ارشيف ل

نص كلمة العلامة عبدالله بن بيه في اللقاء التشاوري لعلماء الساحل الإفريقي

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلّ على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين

 

كلمة في

الملتقى التشاوري الأول لعلماء دول الساحل

(دعوة للحوارات والمصالحات الوطنية)

 

الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي

العلامة عبدالله بن بيه

العلامة عبداللله بن بيه

 

أصحاب المعالي

أصحاب السعادة،

أصحاب السماحة والفضيلة

أيها الحضور الكريم  

كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

بادئ ذي بدء يشرفني بين يدي هذه الكلمة الموجزة أن أتوجّه بأسْمى عبارات الشُّكر والامتنان إلى الحكومة الموريتانية على استضافتها لهذا الملتقى التشاوري الأول لعلماء بلدان الساحل الإفريقي، كما أرحب بضيوفنا من علماء المنطقة. 

 

إننا نجتمع اليوم لنتابع قرارات مؤتمرنا السّابق، مؤتمر “دور الإسلام في إفريقيا: التسامح والاعتدال ضد التطرف والاقتتال”، ولنتذاكر ونتحاور حول آليات تفعيل إعلان نواكشوط وتجسيده.

وفي هذا السياق يطيب لي أن أهنئكم جميعا على ما حظي به إعلانكم إعلان نواكشوط من قبول واستحسان وما ناله من إشادة وتنويه، على المستويين الإقليمي والدّولي.

فكل ذلك يبرهن على وجاهة المبادرة وراهنية الموضوع، كما يعكس الآمال الجسام التي تنيطها مجتمعانا الإفريقية بقادتها الدينيين، ليضطلعوا بدورهم كاملا غير منقوص إلى جانب سائر فعاليات المجتمع والدولة في وقف نزيف الدماء المعصومة والحرمات المصونة.

 وكل ذلك يستوجب منا البدار وعدم التّواني في تفعيل مبادئ إعلان نواكشوط وتجسيد مقرّراته، لكي لا تظل حبرا على ورق، وكلمات لا روح فيها.     

ولئن كانت القارة كلها مفتقرة إلى هذا التفعيل، فإن لمنطقتنا منطقة الساحل خصوصيةً، فهي للأسف قد غدت وجهة التطرف العنيف الجديدة، فإن المتأمل في تمدّده الجغرافي، يرى أن موجة الإرهاب والعنف تتجه في كل فترة إلى منطقة من مناطق العالم، تأرز إليها فتطحنها بكلكله وتلقي عليها بجرانها، وإن منطقتنا مرشحة لتكون هي الوجهة المقبلة لنار الإرهاب المحتدمة إذا نحن لم نحسن التصدي لها، بإطفاء ما اشتعل من نائرات الفتنة بروح الإطفائي الذي لا يعنيه من أشعل النار بل همه كيف يطفئها.

كما يأتي هذا الاجتماع في سياق رئاسة موريتانيا الدورية لمجموعة دول الساحل الخمس، ممّا يشحذ الهمّة ويجدّد الأمل في أن يجد إعلان نواكشوط طريقه إلى التطبيق، لما عهد في قيادة الجمهورية الإسلامية الموريتانية برئاسة فخامة السيد محمد ولد الشيخ الغزواني من العزيمة الصادقة والبصيرة النافذة والرؤية المتزنة.     

 

أيها السادة والسيدات، أيها الحضور الكريم،   

إننا ننطلق من القناعة الراسخة بأولوية السّلم شرعا وعقلا وأوّليّته تاريخا وثقافة، فلقد عاشت إفريقيا الإسلامَ، منذ أشرقت به ربوعُها، رحمةً ونعمة، عاشته محبة وسلاما وأخوة ووئاما. وذلك ما أكّده وبيّنه إعلان نواكشوط.

لقد حدّد إعلان نواكشوط بمنطلقاته الجلية ومبادئه الكلية إطارا توافقيا مستمدا من رحم الشريعة الإسلامية، كما رشّح جملة من الوسائل المستوحاة من التجربة الإنسانية، فجاء بتوفيق الله ومنّه إعلانا تاريخيا قويا، وضع في اعتقادنا الأسس المتينة لمقاربة تشاركية جديدة.

فما هي الجوانب الأكثر إلحاحا في سياق منطقتنا هذه لنتدارسها والوسائل الأكثر نجاعة لنمارسها، ذلك هو السؤال الذي نقترحه على قرائحكم ونعرضه على أنظاركم، لنستفيد من تصوراتكم ونسترشد بمقترحاتكم. 

في اعتقادي أن أهم نقطة ينبغي أن نبرزها في هذا الملتقى هي الدعوة إلى إعادة الفاعلية لمبدإ الحوار والمصالحة، انطلاقا من قناعتنا الراسخة التي غدت كثير من الجهات الدولية تشاركنا فيها، بأن الحلول العسكرية والأمنية وحدها غير كافية، وأنه آن الأوان لنستعيد التراث الإفريقي الأصيل في التسامح وفي حل المشكلات بالحوار والوساطات والمصالحات.

إن جلسات الحكمة تحت ظلّ شجر الدّوم الباوْباب الإفريقية، لتدبير الاختلاف جسّدت بحقّ نموذجا حضاريا ناجحا لتحكيم العقل ومنطق المصلحة والإخوة على منطق المغالبة والقوة. وهي تفعيل ثقافي ملموس لمبدإ الصلح الإسلامي الذي وضع له الإسلام فقها كاملا ومتكاملا لحلّ النزاعات بالوسائل السلمية العاقلة.

  إن التنازلات من صميم الشرع ومنطق العقل، هكذا علمنا النبي صلى الله عليه وسلم من خلال صلح الحديبية، ولا يعتبر هذا النوع من التنزيل للقيم تنازلا عن حقيقة أو تخلّ عن حق، بل هو بحث عن أنجع السبل لإحقاق الحق ورد الظلم، وحتى لا ينقلب المظلوم ظالما.

والحوار يقدم كما يقول أفلاطون البدائل عن العنف؛ لأنه بالحوار يُبحث عن المشترك وعن الحل الوسط الذي يضمن مصالح الطرفين، وعن تأجيل الحسم العنيف، وعن الملائمات والمواءمات، التي هي من طبيعة الوجود، ولهذا أقرها الإسلام، وأتاح الحلول التوفيقية التي تراعي السياقات، وفق موازين لمصالح والمفاسد المعتبرة.

إن اعتماد وسيلة الحوار لحل المشكلات القائمة يوصل إلى إدراك أن الكثير منها وهمي لا تنبني عليه مصالح حقيقية، وبهذه الحلول التوفيقية التي يثمرها الحوار، تفقد كثير من القطائع والمفاصلات والأسئلة الحدّية مغزاها.

في شريعتنا الإسلامية الحكيمة فتح الله بابا عظيما للإنسان هو باب التوبة الذي لا يسد حتى تطلع الشمس من مغربها، والذي يكاد يشمل أثره كل شيء، حتى أشد الجنايات خطرا كالحرابة، بل ذهب بعض أهل العلم إلى أن التوبة تسقط الحدّ الشرعي في كل الجنايات.

إن مفهوم التوبة أصبح مفهوما ضامرا في مقارباتنا الجديدة، التي صارت تنحو أحيانا منحى استئصاليا غيرَ واقعي، لأنها تحد من فاعلية مبدإ الحوار بدعوى الجناية التي لا تغتفر، وتسدّ باب التوبة والمراجعة، وتستنكف عن التنازلات والموائمات، وهو ما يفتح بابا عظيما من حروب الثارات والذحول والترات.

إن التعميم الذي لا يُقيمُ وزنا لتحقيق المناط في الأشخاص والأحوال، لا يمكن أن يفضي إلا إلى الأخطاء الفادحة والفتن التي لا منتهى لها، فلكل حالة دواؤها وعلاجها بحسب أسبابها وأوضاعها.

إن إحياء دور المصالحة الإفريقية الإسلامية الأصيلة على يد حكماء العلماء وعقلاء الزعماء قد يكون له الأثر المحمود في التخفيف من حدة الصراع وعزل العناصر السلبية منه.

 

 

أيها الحضور الكريم،

إننا نجتمع في وقت يكتسح العالم فيه وباء الكورونا الجديد، ويستنفر فيه العالم جهوده للتصدّي له، وأرى أن لقاءنا هذا مناسبة لنؤكّد التصور الإسلامي السليم لمثل هذه الأمور، فإن إيماننا بأن هذه الأوبئة مقادير من عند الله، لا ينافي السعي إلى معالجتها والبحث عن التدابير الدنيوية من نتائج العقول وتجارب البشرية، فمكافحة الأوبئة هي من جنس مكافحة كل ما يؤذي الإنسان كالسباع الضّارية والهوامّ السامة التي يشترك فيها المؤمنون وغير المؤمنين.

فالكفاح من قدر الله، كما قال الخليفة الراشد “نفر من قدر الله إلى قدر الله” فهذا هو المنطق الصحيح في الإسلام فالتوكل لا ينافي العمل ، فترك العمل هو إساءة للأدب مع الله كما يقول أهل التزكية، وهو مخالف للسنّة الكونية  وللسنة التشريعية لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح “تداووا يا عباد الله”.

هذا ما يجب أن يفهمه الجميع وأن يتصرفوا طبقا له، فأفضل المتوكلين على الله صلى الله عليه وسلّم كان يتعالج ويعالج، فكل جهد للوقاية والعلاج مطلوب ومرغوب، فهي تدابير أظهرت نجاعتها التجربة العلمية وتزكيها النصوص الشرعية، وهي مقتضى مقاصد الشريعة وقواعدها.

وبناء على هذا التصور فنحن نشيد بالتدابير الاحترازية والوقائية التي اتخذتها حكومات البلدان وخاصة حكومة المملكة العربية السعودية انطلاقا من مسؤوليتها السيادية والشرعية في رعاية المواطنين والمقيمين والمعتمرين والزوار.

وندعوا جميع المسلمين للابتهال والتضرع إلى الله تعالى بالدعاء ليرفع البلاء وننصح بكثرة الاستغفار فإن الاستغفار يرفع البلاء ويزيد القوة ومنها المناعة، كما في قوله تعالى حكاية عن هود على نبينا وعليه الصلاة والسلام: (ويا قومي استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم) (سورة هود ، آية 52)، وننصح بالحسبلة ، فإن الله عز وجل قال” وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء”.

 

وفي الختام، وبشكل عملي أقترح استحداث هيئات للحوار ومجالس للواسطة والمصالحة، من الحكماء والوجهاء والعلماء، في كل دولة من دول الساحل، تعنى بالوساطات والمصالحات لفض النزاعات ذات الأشكال والأنماط المختلفة، سواء كان مردها إلى ضغائن وإحن تاريخية أو عصبيات عرقية وقبلية أو مردها إلى التنافس الطبيعي بين التجمعات السكنية أو إلى الفكر المتطرف.

كما تعنى هذه الهيئات بالتواصل مع نظيراتها في الدول الأخرى بحيث يتوصل إلى برنامج موحّد في خطوطه العريضة سواء في ما يتعلق بالبرهنة الفكرية على أولوية السلم وضرورة المصالحة أو في ما يتعلق بالأعمال الميدانية.

 ومن وظائف هذه الهيئة المقترحة التكوين والتدريب على ثقافة الحوار وآلياته ومبادئه وإشكالاته، بحيث يتسنى للمرشدين والمربين وجميع الفاعلين القدرة على ممارسة الحوار في تفاصيل حياتهم اليومية وعلى كل المستويات في علاقتهم بمجتمعاتهم من خلال إبداع وسائل مبتكرة للتواصل والتفاعل.

كما نقترح تكوين وتسيير قوافل للسلم، مكونة من بعض الأئمة والوجهاء من مختلف العرقيات والقبائل في المناطق التي تعاني من الحروب الأهلية والصراعات الدموية.

لقد كنا جرّبنا قوافل السّلام في بيئات أخرى، وأثبتت نجاعتها وقدرتها على العمل الميداني المؤثّر في نشر قيم التسامح والأخوة، ممّا يجعلنا نقترح تطبيقها بشيء يسير من التطوير في منطقة الساحل، حيث قد يسهم تسييرها في التخفيف من غلواء الاختلاف ومكافحة الصور النمطية السّلبية وتعزيز أواصر المحبة والأخوة داخل المجتمعات.

 

   وختاما أتمنى لأعمال ملتقانا هذا النّجاح والتوفيق ولضيوفنا مقاما سعيدا وأوبا حميدا.

والسلام عليكم ورحمة الله.

منتدى تعزيز السلم يطلق الملتقي التشاوري الأول بين علماء دول الخمس في الساحل الإفريقي

يرعاية من فخامة رئيس الجمهورية الاسلامية الموريتانية محمد ولد الشيخ الغزواني انطلقت صباح اليوم الثلاثاء بقصر المؤتمرات في #نواكشوط أعمال الملتقى التشاوري الأول بين علماء دول الخمس في الساحل تحت شعار ” دعوة للحوارات والمصالحات الوطنية “، المنظم بالتعاون بين الحكومة الموريتانية و منتدي تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة.

دعا الشيخ عبدالله بن بيه، رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، علماء منطقة الساحل، لاعتماد منهج الحوار والتسامح كآلية للتصدي لتيارات التطرف العنيف، التي بدأت تتمدد نحو المنطقة. 

وأوضح بن بيه، في كلمة له أمام مؤتمر علماء منطقة الساحل الأفريقي في موريتانيا، أن الحلول العسكرية والأمنية وحدها غير كافية، داعياً لاستعادة تراث القارة الأصيل في التسامح، وحل المشكلات بالمصالحات. 

وانطلقت، الثلاثاء، بموريتانيا، أعمال اللقاء التشاوري الأول لعلماء منطقة الساحل، المنظم بالتعاون بين منتدى تعزيز السلم بالمجتمعات المسلمة في أبوظبي، والحكومة الموريتانية.

ويأتي المؤتمر في إطار تنفيذ توصيات مؤتمر العلماء الأفارقة المعروف بـ”إعلان نواكشوط”، الذي أقيم نهاية يناير/كانون الثاني الماضي بموريتانيا، تحت عنوان “تعزيز منهج السلم والتسامح والاعتدال في وجه تيار التطرف والاقتتال”.

واعتبر “بن بيه” أن مؤتمر تشاور علماء منطقة الساحل، يبرهن على وجاهة مبادرة العلماء الأفارقة بموريتانيا، وأهمية التوصيات التي خرج بها المؤتمر الأخير، وكذلك محورية القادة الدينيين في المجتمعات الأفارقة.

وأوضح أن أهمية المؤتمر كذلك ترتبط بخصوصية منطقة الساحل، التي أصبحت في الآونة الأخيرة وجهة لبعض التيارات المتطرفة العنيفة، مضيفاً أن المنطقة باتت مرشحة وجهة لنار الإرهاب المشتعلة، ما يحتم على العلماء الأفارقة حسن التصرف لمواجهة هذ المشكلة.

