ارشيف ل

تأملات حول المشروع الفكري للشيخ عبد الله بن بيه

 

بقلم الدكتور محمد احظانا – رئيس اتحاد الأدباء والكتاب

..

ليس من السهل أن يولد في أمة من الأمم مفكرلافت لانتباه الجميع، ومن النوادر أن يبرز فبها عبقري في الآداب والعلوم والفلسفة، ومن الصعب أن ينشأ فيها مجدد في الدين والمجتمع.

لكن  عدم السهولة أو الندرة أو الصعوبة لا تعني بوجه من الوجوه الاستحالة.

ولذا عرفت الأمم مفكرين أفذاذا، وعباقرة خارقين، وعلماء بارعين، ومفكرين وفلاسفة فائقين.

وإذا كانت الحقول التي يزرع فيها كل ذي موهبة بذوره المباركة مختلفة، فإن المتميزين يعانون نفسَ المشكلة غالبا، ألا وهي عدم التلقي الفوري من عموم الناس وخاصتهم ابتداء، لأن هؤلاء الأفذاذ  يخترقون مألوف الناس ومجرى عاداتهم، والناس لايرغبون أبدا في  أن يخرق أي كان مألوفهم، هذا إذا لم يكرهوه وينبذوه، أويقتلوه أويخرجوه. فكم هم الناجون من إبداعهم بين المتميزين؟ لم ينج إلا القلة القليلة، التي حصلت على مواكبة الاعتراف بها في حياتها، لكن حتى هذا الاعتراف يأتي غالبا في غاية التأخير. أما الغالبية منهم فيتعرضون لأنواع الاضطهاد المادي والمعنوي، بل والتنكيل أحيانا كثيرة.

فأسعد المتميزين هم أولئك الذين يحصلون على التقدير في نهاية المطاف.

وبالمقابل، تغدق المجتمعات تقديرها؛ بل تقديسها على متميزيها في توبة متأخرة عن وقتها، حيث تثوب إلى رشدها بعد ما ناصبت عباقرتها العداء قبل رحيلهم، فلعنتهم ولعنت آباءهم وأمهاتهم.

هذه التوبة المتأخرة تولد أسوأ مزاج في نفوس المبعدين من زمنهم، لأنهم يرون المستقبل المشرق لأفكارهم واستنتاجاتهم دون أن ينالوا الاستفادة منها في حياتهم الجسدية، فيلجؤون أحيانا إلى تدمير إنتاجهم حنقا على مجتمعهم الزمني. ونتذكر هنا أبا حيان التوحيدي، الذي لم ينج من كتبه القيمة إلا ماخرج من يده من قبل.

إن تسليم المجتمع بالواقع يحول المتفوقين إلى أعداء طبيعيين للوعي السائد، ولذا تحكم عليهم النخب السائدة أحكاما قاسية، فتطردهم من جنانها الزائفة باعتارهم خصوما من الدرجة الأولى.

بالنسبة لي، كنت أحاول دائما أن لا أفوت فرصة سانحة لإضاءة ما – رغم خفوت مصباحي- على أحد المتميزين في مجالهم، ما وسعني ذلك، على أوفق في تبديد طرف ما من تلك العتمة التي يلف بها قادة الرأي من خالوا أنهم مظنة تميز ما، مما سيفقدهم بعض بريقهم وينقص الاعتراف الاجتماعي بهم، في إنكار عجيب تروح الأمم ضحيته، إذ لو  لم يكن هناك حجب لربحت الأمة فترة حيوية من استغلال التميز المبدع لأبنائها في الوقت المناسب.

أسلط نور مصباحي المتواضع في كل مرة على من رأيت فيه خاصية التميز دون أن أبالي برأي النخب السائدة فيه، أو رأي أهل مجاله فيه، أو صمتهم عنه، أو حديثهم عنه بالسلب. إلا أنني أتعهد مع ذلك بالدفاع عن رأيي بما أتصوره من حجج حتى لا أبنيه على هوى أو تحكم.

أمام المصباح- وهذا عنوان هذه المعالجة دائما – سيكون هذه المرة مع المفكر الإسلامي العالمي الشيخ عبد الله بن بيه. وعادة لست أنا من يختار أن يكون الشيخ عبد الله أو غيره أمام المصباح، بل المصباح نفسه هو الذي يختار ضيفه.

