبا ملحّا، لا يقبل التأجيل، فكل تأخُّر عن المبادرة إلى الفعل في الوقت المناسب يرهن مستقبل الإنسانية ويجعل الأجيال الآتية أسيرة صيرورات لن يكون بوسعها السيطرة عليها، كالنّمو السكاني والحروب الأهلية والهجرة وتدهور البيئة والتفاوت المجحف بين الأغنياء والفقراء.

نحن أمام نُذُر فشل حضاري، يحطُّ من قيمة الإنسان، فما جدوى أن يغزو الإنسان الفضاء ويبلغ أقصى الكواكب، بينما يظلُّ عاجزا عن العناية ببيئة كوكبه الذي يعيش فيه وعاجزاً عن التفاهم مع أخيه ونظيره ومثيله، وجاره على هذا الكوكب.

إن هذا الفشل إن استمرّ لا يبشّر بمستقبل أفضل، ولقد تعالت أصوات كثيرة تدق نواقيس الخطر، منبهة إلى قصور النموذج الحضاري المعاصر الذي انخرطت فيه الإنسانية جمعاء، عن تلبية آمالها في الازدهار والاستقرار.

لقد دخلنا في القرن الأخير سياق العولمة فغدت تتجاذبنا قوّتان، فمن جهة الاندفاع الجامح نحو إلغاء الخصوصيات الدينية والعرقية وتنميط العالم بنمط واحد، ومن جهة أخرى التشبُّث المستميت بالهويات الضّيقة وما يصحبها من خطابات الكراهية والعنصرية التي تركّز على الاختلافات بدل البحث عن المشتركات.

لأول مرة في التاريخ صارت لدى الإنسانية القدرة التكنولوجية على تدمير ذاتها، ومع فشو الفكر المتطرّف بكل أصنافه أصبح احتمال استعمال هذه القدرة أمراً وارداً. وعلى مستوى آخر طال هذا التطور التكنولوجي الأعمى مسار الحياة البشرية جميعها من خلال تقنيات الجينوم البشري وما أفضت إليه من معضلات أخلاقية.

 كل ذلك أدى إلى شيوع حالة من القلق والترقّب وعدم اليقين وفقدان الثقة، صارت تحتم على الإنسانية السعي الحثيث إلى أن يتوازى التقدم العلمي مع التقدم الأخلاقي لتأطير وتحصين هذه الاختراعات بسياج من قيم الخير والمحبة والسلام.

بالإضافة إلى سوء الفهم التاريخي الذي لم تستطع لغة الاتصالات ووسائل المواصلات أن تمحوه من الذاكرة، استجدّت أعمال مأساوية وعبثية في نفس الوقت يقوم بها أشخاص دون أي توكيل من سلطة دينية أو زمنية، فتضاعف سوء الفهم وانضاف إلى السخيمة التاريخية المتراكمة ركام حوادث تعضّد كل يوم ظنون كُهّان صدام الحضارات.

وغدا الإرهاب بنجاعة أساليبه وقوة استقطابه يضع تحدياً وجودياً أمام كلّ محبي السلام، بل يمكن القول إن الديانات جميعها غدت اليوم في قفص الاتهام، حيث يعتبرها البعض المسؤولة عن العنف والحروب؛ بل صار البعض يرى عزل الدين عن المجال العام باعتباره عاملاً يفرّق ولا يجمع، يضرُّ ولا ينفع.

كل ذلك المشهد المتغيّر المحلولك لا يمكن أن ينسينا الجانب المضيء، حيث لم تزل غالبية الإنسانية شرقا وغربا، تؤمن بإمكانية العيش المشترك، وتتصدّى لخطاب العنف والكراهية، وتضع المبادرات الميدانية والحملات التوعوية وهبّات التضامن الأخوية ومنها مؤتمرنا هذا.

 خطاب الكراهية الذي فشا في جسد الإنسانية، يدعونا إلى اليأس بعضنا من بعض، يدعونا إلى تنازع البقاء الذي يؤدّي إلى الفناء، وإلى تجاهل المشتركات الكثيرة التي تجمعنا. وإنّ أقوى ما نواجهه به أن نبقي جذوة الأمل حية في القلوب، وأن لا ندع مرض اليأس العضال يستولي على النفوس.

المشترك الإنساني هو القيم الكونية التي لا تختلف فيها العقول، ولا تتأثر بتغيُّر الزمان، أو محدّدات المكان، أو نوازع الإنسان، لأن لها منابت وأصولاً تحفظها من عوادي الدهر وتعسفات البشر. تلك القيم تجب إعادتها في حياة الناس، وهي مبثوثة في كل رسائل ودعوات الأنبياء. إنها قيم السلم الثابتة التي لا تتغير، والتي يزكيها العقل وتقتضيها المصالح الإنسانية.