وخلص “بن بيه” إلى التأكيد بوجود قناعة راسخة لدى منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة بدولة الإمارات العربية المتحدة، وأنه لا مستقبل للإنسانية إلا في الوئام والتعايش، مبيناً أن ذلك هو الخيار الوحيد للسلام والأمن في المنطقة والعالم أجمع، وفق ما يبرهن العقل والتجربة الإنسانية.  

بدوره، أكد الوزير الدكتور سيدي ولد سالم، الناطق الرسمي باسم الحكومة الموريتانية، أهمية انعقاد المؤتمر في ظل الرئاسة الدورية لموريتانيا لتجمع بلدان منطقة الساحل الأفريقي الخمسة.

وأشار ولد سالم إلى أن موريتانيا تسعى لرسم سياسات واضحة ومحكمة، لمواجهة التحديات التي تواجهها مجموعة دول الخمس في الساحل، خصوصا التطرف والإرهاب، بما لهما من تأثير مباشر على التنمية والأمن بالقارة الأفريقية بشكل عام.

وبيّن ولد سالم أن هذا الملتقى يعدّ انطلاقة فعلية لتنفيذ توصيات واقتراحات مؤتمر علماء أفريقيا، الذي احتضنته نواكشوط من 21 وحتى 23 يناير/كانون الثاني الماضي، والذي كرس لموضوع التسامح والاعتدال ضد التطرف والاقتتال.

وأكد أهمية إعلان نواكشوط الأخير، لما لاقاه من استحسان دولي إقليمي، يعكس آمال الشعوب الافريقية، وما تنتظره من قادتها الدينيين في تعزيز السلم والوئام، وصناعة مستقبل جديد للقارة، يسوده الأمن والرخاء.

وكان الإعلان الختامي لمؤتمر علماء أفريقيا في موريتانيا، الذي احتضنته موريتانيا نهاية يناير/كانون الثاني الماضي، قد أشاد بجهود الإمارات، وإسهامها في نشر قيم السلم والتسامح في أنحاء العالم، خصوصاً في القارة السمراء.

وجمع المؤتمر الذي نظَّمه منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، 500 من العلماء والشخصيات المرجعية في أفريقيا، حول موضوع “التسامح ونبذ التطرف”.

وأوصى الإعلان الختامي للمؤتمر، الذي حصلت “العين الإخبارية” على نسخة منه، بتفعيل ميثاق “حلف الفضول الجديد”، لما يحتويه من قيم وفضائل، ويفتحه من آفاق واعدة للتعايش، وكذا توحيد الأمم على أساس “التعارف” و”التعاون” و”الأخوة الإنسانية”.

واعتبر الإعلان الختامي للمؤتمر، الذي صدر، الخميس، أن “واجب الوقت” أصبح يفرض على العلماء والقادة الدينيين التدخل العاجل، من أجل التصدي للعنف والتطرف، والمساعدة في فهم هذه الظاهرة، وتحليل أسبابها، ومعرفة تشكلاتها وملابساتها، واستشراف مآلاتها المستقبلية.

وتوقّف عند ضرورة تفكيك الخطاب الأيديولوجي، الذي تستمد منه ظاهرة التطرف “شرعيتها”، والتوظيف الخاطئ للمناهج في الاستدلال، وتبني مفاهيم مغلوطة في مجالي الدين والسياسة.

مقترحات وحلول

واعتمد الإعلان الختامي مقترحات عدة، من شأنها تحقيق الأهداف التي أقيم حولها المؤتمر على مدى 3 أيام في موريتانيا، وتضمنت عدداً من العروض والمحاضرات.

ومن أبرز هذه المقترحات والأدوات؛ إنشاء مجلس للوساطات والمساعي الحميدة في مختلف الدول الأفريقية، يضم النخبة الدينية والفكرية، وأعيان المجتمع.

ودعا المؤتمر المنظمات الإقليمية إلى ضرورة العناية الخاصة بالجانب الفكري والديني في استراتيجياتها المعتمدة، خصوصاً الاتحاد الأفريقي، وتجمع دول الساحل الخمس.

كما دعا العلماء الأفارقة المنظمات الحكومية وغير الحكومية إلى الشراكة والتّنسيق مع العلماء والقيادات الدينية، للوقوف أمام مخاطر التطرف وتحدياته، وكذا إنشاء قوافل أفريقية للسلام، وتقريب وتجسير العلاقات بين أتباع الأديان في أفريقيا.

 

مجلس الإمارات للإفتاء: يَحْرُمُ تواجد مريض كورونا بالأماكن العامة.

أصدر مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، منذ قليل، فتوى تحمل رقم ( 11 ) لسنة 2020، بخصوص ما يتعلق بأحكام أداء العبادات الجماعية مع انتشار فيروس “كوفيد – 19” المعروف باسم (كورونا)، أكد فيها أنه نظراً لما تقتضيه المصلحة العامة في التعامل مع انتشار الفيروس، وضرورة تعاون جميع الجهات في الدولة للتصدي لهذا المرض والحد من فشوه، واعتباراً لوجوب طاعة ولي أمر المسلمين في كل ما يأمر به من تعليمات، أصدر مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي بالتمرير الفتوى الآتية: أولاً، يجب شرعًا على جميع فئات وشرائح المجتمع الالتزام التام بكل التعليمات الصحية والتنظيمية الصادرة عن الجهات المختصة في الدولة، بالإضافة إلى اتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع انتقال المرض وانتشاره، ولا يجوز شرعًا مخالفتها بأي حال من الأحوال.

ثانيا : يحرم شرعًا على كل من أصيب بهذا المرض أو يشتبه بإصابته به التواجد في الأماكن العامة، أو الذهاب إلى المسجد لحضور صلاة الجماعة أو الجمعة أو العيدين، ويجب عليه الأخذ بجميع  هذه التعليمات، ومنها “غسل اليدين بالماء والصابون باستمرار”، فالنظافة من آداب الإسلام، حيث جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثا، وكذلك الاكتفاء بإلقاء السلام، وتجنب المصافحة باليد والعناق، والعناية بآداب العطاس من خلال تغطية الأنف والفم بالكوع أو بالمنديل).

وتحدثت الفتوى عن الاحتياطات اللازمة لمواجهة الفيروس، ومنها وجوب دخول المشتبه فيه الحجر الصحي، والتزامه بالعلاج الذي تقرره الجهات الصحية في الدولة، وذلك حتى لا يسهم في نقل المرض إلى غيره.

وأكد المجلس أنه يُرخص في عدم حضور صلاة الجماعة والجمعة والعيدين والتراويح لكبار المواطنين (كبار السن)، وصغار السن، ومن يعاني من أعراض الأمراض التنفسية، وكل من يعاني من مرض ضعف المناعة، على أن يؤدون الصلاة في بيوتهم، أو مكان تواجدهم، ويصلون صلاة الظهر بدلاً عن صلاة الجمعة.

وفيما يخص الحج والعمرة والزيارة النبوية، ذكرت الفتوى أنه يجب على الجميع الالتزام بالتعليمات التي تصدرها حكومة المملكة العربية السعودية، انطلاقاً من مسؤوليتها السيادية والشرعية في رعاية الحجاج والمعتمرين والزوار، وإعانة لها في الحفاظ على صحة الجميع وسلامتهم.

وشددت الفتوى على أنه يجب شرعًا على جميع الجهات التعاون مع الجهات المختصة وتقديم الدعم اللازم لها – كل بما يخصه – للحد من انتشار المرض والقضاء عليه، ومنع نشر الشائعات المتعلقة به من خلال الاقتصار على استقاء المعلومات الرسمية من الجهات المختصة، وتفويت الفرصة على المتربصين بأمن واستقرار الدولة عبر الشائعات التي يروجون لها.

ودعا المجلس جميع الجهات والأفراد لمد يدِ العون والمساعدة كل باختصاصه، وعدم استغلال مثل هذه الحالات من خلال رفع الأسعار خاصة الدوائية والعلاجية.

ودلل المجلس على فتواه بأدلة من: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس، ذاكراً منها، قول الله تعالى: (وَلا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رجيما) سورة النساء، الآية 29، وقول الله تعالى: ( وَلا تُلقوا بِأَيْدِيكم إلى التهلكة ) سورة البقرة، الآية 195، و قول الله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) سورة النساء، الآية 83.

كما استدل المجلس في فتواه من السنة النبوية على الحديث الشريف، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «فرّ من المجذوم كما تفر من الأسد » رواه البخاري . والجذام مرض معد، وفي الحديث الشريف الأمر بالفرار منه كي لا تقع العدوى، وفي ذلك دلالة على إثبات التأثير للعدوى بإذن الله تعالى والحث على البعد عن أسبابها.

 

وتابع المجلس: “عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها» أخرجه البخاري. ومن أسباب نهي المصاب عن الخروج من بلد المرض لئلا ينقل المرض إلى غيره، بل يعزل عن الأصحاء في ذلك البلد، وقد ذكر ابن الأثير في الكامل في التاريخ 2 / 377 ما حاصله: “أنّ عمرو بن العاص رضي الله عنه، خرج بالناس عندما أصابهم طاعون عمواس إلى الجبال ، حتى رفعه الله عنهم ، وأن فعله هذا بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم ينكره “. – عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي، قال: « لا تُوردوا الْممرِض عَلَى الْمصِح » رواه البخاري. – عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: « لا ضرر ولا ضرار » رواه الإمام مالك في الموطأ.

وبحسب الفتوى الرسمية، فإن أحاديث وجوب الطاعة الكثيرة في صحيح مسلم وغيره ، الدالة على وجوب امتثال أوامره وتعليماته ، وتصرّفات الإمام منوطة بالمصلحة، إلا أنّ تقدير هذه المصالح موكول إلى الإمام وإلى الجهات الولائية، فكما يقول السرخسي في السير الكبير “إن أمرهم بشيء لا يدرون أينتفعون به أم لا، فعليهم أن يُطيعوه، لأنّ فرّضيّة الطاعة ثابتة بنصّ مقطوع به، وما تردّد لهم من الرّأي في أنّ ما أمر به مُنتفع أو غير مُنتفع به لا يصلح مُعارضاً للنّصّ المقطوع “، مشددة على أن أمر الحاكم يُصير الجائزات واجبة.

وذكرت الفتوى أنه استناداً إلى الإجماع، فقد أجمع العلماء على أنّ : ( الضرر يزال ) وجعلوا ذلك قاعدة كلية ؛ ومما يدخل ضمنها البعد عن مواطن الإصابة بالأوبئة المعدية حفاظا على النفس من الهلاك وسلامة البدن من الضرر.

وقالت: “وعن القياس، فقد ثبت أن الشرع الحنيف أمر مُن به رائحة مؤذية باعتزال المسجد وخروجه منه بل إخراجه دفعًا للأذى عن الناس، ففي صحيح مسلم : أنْ عُمَرَ بْنَ الْحُطاب رضي الله عنه حَطَبَ يَوْمَ الْجُمُعَةٍ فكان مما قال : ثمّ إنَّكُمْ أيُهَا النَّاسُ تَأْكُلُونَ شَجَرَتَيْنِ لا أَرَاهُمَا خبيثتين: هَذَا الْبَصَلَ وَالثَّوم، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا وَجَدَ رِيحَهُمَا مِنَ الرَّجُلِ فِي الْمَجدِ أَمَرَ بِهِ فَأَخرج إلى البقيع، فَمَنْ أكَلَهُمَاً فَلْيُمِنتهُمَا طَبَخًا).

وأوضحت أنه إذا كان هذا الإخراج لمجرد الأذية بالرائحة الكريهة، فكيف بأذية العدوى التي قد تودي بحياة الناس، وفي ذلك قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في “التمهيد” ( 6 / 422 ): “وإذا كانت العلة في إخراجه من المسجد أنه يُتأذى به، ففي القياس: أن كل ما يتأذى به جيرانه في المسجد بأن يكون ذا ريحة قبيحة لسوء صناعته، أو عاهة مؤذية كالجذام وشبهه وكل ما يتأذى به الناس إذا وجد في أحد جيران المسجد وأرادوا إخراجه عن المسجد وإبعاده عنه كان ذلك لهم، ما كانت العلة موجودة فيه حتى تزول، فإذا زالت كان له مراجعة المسجد”.

ودعا المجلس جميع المسلمين إلى الالتجاء إلى الله بالدعاء وكثرة الاستغفار، فإن الاستغفار يرفع البلاء ويزيد من القوة ، كما في قوله تعالى حكاية عن هود على نبينا وعليه الصلاة والسلام : ( ويا قومي استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ) سورة هود، أية 52.

فتوى في نازلة ( فيروس كوفيد – 19 (كورونا) ومايتعلق به من أحكام.

أصدر مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي اليوم الثلاثاء فتوى رقم ( 11 ) لسنة 2020 م بخصوص ما يتعلق بأحكام أداء العبادات الجماعية مع انتشار ( فيروس كوفيد – 19 (كورونا) .

فيما يلي النص الكامل للفتوى :


الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وبعد:

فانطلاقًا من قول الله تبارك وتعالى : ” ُ هوَ اجتَبَاكمْ وَمَا َجعَلَ علَيْكُمْ فِي الدِّينِ ِ منْ َ حرَجٍ” سورة الحج، الآية: 78 . وقوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أطيعُوا اللَّهَ وَأَطيعُوا الرسولَ وَأُولِي الأَمْرِ منْكُمْ”. سورة : النساء، الآية 59 .
ومن حديث النبي صلى الله عليه وسلم : “… وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتُم … ” متفق عليه.

ومن القاعدة الشرعية: “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”، والقاعدة الأخرى: “يُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام”، ونظراً لما تقتضيه المصلحة العامة في التعامل مع انتشار فيروس كوفيد 19 (كورونا) وضرورة تعاون جميع الجهات في الدولة للتصدي لهذا المرض والحد من فشوه.

 –واعتبارا لوجوب طاعة ولي أمر المسلمين في كل ما يأمر به من تعليمات، أصدر مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي بالتمرير الفتوى الآتية:

أولاً: يجب شرعا على جميع فئات وشرائح المجتمع الالتزام التام بكل التعليمات الصحية والتنظيمية الصادرة عن الجهات المختصة في الدولة ، بالإضافة إلى اتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع انتقال المرض وانتشاره، ولا يجوز شرعًا مخالفتها بأي حالٍ من الأحوال.

ثانيًا: يحرم شرعا على كل من أصيب بهذا المرض أو يشتبه بإصابته به؛ الوجود في الأماكن العامة، أو الذهاب إلى المسجد لحضور صلاة الجماعة أو الجمعة أو العيدين، ويجب عليه الأخذ بجميع الاحتياطات اللازمة: بدخوله في الحجر الصحي، والتزامه بالعلاج الذي تقرره الجهات الصحية في الدولة؛ وذلك حتى لا يسهم في نقل المرض إلى غيره.