في حديث سابق من زاوية نظر مطابقة سلطت المصباح على العالم العبقري في مجال الرياضيات د. يحي ولد حامدن، وإن لم يكن عنوان المعالجة قد برز حينها فوق المعالجة.

لكن لماذا أقول إن المصباح هو الذي يختار من يضيء؟

إن الأمر يتلخص في أن منظور هذا المصباح موجه إلى أميز المتميزين في مجاله المعرفي والإبداعي.

إلا أنني لا أزال مصرا- إلى الآن- على أن تبقى المعالجة من نصيب أبناء البلد الذي أنتمي إليه؛ لأنهم لم يحصلوا على حقهم من الذكر المحلي ولا الاعتراف الخارجي.

ومنهج هذه المعالجة هو تقديم مجموعة من الإضاءات إسهاما في التعريف بالمعني في مجاله وقراءة إسهامه قراءة أولية:

الإضاءة الأولى حول الشخصية:

الشيخ عبد الله بن بيه، شخصية جاذبة أو محورية، أو أولى.. فالشخصيات خارج الإضافات المعرفية والخبرية تنقسم عموما، إلى شخصية جاذبة أومنجذبة؛ وشخصية محورية أو هامشية؛ وشخصية أولى أوثانية.

ويمكن استغلال ميزة الأفضلية في هذه المتقابلات الكبرى وتوابعها في أي مجال من مجالات الحياة العملية والمعرفية، فهي السلاح الأول للقائد، والخبير، والعالم، قبل أي سلاح آخر.

وجه الإضافة الذي أضافه الشيخ عبد الله بن بيه في هذا الجانب الشخصي هو استخدام هذه الملكة استخداما لطيفا في رحاب الريادة العلمية، رغم إتاحة أبعاد أخرى يمكن أن تجذب مثل هذه الشخصية كالقيادة السياسية مثلا، وهي أكثر الحقول استقطابا لهذا النوع من الشخصيات. وأعتقد – والله أعلم- أن توازن الوطاء الأخلاقي والتربية المعرفية والسلوكية لشخصية الرجل، كانت دوافع لتوجيه الملكة الشخصية الريادية لديه نحو العلم من حيث هو علم، لا من حيث هو ميزة اجتماعية، أو نخبوية.. وهذا الإخلاص للمعرفة في حد ذاتها لا يقود إلى العلم فقط، بل يقود أبعد من ذلك إلى تبني أخلاقيات العلم، والاتصاف بتواضع أهله وبعدهم عن الغرور به. وفي هذا كثير مما يمكن قوله من لطائف لا يتسع لها مقال من جملة إضاءات لا ترمي إلى الاستقصاء.

الإضاءة الثانية في مجال الرؤية: العلماء- ونحن نتحدث هنا عن عالم في حقل واسع من المعارف الدينية واللغوية والفكرية- يختلفون في اتساع الرؤية وضيقها. ومعلوم أنه ليس هناك تلازم ضروري بين اتساع التحصيل المعرفي واتساع الرؤية.

فالرؤية تترتب على طبيعة العقل بذاته، وخصائصه الذاتية؛ لا على الذكاء التحصيلي. ورغم أن الرؤية تستنير بالعلم وتتطور باتساعه إلا أن العلم قد يفيد صاحب الرؤية الضيقة أو القصيرة في الدفاع عن محدودية رؤيته وتوطيدها. فالمعرفة في حد ذاتها ليست مكونا للرؤية وإنما وسيلة لدعمها وتهذيبها. وهذا هو الفرق بين الملكة العقلية المذكورة آنفا بطبيعتها الخاصة، وبين العلم بطبيعته العامة. ولذا يمكن أن يكون العالم ذكيا جدا أو متوسط الذكاء، لكن قد لا يكون بالضرورة موصوفا بالعقل. فالعقل طريقة والعلم مضمون.

إن ضيف هذه المعالجة من المتصفين باتساع الرؤية، ولذا خرج من النطاق الجزئي إلى النطاق الكلي. إننا نراه – على غير عادة أغلب علمائنا الفقهاء- ينظر في الكليات الشرعية باعتبارها محددا عاما، لينظر للجزئيات ضمنها باعتبارها تطبيقا عمليا لجزئيات كليتها. وهذا دليل على اتساع الرؤية، لأنه تطبيق من تطبيقاتها النظرية والمنهجية.