إن جهودا كثيرة تبذل في نطاق كل الديانات من أجل السلام، ولا تزال الصلوات تقام والدعوات ترفع من أجل ذلك. لكن تيار التضامن والتعاون يجب أن يبرز وأن ينجز أعمالا ميدانية تبرهن للعالم أن الدين في أصله هو عامل خلاص ورحمة للعالمين. لقد آن لقادة الديانات أن يبرهنوا على فعالية أفضل وانخراط أكبر في هموم المجتمعات البشرية لإعادة الرشد وإبعاد شبح الحروب والفتن المهلكة.

تلك هي رؤيتنا في دولة الإمارات العربية المتحدة التي تقدم نموذجاً للتعايش السعيد بين الديانات والأعراق مؤطراً بمبادرات نزعت الشرعية عن المتطرفين. ضمن هذه المبادرات إعلان مراكش لحقوق الأقليات وقوافل السلام الأمريكية للعائلة الإبراهيمية. وقد شهدت أبوظبي مؤخراً وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها الإمام الأكبر شيخ الأزهر والحبر الأعظم بابا الكنيسة الكاثولكية. كما شاركنا في منتدى تعزيز السلم وأيدنا وثيقة مكة المكرمة التاريخية التي أعلنتها رابطة العالم الإسلامي ووقع عليها أكثر من ألف ومائتي عالم يمثلون مذاهب ومشارب إسلامية منوعة.

كل ذلك يعبر عن ديناميكية وإيجابية تشهدها المنطقة، ترفض من خلالها الكراهية والعنف وتقدم الرواية الصحيحة للدين، رواية المحبة والتسامح.

تلك هي روايتنا ورؤيتنا المشتركة التي نتقاسمها معكم جميعا في هذا المحفل العظيم الذي يشرف عليه صديقي الدكتور وليام فندلي. إن اجتماعنا هذا يبعث الأمل ويجدد القناعة بأن اليوم الذي ننبذ فيه التصورات النمطية ومشاعر الكره لتجمعنا مشاعر الأخوة الإنسانية وحب الخير ، سيكون بحق يوماً مشرقاً في تاريخ الإنسانية.

ومن هنا من ألمانيا، نشارككم دعوة الأديان، دعوة الإنسانية جمعاء، دعوة المحبة والوئام، دعوة الاهتمام بالمستقبل من أجل تكريم الإنسان في كل مكان.

رئيس ألمانيا يبحث مع العلامة عبدالله بن بيه سبل تعزيز السلم و التفاهم بين الحضارات

حث الرئيس الألماني فرانك والتر شتاينماير، الثلاثاء، مع الشيخ عبدالله بن بيه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي رئيس منتدى تعزيز السلم، سبل تعزيز السلم بين الأديان في العالم.

وجرى اللقاء في قصر المؤتمرات بمدينة لنداو الألمانية، وذلك بمناسبة المؤتمر العالمي لمؤسسة “الأديان من أجل السلام”.

وانطلقت النسخة العاشرة من مؤتمر “الأديان من أجل السلام”، اليوم، تحت شعار “رعاية مستقبلنا”، حيث تستمر فعالياته حتى يوم الجمعة المقبل.

عبّر الرئيس الألماني عن ترحيبه بـ”بن بيه”، لافتاً إلى أن حضوره لهذا المؤتمر يعد نجاحا له.

وبحث رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي مع شتاينماير سبل نشر الأخوة الإنسانية ومستقبل الإسلام في أوروبا، ومجمل القضايا ذات الاهتمام المشترك.

وكان الشيخ عبدالله بن بيه أحد رؤساء منظمة “الأديان من أجل السلام”، التي تشرف على هذا المؤتمر، المنعقد بمشاركة أكثر من 100 دولة وما يناهز 1000 شخصية عالمية رفيعة المستوى من كبار الشخصيات الدينية وممثلين لحكومات دول العالم، والأمم المتحدة، وممثلين من المجتمع المدني، والنشطاء في مجال نشر التسامح الديني.

معالي الشيخ عبدالله بن بيه يستقبل البرفسور محمد الحسن ولد لبات وسيط السلام في السودان

 

استقبل معالي الشيخ عبدالله بن بيه – رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة-  اليوم وسيط الاتحاد الإفريقي للمصالحة والسلام ،الخبير القانوني والدبلوماسي الموريتاني البروفسور محمد الحسن ولد لبات اللذي نجح في جمع الاطراف السودانية للتوقيع على وثيقة دستورية تنهي الأزمة في السودان الأسبوع الماضي .