ثالثًا: يُرخص في عدم حضور صلاة الجماعة والجمعة والعيدين والتراويح لكبار المواطنين (كبار السن)، وصغار السن، ومن يعاني من أعراض الأمراض التنفسية، وكل من يعاني مرض ضعف المناعة، ويؤدون الصلاة في بيوتهم، أو مكان وجودهم، ويصلون صلاة الظهر بدلاً من صلاة الجمعة.

رابعًا: فيما يخصُّ الحج والعمرة والزيارة النبوية: يجب على الجميع الالتزام بالتعليمات التي تصدرها حكومة المملكة العربية السعودية؛ انطلاقًا من مسؤوليتها السيادية والشرعية في رعاية الحجاج والمعتمرين والزوار، وإعانةً لها في الحفاظ على صحة الجميع وسلامتهم.

خامسا: يجب شرعا على جميع الجهات التعاون مع الجهات المختصة وتقديم الدعم اللازم لها – كل بما يخصه – للحدِّ من انتشار المرض والقضاء عليه، ومنع نشر الشائعات المتعلقة به من خلال الاقتصار على استقاء المعلومات الرسمية من الجهات المختصة، وتفويت الفرصة على المتربصين بأمن واستقرار الدولة عبر الشائعات التي يروجون لها.

سادسا: دعوة صادقة إلى جميع الجهات والأفراد لمدِّ يدِ العون والمساعدة كلٌّ في اختصاصه، وعدم استغلال مثل هذه الحالات من خلال رفع الأسعار خاصة الدوائية والعلاجية.

سابعا: المستند الشرعي للفتوى: دلَّت على الفتوى السابقة أدلة من: القرآن الكريم، والسنة النبوية، والإجماع، والقياس. نذكر منها:

أولاً: القرآن الكريم:
– قول الله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَّ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) سورة النساء، الآية 29 .

– قول الله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) سورة البقرة، الآية 195

– قول الله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي  الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) سورة النساء، الآية  83

ثانيًا: السنة النبوية:

– عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال  “فرّ من المجذوم كما تفر من الأسد  ” :رواه البخاري.
 والجذام مرض معد، وفي الحديث الشريف الأمر بالفرار منه كي لا تقع العدوى وفي ذلك دلالة على إثبات التأثير للعدوى بإذن الله تعالى والحث  على البعد عن أسبابها.

عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال  «إذا سمعتم بالطاعون  بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها. أخرجه البخاري.
 ومن أسباب نهي المصاب عن الخروج من بلد المرض أن لا ينقل المرض إلى غيره بل يعزل عن الأصحاء في ذلك البلد؛ وقد ذكر ابن الأثير في الكامل في التاريخ 2 /377 ما حاصله : “أنَّ عمرو بن العاص رضي الله عنه، خرج بالناس عندما أصابهم طاعون عمواس إلى الجبال، حتى رفعه الله عنهم، وأن فعله هذا بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم ينكره”.

– عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « لاَ تُورِدُوا المُمْرِضَ عَلَى المُصِحِّ » رواه البخاري. عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : « لا ضرر ولا ضرار » . رواه الإمام مالك في الموطأ.

– أحاديث وجوب الطاعة الكثيرة في صحيح مسلم وغيره، الدالة على وجوب امتثال أوامره وتعليماته، وتصرّفات الإمام منوطة بالمصلحة إلا أنّ تقدير هذه المصالح موكول إلى الإمام وإلى الجهات الولائية، فكما يقول السرخسي في السير الكبير ” إنْ أمرهم بشيءٍ لا يدرون أينتفعون به أَمْ لا، فعليهم أن يُطيعوه، لأنَّ فرْضيَّةَ الطَّاعة ثابتةٌ بنصٍّ مقطوعٍ به. وما تردَّد لهم من الرَّأي في أنَّ ما أُمر به ُ منتفعٌ أو غير مُنتفعٍ به لا يصلح مُعارضا للنَّصِّ المقطوع”. وأمر الحاكم يُصير الجائزات واجبة، كما يقول ابن عابدين في “باب الاستسقاء” من حاشيته.

ثالثًا: الإجماع:
أجمع العلماء على أنَّ: (الضرر يزال) وجعلوا ذلك قاعدة كلية؛ ومما يدخل ضمنها البعد عن مواطن الإصابة بالأوبئة المعدية حفاظًا على النفس من الهلاك وسلامة البدن من الضرر.

رابعًا: القياس:

ثبت أنَّ الشرع الحنيف أمر مَن به رائحة مؤذية باعتزال المسجد وخروجه منه بل إخراجه دفعًا للأذى عن الناس؛ ففي صحيح مسلم: أَنَّ ُ عمَرَ بْنَ الْخطَّابِ رضي الله عنه َ خطَبَ يَوْمَ الْجمُعَةِ فكان مما قال : (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ تَأْكلُونَ شَجرَتَيْنِ لَا أَرَاهمَا إِلَّا َ خبِيثَتَيْنِ : َ هذَا الْبَصَلَ وَالثُّومَ، لَقَدْ رَأَيْتُ رسولَ الله َ صلَّى اللهُ علَيْهِ وَسلَّمَ إِذَا وَ َ جدَ رِيحَهُمَا ِ منْ الرَّجلِ ِ في الْمَسْجِدِ أَمرَ ِ بهِ فَأُخرِجَ إِلَى الْبَقِيعِ، فَمَنْ أَكلَهُمَا فَلْيُمِتْهُمَا طَبْخًا).

فإذا كان هذا الإخراج لمجرد الأذية بالرائحة الكريهة؛ فكيف بأذية العدوى التي قد تودي بحياة الناس؛ وفي ذلك قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في “التمهيد”422/6”  : “وإذا كانت العلة في إخراجه  من المسجد أنه يُتأذى به ، ففي القياس : أن كل ما يتأذى به جيرانه في المسجد بأن يكون … ذا ريحة قبيحة لسوء صناعته ، أو عاهة مؤذية كالجذام وشبهه وكل ما يتأذى به الناس إذا وجد في أحد جيران المسجد وأرادوا إخراجه عن المسجد وإبعاده عنه كان ذلك لهم ، ما كانت العلة موجودة فيه حتى تزول ، فإذا زالت … كان له مراجعة المسجد”.

وفي الختام يدعو المجلس جميع المسلمين إلى الالتجاء إلى الله بالدعاء وكثرة الاستغفار، فإن الاستغفار يرفع البلاء ويزيد من القوة ، كما في قوله تعالى حكاية عن هود على نبينا وعليه الصلاة والسلام: (ويا قومي استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم) (سورة هود ، آية 52 )، فنسأل الله تعالى أن يديم لطفه وحفظه وعافيته على دولة الإمارات، بمن فيها وما فيها، قيادةً وشعبًا، وأن يرفع هذا المرض عن المسلمين والعالم أجمعين”، والله تعالى أعلم.

مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي
رئيس المجلس معالي العلامة الشيخ/ عبدالله بن بيه

المستشار الدكتور/ إبراهيم عبيد آل علي-عضواً
فضيلة الشيخ/ عمر الدرعي-عضواً فضيلة الدكتور/ أحمد الحداد-عضواً
فضيلة/ د. سالم محمد الدوبي-عضواً فضيلة/ شمَّة يوسف الظاهري-عضواً
فضيلة/ أحمد محمد الشحي -عضواً فضيلة الدكتورة/ أماني لوبيس-عضواً
فضيلة/ عبدالله محمد الأنصاري-عضواً فضيلة/ حمزة يوسف هانسن-عضواً

العلامة عبدالله بن بيه : قرار تعليق العمرة و الزيارة دفعا لمخاطر الوباء من “مقاصد الشريعة”.

كلمة العلامة عبدالله بن بيه في افتتاح مؤتمر:دور الاسلام في افريقيا

بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.

 

فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني  المكرم                       حفظه الله

أصحاب المعالي والفضيلة،

كل باسمه وجميل وسمه،

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

 

في مستهلّ مؤتمرنا هذا الذي يشرف برعاية فخامتكم، أتوجّه بالشكر لحكومة الجمهورية الإسلامية الموريتانية على استضافتها لهذا المؤتمر. وإننا في منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة بأبوظبي لنعتز بعقده بالشراكة مع وزارة الشؤون الإسلامية، فللقائمين على ذلك جميل الثناء وصادق الدعاء.

كما يسرني أن أرحب باسم المنتدى بضيوفنا من علماء ومشائخ إفريقيا الكرام الذين نعول عليهم لإثراء هذا المؤتمر بعلمهم وحكمتهم.

إنّ موريتانيا بهويتها الإسلامية العربية الإفريقية جديرة باستضافة هذا المحفل لما لها من عراقة في الدعوة وأصالة في نشر الإسلام الوسطي المعتدل، فلم تزل منذ عصر المرابطين، مثابة لطلاب العلم ومأوى لمريدي الخير، ومصدرا لبعوث الدّعوة، بذلك نطقت محاضرها العلمية وبه شهدت حواضرها الروحية. 

السادة والسيدات، في وجه التحديات المشتركة تتحتّم المقاربات المشتركة؛ والمتأمل في حال القارة الإفريقية يجد أمراضها وأعراضها مشتركة، ولعل أبلغ ما عبر عن ذلك هو ما أشرتم إليه فخامة الرئيس في خطابكم الشامل أمام “منتدى داكار الدولي للسلم والأمن في إفريقيا” المنعقد بتاريخ ١٩ نوفمبر من السنة الماضية. لقد ألقى خطابكم الضوء على أبعاد التحديات المختلفة، مبرزاً أسبابها وخلفياتها بشرياً وجغرافياً واقتصادياً واجتماعياً، مقدماً خطة عمل واضحة المعالم ونحن هنا اليوم نحاول أن نتكلم عن واحد من هذه الجوانب التي أشرتم إليها ألا وهو الجانب الفكري الديني. لقد رأينا فخامة الرئيس أن من مسؤوليتنا أن نسهم بما نستطيع في الجانب الديني لنكون عند حسن ظنكم وتوقعكم حين أشرتم إلى الاستراتيجية التي تنتهجونها حيث ذكرتم على الخصوص أنه تم “القيام بحملة لمحاربة التطرف بإشراف من علماء أجلاء معروفين مما مكن من توضيح معانى وأبعاد التسامح في الدين الاسلامي والتى تتنافى تماما مع الخطابات الظلامية.”. انتهى الاستشهاد.

في هذا السياق، يأتي مؤتمرنا بمشاركة ثلة من خيرة علماء القارة وأرباب الدعوة والفكر، المضطلعين بأمانة التبليغ والمنتهضين بواجب التّرشيد، لإبراز جهودهم وتنسيقها وتوحيد كلمتهم، للدّفاع عن الأوطان ولصيانة الأديان.

إنّ واجب العلماء في كلّ عصر هو المحافظة على أمانة نصوص الكتاب والسنة وما بنى عليهما العلماء من الإجماع والقياس. فعلى عاتق العلماء والنخبة الدينية تقع مسؤولية الوقوف في وجه خطاب التطرف والعنف، الذي يهدد الأوطان بترويجه للمفاهيم الخاطئة وقيم الصراع والمغالبة وإذكاء الانتماءات الضيقة، فالعلماء هم السد المنيع ضد هذا الخطر بالتوعية بقواطع الشريعة والتربية على قيمها المركزية، قيم السلام والمحبة والخير. إننا بحاجة ماسة إلى شراكة بين حكومات وعلماء بلداننا، وتواصل وتفاهم بين علمائنا وشبابنا للوقوف في وجه هذه المخاطر والتحديات. 

إن الحديث عن السلم وأولويته والرد على التطرف موضوع يفرضه الواقع بإلحاحه الدائم المتجدِّد. إن واجب الوَقت اليوم هو البَحث عن السَّلام ووقف الإحتراب، الذي أرهق الأوطان وأساء إلى الأديان، تلك هي المهمة التي ينبغي أن نضطلع بها جميعا، تَأصيلا وتوصيلا، وأن تعقد من أجلها المؤتمرات وتطلق لها المبادرات، وأن تكون دعوتنا دعوةً واحدةً لإحلال السلم محل الحرب والمحبة مكان الكراهية والوئام بدل الاختصام، وأن نبحث عن مسوغات السلام والعافية بدلا من مبررات الفتن والحروب الجاهلية.

السّلام والمحبة هي رسالتنا إلى البشرية، ذلك هو وَاجبنا الديني ومسؤوليتنا الإنسانية.

فنبينا نبي الرحمة ورسول السلام، رحمة في الأولى والآخرة، وسلام في الظاهر والباطن، سلام في النفوس وفي القلوب وسلام مع الذات ومع الآخرين، وهو الذي أمر بإفشاء السلام كما في الحديث الصحيح: (لا تدخلوا الجنـّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، ألا أدلُّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم) وأمر بقراءة السلام كما في الحديث المتفق عليه: أيّ الإسلام خير؟ قال (تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)، وأمر ببذل السلام للعالم كما في الصحيح في حديث عمار المحكوم له بالرفع (ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من إقتار). والسلام هنا ليس لفظ السلام فقط كما أشار إليه الحافظ بن حجر بل السلام هو الأخلاق وأسباب المحبة.

إن الحديث عن قيم السلام والمحبة في قارتنا الإفريقية، ليس بدعا من القول ولا بدعة من العمل، حيث لم تفتأ المجتمعات الإفريقية تقدّم النموذج الحيّ على الرواية الإسلامية الأصيلة من خلال عقدها الاجتماعي القائم على مبادئ التعايش والوئام، والمؤسس على التسامح والسماحة، عقد اجتماعي يحيل الاختلاف ائتلافا والتنوع تعاونا، ويرشح الحوار حلا للخلاف، والصلح علاجا للنزاع.

إن جلسات الحكمة تحت ظلّ شجر الدّوم الباوْباب الإفريقية، لتدبير الاختلاف بين المزارعين والرعاة جسّدت بحقّ نموذجا حضاريا ناجحا لتحكيم العقل ومنطق المصلحة والأخوة على منطق المغالبة والقوة. وهي تفعيل ثقافي ملموس لمبدإ الصلح الإسلامي الذي وضع له الإسلام فقها كاملا ومتكاملا لحلّ النزاعات بالوسائل السلمية العاقلة.