الإضاء الثالثة: في الإضافة المنهجية

ألمحنا إلى أن الشيخ عبد الله بن بيه ينظر في الكليات الشرعية لينتقل منها إلى الجزئيات وهذه آلية منطقية بامتياز، وكونه يستخدم هذا المنهج في تطبيق الأحكام على أعيان القضايا الجزئية، يحوله من منهج التبعيض الجزئي إلى منهج التعميم النسقي، حيث ينظر إلى الأعيان ضمن نسقها العام. وتوفر هذه المنهجية خاصية الابتعاد عن التناقض في الحكم على الجزئيات المتشابهة. وهو عمى يصيب أغلب فقهاء الفروع، كمن يبت في خصائص كل ورقة من أوراق الشجرة بصورة مختلفة، ولايعتبر الخصائص المشتركة بين كل الأوراق في نفس الشجرة ليحكم بوصف شامل يصدق عليها جميعا.

وأنا أزعم أن النظرة من خلال الكليات، والبحث عنها وإعادة اكتشافها، ولو بإعادة الاستقراء، هي ما يجب أن ينصب عليه جهد المجتهدين المجددين.

ومن قرأ الأعمال العلمية للشيخ عبد الله بن بيه يلاحظ بجلاء نسقية واضحة في منهج قراءته، بل إعادة قراءته للمدونة الإسلامية في عمومها، وخاصة في مجال تطبيقي بالغ الأهمية هو الفقه الإسلامي، أصولا وفروعا.

وليسمح لي أصحاب الرؤية المحلية أو الجزئية للتذكير بأن الشيخ عبد الله، تأسيا بالغزالي في استخدام ما يفيد من نظريات فلسفية وعلوم عقلية، قد وطن رؤية الفيلسوف الألماني، صاحب النقدية العقلانية، في مجال العلاقة بين الكليات والجزئيات، كما وطن الغزالي آلية القياس الأرسطي في الفقه الإسلامي، وهاكم دليلا ساطعا على ذلك:

يقول “عما نويل كانت” في كتابه المؤثر في مسار العقل البشري الكوني من بعده: (إن الحدوس الحسية البعدية بدون مقولات قبلية عمياء، والمقولات القبلية بدون حدوس بعدية جوفاء).

وبيان وجه تطبيق الشيخ عبد الله بن بيه لهذه المتراجحة التكاملية، يلاحظ بشكل جلي في استحضار الكليات عند النظر إلى الجزئيات باعتبار الكليات الشرعية قوالب عامة تتحيز فيها الجزئيات مهما تعددت. ومثال هذا تطبيقيا، أن المقولات الكبرى عند الفيلسوف “كانط” ثلاث، هي: مقولة الكم، وهي التي تنظم جميع الحدوس الحسية في تجاورها، ومقولة الكيف وهي التي تنظم كل الحدوس الحسية المتعلقة بالكيفيات التي تطرأ على الكم، ثم أخيرا مقولة الإضافة وهي التي تنظم علاقات التتالي في الكم والكيف، وبالتالي تدرك بها العلل وتميز ما إذا كان التلازم سببيا أوغير سببي..

وطبعا تمر الحدوس البعدية أو الفردية أو الحسية بضوابط أولية قبل وصولها إلى المقولات القبلية الثلاث الحاكمة في النهاية، وهذه الحدوس القبلية هي المكان الذي يصب سيله الجارف من المحسوسات المتجاورة في مقولتي الكم والكيف، بينما يصب حدس الزمان محتوياته من الإدراكات البعدية في قالب مقولة الإضافة وما يتبعها من علية وسببية وتلازم وغير ذلك.

فماهي زاوية الاستفادة؟ حسب مابدا لي من التجربة المنهجية للشيخ عبد الله بن بيه خاصة في كتابه “تنبيه المراجع..” أنه ربط ربطا نسقيا بين الجزئيات التي تصبح عمياء إن لم تتقولب ضمن كلياتها، وبالمقابل تكون الكليات الشرعية بحاجة إلى جزئياتها حتي يكون لها مضمون منطبق على واقع ما. فالكليات بدون جزئيات جوفاء لديه، والجزئيات بدون كليات عمياء بالطبع.