كلمة في مؤتمر “الحرية الدينية”- واشنطن  17 يوليو 2019

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

كلمة

في الاجتماع الوزاري حول الحرية الدينية

معالي الشيخ عبد الله بن بيه

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

واشنطن  17 يوليو 2019

 [youtube_sc url=”https://www.youtube.com/watch?v=Xaf4mjqi5P8″]

أصحاب المعالي،

أصحاب السعادة،

أصحاب السماحة أصاحب الغبطة والنيافة، أصحاب الفضيلة،

أيها الحضور الكريم،

 كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

 

إننا نجتمع اليوم لنناقش موضوعا يمتاز بالحيوية والأهمية، حيث ما تزال كثير من الأقليات في بعض المناطق تعيش مآسي مَرَدُّها إلى الاضطهاد الديني وضيق ذرع المجتمعات بالتعددية والتنوع وبالاختلاف، وذلك رغم التعاليم الدينية الصريحة والصحيحة في الحث على الخير وحب الجار والضعيف والغريب والتعارف والتآلف، ورغم الفلسفات الكونية التي طوّرتها البشرية على أيدي أساطين الفكر الإنساني من أمثال جون لوك وفولتير وروسو وكانت وغيرهم، ورغم المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وملحقاتها التي التأَم حولها المنتظم الدولي واتخذها دساتيرَ.

 إن هذا الوضع يمثل تحدّيا أمام البشرية جميعها بدياناتها المختلفة وفلسفاتها الكونية المتنوعة، إننا أمام فشل حضاري، يحطُّ من قيمة الإنسان، فما جدوى أن يغزو الإنسان الفضاء ويبلغ أقصى الكواكب، بينما يظلُّ عاجزا عن التفاهم مع أخيه ونظيره ومثيله وجاره على كوكب الأرض.

أمام التحدّي يَلْزَم التَّصَدِّي، وأمام التحديات المشتركة تتحتّم المقاربات المشتركة، ولذلك نعتقد أنه يجب العمل في ثلاثة اتجاهات متزامنة ومتكاملة:

الاتجاه الأول: العمل التربوي

يقوم هذا الاتّجاه التربوي على الوعي بمسؤولية رجال الدّين في ما يتعلق بكلّ ديانة لمعالجة التطرف والغلو داخلها و”طرد النعاج الجرب” من بين صفوف أتباعها، و من أجل تبنّي مقاربة تصالحية تتيح لهم نشر روح الأخوّة ضمن أتباعهم ومجتمعاتهم ودعوتهم إلى تجاوز العداوات ومشاعر الكراهية بكل أنواعها وأصنافها.

إن واجب رجال الدين اليوم هو العودة إلى نصوصهم الدينية وتراثهم ليستمدُّوا أسسا متينة للتسامح ونماذج مضيئة يسهم إحياؤها في إرساء قيمه في نفوس أتباعهم، عن طريق التأويل الملائم للزمان والمكان ومصالح الإنسان، وذلك ما يسهم في إعادة التوازن في نطاق كلّ ديانة وفي الرجوع إلى أصل الدين كطاقة للسلام مما يمهّد لبناء الجسور بينها على أُسس صلبة ودعائم قويّة قابلة للاستمرار والاستقرار بل للازدهار ولإعلان الانتصار على الشر.

هذا ما حاولناه وما نستطيع القول إننا أنجزناه “نظريا” في إعلان مراكش الذي أصدره المنتدى في يناير 2016، بالشراكة مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية. لقد جاء هذا اللقاء التاريخي استجابة للأوضاع المتردية والواقع المضطرب الذي سالت فيه دماء كثيرة واشتعلت فيه جذوة الكراهية وعلا فيه صوت العنف، وكان للأقليات الدينية في بعض البلدان الإسلامية المتوترة نصيبها من القتل والاستعباد والتهجير وأشكال مختلفة من امتهان الكرامة الإنسانية، وإن كان الأذى شمل الجميع، بل ربما نالت منه بعض الأكثريات نصيبا كبيرا ومسها منه قرح عظيم.

لقد دعونا إلى مؤتمر مراكش عددا كبيرا من القيادات الدينية من غير المسلمين، من بينهم ممثلون عن الأقباط واليزيديين والصابئة المندائيين والنصارى الآشوريين وغيرهم، وبحضور ممثلي منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى وممثلي الهيئات المدنيّة الناشطة في مجال حوار الأديان، دعوناهم ليكونوا شهودا على إعلان مراكش، وليشاطرونا نتائجَ عَمَلنا ويشاركونا حكمتهم.

لاقى “إعلان مراكش” نجاحا كبيرا وحظي بتنويه واسع من صُنّاع القرار الدوليين وتبناه الفاعلون في ميدان العلاقة بين الأديان وأشادوا به بوصفه إطارا مرجعيا للمبادرات الميدانية التي تضمن انخراط أكبر عدد من القادة الدينيين في خطوات عملية لتعزيز السلم ونشر ثقافة التعايش. وقد اعترفت به منظمة التعاون الإسلامي واعتمدته رسميا، كما أشاد به الحبر الأعظم بابا الفاتيكان فرانسيس في كلمته إبّان زيارته للمملكة المغربية يوم 31 مارس 2019.