وقد عرّف الفقهاء الصلح بأنه: مُعَاقَدَةٌ يرتفع بها النِّزَاعُ بين الخصوم، ويُتوصَّل بها إلى الموافقة بين المختلفين. وهو عند أكثر الأئمة مندوب، وعند المالكية يكون واجباً إذا خيفت الفتنة والشر، فيعدل القاضي عن الحكم ويدعو إلى الصلح، قال ابن عاصم الغرناطي:

                       الصُّلحُ يَسْتَدْعي لهُ إنْ أَشْكَلاَ … حُكْم، وَإنْ تَعَيَّنَ الحقُّ فَلاَ

                        مَا لمْ يَخَفْ بنافِذِ الأحكامِ …    فتنةً أو شَحنا أولي الأرحامِ    

ويقول خليل:” وَأَمَرَ بِالصُّلْحِ ذَوِي الْفَضْلِ وَالرَّحِمِ كَأَنْ خَشِيَ تفاقم الأمر” ومعنى تفاقم الأمر الفتنة بين المحكوم عليه وله ومعناها خوف وقوع القتل كما في شروح العاصمية، فيجب على القاضي أن يأمرهما بالصلح دفعاً للمفسدة ولا يحكم بما تبين له من الحق.

وفي حديث صلح الحديبية روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها”، قال الخطابي في شرح هذا الحديث (إن حرمات الله هي القتال في الحرم والجنوح إلى المسالمة والكف عن إراقة الدماء). فإنما قبل النبي صلى الله عليه وسلم الصلح مع قريش ورضي بشروطهم التي شقّت على المسلمين، طلباً للسلام.

وحكمة الصلح كما يقول الزاهد البخاري في محاسن الإسلام: “هي أَنَّ الصُّلْحَ رَافِعٌ لِفَسَادٍ وَاقِعٍ، أَوْ مُتَوَقَّعٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ الصُّلْحُ عِنْدَ النِّزَاعِ. وَالنِّزَاعُ سَبَبُ الْفَسَادِ، والصلح يهدمه ويرفعه، ولهذا كان من أجلّ المحاسن”.

وفي مثل هذا يقول الحاج عمر بن سعيد الفوتي المعروف بالحاج عمر تال، رحمه الله:

                    يا من أبى عن فعل صلح وامتنع                 والصلح خير قاله من يُتّبع

                   كم نعمة في الصلح والتوافق            وكم فضيلة لذي التسابق

                   من فضله قطع كلام الناس              عنكم وتقليد أخِ الخنّاس

إن هذه النصوص والأحكام المباركة بحاجة وضرورة إلى التفعيل اليوم في ظل تحدٍ مصيري بارز يهدد سكينة المجتمعات وأمنها وبقاءها.

إن مواجهة الفكر المتطرف، مواجهة علمية تروم تفكيك الخطاب وتقويضه، ولا تكتفي بالإدانة العامة، لا بد أن تعتمد على ركيزتين أساسيتين ومتكاملتين:

فعلى مستوى الركيزة الأولى يلزم القيام بعملية حفر معرفي في الأصول الإسلامية للكَشف عن نصوص السلم المنسيّة ومقاصده المعطّلة، من خلال استنفار النّصوص وإثارة التراث للبرهنة على الدعوى التي نقدمها، وهي أنّ الإسلام دين سلام وأن السّلم بوصفه مقصدا شرعيا هو أوثقُ ضمانا للحقوق وحفظِ الضروريات الخمس من الحرب والفتنة. وقد كان لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة بأبوظبي محاولات في هذا الاتجاه حيث اعتنى في ملتقياته العلمية ببيان أولوية السلم في سلم مقاصد الشريعة، وقد خص المنتدى هذه السنة الأخيرة التي تزامنت مع عام التسامح بدولة الإمارات العربية المتحدة بإطلاق الجزء الأول من “موسوعة السلم في الإسلام” والذي يتناول مفهوم التسامح في الإسلام تأصيلاً ودراسة، كما خصص المنتدى مؤتمره الأخير الذي انعقد في أبوظبي لإطلاق “حلف الفضول الجديد”. إن نموذج “عام التسامح” هو تجربة فريدة يمكن أن نستلهم منها في قارتنا الإفريقية لنخصص عاماً نحث فيه الجميع على تغليب التسامح والسلام ووضع السلاح.

وفي هذا السّياق تنبغي العناية بتصحيح المفاهيم المتعلّقة بالسلم، وذلك أن جزءا كبيرا مما يعيشه العالم اليوم من فتن مردُّه إلى التباس مفاهيم دينية في أذهان شريحة واسعة من المجتمعات، كدولة الخلافة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وطاعة أولي الأمر وهي مفاهيم كانت في الأصل سياجا على السلم وأدوات للحفاظ على الحياة ومظهرا من مظاهر الرحمة الربانية، فلما فهمت على غير حقيقتها وتشكلت في الأذهان بتصور يختلف عن أصل معناها وصورتها، انقلبت إلى ممارسات ضدّ مقصدها الأصلي وهدفها وغاياتها. إن المشكلات والمظالم الحقيقية والمزعومة يمكن أن تسوى بطرق غير طرق الاقتتال، وفي طريقنا لإزالة المظالم يجب ألا نتسبب في زيادة تلك المظالم. 

كما يلزم الكشف عن الأخلال المنهجية كاجتزاء النصوص والإعراض عن الكليات وتغليب الجزئيات وفك الارتباط بين خطاب التكليف وخطاب الوضع وبين منظومة الأوامر والنواهي ومنظومة المصالح والمفاسد وإغفال السياقات والغفلة عن سنن الله عز وجل. ومن هذا ما نصّ عليه الفقهاء من ضرورة مراعاة شروط وأسباب وموانع ومآلات الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوها حتى لا يؤدي فعلها إلى زعزعة السلم. وفي هذا يقول سيدي أحمد زروق رحمه الله : “والتعرُّض للأمور الجمهورية -وهذه عبارته- كالجهاد وردّ الظّلامات وتغيير المناكر بطريق القهر والاقتدار دون يَدٍ سلطانية ولا ما يقوم مقامها من الخطط الشرعية مفتاح باب الفتنة وإهلاك المساكين بغير حق”. وأورد زروق بعد هذا قصتين من عصره شاهدتين على خطورة التصدّي ولو من مُنطلق حسن ونية طيبة لهذه الأمور.

يقول شيخ مشايخنا عالي ولد آفه في نظمه الطويل المتعلق بمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

وجاهل الإجماع قوله هبا                ولو صفا وبالشروط رُتّبا                          

وغير حاكم وقاضٍ دون ريب                   فما له إلا اللسان والقليب

فأعط كل زمن حكم الزمن              ولترعَ قول الأموي المؤتمن

فالحال أن أسكَتَتِ الشرعُ سَكَتْ                 أو كلّمت بما اقتضت تكلّمت

عليك بالخويصة استعِن تُعنْ            لرؤية الذي اقتضاها في الزمنْ

 

وخلاصة الأمر وأهم الشروط هو ألا يؤدي إلى منكر أكبر كما ذكره العلماء.

إن هذه الرّكيزة التّأصيلية لا توتي ثمارها إلا إذا عُضّدت بركيزة تنزيلية، تقوم على أهمية الوعي بطبيعة العصر، حيث نلاحظ لدى الكثير منّا قصورا في إدراك الواقع، فكثير لا يزالون يرون العالم كما كان في عصور ماضية، في عصر الامبراطوريات، عصر التمايز والعيش المنفصل ويتجاهلون ما استجدّ من أسباب التمازج والعيش المتّصل. إننا بحاجة إلى بناء رؤية جديدة للعالم تقوم على حقائق الوضع القائم اليوم. فقد توصلت البشرية إلى مواثيق أممية وقوانين دولية تُؤطّر بها العلاقات، وابتكرت نظماً وأساليب لترتيب العيش المشترك والتعددية الدينية والعرقية أضف إلى ذلك وجود الأسلحة الفتاكة المبيدة للبشرية. ذلك هو الواقع اليوم، الذي صار يفرض تأويلا جديدا وتنزيلا متجدّدا، فالواقع شريك أساسي في الاستنباط وفهم النصوص وتطبيقها.

إن من أهم المواضيع التي تنبغي العناية بها موضوع تأصيل مفهوم المواطنة السعيدة انطلاقا من صحيفة المدينة المنورة المشهورة بوصفها خيارا يرشحه الزمن وترجحه القيم للتعامل مع كلي العصر وتفعيل المشترك الإنساني، من أجل تحقيق السلم الاجتماعي القائم على الاعتراف المتبادل بالحقوق والواجبات، والقبول بما يفرضه التنوع من اختلاف العقائد والمصالح وأنماط الحياة.

ينبغي أن نحقق المصالحة بين الهوية الدينية والهوية الوطنية، لنرد على من يرى أنّ قوة الانتماء إلى الهوية الدينية تؤدي إلى انهيار روح المواطنة ولنؤكد أن الانتماء الديني يمثل حافزا لتجسيد المواطنة وليس حاجزا دونها.

تلك هي المقاربة التي نعتقد نجاعتها وهي التي بها ترتقي المواطنة إلى المؤاخاة وتنتقل من الوجود المشترك إلى الوجدان المتشارك. وفى نفس الوقت فإننا ندرك أن هذه المقاربة لتحقق النجاح المرجو منها لابد ان تصحب بمشاريع تنموية تعالج الفقر والبطالة، فلابد من العمل على تشغيل العاطل وتعليم الجاهل وإنصاف المظلوم.

على أن أي عمل ترجى له النجاعة والديمومة ويتوخى رأب صدع المجتمعات لا بد أن يرتكز على مباديء من أهمها التالي:

أولاً: مبدأ البيِّنة وذلك لضرورة معرفة السياقات والملابسات التي تحيط بظاهرة العنف والتطرف. فإن حسن التشخيص يؤدي إلى معرفة الدواء الناجع. فمن المهم التفريق بين الإرهاب الذي يلبس لباس الدين وبين الحروب التي تنشأ لأسباب أخرى.

ثانياً: مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية، ومفاده أن المشروع الإفريقي يجب أن يؤكد على قاعدة عدم أخذ البريء بالمجرم، فلا تؤاخذ قبيلة ولا عرقية بجريمة أشخاص منها نظراً للقاعدة القرآنية التوراتية الإبراهمية: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾ (النجم 36-39) وهى قاعدة تعترف بها كل الشرائع والقوانين الدولية.

ثالثاً: مبدأ الوفاء بالمواثيق والعهود، وذلك بالتأكيد على وجوب احترام المواثيق الدولية وسيادة الدول.

رابعاً: مبدء نزع الشرعية الدينية عن الاقتتال الأعمى الذي تسفك فيه الدماء وتنتهك فيه حقوق الأبرياء، فحتى الصلاة بلا شروط ولا أسباب تعتبر باطلة.  

 

خامساً: مبدأ التعاون على البر والتقوى بين القادة الدينيين من مختلف الطرق والمذاهب، وذلك في الإسهام في نشر السكينة وبناء السلم، والتصدي للتطرف والفكر العنيف، وخطابات التحريض والكراهية، وانتهاج مقاربة تصالحية، لترسيخ التسامح والعدل بشتى معانيهما وأبعادهما.

سادساً: مبدء البحث عن العدالة ورد المظالم بالحوار والاحتكام إلى منطق العقل والشرع وجلب المصالح ودرء المفاسد.

وختاماً أشكركم جميعاً وأدعو الله أن يحفظ أوطاننا ويصلح أعمالنا وأن يجعل اجتماعنا اجتماع خير وأن يكلله بالنجاح والتوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تنظيم ندوة علمية حول كتاب مشاهد من المقاصد

نظم منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة الذي يرأسه العلامة الشيخ عبد الله بن بيه، الليلة البارحة في نواكشوط ندوة علمية حول كتاب مشاهد من المقاصد للعلامة الشيخ عبد الله بن بيه .

 

القاضي عبدالله ولد اعل سالم عضو مجلس أمناء منتدى تعزيز السلم الذي يشرف على تنظيم الندوة بعد أن رحب بالحضور، أوضح أن الشيخ العلامة عبدالله ولد بيه تصدى لكثير من مشاكل الأمة، منطلقا من ،من لمن يهتم بأمرنا فليس منا، مؤكدا أن الشيخ بن بيه يصف مشاكل العالم بالأمراض التي يعاني منها العالم و العالم الإسلامي خاصة،حيث يجب الرجوع فيها إلى الدواء من صيدلية الإسلام و هو متوفر، و لا يزيده الصرف من رفوفه إلا جدة ووفرة.

 

وتميزت الندوة التي ترأسها فضيلة الشيخ الطالب أخيار ولد الشيخ مامين، بتقديم القاضي محمد عمار ولد محمد احمد ولد سيدي يحي، عرضا تناول فيه مختلف الجوانب التي تحدث عنها الكتاب ، فيما علق كل من السيد محمدن ولد حمين والدكتور السيد ولد أباه على العرض.

 

 

وقد أكد المحاضر القاضي محمد عمار محمد احمد ولد سيدي يحي، أن الكتاب يقدم حلولا حقيقية وجديدة للمشكلات المعاصرة ، كما ظهر فيه المنهج الأصولي أكثر وضوحا، مبينا أن الشيخ استعرض بعض النوازل في المعاملات المالية الجديدة وقدم مقترحات وحلول تختلف عن كل أو جل الحلول التي قدمتها المجامع الفقهية في هذ المجال.

 

وأضاف أن الشيخ ناقش المعاملات المالية الجديدة مثل الرهن العقاري والتملك بالإيجار، مؤكدا أن كل هذه المعاملات توفرت لها حلول في الإسلام، وهو ما أكد عليه بعض الاقتصاديين الغربيين، بل إن بعضهم لجأ للحلول التي يقترحها الإسلام من أجل حل بعض المشكلات المالية.

أما الشيخ محمدن ولد حمين، فقد بين المكانة العلمية الكبيرة للعلامة الشيخ عبد الله بن بيه ودوره في نشر العلم من خلال مؤلفاته الكثيرة حيث يعتبر مجدد هذا العصر.

 

من جانبه قدم الدكتور السيد ولد أباه، تعريفا موجزا بمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة ودوره في تحسين صورة الاسلام والمسلمين بعد الحروب والأزمات التي عرفها عالمنا الإسلامي و خاصة بعد التفجيرات الإرهابية في الولايات المتحدة الأمريكية التي نفذها متطرفون وغلاة أساؤوا إلى الإسلام والمسلمين قبل غيرهم.

 

وأضاف أن العلامة الشيخ عبد الله بن بيه تصدي لهذه المهمة من أجل توضيح الصورة الحقيقية الناصعة للإسلام السمح وقد تجسد ذلك في وثيقتين مهمتين هما وثيقة إعلان مراكش ووثيقة حلف الفضول اللتان تشكلان مجهودا حقيقيا من أجل إصلاح الاختلالات.

 

وجرت الندوة بحضور لفيف من المفكرين والفقهاء والمهتمين بالقضايا الفكرية والثقافية.