الإضاءة الرابعة: في فهم الواقع وتوسيع مجاله

لقد استنار الشيخ عبد الله بن بيه بالفتوحات التنظيرية الفقهية للشاطبي، بشأن الكليات الشرعية الخمس (حفظ النفس، حفظ العقل، حفظ الدين، حفظ المال، وحفظ النسب.)، وهي التي يستتبعها مبدئيا جلب المصلحة ودرء المفسدة..  ويستتبعها منهجيا، ترتيب الأصول، من نص قاطع إلى عقل مميز.

ويعبر عن هذين المصدرين ترتيبيا ب: القرآن الكريم والسنة الشريفة، قولية وفعلية، فيما يعني النص؛

ثم عمل الصحابة و إجماع الأمة، و الاجتهاد، فيما يعني إعمال الفهم او العقل، على ترتيب في الدرجة.

وضمن مبدأ الاجتهاد الذي هو مجال أصحاب الأصول ثمة آلية قياس تستند إلى مقيس ومقيس عليه ورابط علي مشترك. وهذا المقيس هو في الفقه واقعة ما، لم يرد فيها نص ولا إجماع.. ويتطلب فهمها كماهي فهما للواقع باعتبارها جزءا منه.

فما وجه الإضافة التي أضافتها أعمال الشيخ عبد الله بن بيه إلى تصور الكليات كما قدمها الشاطبي ضمن آلية التأصيل؟

بإيجاز شديد، ونحن في سياق إنارة لا في مقام بسط، أرى أن مشروع الشيخ عبد الله بن بيه في هذا المنحى، أعاد رسم حدود الواقع ضمن دائرة الاجتهاد، حيث لم يعد الواقع مفهوما جزئيا وإنما أصبح مفهوما كلي التحيز من ناحيتين على الأقل:

الأولى: أن هذا  الواقع عامل من عوامل إعادة فهم النص وحدود الاجتهاد بفهم الدليل من خلال المتجدد المعرفي الذي وسع حدود الدلالة اللغوية. وهذا التوسيع يستدعي إعادة تأويل المجاز خاصة بحسب تجدد الواقع. ويستدعي هذا المعطى إعادة تعريف الاجتهاد، حسب توسع آليات فهم الواقع (نتائج العلوم الحقة والإنسانية ومعطيات الفكر العام باعتبارها مصادر لفهم الواقع الذي لم تعد درجة معرفته كما كانت من قبل. ) وهي نتائج تؤثر بقوة على حدود الواقع بالنسبة للمجتهد.

الثانية: أن فهم الواقع منهج وليس مبدأ نظريا فقط. فإضافة فهم الواقع منهجيا لمصادر الاجتهاد تساعد على تنشيط آليته وتدخل راهنيته ضمن نظر المجتهد.

لقد أضاف الشيخ عبد الله بن بيه إذن لفهم المقصد الشرعي عند الشاطبي، وفي زمنه المعرفي، إضافة نوعية هي إعادة رسم حدود الواقع وتحيزه ضمن مبدأ المقصد الشرعي في زمن معرفي راهن.

والأمر ليس بسيط الأثر على ما أعتقد، لأن تغيير وضع وتحيز وفاعلية أي معطى ضمن دائرة الاجتهاد يعيد رسم العلاقات بين أركانه، ومن ثم بين الاجتهاد وبقية الأصول، حيث يصبح فهم الواقع تعميقا لفهم النص الشرعي وربطه بمبدأ الاجتهاد.

الإضاءة الخامسة: تتعلق بالفقه المالكي الذي هو مذهب الشيخ عبد الله بن بيه حيث يبدو أن هذا الفقه، نتيجة عوامل تاريخية، ومسالك منهجية، انفصل عن دليله منذ وقت مبكر رغم اعتماد كتاب الموطأ لمالك بن أنس على الدليل.