لقد استهدف الإعلان نزع الشرعية الدينية من منتحليها من أصحاب الفكر المتطرف، من خلال البيان بقوة وحزم أن اضطهاد الأقليات الدينية وكافّة أشكال العدوان عليها التي يقترفها الإرهابيون مخالفة للرواية الصحيحة والرؤية السليمة للإسلام نصوصا وقيما وممارسة.

لقد استلهم الإعلان روحه ومبادئه من صحيفة المدينة، وهي وثيقة موثّقة وصحيحة من رحم الإسلام وتراثه الأصيل، كادت أن تنسى في ظروف وفترات من التاريخ. في هذه الصحيفة يعلن النبي صلى الله عليه وسلم الحقوق والواجبات المتساوية والمتكافئة بين جميع سكان المدينة على اختلاف دياناتهم وجذورهم القبلية كأوّل دستور تعاقدي في الإسلام.

وإنما نتحدث في إعلان مراكش عن مفهوم الأقليات باعتبار الرائج في الاصطلاح القانوني الدولي المعاصر والثقافة السياسية الراهنة، وأما صحيفة المدينة فإنها لم تتحدث عن أكثرية ولا أقلية، بل إن بنودها ومضامينها القائمة على العدل جعلت مفهوم الأكثرية والأقلية لا معنى لها ولا أثر، إذ عندما يطبّق القانون العادل الرحيم فلا أقلية ولا أكثرية بل مواطنين متساوين في الكرامة والحقوق والواجبات.

لقد شكَّلَ الإعلانُ الإطار المرجعي لمبادرة “قافلة السلام الأمريكية” التي ضمَّت  في مختلف مراحلها عشرات رجال الدين الأمريكيين من العائلة الإبراهيمية: حاخامات وقساوسة وأئمة. اشترك هؤلاء جميعا في العيش والحركة والأكل والنوم والسفر، كلُّهم يقوم بشعائر دينه التي هي جزء من حياته اليومية بمرأى ومسمع من الآخر… يَتكلمون ويبحثون، ولكِنَّ الأهم أنهم يشاهدون ويشهدون، ويكتشفون في النهاية أنهم إخوة، يشتركون في أكثر مما كانوا يتصورون.

لقد اجتمعنا في أبوظبي عاصمة دولة الإمارات العربية المتّحدة في فضاء من التسامح وجو من التصالح وأصدرنا بيانا يعبّر عن كل المعاني النبيلة والقيم الجميلة التي تشتمل عليها دياناتنا وتقاليدنا ثم انتقلنا إلى الرباط عاصمة المملكة المغربية لنتشارك في نفس الجوّ في محطة أخرى لتأكيد العلاقة وتوضيح المنهج لتوطيد روح التعاون والتّفاهم بين أفراد القافلة وتطوير مقترحات وتحرير مشاريع ميدانية.

على إثر النجاح الذي حققته تجربة القافلة الأمريكية، التقت العائلة الإبراهيمية في واشنطن فبراير 2018 وأصدرت إعلان واشنطن لحلف الفضول، ثم اجتمعنا في أبوظبي في الملتقى الخامس لنؤكد هذا الحلف الذي اختار هذا الاسم استلهاما لروح حلف قديم في تاريخ الجزيرة العربية انعقد قبل الإسلام من أجل التضامن والتعاون على تفعيل قيم الخير والمعروف ونصرة الضعيف وإغاثة الملهوف، ومنع الظلم والتآسي في المعاش. رمزية حلف الفضول وخصوصيته – التي جعلت النبي محمدا صلى الله عليه وسلم يُزكّيه ويقول لو دعيت به في الإسلام لأجبت – هي أنه لم يؤسس على ما هو معهود في ذلك العصر من المشترك الديني أو الانتماء القبلي أو العرقي، بل تأسس على القيم الإنسانية وعلى الفضيلة الكونية.

نعتزم قبل نهاية السنة أن نصدر ميثاقا لحلف الفضول، وقد اطّلع بعضكم بصفة خاصة على مشروع هذا الميثاق والذي سينقل الحرية الدينية وعلاقات التّعاون وقيم التسامح من مجرّد الإمكان إلى درجة الالتزام الأخلاقي والإلزام القانوني، وبخاصة في ما يتعلق بحماية دور العبادة التي أصبح الاعتداء عليها يهدّد حرية الدين في أنحاء كثيرة من العالم.

كلّ يوم تستيقظ البشرية على أنباء جريمة نكراء جديدة، تنسي أختها السابقة، بالأمس القريب شهد العالم مشدوها مجزرة وحشية استهدفت مسجد النور في نيوزلندا، ثمّ تجدّدت الفجيعة بسلسلة تفجيرات شنيعة استهدفت دور العبادة ودور الضيافة في سيريلانكا، وبعد ذلك كان الدّور على معابد يَهوديّة في ولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأمريكية.