حكم التبرك بالصالحين

* السؤال: ماحكم التبرك بالصالحين من الناس ؟

جواب العلامة عبدالله بن بيه

التبرك من حيث المبدأ جائز، والتبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم ثابت في الأحاديث الصحيحة، كانوا يتبركون بشعره صلى الله عليه وسلم، ولما حلق شعره أرسل نصفه إلى أم سليم وزوجها أبي طلحة والنصف الآخر للناس وكانوا يبتدرون بصاقه صلى الله عليه وسلم؛
في حال عدم ثبوت الخصوصية بمعنى أن هذا التبرك هو ببركته صلى الله عليه وسلم وبصلاحه، فقد أخذ العلماء من ذلك جواز التبرك بالصالحين، لكن التبرك غير العبادة، يجب أن نفهم ذلك، بمعنى أنك عند ما تتبرك فإنك لا تعبد هذا الشخص، فقط أنت تحبه في الله سبحانه وتعالى، والحب في الله وردت فيه أحاديث كثيرة ترغب في الحب في الله ومما يذكر عن السلف أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى كان يغسل ثياب الشافعي، والشافعي كان يغسل ثياب أحمد وأن كلا منهم كان يتبرك بماء الثوب، فهذه الأخبار عن السلف وعن الصالحين تدل على أن التبرك لا بأس به، كما ذكر القاضي عياض في الشفاء أن الصحابة كانوا يضعون أيديهم على المنبر إذا لم يكونوا بحضرة أحد، فهذه الأعمال لا يوجد ما ينافيها إلا الترك، وبدعة الترك هي بدعة ضعيفة، أن تقول : ما فعلوه ولو فعلوه ما فعلوه، هذه بدعة ضعيفة، لأن النهي هو القول، ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، أما ما تركته فإنه لا يدل، مع ورود حديث آخر أنه صلى الله عليه كان يتوضأ مع الناس للتبرك بوضوء المسلمين، وقد ورد هذا الحديث أيضا وذكروه في الشمائل، فهناك نصوص وآثار تدل على هذا، فهو لا مانع منه، لكن يجب ألا يلتبس بالعبادة، ويجب أيضا ألا يكثر الإنسان من التبرك بأشخاص قد لا تكون فيهم بركة أصلا، فالبركة هي في اتباع السنة، وهي في العمل الصالح ، وفي الاستقامة على الشريعة .

*هذا النص هو تفريغ لحوار متلفز يمكنك مشاهدته هنا :

«الإمارات للإفتاء» يجيز تهنئة غير المسلمين بالأعياد

صحيفة الإتحاد – إبراهيم سليم (أبوظبي)

أجاز معالي العلامة عبدالله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، تهنئة غير المسلمين بأعيادهم ومناسباتهم، لما في ذلك من المصلحة، حيث أجاز معاليه تهنئتهم وتعزيتهم وعيادة مرضاهم، مستدلاً على ذلك بما ورد في الكتاب والسنة، وهي الفتوى التي تتوافق مع ما اختاره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في آرائه المشهورة، وليس ما تحمله بعض الكتب. جاء ذلك رداً على فتوى حول جواز تهنئة غير المسلمين المسالمين والذين لا يقاتلونهم في دينهم ولم يخرجونهم من ديارهم، وذلك في أعيادهم ومناسباتهم وتعزيتهم في أتراحهم ومآسيهم، وجاء رد فضيلته بالإجازة على الموقع الرسمي لفضيلته، ومعلقاً على فتوى من المركز الإسلامي الأوروبي.

**

نص فتوى العلامة عبدالله بن بيه

**

وأوضح معاليه، أنه قد يكون من المناسب أن نضيف هنا أن تهنئة غير المسلمين مختلف فيها بين العلماء، وفي مذهب الإمام أحمد ثلاث روايات بالمنع والكراهة والجواز، وهذه الرواية الأخيرة هي اختيار الشيخ تقي الدين ابن تيمية، لما في ذلك من المصلحة، وهي التي نختارها فتجوز تهنئتهم وتعزيتهم وعيادة مرضاهم.

ودللت الفتوى في بيان موقف المسلم من هؤلاء بأن القرآن الكريم وضع دستور العلاقة بين المسلمين وغيرهم في آيتين، في سورة الممتحنة، ونزلت في شأن المشركين الوثنيين، فقال تعالى: «لا يَنْهَـكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَـتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَـرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَـكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَـتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَـرِكُمْ وَظَـهَرُواْ عَلَى إِخْرَجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّـلِمُونَ” [الممتحنة: 8-9].

ففرقت الآيتان بين المسالمين للمسلمين والمحاربين لهم.

وأشارت الفتوى إلى أن القرآن أجاز مؤاكلتهم ومصاهرتهم، كما جاء في سورة المائدة: “الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَـتُ…».

كما استدلت فتوى الجواز فيما جاء بالسنة المطهرة: «وقد روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكر – رضي الله عنها – أنها جاءت إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي مشركة، وهي راغبة (أي في صلتها والإهداء إليها) أفأصلها؟ قال: «صلي أمك».

هل يجوز للمطلقة أن تزوج نفسها؟

*السؤال : هل يجوز للمطلقة أن تزوج نفسها ؟

جواب الشيخ عبدالله بن بيه  :

بسم الله الرحمن الرحيم  اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما

للعلماء في هذا الشأن ثلاثة مذاهب

– المذهب الأول : وهو مذهب الجمهور ويشترط الولي لصحة الزواج

– المذهب الثاني : هو مذهب أبي حنيفة وهو أن الولي ليس شرطا لصحة الزواج سواء كانت بكرا أم ثيبا

– المذهب الثالث : وهو يفرق بين البكر والثيب فيقول : البكر لا تزوج نفسها ، والثيب تزوج نفسها بينما الحديث يقول : الأيم أحق بنفسها من وليها ، وهذا الذي استدل به أبوحنيفة مع ظواهر أخرى ومع القياس ،

ونحن لا ننصح أن تزوج نفسها إلا إذا كانت في ظروف خاصة إذا خافت على نفسها أو عضلها وليها ، بحيث لم يزوجها وكان غير أب ، فالأب لا يثبت عليه العضل إلا بردٍ متكررٍ ، 《ولا يعضل أب بكرا إلا برد متكرر 》كما قال خليل المالكي

أما إذا سدت هذه الأبواب أو كانت في الغرب فنحن نقول:

نعم زوجي نفسك ولكن أحضري وليا ممن تثقين فيه من المسلمين وتقولين له زوجني ، ويكون ذلك بعد شئ من التروي حتى لاتقعي في فخ شخص متهور يتركك وبين أيديك أبناء بلا ولي ولا عائل …

 

فالزواج هو رابطة مقدسة وميثاق غليظ وبالتالي يجب علينا أن نبذل جهودا مضاعفة حتي نثبت هذه الخلية الأولى لأنها هي أساس كل شئ ، ولتقوم على أسس متينة  ( وجعل بينكم مودة ورحمة) ؛ هذه المودة وهذه الرحمة سكنا وهذا السكن علينا أن نحيطه بكل أسباب البقاء وأسباب الاستدامة والدوام.

 

 

*هذا النص هو تفريغ لحوار متلفز يمكنك مشاهدته هنا :

https://www.youtube.com/watch?v=tIhj9PMqKGc

البيان الختامي للملتقى السادس لمنتدى تعزيز السلم

بسم الله الرحمن الرحيم

البيان الختامي للملتقى السادس لمنتدى تعزيز السلم

أبو ظبي 12-14 ربيع الثاني 1441 هـ / 09-11 ديسمبر 2019م

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين؛ وبعد

فانطلاقا من قول الله عز وجل (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا- الحج:40).

وتثمينا لإعلان عام 2019 عام ” التسامح” في بلد التسامح الإمارات العربية المتحدة” التي ما فتئت تزاوج بين ترسيخ نهج التعايش والتسامح اجتماعيا وثقافيا وتشريعيا وبين القيام بمبادرات لخدمة هذا النهج على الصعيد الدولي.

ووعيا بأثر رسوخ التسامح في الثقافة والسلوك على تعزيز السلم الاجتماعي والدولي، واستئنافا لما راكمه “منتدى تعزيز السلم” في ملتقياته ومبادراته السابقة من تأصيلات علمية وتنزيلات عملية كانت جميعها مندرجة ضمن الرؤية الخادمة للتسامح والتعايش السعيد…

وتتويجا لمسار من الجهود المتواصلة في تصحيح المفاهيم وتقريب وجهات النظر ومن المبادرات والشراكات والمواثيق الساعية إلى إرساء علاقات إنسانية قاعدتها السلم والأمان وأركانها الاحترام والثقة المتبادلان ومظلتها الأخوة الإنسانية والمشتركات القيمية ولحمتها التسامح والمحبة وغايتها التعاون على إسعاد الإنسان والأوطان بغض النظر عن الدين واللون والعرق والجنس

وتفعيلا لأولى توصيات الملتقى الخامس للمنتدى بإنشاء لجنة لإعداد ميثاق لحلف الفضول الجديد تقترح النصوص الأدبية والتنظيمية المتعلقة بتكوينه طبقا لقوانين دولة المقر.

 انعقد بأبوظبي الملتقى السنوي السادس لـ”منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة” حولدور الأديان في تعزيز التسامح: من الإمكان إلى الإلزاممن 09 إلى 11 ديسمبر 2019م برعاية كريمة متواصلة من سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي بدولة الإمارات العربية المتحدة -حفظه الله- وبتشريف ومتابعة من معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان، وزير التسامح في دولة الإمارات العربية المتحدة، وبرئاسة معالي العلامة الشيخ عبد الله بن بيه رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة ورئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي.

حظي الملتقى باستجابة قرابة ألف مشارك من خمس وسبعين دولة. وقد تدارس المشاركون في المحاور الخمسة لهذا الملتقى بتنوع وتكامل انتماءاتهم الدينية والفكرية ومواقعهم الرسمية والأهلية وتخصصاتهم النظرية وتجاربهم العملية -أفرادا ومؤسسات- معالم مفهوم جديد للتسامح يرتقي به من مجرد إمكان متاح في الأديان إلى واجب ديني، مبرزين الأصولَ الخُلقية لهذا المفهوم والحاجةَ إلى التربية في ترسيخه وسبلَ تنزيله بما يتوافق مع حقوق المواطنة ولا يخل بالسلم المجتمعي. كما تدارس المشاركون ميثاق حلف الفضول- الذي خصصت جلسة من جلسات الملتقى للتعريف به ووقع عليه المؤتمر وفي مقدمة الموقعين كبار الشخصيات الدينية – من حيث مبادئه وقيمه، ومن حيث كونه حلقة من حلقات المواثيق المرجعية للتسامح وحوار الأديان مثل وثيقة الأخوة الإنسانية الموقعة على أرض الإمارات العربية المتحدة مطلع هذه السنة. وتعززت هذه المدارسة بورشات نقاش حول سبل تفعيل ميثاق حلف الفضول الجديد في السياقات الإقليمية الآسيوية والشرق أوسطية والإفريقية والأوروبية والأمريكية.

وسلم معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح بدولة الإمارات العربية المتحدة بحضور فخامة البروفسير يمي أوسنباجو نائب رئيس جمهورية نيجيريا الاتحادية الذي حل ضيفا على المنتدى في دورته السادسة، ومعالي رئيس منتدى تعزيز السلم، “جائزة مولانا الحسن بن علي للسلم” هذا العام لمعالي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي بالمملكة العربية السعودية لجهوده المشهود له بها على الصعيد الإسلامي والدولي في إبراز الصورة الحقيقية لسماحة الدين الإسلامي الحنيف وفي فتح قنوات الحوار والتعاون مع الجهات والمؤسسات المؤمنة بالحوار والتعاون بين الأديان.

وقد خلص المشاركون في الملتقى السادس لمنتدى تعزيز السلم بعد تبادل لوجهات النظر ونقاش صادق وصريح حول التسامح من حيث واقعه ومستقبله المتشوف إليه، وحول ميثاق حلف الفضول الجديد وكيفية استثماره بشكل يليق بقيمته كمنعطف تاريخي في تصور التسامح وتمثله وفي تدبير العلاقات بين الأديان، إلى ما يلي:

أولا – في المفهوم الجديد للتسامح:

– إن التسامح في أصله مفهوم فاعل في التأسيس للتعددية الإيجابية من خلال حماية المتديّن وحرية التديّن.

– إن مفهوم التسامح تتجاذبه تصوّرات مختلفة ورؤى وروايات متعددة.

–  إن اعتبار سنة 2019 عاما للتسامح في دولة الإمارات العربية المتحدة شكل مناسبة ثمينة لإطلاق حوار حضاري حول صياغة مفهوم جديد للتسامح يدمج مختلف رواياته ليصبح أكثر إنسانية وسخاء.

– إن ديانات العائلة الإبراهيمية جميعَها تعتبر مرتكزات متينة لمبدإ التسامح، بتعاليمها الأساسية عن عالمية الكرامة الإنسانية واحترام الاختلافات الدينية وبنصوصها الكثيرة عن السلام والتّعايش والتسامح.

–  إن قيمة التسامح ترتكز في الرواية الأصلية التي تلتقي حولها العائلة الإبراهيمية على مجموعة أسس من أهمها الوعي بالمشتركات الإنسانية وتثمينها وتعزيزها، وفي مقدمتها الكرامة الإنسانية بوصفها أول مشترك إنساني.

–  إن الإيمان المطلق بالدين لا يعني عدم قبول التنوع، ولا يتعارض مع التسامح.

– إن آية المعابد (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) تؤصّل لمفهوم التعددية الدينية، وترتقي بالتسامح إلى التضامن وترفعه من مستوى الإمكان إلى مستوى الإلزام.

– إن المفهوم الجديد للتسامح الذي ينسجم مع مقاصد الأديان وتفرضه مصالح الإنسان والأوطان في عصرنا يرتقي بالتسامح من مجرد إمكان متاح في الدين إلى إلزام ديني وواجب إيماني ويسمو به من مجرد الاعتراف إلى التعارف والتعاون.

– إن الارتقاء بالحرية الدينية وعلاقات التعاون وقيم التسامح من مجرّد الإمكان إلى درجة الالتزام الأخلاقي والإلزام القانوني أمر ضروري ترشحه القيم ويفرضه الزمن، وهو يقوم على الوعي بانتقال الإنسانية من عصور التمايز والعيش المنفصل إلى عصر التمازج والعيش المتّصل.

– إن التسامح في الرواية الإسلامية ينبني على مبدإ أخلاقي روحي عميق، وهو وجوب التخلُّق بأسماء الله الحسنى، التي تصلح أن يقتدي بها العبادُ، ويتمثَّلوها في حياتهم، كما ينبني في الرواية الأصلية للعائلة الإبراهيمية على الوعي بالضعف الذاتي الملازم لماهية الإنسان، الذي يوقعه في الغلط والخطأ والخطيئة.