 خاصية انفصال الأحكام الفقهية عن أدلتها جعلت هذا الفقه ينتشر في التشريعات الأخرى، خاصة التشريع اليهودي والتشريع المسيحي في الأندلس، وكان تلامذة ابن رشد الحفيد من أبرز من قاموا بهذا الجهد، في محطة أولى، ثم جاءت التشريعات الفرنسية ومن تأثر بها في أوربا وأفريقيا.، بعد ذلك لتحدث الانتشار الأكبر.

لقد كان انفصال الدليل إذن، سببا في عدم التحرج العقدي لدى الديانات الأخرى المجاورة من الفقه المالكي باعتباره قانونا مفصولا عن دينه، لكن نفس الميزة كانت مأخذا لدى المذاهب الفقهية الإسلامية الأخرى على المالكية، حيث كان فقهاء المذهب المالكي يواجهون من قبل الحنابلة مثلا، والشافعيين، أحيانا، بسؤال الدليل على الأحكام التي يتداولونها.

إضافة الشيخ عبد الله بن بيه في هذا السياق أنه عمل على ربط الأحكام بأدلتها في الفقه المالكي، على نحو يستحضر الواقع في تحديد معالم هذا الربط.

الإضاءة الأخيرة

رغم إغراء متابعة الحديث في هذه الإضافات التي تشي بنزعة تجديدية لاتخطئها عين ضمن مشروع هذا الشيخ الفقيه، والمفكر، سواء تحدثنا عن المقاصد وإعادة رسم حدود الواقع في فهمها، أوفي حيز الاجتهاد عموما، وفهم الكليات من خلال الزمن الثقافي الحالي؛ أو تعلق الأمر بربط الفقه المالكي بالدليل؛ فإننا نتوقف في كل الأحوال عند الجزم بثلاثة أمور:

الأول: أن الشيخ عبد الله بن بيه أعاد فتح نافذة مكينة للاجتهاد في الفقه الإسلامي عموما، دون أن يعلن عن ذلك، أو يثير ضجيجا إشهاريا حول مشروعه، فقد تميز جهده بطرح البدائل قبل مقارعة المسلمات السائدة حول “حتمية إقفال الاجتهاد” .

الثاني: أن مشروع تجديد الاجتهاد لديه مشروع متكامل الأبعاد و يملك وجاهة معرفية واضحة المعالم، ويتسلح بتبصر، ليس من السهل تجاوزه في أي مستوى من المستويات:

الريادة، والرؤية، والمنهج.

الثالث: أن توسيع دائرة الفقه الإسلامي، وإعادة تكييفه مع واقع المسلمين من جهة والواقع الحضاري العالمي من جهة أخرى هو أهم تطويق فكري لنمطية المغالاة في فهم أداء الإسلام ضمن الحضارات الكونية، سلبا و إيجابا.

وفي رأيي الشخصي أن هذا المسار الاجتهادي سيكرس في النهاية حقيقة أساسية في الإسلام، وهي أن الرسالة المحمدية رسالة خاتمة، وهذا الختام يرفده أن معجزتها في الكلمة، وتجدد فهمها عبر الزمن مع تجدد واتساع المعارف الفكرية والعلمية، وتجدد فهم الواقع، وإلا سينفصل النص عن الواقع وحقل المعرفة المهيمن ويفقد الاتصال بالواقع على نحو متسارع.

وبالتالي ستؤول بنا الأمور في مآ لاتها الكبرى  إلى أن الاجتهاد أساس راسخ من تجليات خا تمية الرسالة، ومن ثم علينا أن نعيد فهم الإعجاز القرآني باعتباره إعجازا متجددا، وليس إعجازا لقريش وحدهم ولا للعرب فقط، في زمن محدد، وإنما هو إعجاز لكل البشر، في كل زمان، مر الليالي والأيام.