إنه الإرهاب العبثيّ يكشف في كلّ مرة عن حقيقته الهمجية، تحت مسميات مختلفة، تارة كراهية الإسلام، وتارة أخرى كراهية المسيحيين، وأحيانا باسم معاداة السامية، كل العائلة الإبراهيمية في ذلك سواء، ولكن الحقيقة التي تختفي وراء ذلك وتوحّد جميع الإرهابيين هي كراهية الإنسان، واستغلال الأديان.

لقد أصدرنا في أبوظبي بيانا أوضحنا فيه أن أي اعتداء على أي مكان للعبادة لأي دين هو بمثابة اعتداء على سائر الأديان بالسواء، ولقد استشهدنا بنصوص أكيدة من القرآن الكريم تؤسس للحامية القانونية للتعددية الدينية، قال تعالى: ( ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)، حيث تؤصّل هذه الآية – آية المعابد من سورة الحج- لمفهوم التعددية الدينية، أوجب الإسلام على أتباعه الدّفاع عن كنائس النصارى وعن بيع اليهود ، وبدأ بها قبل مساجد المسلمين ولم يكتف الإسلام باحترامها وإقرار أهلها عليها، وإنما دعا المسلمين إلى حمايتها والدفاع عنها، وإبعادها عن الخصومات. إن هذا هو مفهوم التّعددية إذا نحن ترجمنا اللغة الدينية إلى لغة الفضاء العام SPHERE PUBLIQUE ، كما يقول هابرماس.

وتأكيدا على وجوب احترام دور العبادة لجميع الأديان، اقترحت على الأمم المتحدة في جلسة شاركت فيها في نيويورك تخصيص يوم في السنة لذكرى الاعتداء على أماكن العبادة، تقام فيه الصلوات وترفع الدعوات من أجل السلام والأخوة الإنسانية.

ثانيا: العمل القانوني

 إن العمل في الاتجاه التربوي في غاية الأهمية لكنه وحده غير كاف، حيث علينا أيضا أن لا ننسى السياق القانوني لقضية الأقليات والحرية الدينية، فينبغي أن تؤكّد الجهود التربوية بنصوص قانونية مُلزمة تسمح للأقليات بأن تمارس دينها دون خشية ودون انتقاص، بناء على أسس متينة من الحقوق والواجبات المتبادلة، في صورة قانونية يُوجب على الدول القيام على ضمان حمايتها بالقانون والقضاء.

 

 

ثالثا: العمل المجتمعي

إن حقوق الأقليات وما يتفرّع عنها من الحرية الدينية لتكون راسخة، يلزم أن تقدّم في إطار عقد اجتماعي للمواطنة يقوم على تحقيق مجموعة من الموازنات ليس فقط من الناحية القانونية بل من الناحية الروحية والنفسية كذلك.

 فلكـيْ تكون دعائم هذه المواطنة متينة وليست هشة، تتزعزع عند كلّ حادث، يجب أن تكون خلقا ثابتا في المجتمع، قائما على التّراضي والإقناع، بحيث تنبع حقوق الأقليات وحرية التدين من المجتمع الذي يتحلّى بروح التسامح والاحترام.

فمن أهم الموزانات التي تجب مراعاتها، الموازنة بين مستوى الاعتراف المبدئي بالحقوق ومستوى التفعيل العملي لها، من خلال التمييز بين مستويات الحقوق في المواطنة، بين مقوماتها الأصلية وبين مكملاتها ولوازمها التي تختلف من بيئة إلى بيئة، والتي يلزم التدرج في اكتسابها عن طريق استراتيجية المحافظة على السلم المجتمعي، لكي لا تعود هذه المكملات على الأصول بالإبطال، فلا يمكن أن ننزع عن عقد اجتماعي سار في بلد صفة المواطنة بدعوى تخلّف بعض اللوازم الثانوية أو التنظيمية في التصور المثالي للمواطنة.

ولذلك فإن الحرية الدينية للأقلّيات يجب أن تكون مكفولة وهذا أمر من حيث المبدأ لا يرتقي إليه أدنى شك، وهذا الواجب مسؤولية الحكومات قانونيا ومسؤولية المجتمع أخلاقيا، لكن تنزيل هذا المبدأ في الواقع يتطلب كثيرا من الحكمة، وبالتالي على كافل الحرية ومكفولها أن يتعاونا حتى تكون الحرية الدينية حرية مهذبة تتسم بالواقعية في مراعاة خصوصية السياق المحلي، فلا يستحيل استعمال هذه الحرية تعسفا في استعمال الحق وإفراطا فيه، abus de droit.