– إن التربية على التسامح ليست مجرّد مواد تدرس أو مضامين تلقّن، إنها مسار إنساني متكامل تلعب فيه شخصية المعلم القدوة دورا أساسيا. وبدون هذه الشخصية لن نتمكن من تنشئة الأجيال على سلوكيات إيجابية متسامحة.

– إن العامل التربوي على أهميته لا يغني عن البعد القانوني في تحقيق التسامح. فالحاجة ماسة بناء على أسس متينة من الحقوق والواجبات المتبادلة إلى نصوص قانونية ملزمة ترفع التسامح من مستوى الإمكان إلى مستوى الإلزام وتقوم الدول على ضمان حمايتها بالقانون والقضاء.

– إنه بعد عصور طويلة من الجدل والنقد المتبادل قد آن الأوان لمرحلة تاريخية جديدة بين أبناء العائلة الإبراهيمية يرتقون فيها بالتسامح من الاعتراف إلى معنى أسمى هو معنى التعارف والتعاون.

– إن التعارف ينشأ من الوعي بالمصير المشترك، فنحن جميعا مثلُ ركاب السفينة، تجمعنا وحدة المصير والمسار، فلا نجاة لبعضنا إلا بنجاة الجميع.

– إن واجبنا أن نحافظ على روح التسامح المفعم بالأمل والإيمان؛ حيث لم تزل غالبية الإنسانية -شرقا وغربا- تؤمن بإمكانية العيش المشترك.

ثانيا- في حلف الفضول الجديد أهدافا وقيما وميثاقا:

– إنّ حلف الفضول الجديد تحالف على الفضيلة والقيم المشتركة، يسعى أصحابه إلى تمثُّل هذه القيم في علاقاتهم وإلى الدعوة إلى نشرها وامتثالها في حياة الناس. ولهذا كان لزاما أن يتعاهد المتحالفون على ميثاق يبين القيم والفضائل التي يدعون إليها، ويذكر بمبادئهم المشتركة وأهدافهم النبيلة، ويشير إلى وسائلهم ومجالات عملهم.

– إن حلف الفضول الجديد سعى إلى أن لا يكون حوارا دينينا تقليديا للتبشير بالحقيقة الدينية والدعوة إليها. كما لا يهدف إلى التنازل عن ما يعتقده الأطراف حقوقا أو حقائق، وإنما يهدف إلى التعايش السعيد في هذا العالم الذي نعيشه اليوم، باعتبار أن ذلك ضرورة حاقة وواجب ديني تدعو إليه جميع الديانات.

– إن ميثاق حلف الفضول الجديد يسعى إلى الارتقاء من الحق إلى الفضيلة. فالتعامل انطلاقا من مبدإ الحقوق يقتضي الاقتصار على منح الآخر ما هو أصلا له، أو الكفِّ عن التعدي عليه. بينما التعامل انطلاقا من الفضائل يحتوي معنى المكارمة والإحسان. فهو بذل في غير مقابل وتنازل للآخر عن ما ليس له بحق.

– إن ميثاق حلف الفضول الجديد يرتكز في مرجعيته على الأرضية الصلبة التي تشكلها المشتركات سواء المشترك الخاص بديانات العائلة الإبراهيمية أو المشترك الإنساني الأشمل الذي هو القيم الكونية.

– إن ميثاق حلف الفضول الجديد يستثمر التراث العقدي والأخلاقي المشترك بين أديان العائلة الإبراهيمية لكنه نصا وروحا مفتوح لكل العقلاء من أهل الإيمان، ويدعوهم إلى أن ينهلوا من تراثهم لترسيخ قيم السلم والتسامح والتعايش بين الناس.

– إن السلم يقع في مقدمة أهداف حلف الفضول الجديد ومقاصد الشراكة بين أطرافه، حيث يتعهد أبناء العائلة الإبراهيمية بأن يقدموا قيم التعاون بدل قيم التنازع. فالتنازع على البقاء يؤدي إلى الفناء بينما التعاون هو سبيل البشرية إلى النجاة.

– إن ميثاق حلف الفضول الجديد يقوم على مبادئ الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة والوفاء بالعهود كما يدعو في الآن نفسه إلى مبادئ السلم والرحمة والبر والتضامن؛ مؤسسا لنموذج متوازن من التسامح المهذّب والحرية المسؤولة والمواطنة الإيجابية.

– إن ميثاق حلف الفضول يربط جميع الحقوق والحريات باستراتيجية السلم، مؤكدا على أهمية ممارسة الحقوق والواجبات في إطار السلم المجتمعي.

– إن ميثاق حلف الفضول الجديد، الذي انطلق التعاهد عليه في هذا الملتقى ليس مبادئ نظرية، لا فاعلية لها، بل هو مشروع لمنهج عملي وبرنامج تطبيقي، يتنزّل في المدارس تعليما للناس، وفي المعابد تعاليم للمؤمنين، وفي ساحات الصراع وميادين النزاع، طمأنينة تحل في النفوس وأَمَلا يَعْمُر القلوب.

– إن سنة التسامح لا تعني نهاية التسامح، بل تعني بداية متجدّدة لمسيرته، مسيرة لا تنقطع، وجهودا لا تتوقف، وتلك هي مهمة حلف الفضول الجديد، التي يتعاهد عليها في ميثاقه.

ثالثًا- التوصيات:

– تنظيم مؤتمرات وندوات وورشات عمل دولية وإقليمية لبيان مقاصد ميثاق حلف الفضول الجديد ودعوة المؤسسات والشخصيات المؤثرة والأفراد إلى الانخراط فيه.

– إنشاء كرسي حلف الفضول الجديد بالتعاون مع جامعات عالمية.

– تخصيص جائزة تشرف عليها مؤسسة حلف الفضول الجديد للدراسات المتميزة في خدمة أهداف الحلف وقيمه

– رعاية مبادرات إقليمية لحلف الفضول في آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا

– تخصيص منح مالية لأفضل المشاريع الاجتماعية والثقافية التي تتوافق في رؤيتها وأهدافها مع ميثاق حلف الفضول الجديد

– تعميم تجربة قوافل السلام الأمريكية بما يتناسب مع بيئة وثقافة كل قارة من قارات العالم.

 والمشاركون في الملتقى السادس لـ”منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة” إذ يهنئون “المنتدى” وشركاءه على هذا الإنجاز التاريخي يتوجهون بجزيل الشكر وخالص الامتنان لدولة الإمارات العربية المتحدة على هذا الاحتضان وعلى المعهود منها من التكريم والإكرام ، ويعبرون عن أسمى مشاعر العرفان لصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله وألبسه تاج الصحة والعافية، وإلى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة رئيس المجلس التنفيذي لإمارة أبو ظبي، وإلى أصحاب السمو حكام الإمارات؛ حفظهم الله.

كما يتقدم المؤتمرون بشكرهم وتقديرهم لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، ولي عهد ابوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة بدولة الإمارات العربية المتحدة، حفظه الله، على الاستقبال الكريم الذي حظيت به القيادات الدينية المشاركة في المؤتمر في يومه الأول.

ويضرع المشاركون في هذا الملتقى إلى العلي القدير أن يمطر سحائب غفرانه ورحمته على رمز الأخوة الإنسانية والتسامح والتضامن والعطاء الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وأن يبقي صرح التسامح في هذا البلد شامخا ملهما للناس محوطا بنعمة الأمان والرخاء والسعادة.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وحرر بأبو ظبي في 14 ربيع الثاني 1441 هـ/الموافق لـ 11 ديسمبر 2019م

لجنة البيان الختامي

صور من منتدى تعزيز السلم2019

الكلمة التأطيرية لمنتدى تعزيز السلم السادس : ميثاق حلف الفضول – العلامة عبدالله بن بيه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين:

أصحاب المعالي، أصحاب السعادة، أصحاب السماحة، أصحاب الغبطة والنيافة، أصحاب الفضيلة،

أيها الحضور الكريم، كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

يلتئم ملتقاكم السادس اليومَ في المكان المناسب وفي الزمان المناسب وتحت العنوان المناسب، فالعنوان هو:”التسامح” والزمان هو عام “التسامح” والمكان “وطن التسامح العالمي”، الإمارات العربية المتحدة.

 نحتفي في الإمارات بالتسامح عنوانا لسنة 2019، حيث اختاره صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة قيمة مركزية عليها مدار كافة المبادرات والتدابير طيلة العام، فأطقلت البرامج التوعوية والتعليمية والتثقيفية واتخذت التدابير العملية التربوية والقانونية لغرس ثقافة التسامح وترسيخ معاني الأخوة الإنسانية وتعزيز السلم في العالم.

..

شاهد فيديو الكلمة التأطيرية 

 

وقد أسهم منتداكم في هذه الجهود، تأصيلا وتنزيلا، فأطلق جزء التسامح من موسوعة السلم في الإسلام، الذي حاول أن يجيب على الأسئلة من خلال الكشف عن الأسس المنهجية في الإسلام وسائر ديانات العائلة الإبراهيمية التي وضعت رؤية واسعة للتسامح العابر لكل أنماط المغايرة والمباينة في الاعتقاد أو الأعراق أو الثقافة.

كما حرص المنتدى على حمل رواية التسامح ورؤية السلم في المحافل الدولية، في واشنطن ونيويورك، وألمانيا وماليزيا، وجنيف، ومؤخرا في الفاتيكان، حيث اجتمعت العائلة الإبراهيمية لأول مرة لتجسّد اتفاقها في القيم والأصول وتنزّله على مستوى التّطبيقات العملية الفرعية، من خلال موقف موحّد من قضايا إنهاء الحياة،  وقد اتفقت ديانات العائلة الإبراهيمية على الدعوة إلى كرامة الإنسان التي لا تزول أو تحول، بزوال الصحة أو تحوّل القوة والتذكير بضروري الحياة الذي صارت تمتمدّ إليه يدُ العابثين من كلّ صوب، بالإجهاض قبل الإيجاد، و بالإرهاب والاحتراب أثناء الحياة، وبالإجهاز لدى الممات.

لا جَرَم أن التسامح من القيم المركزية في المنظومة الأخلاقية لجميع الديانات والفلسفات الإنسانية. ولكن هذا المفهوم رغم فشوّه وذيوعه في الاستعمال، ما يزال أقرب إلى ألفاظ الإثارة التي تثير المعنى في النفس وتحوم حوله من غير أن تضبطه، وإنما تتجاذبه تصوّرات مختلفة وتتعاوَرُه روايات متعددة.

ولعل هذا الغموض وغياب التحديد هو الذي أدى إلى عزوف بعض الباحثين والمفكرين عن مفهوم التسامح بوصفه مفهوما تاريخيا قد استفرغ طاقته الإبداعية واستنفد فاعليته التربوية، بيد أنه -كما يقول إمبرتو إيكو – لا بد من التسامح مع التسامح، فنحن نعتقد والواقع يشهد، أن هذا المفهوم على علّاته ما يزال مفهوما أساسيا، قد يفتقر إلى ترميم وتحيين، ولكن عاديات الزمان لم تفقده راهنيته وفاعليته.

فالتسامح ما يزال كما كان في أصله مفهوما فاعلا في التأسيس للتعددية الإيجابية، من خلال حماية المتديّن وحرية التديّن.

وكما في كلّ مرّة، ينطلق منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة في تناوله للقضايا المُهمّة من رؤيته لمركزيّة السلم وأولويته، يؤسّس على ما راكمه في ملتقياته السّابقة من تأصيلات علمية وتنزيلات عملية، وفق منهجيّته الأصيلة التي تعتمد استثارة النصوص الدينية لاستمداد الأسس المتينة للتسامح ونماذج مضيئة يسهم إحياؤها في إرساء قيمه في النفوس، عن طريق التأويل الملائم للزمان والمكان ومصالح الإنسان.

وتثمينا لقرار دولتنا اعتبار سنة 2019 عاما للتسامح، ارتأى المنتدى أن يجعل من هذه السنة مناسبة ثمينة لإطلاق حوار حضاري حول صياغة مفهوم جديد أكثر إنسانية وسخاء يدمج مختلف الروايات ليرتقي بالتسامح من الإمكان إلى الإلزام ومن الاعتراف إلى التعارف والتعاون.

فبَدَل اعتبار التّسامح مجرّد إمكان متاح في الدين من بين إمكانات متعدّدة، حان الوقت لاعتباره إلزاما دينيا وواجبا إيمانيا، فلا نكتفى بالملائمة بين الدّين والتسامح بوصفهما غير متناقضين، بل ينبغي أن نرتقى لإدراك الملازمة بينهما، بحيث يصبح التسامح واجبا شرعيا وجزءا من الدين.

 

 

نحو صياغة مفهوم جديد

أيها الحضور الكريم،

لئن كان بعض الدارسين يقول إنّ “التسامح هدية البروتستانتية للعالم”، فنحن نعتقد أن الديانات المنتمية للعائلة الإبراهيمية جميعها تحمل في نصوصها الكثير من الأسس التي تدعو إلى التّعايش والتسامح والتي لا تخطئها العين، وأن تعاليمها الأساسية حول السلام والتعايش وحول عالمية الكرامة الإنسانية، واحترام الاختلافات الدينية هي مرتكزات متينة لمبدإ التسامح.

في الإسلام يُعبّر عن التسامح بأربعة مصطلحات قرآنية تغطي حقله الدلالي، وهي: العفو والصفح والغفران والإحسان، قال تعالى: (فاعف عنهم واصفح إن الله يحبّ المحسنين)، قال تعالى (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم).

ومن ثمّ كان التسامح في الإسلام معنى فوق العدل، فبينما يكتفي العدل بإعطاء كل ذي حق حقّه، يسمو التسامح ليبذل الخير لا في مقابل، فهو من قبيل الإحسان الذي يمثل قمة البرّ وذروة سنام الفضائل.

ترتكز قيمة التسامح في الرواية الأصلية التي تلتقي حولها العائلة الإبراهيمية على مجموعة أسس من أهمها الوعي بالمشتركات الإنسانية وتثمينها وتعزيزها، مثل وحدة الأصل الإنساني (يأيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد)، إن الآخر في هذه الرواية ليس عدوا ولا خصما بل هو على حد عبارة الإمام عليّ رضي الله عنه: ” أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخَلْقِ”، فالآخر هو كما تقول العرب الأخُ بزيادة راء الرحمة والرأفة والرفق، إنه الأخ الذي يشترك معك في المعتقد أو يجتمع معك في الإنسانية.

ويتجلى هذا بسُمُوٍّ في تقديم الكرامة الإنسانية بوصفها أولَ مشترك إنساني، لأن البشر جميعا على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ومعتقداتهم كرّمهم الله عز وجل بنفخة من روحه في أبيهم آدم عليه السلام، (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)(سورة الإسراء الآية 70). ولهذا فإن الكرامة الإنسانية سابقة في التصوّر والوجود على الكرامة الإيمانية .