الشيخ عبدالله بن بيه.. صوت مسلم مخلص من أجل السلام – بقلم المفتي مصطفى سيريتش

إن جوهر الإسلام يأتي من مصدرين رئيسيين هما القرآن الكريم الذي هو الوحي الإلهي، والسنة النبوية التي هي تعاليم وأفعال وسمات النبي محمد صلى الله عليه وسلم. لكن طبائع المسلمين تأتي من العديد من الشعوب والقبائل: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } (القرآن الكريم ، 49:13). لذلك فإن إيمان المسلمين متنوع بتنوع طبائعهم وخلفياتهم القومية والقبلية؛ وبالتالي يجب الاعتراف بالطبائع التي وهبها الله لخلقه من المسلمين والخبرة الاجتماعية لهم على حد سواء، وتقديرهما في الحضارة الإسلامية العالمية، طالما أن مبدأ التوحيد (وحدانية الله)، كما هو معبر عنه في لا إله إلا الله، ومبدأ نبوة الخاتم (نبوة محمد صلى الله عليه وسلم) يدعمان هذا التنوع في الوحدة الإسلامية ويعتبرانها من نعم الله على أمتنا. ومن ثم يجب على المسلمين أن ينظروا إلى مختلف طبائع وخبرات إخوانهم المسلمين على أنها نعمة من الله تثري ثقافة وحضارة الإسلام في العالم.

واقتباساً من حقيقة هذه النعمة، أود أن أطلعكم على طبيعتي التي وهبني الله إياها وخبرتي في الحرب والسلم كأحد المسلمين في البوسنة وأحد الناجين من الإبادة الجماعية في أوروبا، وكيف أرى نفسي كذلك منتمياً إلى مجتمعات العالم الإسلامي اليوم. بل إنني في الواقع أود أن أخبركم لماذا أعتقد أن نهج منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة الذي يرأسه العلامة الموقر الشيخ عبدالله بن بيه، والذي مقره في أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة، هو نهج صحيح في الإسلام وبرنامج سليم لنشر توعية السلام بين المسلمين في جميع أنحاء العالم.

تستند شهادتي إلى طبيعتي الشخصية وتجربتي في الحرب والسلام في البوسنة دون الحاجة إلى اعتذار لأحد. إنها تبدأ من حقيقة أنه خلال الحرب وفترة ما بعد الحرب في البوسنة، كان من الصعب العثور على مبادرة سلم من جماعة أو مؤسسة إسلامية ذات مصداقية لمساعدتي في الدخول في حوار وبناء الثقة مع الآخرين. كانت جميع مبادرات السلم قادمة من الجماعات أو المؤسسات المسيحية التي كانت لها في الحقيقة ميزة في عرض قضيتها؛ لذا عندما تم تقديم مبادرة سلام إسلامية رئيسية من قبل الشيخ بن بيه في عام 2014 في أبوظبي، سررت بدعوتي للانضمام إليها. وفي الواقع كنت أدعو الله من أجل نجاحها واستمراريتها لأنه نادراً ما تنجو الأفكار المسلمة الحقيقية من الضغط الهائل للمعارضين المخالفين الذين يعارضون مثل هذه المبادرات إن لم يكونوا فيها، إن لم تكن فكرتهم. لحسن الحظ بدا أن منتدى تعزيز السلم في أبوظبي نجا من هذا المصير – خاصة المنتدى الأخير الذي في رأيي هو أفضل المنتديات كلها حتى الآن – المنتدى الخامس لعام 2018. نعلم من القرآن والسنة أن النقد الصحيح والبنَّاء هو طبيعة الإسلام، لكن خطاب الكراهية الجديد والاتهامات الباطلة ضد المنتدى لا تتفق مع طبيعة الإسلام، وليست ذات أدب إسلامي ولا أخلاق.

إنني في الواقع أود أن أخبركم لماذا أعتقد أن نهج منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، الذي يرأسه العلامة الموقر الشيخ عبدالله بن بيه، والذي مقره في أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة، هو نهج صحيح في الإسلام وبرنامج سليم لنشر توعية السلام بين المسلمين في جميع أنحاء العالم.

اسمحوا لي أن أقول إن الشيخ عبدالله بن بيه والشيخ حمزة يوسف ليسا بحاجة إلى دفاعي، إنهما أناس قادرون ومستقيمون، كما أن تفانيهما الدائم في العمل الإسلامي يتكلم عن نفسه. أحتاج إلى أن أرفع صوتي بوضوح وبصوت عالٍ دفاعاً عن أهمية تعزيز السلم، وعمل الباحثين الموقرين تجاه هذا الهدف. أقول بتواضع إن يكون الانحياز معهم في هذا الغرض. وسنكون ممتنين لحكومة دولة الإمارات العربية المتحدة لدعمها هذا المشروع الذي شارك فيه بالفعل قادة دينيون وأكاديميون وثقافيون وسياسيون بارزون من جميع أنحاء العالم، ولهم جزيل الشكر باحترامهم والتزامهم بقضية السلم هذه.