يلزم أن نستعمل ذكاءنا وحسّنا المسؤول حتى لا يعطي عملنا نتائج عكسية، فقد يكون من غير الحكمة أن نطالب بحرية تقوم على الحرب، فالسلام هو الأساس، هو الخير الأسمى، الإطار الناظم ولاستراتيجية الناجحة لتحقيق هذه الحقوق.

 يجب أن نصل إلى الحرية المهذبة دون أن نعبر على جسر الحرب الذي مرّت من خلاله بعض الأُمم، إنّ موقف اللامبالاة من الخصومات ومن الحرب موقف غير مسؤول ولا يخدم الحرية نفسها على المدى البعيد والمتوسّط.  بل إن أكثر دعاة الحرية الدينية حماسا لها، – على غرار ما فعل جون لوك وفولتير-  لم يكونوا يعتبرونها مبدأ مطلقا، وإنما ربطوها بمقصِد السلم من خلال مفهوم النظام العام للمجتمع، فإن حدود الحرية تقف حيث يصبح الفعل أو الفكر يُقْلِق راحة المجتمع ويهدّد سِلمَه الأهلي. وهذا ما أسماه كارل بُوبَرْ مفارقة التسامح، فإن التسامح المطلق يفضي إلى تلاشي التسامح، وكذلك فإن الحرية المطلقة تقضي على الحرية نفسها.

وإلى هذا التوازن بين الحقوق والواجبات وبين الفرد والجماعة وبين الحريات والنظام العام، أشار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة والذي يعتبر أسمى وثيقة دولية، إذ تُعبّر صياغته عن وعي واضعيه بالتوازن بين كونية المبادئ ونسبية التنزيل. ففي الفصول الأولى من الإعلان، تتوالى الحقوق مفصلة مطلقة، ثم يأتي الفصل 29 بمثابة الفصل المقيّد لإطلاق كل ما سبقه، ونص هذا الفصل :  “

  • على كلِّ فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه وحده لشخصيته أن تنمو نموّا حرا كاملا.
  • يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقرّرها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي. “

 إن هذه القيود تعيد للمرجعية المحلية شيئا من الحاكمية، وتفرض علينا عند الحديث عن تصوّر كلّي للمواطنة الكثير من النسبية، والتأنّي في توظيف المفاهيم والمفردات، والوعي بما يفرضه اختلاف المشارب الحضارية من ضرورة الحوار المستمر حتى نتوصّل إلى أرضية مفهومية متينة، بعيدا عن منهج الفرض من الخارج أو من الأعلى بسلطان القوة، الذي تثبت التجربة التاريخية أنه دائما ما تأتي نتائجه عكسية.

ومن أوجه الموازنة الضرورية مراعاة التجاذب بين المبادئ فلا يغلب مبدأ على مبدإ آخر بشكل يلغيه، بل يلزم البحث عن صيغة توافقية تحقق التوزان. وهذا ما عبَّر عنه الفيلسوف المسيحي توما الأكويني حين قال” العدالة من غير رحمة قسوة، والرحمة من غير عدالة فوضى”، فلا بدّ من الجمع بينهما من خلال تدابير جزئية يحكمها السياق.

وعلى هذا النحو ندعو إلى الموازنة بين مبدإ حرية التعبير ومبدإ حرية التدين، حيث إنّ تنقص الدين هو عامل جلي في الانتقاص من حرية الدين والتديّن، وهو مقدمة للاعتداء على الدّين وعلى أماكن العِبادة.

إن شتم المقدس لا يمكن أن يعتبر وجها من وجوه حريّة التعبير، لأن المسيء لا يتغيّى من خلاله إلا إيذاء الآخرين والإساءة إليهم، وليس يقصد به تحقيق خير أو نفع له أو لغيره، ولئن كان البعض يستشكل الموضوع من حيث اعتبارية التقديس ونسبيته، بحيث لا يرى في شتم المقدّس ما يستوجب التجريم، فإننا نرى أن شتم الرموز المقدسة لدى بعض المواطنين هو في الحقيقة شتم وإيذاء لهؤلاء المواطنين وتعدٍ على حقهم في احترام معتقداتهم، فهو فعل عبثي صادر عن إرادة أثيمة وقصد سيء، قد يكون للبحث عن بطولة غير مستحقة لأنها تؤول إلى حروب وفتن، وقد يكون للبحث عن دور الضحية رياء.

وفي هذا السياق ينبغي التنويه بسياسة دولة الامارات العربية المتحدة في ترسيخ مبادئ المواطنة وحماية الأقليات وإتاحة الحرية الدينية، وهي سياسة حكيمة تتسم بالواقعية في مراعاة خصوصية السياق المحلي كما تتسم بوضوح الرؤية والهدف في تحقيق هذه الموازنات الضرورية، ويتجلّى ذلك في سنّها القانون الاتحادي رقم 2 سنة 2015، والذي يتعلق بمكافحة التمييز وخطاب الكراهية وازدراء الأديان ويعمل على تحصين المجتمع وحمايته من خطابات الكراهية والتحريض على العنف وزعزعة السكينة والسلم الاجتماعي.