كما أن مفهوم التسامح مفهوم وظيفي يقصد إلى تحييد التأثير السلبي للاختلاف في المعتقد والاختلاف الجبلي في الآراء والرؤى، ويؤسس للتعددية الإيجابية، من خلال رفع التعارض بين الإيمان والتنوع، فالإيمان المطلق بالدين لا يعني عدم قبول التنوع ، فالمسلم ينبغي أن يؤمن بدينه كما ينبغي أن يتقبل التنوع بوصفه شيئا إيجابيا ومظهرا من مظاهر الجمال في الكون. ولا يمكن أبدا أن يكون هذا التنوّع مبررا للتدابر والتقاطع.

هذه التعددية الدينية نجدها بوضوح في نصوص كثيرة وأكيدة من القرآن الكريم وأحاديث نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، حيث تدعو هذه النصوص إلى احترام الأديان الأخرى ووجوب حماية دور عبادتها ورفض كل اضطهاد يوجّه إلى أقلية دينية أو عرقية أو ثقافية، ورفض استغلال الدين في هذه الأعمال الشنيعة التي لا يبرّرها عقل أو يقرُّها دين، ومن هذه النصوص “آية المعابد” في “سورة الحج”، قال تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)، حيث تؤصّل هذه الآية لمفهوم التعددية الدينية، وترتقي بالتسامح إلى التضامن وترفعه من مستوى الإمكان إلى مستوى الإلزام، فقد رُوي عن ابن عباس والحسن البصري، أنّ هذه الآية توجب على المسلمين الدفاع عن كنائس النصارى وبِيَع اليهود كما يدافعون عن مساجدهم، وقد علّل ابن عباس ذلك بأن الله أقرّهم عليها شرعا وقدرا وهو يحب أن يذكر ولو ممن ليس بمسلم. وهذا التفسير رجّحه ابن القيم ووافقه عليه كثيرون منهم ابن عاشور الذي يرى أن الدّفاع المذكور في الآية دفاعٌ عن الحق والدّين ينتفع به جميع أهل الأديان من اليهود والنصارى والمسلمين، وليس هو دفاعا لنفع المسلمين خاصة.

إن هذا هو مفهوم التّعددية إذا نحن ترجمنا اللغة الدينية إلى لغة الفضاء العام SPHERE PUBLIQUE، لغة الحياة المدنية والقانون، كما يقول هابرماس.

إن الارتقاء بالحرية الدينية وعلاقات التعاون وقيم التسامح من مجرّد الإمكان إلى درجة اللالتزام الأخلاقي والإلزام القانوني أمر ضروري ترشحه القيم ويفرضه الزمن، وهو يقوم على الوعي بطبيعة العصر، فكثير منا ما يزال يعيش وكأن شيئا لم يكُن، ما يزال يرى العالم كما كان في العصور الوسطى، عصور التمايز والعيش المنفصل ويتجاهل ما استجدّ من أسباب التمازج والعيش المتّصل.

كل هذه المتغيرات ترتقي بالتسامح من إمكان متاح من بين إمكانات عديدة في التراث إلى إلزام ديني وواجب إيماني.

وفي هذا السياق وتأكيدا على وجوب احترام دور العبادة لجميع الأديان، اقترحت على الأمم المتحدة في جلسة شاركت فيها في نيويورك تخصيص يوم دولي في السنة لذكرى الاعتداء على أماكن العبادة، تقام فيه الصلوات وترفع الدعوات من أجل السلام والأخوة الإنسانية.

في الرواية الإسلامية ينبني التسامح على مبدإ أخلاقي روحي عميق، وهو وجوب التخلُّق بأسماء الله الحسنى، التي تصلح أن يقتدي بها العبادُ، ويتمثَّلونها في حياتهم، والتي تعرف بأسماء التخلق في مقابل أسماء التعلُّق، وهي الغفور والصبور والرحيم والكريم والجميل والرؤوف والعدل والحليم، وما أشبه هذه الأسماء، التي تكون بالنسبة للإنسان قيما إيجابية تحكم حياته.

وكذلك ينبني التسامح على الوعي بالضعف الذاتي الملازم  لماهية الإنسان، (خلق الإنسان ضعيفا)، الضعف الروحي الذي يوقع الإنسان في الغلط والخطأ والخطيئة. هذا الضعف الذي يستشعره كل واحد من نفسه يجعله قادرا على أن يتسامح مع الآخر، وهو ما عبّرت عنه الحكمة المروية في الموطأ عن سيدنا المسيح عليه السلام (ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، وإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية)،

ونجد هذا التصور لدى فولتير حين يكتب: (وما هو التسامح؟ إنه نتيجة ملازمة لكينونتنا البشرية، إننا جميعا هشّون وميالون إلى الخطإ، لذلك دعونا نسامح بعضنا، ويغفر بعضنا لبعض هفواته وزلاته، فذلك هو أول قانون من قوانين الطبيعة).

لكن الإشكال الأساسي هو كيف نغرس ثقافة التسامح في النفوس،  فكما قال الفيلسوف أمانويل كانت ” إن ثمة اكتشافين إنسانيين يحق للمرء أن يعدهما أصعب الأمور، وهما: فن حكم الناس وفنُّ تربيتهم” .

إن التربية على التسامح ليست مجرّد مواد تدرس أو مضامين تلقّن، إنها مسار إنساني متكامل تلعب فيه شخصية المعلم القدوة دورا أساسيا، قد يكون أمرا يسيرا أن تدرس الرياضيات أو الأحياء، ولكن الصعوبة تظهر عندما نحاول أن ننشأ الأجيال على سلوكات إيجابية متسامحة.

نعتقد أنه لا بد من اتخاذ كلّ الوسائل التثقيفية، وفي مقدمتها التعليم والتربية، والإعلام الجماهيري، لإيجاد تلك القيم، والتصورات، لضبط وكبح جماح النفوس الميالة إلى العنف، وترجيح كفة التسامح، وحسن تقبل الغير، وباختصار إيجاد الروح الاجتماعية، والتعايش البناء بين أفراد المجتمع.

إن العمل في الاتجاه التربوي في غاية الأهمية لكنه وحده غير كاف، حيث علينا أيضا أن لا ننسى السياق القانوني لمفهوم التسامح، فينبغي أن نؤكّد الجهود التربوية بنصوص قانونية ملزمة ترفع التسامح من مستوى الإمكان إلى مستوى الإلزام، بناء على أسس متينة من الحقوق والواجبات المتبادلة، في صورة قانونية تقوم الدول على ضمان حمياتها بالقانون والقضاء.

ولعل هذا هو ما تَــغَــيَّـاهُ إعلان المبادئ حول التسامح الصادر عن اليونسكو في 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1995م حيث ربط بين التسامح وحقوق الإنسان والسلم، وارتقى بالتسامح إلى صورة قانونية تتطلب الحماية من قبل الدول والمجتمع الدولي بأسره.

فلا بد من إحداث تكامل بين المنظور التربوي والمقاربة القانونية، فإن تفعيل القوانين والتوصيات التي تدعو إلى التسامح والعيش المشترك والقيم الإنسانية النبيلة لابد أن يواكبه العمل على غرس ثقافة هذه القيم حتى لا يكون التعايش قهريا لا يرقى إلى مستوى القناعات النفسية التي تفرز ضوابط سلوكية من شأنها أن تشيع الأمن في النفوس، وتجافي الجنوح إلى العنف.

من الاعتراف إلى التعارف

أيها الحضور الكريم،

إن الارتقاء بالتسامح من الاعتراف إلى التعارف هو المفهوم الجديد الذي يعيد للتّسامح فاعليّته، وهو عنوان المرحلة التاريخية بيننا نحن أبناءَ العائلة الإبراهيمية، فبعد عصور طويلة من النّقد المتبادل الذي لم يعدم كلّ طرف فائدته، والجدل الذي أبان رغم حدته أحيانا عن الاتفاق الأصلي في الرواية، على يد أمثال ابن حزم القرطبي وتوما الأكويني وموسى بن ميمون وغيرهم، نرى أنه حَان الوقت لنرتقي بالتّسامح إلى معنى أسمى هو معنى التّعارف والتّعاون.

التعارف كما يعلمنا القرآن الكريم غاية للوجود ومقصد للتنوّع، قال تعالى: ﴿يَأَيُّهَا النَّـاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾، هذه دعوة إلى الالتقاء والتعاون، فالتعارف فعل تشاركي ، يقتضي تفاعلا بين الطرفين، وإرادة من الجهتين.

بالتعارف يتم تجاوز ضيق الأنا إلى فُسحة النّحن، وينتقل من تشرذم الأقليات والهويات الضيقة إلى وحدة الأكثرية الجامعة، المجتمع الواحد، مجتمع الإنسانية الكبرى.

ينشأ التعارف من الوعي بالمصير المشترك، فنحن جميعا مثلُ ركاب السفينة، تجمعنا وحدة المصير والمسار، فلا نجاة لبعضنا إلا بنجاة الجميع ولا خلاص لأمة دون أمة أو دين دون بقية الأديان، ولا خلاصَ للجميع إلا بالتعاون على الخير، بذلك أمرتنا النصوص المقدسة وإليه دعتنا العقول المستنيرة، ففي القرآن الكريم، خطابا لجميع الناس، على اختلاف أديانهم وأعراقهم: “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان”، وهذه الآية كما قال الطبري خطاب لجميع الخلق، فالمسلمون وغيرهم من أهل الدّيانات الأخرى بل سائر البشر مأمورون بالتّعاون على المحبّة في ما بينهم وهو المعبّر عنه بالبر وعلى ما فيه رضى ربهم سبحانه وهو المعبر عنه بالتقوى.

فالتعاون هو الوجه الثاني والمكمّل للتعارف، الذي ينبغي أن يوجّه فَهمنا الجديد للتسامح، حيث نستشعر جميعا الحاجة إلى أن تتكامل أدوارنا، انطلاقا من مواقعنا ودوائر تأثيرنا، لنسهم في استعادة الضمير الأخلاقي للإنسانية، الذي يعيد الفاعلية لقيم الرحمة والغوث ومعاني التعاون والإحسان.

بروح التسامح التي تتجاوز منطق الاعتراف إلى أفق التعارف والتعاون، تستقبل الإنسانية غدا مشرقا، يفتح فيه بعضها لبعض حضنه، ليرى كل واحد في الآخر أخا له، نظيرا له في الخلق وشريكا في الوطن، فلا يضيق به صدرا ولا أرضا:

 لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها   ولكن أخلاق الرجال تضيقُ.

إن واجبنا أن نحافظ على هذه الروح، روح التسامح المفعم بالأمل والإيمان، حتى أمام أحلك الأزمات، وتنامي حركات تبني فكرها على فرض التناقض بينها وبين الغير، وتدعوا إلى المفاصلة الدينية وصدام الحضارات، فكلّ هذا المشهد المتغيّر المحلولك لا يمكن أن ينسينا الجانب المضيء، حيث لم تزل غالبية الإنسانية شرقا وغربا، تؤمن بإمكانية العيش المشترك، وتتصدّى لخطاب العنف والكراهية، وتدفع المبادرات الميدانية والحملات التوعوية وهبات التضامن الأخوية.

تجسيدا لهذا النموذج التعارفي، أَسَّسَتْ قوافلُ السلام الأمريكية منذ سنتين نوعا جديدا من الحوار، إنّه حضور الذوات في الحيّز المكاني والزماني ولو لمدة محدودة، حضور يتمثل في التشارك في العيش في الحركة معا والأكل معا والنوم معا، وكلهم يقوم بشعائر دينه التي هي جزء من حياته اليومية بمرأى ومسمع من الآخر، إنهم يتكلمون ويبحثون ولكن الأهم أنهم يشاهدون ويشهدون ويكتشفون في النهاية أنهم إخوة يشتركون في أكثر مما يتصورون.

وستظل هذه التجربة نموذجا للتعارف ولعملية الحوار بل لعملية التعارف الإيجابي والتعاون على البر في حركة أسست لما نحن بصدده من تدشين عهد جديد في العلاقات بين أبناء العائلة الإبراهيمية وبالتالي بل فاتحة عهد في التعاون بين أصحاب العقول النيرة وذوي النهي لتصحيح مسيرة الإنسانية.

 النجاح الذي حققته هذه القوافل جدّد الأمل وأكد القناعة بضرورة المضي قدما في مسار ترسيخ هذا النموذج، من خلال صناعة تحالف أخلاقي بين ديانات العائلة الإبراهيمية الثلاث بكل فصائلها ومذاهبها، وبمشاركة محبّي الخير من أبناء العائلة الإنسانية الكبرى.

لقد سعى هذا الحلف – الذي اختار اسم حلف الفضول الجديد، استلهاما لذكر حلف الفضول التاريخي- ، إلى أن لا يكون حوارا دينينا تقليديا، يقع فيه التبشير بالحقيقة الدينية والدعوة إليها. كما لا يهدف هذا الحلف إلى التنازل عن ما يعتقده الأطراف حقوقا أو حقائق، وإنما يهدف إلى التعايش السعيد في هذا العالم الذي نعيشه اليوم، باعتبار أن ذلك ضرورة حاقة وواجب ديني تدعو إليه جميع الديانات.

 

 

من الوثيقة إلى الميثاق

أيها السادة والسيدات

إنّ حلفنا هو حلف فضيلة وتحالف قيم مشتركة، يسعى أصحابها إلى تمثُّل هذه القيم في علاقاتهم وإلى الدعوة إلى نشرها وامتثالها في حياة الناس؛ وسبيلُها تقديم النموذج والمُعَبّر عنها هو الحوار والإقناع، وغايتها حسن التعايش بين البشر في ظلّ سلام لا يحميه السلاح، ولكن تحميه الأخلاق وقيم التسامح والعدل والمحبّة واحترام الإنسانية.

ولهذا كان لزاما أن يعقد المتحالفون بينهم ميثاقا، يتعاهدون عليه، يبين القيم والفضائل التي يدعون إليها، ويذكر بمبادئهم المشتركة وأهدافهم النبيلة، ويشير إلى وسائلهم ومجالات عملهم. وقد وضعنا في ملتقانا السابق المحاور الكبرى لصياغة هذا الميثاق وانطلاقا من تلك المحاور  أشرف قادة القوافل الأمريكية للسّلام مع ثلة من أبناء العائلة الإبراهيمية على صياغة ميثاق حلف الفضول الجديد، وشرعنا في واشنطن في الدعوة له وفتح باب الانضمام إليه من خلال التوقيع على مشروع الميثاق. وقد وقع عليه قادة العائلة الإبراهيمية في أمريكا.

يتكوّن الميثاق من ديباجة وستة فصول، تضمّ سبعة عشر مادة، تغطي بواعث الحلف ومبادئه وأهدافه ومجالات عمله.