أولاً: لا يوجد أحد يحتكر السلام، لكن على الجميع واجب تعزيز السلام بطريقته الخاصة لأن تعريف “الإسلام” هو السلام، وبالتالي فإن “المسلم” هو أيضاً في تعريفه سلمي رجلاً كان أو امرأة؛ ولذلك فإن منتدى تعزيز السلم هو تنزيل للمفهوم الفريد والقوي للإسلام، ألا وهو مفهوم السلام.

ثانياً: لا أحد لديه تظاهرة حول التسامح، لكن على الجميع التزاماً بالتعلم وتعليم التسامح في حيه أو محيطه، لأن الإسلام هو إيمان التسامح بحقيقة كما جاء في القرآن الكريم أن {لا إكراه في الدين}.

ثالثاً: لا أحد يحتكر الكرامة، ولكن يحق للجميع التمتع بحق الحياة (النفس)، والإيمان (الدين)، وحرية الفكر (العقل)، والملكية (المال)، والكرامة ( العرض) لأن العلماء المسلمين حددوا هذه المبادئ الموجهة للسلام منذ فترة طويلة قبل ”الإعلان العالمي لحقوق الإنسان“. هذه المبادئ مبنية على نص وروح القرآن والسنة باعتبارها أمانة (ثقة) للأمة الإسلامية بأكملها وليس فقط جزءاً منها.

رابعاً: لا أحد يملك احتكاراً للتحالف لكن لكل شخص الحق في السعي إلى التحالف مع أشخاص وشعوب محبة للسلام استناداً إلى مثال النبي محمد صلى الله عليه وسلم، الذي شارك في تحالف قبل الإسلام، والمعروف باسم “حلف الفضول” الذي وافق عليه في الإسلام أيضاً.

خامساً: لا أحد لديه احتكار للديمقراطية، لكن لكل شخص الحق في التحدث عن الديمقراطية، حتى لو كان يعتقد أنه يمكن أن يؤدي أحياناً إلى الاستبداد. الفيلسوف اليوناني سقراط كان له هذا الحق كذلك، كان يقول إن الأوليغارشية أصبحت ديمقراطيات لأسباب يمكن التنبؤ بها: “إن الديمقراطية تأتي إلى السلطة”، يقول سقراط: “عندما يكون الفقراء هم المنتصرون يقتلون البعض وينفون البعض ويعطون أسهماً متساوية في الحكومة لكل البقية”. “شكلاً مقبولاً من الفوضى” ، كما يخبرنا سقراط ويضيف أن “الرغبة النكّهة للحرية تستدعي الطلب على الاستبداد”.

سادساً: لا يوجد أحد يحتكر الوعظ الأخلاقي، لكن على الجميع واجب تحسين أخلاقه قبل التبشير بالآخرين. يعلمنا الإسلام أن الممارسة الأخلاقية الصحيحة أفضل من الوعظ الفارغ.

وأخيراً: لا يوجد أحد يحتكر الإسلام، لكن على كل فرد فرض عين (مسؤولية شخصية) وفرض كفاية (مسؤولية جماعية) التصرف بطريقة لا تفسد التعاليم الأخلاقية للإسلام، ولا تمس بالصورة الصحيحة للإسلام والمسلمين في العالم من أجل المكاسب الشخصية. يعود الفضل في أعمال الشيخ عبدالله بن بيه والشيخ حمزة يوسف إلى تنزيلهم الفروض المذكورة لإصلاح الصورة المدمرة للإسلام والمسلمين في العالم، بسبب بعض الجماعات غير المسؤولة والمتشددة التي ادعت أنها تعمل باسم الإسلام. أولئك الذين لا يفهمون أهمية رسالة هؤلاء العلماء غير متصلين بالواقع، وبالتالي لا يمكنهم أن يدَّعوا أنهم المرشدون الصحيحون للمسلمين لا سيما في الغرب. أولئك المسلمين أينما كانوا الذين ما زالوا يدعمون قتلاً كارثياً حدث في الآونة الأخيرة في بعض البلدان الإسلامية الكبرى، يجب أن يُنصحوا بأن الانتحار فردياً أو جماعياً ليس جزءاً من طبيعة الإسلام. بل لم يكن الإسلام يوماً ديناً للتدمير. بل كان دوماً دين الأخلاق والثقافة والحضارة البناءة والشاملة.