وبناء على هذا التصور الذي عكسته جميع المبادرات والإعلانات والمواثيق والوثائق التي أطلقت منذ إعلان مراكش وما تلاه كإعلانات أبوظبي وإعلان واشنطن ووثيقة الأخوة الإنسانية ووثيقة مكة المكرمة، نرى في العائلة الإبراهيمية المنخرطة في حلف الفضول أنه آن الأوان لحوار حضاري مفتوح يقدم مقاربات جديدة حول الحقوق والحريات ومدى اعتبار حرية التعبير المسيء حقا أم حرية؟، وللوصول إلى صياغة مناسبة في ميثاق حلف الفضول تُجلي التوازن المطلوب بين الحرية والسلم وبين الفرد والجماعة وبين حرية التّدين وحرية التعبير، ولنصل إلى حرية مهذّبة عاقلة تتمتع بمقومات البقاء وتسهم في إسعاد جميع مكونات المجتمع الإنساني.

إن هذا الحوار الذي نعقد عليه آمالا كبيرة، يمكن أن يقوده شخصيّات من أمثال معالي السّفير سام براون باك لما يتمتع به من حكمة وتجربة وانفتاح وشفقة على الأقليات ولقد كان حضوره لاجتماعات العائلة الإبراهيمية يمثل دَعْما وتشجيعا يستحقُّ الشّكر والتقدير، فله ولكم جميعا أيها الحضور الشكر.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كلمة في افتتاح مؤتمر قيمة الوسطية والاعتدال في نصوص الكتاب والسنّة

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلّ على سيدنا محمد وآله وصحبه وعلى جميع إخوانه من النبيين والمرسلين وسلم تسليما

صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين وأمير منطقة مكة المكرمة، حفظه الله

صاحب السماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ

صاحب المعالي الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى

أصحاب الفضيلة والسعادة والمعالي

أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

بداية يطيب لي أن أنوه بانعقاد هذا المؤتمر تحت رعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، وإشراف مباشر من أمير مكة المكرمة الأمير خالد الفيصل، في هذا الشهر المبارك عند بيت الله الحرام. وهو أمر ليس بغريب ولا جديد على هذا البلد الذي خصّه الله برعاية الحرمين الشريفين والعناية بحجاجه ومعتمريه من كل المذاهب الإسلامية والأعراق الإنسانية دون تفريق ولا تضييق.

أيها السادة، إن الوسطية هي ناموس الأكوان وقانون الأحكام، وهي ميزان الشّريعة الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، ميزان ينبذ الغلو الذي هو: الخروج عن الاعتدال والتجاوز عن المعهود والمطلوب في الأقوال والأفعال.

ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عنه عليه الصلاة والسلام:” إياكم والغلو في الدين؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين“.

ويرفض التنطع وهو: نوع من المبالغة والشدة والتجاوز عن حدود المطلوب. ففي حديث ابن مسعود: “هلك المتنطعون قالها ثلاثاً“.

ويذمّ التشدد وهو إظهار الشدّة في الدين، ففي حديث أنس:”لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم“.

وباختصار فإن ميزان الاعتدال الشرعي هو نقيض التطرّف، التطرفُ سواء كان فكرياً أو سلوكياً، مفهومٌ يختلف باختلاف الزمان والمكان والإنسان، ويمكن تعريفه بأنه: خروج على النظام العام فكرياً وسلوكياً، يحمل إمكانية التحريض على العنف أو الإخلال بالأمن.

والاعتدال يتجلى في الشريعة على كل المستويات والصعد، حيث يبدأ من مستوى المزاج الشخصي حتى يصل إلى مستوى صناعة الفتوى.

فالاعتدال هو التوازن الروحي والنفسي الذي علم الله عباده الصالحين، ((لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم)،

الاعتدال هو القوام الذي يحقق التوازن في كل شيء، مثل التوازن بين الانفاق والادخار (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما)

الاعتدال هو السبيل الوسطى التي أمر الله بطلبها حتى في قراءة القرآن الكريم (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا)

إنّ ديناً يعتبر مجرّد التطويل في الصلاة فتنة وتنفيراً من الدين لحريٌّ أن يوصف بأنه دين الاعتدال، ففي الحديث الصحيح: “إنّ منكم مُنفّرين“. وقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ: “أفتانٌ أنت يا معاذ“.