يعتمد هذا الميثاق الجديد على العهود والمواثيق الدولية التي تتغيّا إحلال السّلام وتعزيزه ووقف الصّراعات ودعم روح الوئام والإخاء بين البلدان والشعوب والثقافات.

كما يستمدّ ويؤسس على كلّ الوثائق والإعلانات التي سبقته، خلال العقدين الماضيين انطلاقا من رسالة عمّان وكلمة سواء مرورا بإعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في البلدان المسلمة، وإعلانات أبوظبي لمنتدى تعزيز السلم، وإعلان واشنطن لتحالف القيم ووثيقة الأخوة الإنسانية التي أصدرها مطلع السنة الجارية فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر أحمد الطيب والحبر الأعظم بابا الكنيسة الكاتوليكية البابا فرانسيس، هنا في أبوظبي بصيافة ورعاية واحتضان من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، ووثيقة مكة المكرّمة التي أشرفت عليها رابطة العالم الإسلامي.

فقد شكّلت هذه الوثائق بمجموعها معالم بارزة في مسيرة التعاون بين الأديان لإرساء قيم التعايش وتحقيق التوافق بين مكونات المجتمع الإنساني، يأتي الميثاق اليوم ليؤكدها ويستند إليها.

وسأذكر هنا باختصار بأهمّ أهداف هذا الميثاق وعناصره:

أولا: ميثاق للقيم والفضائل

يسعى ميثاق حلف الفضول إلى الارتقاء من الحق إلى الفضيلة، إذ مفهوم الحق يقتضي اختصاص طرف، أو أرجحيته، بسبب من أسباب التخصيص أو الترجيح، فالتعامل انطلاقا من مبدإ الحقوق يقتضي الاقتصار على منح الآخر ما هو أصلا له، أو الكفِّ عن التعدي عليه، بينما التعامل انطلاقا من الفضائل يحتوي معنى المكارمة والإحسان فهو بذل في غير مقابل وتنازل للآخر عن ما ليس له بحق.

إنّ ميثاق حلف الفضول الجديد يقدم مفهوما جديدا للإنسانية يتجاوز المبدأ المحايد لحقوق الإنسان ليرتقي إلى إيجابية قيم الفضيلة، قيم المحبة والأخوة، والرأفة والرحمة والإيثار والتضامن ومساعدة المحتاج من الفقراء والعاجزين دون التفات إلى عرقهم أو دينهم أو أصولهم الجغرافية.

إن أبناء العائلة الإبراهيمية يؤمنون أن الأخلاق الدينية ما تزال قادرة على أن ترشد العالم إلى سبيل الخلاص من مشكلاته العضالية، ويهدفون بحلفهم الجديد إلى تفنيد الدعوى التي راجت على يد كثير من الفلاسفة منذ عصر التنوير، وخاصة ثلاثي الشك – كما يسميهم بول ريكور – ماركس ونيتشه وفرويد، وغيرهم ككانت وداروين، من الربط الواصب بين الدين والعنف، حتى أعلنوه قانوناً اجتماعياً، على أساسه يدعون إلى المفاصلة بين الدين والدنيا كحلٍّ وحيد لإرساء أسباب التسامح والتعايش في المجتمع.

ثانيا: ميثاق ينمي المشتركات ويحترم الخصوصيات

يرتكز ميثاق حلف الفضول الجديد في مرجعيته على الأرضية الصلبة التي تشكلها المشتركات سواء المشترك الخاص بديانات العائلة الإبراهيمة أو المشترك الإنساني الأشمل.

وذلك أن الميثاق ينطلق من الإيمان بوجود مشتركات عامة وأخرى خاصة يهدف الميثاق إلى تنميتها من غير أن ينفي أو يرفض أوجه الخصوصية والتمايز.

إننا نحن أبناء العائلة الإبراهيمية نشترك على مستوى أول في مشتركات الإيمان، المبثوثة في كل رسائل ودعوات الأنبياء، تلك المشتركات تدور حول ما أسماه الفقهاء المسلمون بالضروريات الخمسة، وهي ضروري الدين وضروري الحياة وضروري العقل وضروري الملكية وضروري العائلة، والتي نعتبر في الإسلام أنها هي أساس المشترك الديني بين كل الشرائع والملل، وخاصة أديان العائلة الإبراهيمية، فجميعها جاءت بحفظها ورعايتها، حيث إنّها المقاصد الكبرى الحافظة لكرامة الإنسان.

كما نشترك على مستوى أشمل مع سائر البشرية في المشترك الإنساني الذي هو القيم الكونية التي لا تختلف فيها العقول ولا تتأثر بتغيّر الزمان أو محددات المكان، أو نوازع الإنسان، إنها الحقوق الطبيعية الفطرية التي يرثها كل إنسان بفضل وجوده، “وهي حقوق إلهية المصدر ممنوحة للمؤمن وغير المؤمن”، كما جاء في الفصل الأول من الميثاق.

ثالثا: ميثاق للسلم:

يقع السلم في مقدمة أهداف حلف الفضول الجديد ومقاصد الشراكة بين أطرافه، حيث يتعهد أبناء العائلة الإبراهيمية بأن يقدموا قيم التعاون بدل قيم التنازع، فالتنازع على البقاء يؤدي إلى الفناء بينما التعاون هو السبيل الصحيحة للبشرية.

كما ينطلق الميثاق من القناعة بأن الأديان جميعا وأديان العائلة الإبراهيمية خصوصا تمثل في أصلها طاقة إيجابية للسلام، طاقة إعمار وازدهار وليست طاقة تخريب وتدمير، ولذلك يتعهّد المتحالفون على الاضطلاع بواجبههم وهو التعاون لنزع اللبوس الأخلاقي الذي يستقوي به الخطاب التحريضي وسلبه الشرعية الدينية التي تلبّس بها، وإظهار الدين على حقيقته قوةً صانعةً للسلام والمحبة وعامل جذب بين المختلفين.

فهذا الميثاق يمثل دعوة إلى السلام إلى المحبة والوئام، إلى الارتقاء بالإنسانية من وهدة الحروب إلى ربوة الازدهار والاستقرار.

رابعا: ميثاق للتسامح المهذّب والحرية المسؤولة:  

يقوم ميثاق حلف الفضول الجديد على تشجيع مبادئ الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة، كما يدعو في الآن نفسه إلى مبادئ التسامح والسلم والرحمة والتّضامن، مؤسسا لنموذج متوازن من التسامح المهذّب والحرية المسؤولة والمواطنة الإيجابية.

ينطلق الميثاق في هذا التصور من ربط جميع الحقوق والحريات باستراتيجية السلم، فلا حقوق ولا حريات خارج أفق الوئام المجتمعي، فالتسامح المطلق يؤدي إلى اللاتسامح وإلى تلاشي التسامح، تلك هي مفارقة التسامح التي تحدث عنها كارل بوبر وغيره.

فالتسامح والحرية لا يعنيان الانفلات أو التشغيب على النظام العام، ولا التعدّي على حدود الآخرين.  بل التسامح والسلم صنوان، ووجهان لعملة واحدة.

 ومن هذا المنطلق دعا ميثاق حلف الفضول الجديد المؤمنين إلى احترام بعصهم بعضا باعتبار أن احترام دين الآخر هو في جوهره من الاحترام للكرامة الإنسانية، فميثاقنا ميثاق احترام متبادل للرموز والمقدسات والمعابد لدى الجميع، يقدم صياغة مناسبة تجلي التوازن المطلوب بين الحرية والسلم وبين الفرد والجماعة وبين حرية التدين وحرية التعبير.

أيها الحضور الكريم،

إن سنة التسامح لا تعني نهاية التسامح، بل تعني بداية متجدّدة لمسيرته، مسيرة لا تنقطع، وجهودا لا تتوقف، وتلك هي مهمة حلفنا حلف الفضول الجديد، التي يتعاهد عليها في ميثاقه.

عندما اجتمعنا السنة الماضية كان حديثنا عن الحلف تصوّراتٍ وآمالا، وحديثنا هذه السنة تصديق وتحقيق، بفضل جهود ثلة من إخوانكم من قادة القافلة الأمريكية السلام وبعض قيادات العائلة الإبراهيمية في أمريكا، الذي ثابروا طيلة السنة في لقاءات متكرّرة في واشنطن وغيرها، بنقاشات وحوارات صريحة وثريّة، أتاحت لنا الخروج بهذا الميثاق الذي نضعه اليوم بين يديكم، لبحث ودرسه، والمصادقة عليه، والدعوة إليه، وتفعيله،كلّ في مجاله، ونطاق عمله.

إن ميثاق حلف الفضول الجديد، الذي ستتعاهدون عليه، ليس مبادئ نظرية، لا فاعلية لها، بل إنّه تمكن ترجمته وبلورته في منهج عملي وبرنامج تطبيقي، يتنزّل في المدارس تعليما للناس، وفي المعابد تعاليم للمؤمنين، وفي ساحات الصراع وميادين النزاع، طمأنينة تحل في النفوس وأَمَلا يَعْمُر القلوب.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

العلامة عبدالله بن بيه يتحدث في مؤتمر مركز الملك عبدالله للحوار في النمسا

العلامة عبدالله بن بيه يلقي كلمته في مؤتمر “قوة الكلمة” – فيينا

جدد الشيخ عبد الله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيسِ “منتدى تعزيز السلم”، التأكيد على “ضرورة القيام بمراجعة فكرية لمبدأ حرية التعبير بشكل معقلن ينظر إلى التأثير الميداني له ويربط بين مبدأ حرية التعبير، الذي غدا مبدأ مقدسا في الحضارة المعاصرة، وبين مبدأ المسؤولية عن نتائج التعبير”، مبيناً أنه “من الملائم العمل على قوانين تحمي الأفراد والمجتمعات من (آفات) خطاب الكراهية، وأن تكون القوانين المتعلقة ناشئة لمعالجة البيئة التي تراد لها، وليست مستنسخة عن أوضاع أخرى تلغي الخصوصيات والتفاوت بين المجتمعات وتغفل التراكمات التاريخية والمجتمعية”.

وانطلقت اليوم بالعاصمة النمساوية فيينا أعمال لقاء دولي هام نظمه مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، حول موضوع “دور الدين والإعلام والسياسات في مناهضة خطاب الكراهية”.

وشهد الافتتاح حضورا بارزا للشيخ بن بيه، الذي ألقى كلمة بالمناسبة، ونوه بالجهود المحمودة التي تبذلها دولة الإمارات العربية المتحدة في تعزيز روح الأخوة والتفاهم والتعايش السعيد بين أبناء العائلة الإنسانية، حيث قال: إننا “في دولة الإمارات العربية المتحدة نسعى إلى نشر ثقافة السلام والتعايش عن طريق رسم سياسات تمزج بين الواقعية ومراعاة خصوصية السياق المحلي”. كما أبرز الشيخ بن بيه “جهود (منتدى تعزيز السلم) الذي يعتز بشراكته مع مركز الملك عبد الله الرائد والتي تجاوزت التأصيل الفكري إلى التنزيل الميداني في إطار التّعاون على الخير وجهود المصالحة وإحلال السلام”.

وحث الشيخ بن بيه، على مزيد من التعاون بين أديان العائلة الإبراهيمية وبين المؤمنين بالسلام، مؤكداً “كلما تأملنا الأزمات التي تهدد الإنسانية ازددنا اقتناعاً بضرورة التعاون بين أهل الأديان واستعجاليته، وأن واجب رجال الدين في الأزمات، هو إطفاء الحريق في القلوب والنفوس، وهو ما يوجب التكامل بين جهود رجال الدين والتدابير الاقتصادية والسياسية للحكومات والتي من شأنها أن توجد بيئة السلم والوئام في المجتمعات”.

على اليسار الأمير عبد الله بن خالد بن سلطان سفير السعودية لدى النمسا، والرئيس النمساوي السابق الدكتور هينز فيشر،

ويذكر أن هذا اللقاء حضره أكثر من 200 شخصية عالمية ومحلية على رأسهم الأمير عبد الله بن خالد بن سلطان سفير خادم الحرمين الشريفين لدى النمسا، والرئيس النمساوي السابق الدكتور هينز فيشر، والدكتور شوقي علام مفتي مصر، وآدم ديانغ الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة المعني بمنع الإبادة الجماعية.. كما ضم اللقاء عددا كبيرا من القيادات والمؤسسات الدينية وصانعي السياسات والجهات الفاعلة الحكومية وممثلي المنظمات الدولية والمجتمع المدني والإعلاميين والتربويين وممارسي الحوار، مؤسسات القيم الدينية والإنسانية ونشطاء في وسائل التواصل الاجتماعي، وخبراء في السياسات من المنظمات الدولية والأهلية.

نص كلمة العلامة عبدالله بن بيه في لقائه بالفاتيكان

***

نص كلمة العلامة عبدالله بن بيه في الفاتيكان 28 أكتوبر 2019 

***

التقى معالي الشيخ عبدالله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي في القصر الرسولي بالفاتيكان، حضرة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية.

جاء اللقاء ضمن أعمال توقيع وثيقة «موقف العائلة الإبراهيمية في القضايا المتعلقة بإنهاء الحياة».. وتسعى هذه الوثيقة التي تمثل أديان العائلة الإبراهيمية الثلاث إلى التأكيد على الكرامة الإنسانية، وعدم جواز استباحتها تحت ذريعة التدخل الطبي أو أي مبرر آخر.

وقال الشيخ عبدالله بن بيه في كلمته أمام الحضور، إن هذا اللقاء يأتي في سياق «التعاون على الخير».. مؤكداً أن الحفاظ على النفس البشرية يعد من أبرز مقاصد الشريعة الإسلامية والقيم المشتركة بين الأديان، وأنه لابد من التذكير بضرورة الحياة الذي بدأت تمتد إليه يد العابثين من كل صوب، بالإجهاض قبل الإيجاد، و بالإرهاب والاحتراب أثناء الحياة، وبالإجهاز لدى الممات.

وأضاف العلامة عبدالله بن بيه إن اجتماعنا اليوم يمثل خطوة جديدة في مسار العمل الديني المشترك، فهي أول مرة تجتمع فيها الأديان لتجسد اتفاقها في القيم والأصول وتنزله على مستوى التطبيقات العملية الفرعية.

وقال: «نستشعر جميعاً الحاجة إلى أن تتكامل أدوارنا، انطلاقاً من مواقعنا ودوائر تأثيرنا، لنسهم في استعادة الضمير الأخلاقي للإنسانية، الذي يعيد الفاعلية لقيم الرحمة والغوث ومعاني التعاون والإحسان».

وأوضح بن بيه موقف الدين الإسلامي الذي يؤكد أن الله هو الخالق الذي منح الإنسان الحياة ووهبه الكرامة، وأن ليس للإنسان الحق في انتزاعها من نفسه أو من غيره.