الاعتدال هو الوسطية  في الفتوى التي تعني الميزان والموازنة والتوازن بين الثبات والتغير، بين الحركة والسكون، هي التي تأخذ بالعزائم دون التجافي عن الرخص في مواطنها؛ وهي التي تطبق الثوابت دون إهمال للمتغيرات؛ تتعامل مع تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع؛ تقيم وزناً للزمان ولا تحكِّمه في كل الأحيان؛ تفرق بين المتماثلات وتجمع بين المتباينات؛ إعمالاً للحاجات وللمصالح وعموم البلوى والغلبة وعسر الاحتراز؛ ونعني بالوسطية هنا المقارنة بين الكليّ والجزئيّ، والموازنة بين المقاصد والفروع، والربط الواصب بين النصوص وبين معتبرات المصالح في الفتاوى والآراء، فلا شطط ولا وكس.

الاعتدال هو الوسطية في التأويل وفي التعامل بين الظواهر والمقاصد كما يقول الشاطبي رحمه الله تعالى في تقسيمه للفرق بالنسبة لتعاملها مع النص إلى ثلاث فرق: فرقة عملت بالظاهر وزعمت أنه لا عبرة بالمعاني والمقاصد، وفرقة عملت بالباطن والمعاني وزعمت أنه لا متمسك بالظواهر فأحالت الشريعة إلى باطنية، وفرقة توسطت فحكّمت ظاهر النصوص وجمعت بين الظواهر والمعاني معطية للظواهر نصيبها وللمقاصد نصابها وهذا هو المسلك الصحيح والمنهج اللاحب الذي كان عليه السلف. فإن الصحابة عملوا بالظواهر وعللوا تأولوا ولكنهم لم يغولوا.

سأختم بثلاث كلمات لثلاثة من علماء الأمة الأقدمين:

الكلمة الأولى للتابعي الجليل الحسن البصري: “الدين واسطة بين الغلو والتقصير

والكلمة الثانية لابن عباد النفزي : ” ولا شيء أشدّ على النفس من متابعة الشرع، وهو التوسط في الأمور كلها، فهي أبداً متفلتة إلى أحد الطرفين لوجود هواها فيه“.

والكلمة الثالثة للإمام الشاطبي : “الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الأوسط، الأعدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، الداخل تحت كسب العبد، من غير مشقة عليه، ولا انحلال، بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلفين غاية الاعتدال“.

وفي الختام إنّ الإسلام براء من كل تطرّف، مع أنّ التاريخ الإسلامي قد عرف غلاة ومتطرفين ومتنطعين، وكان من مآسيه في التاريخ حركات الخوارج والباطنية، وفي الزمن الحاضر حركات التكفير والعنف والشغب والقلق السياسي والاجتماعي.

إلا أنّ التيار الأعظم للأمّة ظل متمسكاً بالمنهج الوسط، الذي لا إفراط فيه ولا تفريط. وما فتئ العلماء بالمرصاد لكل غلوّ في الاعتقاد أو الأحكام العملية الفقهية لتصويب الخطأ وتوضيح الجادة، التي كان عليها سلف هذه الأمة.

كيف نترجم هذا الاعتدال وتلك الوسطية اليوم في حياة الناس ليعودوا إلى صوابهم، ليعودوا إلى كلمة سواء، إلى حد أدنى من الوئام، متحابين غير متنافرين ولا متنابذين.

إنها مهمة صعبة في جو ثقافة العنف المتبادل، والتطرف المقيت الذي أصاب الإنسانية جمعاء، والإعلام المجنون الذي يريق الزيت على نار الفتنة فلا تخبو نار حتى تشب أخرى؛  

ولهذا فإن ما يقوم به مؤتمرنا اليوم من توحيد خطاب الوسطية والاعتدال وتأصيله وتفصيله لإبراز زيف خطاب التطرف والكراهية وضعف مستنده ومخالفته لمنهج السلف وقانون المصالح المعتبرة، يعتبر بحق واجب الوقت، ولا غروَ أن تكون المملكة العربية السعودية هي القائد والرائد لهذه الجهود، فهي الراعية والمؤتمنة على الحرمين الشرفين مهد الرسالة ومهبط الوحي، وهي تجسّد الموقف الإسلامي المعتدل والوسطي، بقيادة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين.

وفي الختام يسرني أن أحيي جهود رابطة العالم الإسلامي برئاسة معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى في نشر التأويل الصحيح والرواية الصحيحة للدين، المرتكزة على قيم الاعتدال والوسطية.

وأتمنى لمؤتمرنا هذا الذي جمع بين راهنية الموضوع وخصوصية الوضع، وبين شرف المكانة وقداسة المكان، النجاح والتوفيق.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

4

حكم قضاء الصلوات الفائتة – العلامة عبدالله بن بيه

كيف نستفيد من شهر رمضان؟ – برلين – ألمانيا

القمة العالمية 2 حول الدين والسلام والأمن – جنيف

خادم الحرمين الشريفين يستقبل العلامة عبدالله بن بيه