وملاحظتي الأخيرة إلى إخواني وأخواتي المسلمين في الغرب لا تتمثل في إصدار حكم متسرع يحرض عليه بعض الناس والمؤسسات الذين لا يتعاطفون مع المسلمين الذين يعانون. إذا كنت لا تستطيع مساعدة محنة المسلمين اليوم فعلى الأقل لا تجعل الوضع الإسلامي أسوأ مما هو عليه. أولئك الذين لم يذوقوا مرارة الحرب لا يمكنهم تقدير طعم السلام الحلو وأنا قد ذقت كليهما. أيها الإخوة المسلمون أيها الأخوات والأصدقاء أينما كنتم ادعوا للسلام وادعموا أولئك الذين يعملون من أجل السلام أياً كانوا.

 

د.مصطفى إبراهيم سيريتش
رئيس علماء البلقان – مفتي البوسنة

“الموطأ للدراسات” يشارك ب30 عنواناً في معرض جدة الدولي للكتاب

أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة : يشارك مركز “الموطأ للدراسات والتعليم” الذي يرأسه معالي العلامة عبد الله بن بيه، في معرض جدة الدولي للكتاب (دورة الرابعة – 2018)، بثلاثين عنوانا، هي باكورة إصداراته منذ البدء في تطبيق استراتيجيته البحثية العلمية في مطلع عام 2017.

وتتركز إصدارات “الموطأ للدراسات والتعليم” على الدراسات المقاصدية، وفقه الواقع والتوقع، وتعزيز ثقافة السلم ونشر قيم التسامح؛ بهدي فلسفة التعايش القرآني السعيد. ومن أهم إصدارات الموطأ، “تنبيه المراجع” و”مقاصد المعاملات”، و”إعمال المصلحة في الوقف” و”الإرهاب: التشخيص والحلول” والجذور المعرفية للتطرف” للعلامة الشيخ عبد الله بن بيه، و”الجهاد رافداً للسلم”، و”منهج الاجتهاد تأويلا وتعليلا وتنزيلا” للدكتور عبد الحميد عشاق، و”حفريات في أصول الفكر الغربي” للدكتور إبراهيم مشروح، و”اجتزاء النصوص والمفاهيم الشرعية وأثره في الواقع” للدكتور المصطفى سليمي وغيرها من الكتب، التي تؤسس لوعي إسلامي جديد يرفد قيم السلم والتسامح على المستوى العالمي؛ بغرض المساهمة في عمارة الأرض بالخير.

يذكر أن مركز “الموطأ للدراسات والتعليم ” هو صرح معرفي إماراتي، ينطلق من العاصمة أبوظبي، وينهض بنشر الثقافة الإسلامية والإنسانية الرصينة المعززة لقيم السلم والتسامح والعيش المشترك بالوسائل المختلفة. هذا إلى جانب إعداد البحوث والدراسات المتعلقة بالنصوص الشرعية وتنزيلها على الواقع، وتصحيح المفاهيم الشرعية المغلوطة. ثم صناعة علماء إماراتيين شباب يجمعون بين التكوين العلمي الشرعي الوسطي الأصيل، وبين الوعي بالواقع والقدرة على التفاعل الراشد معه والتأثير الإيجابي. هذا فضلاً عن دور الموطأ في تعزيز جهود دولة الإمارات العربية المتحدة ودرها في نشر قيم السلم والتسامح على الصعيدين المحلي والعالمي.

تقوم استراتيجية المركز على قراءة إسلامية معاصرة للدين الحنيف، وبيان فلسفة الإسلام الرحمانية؛ بضوء شرعة التعارف القرآنية الشريفة، وهدي السيرة النبوية العطرة. ويعمل المركز على إطفاء الحرائق، وتعزيز السلم العالمي، وتلاقح الثقافات على كل المستويات الإنسانية.

وتتضمن استراتيجة المركز خطة شاملة، تؤكد على أهمية الحوار في مجال تعزيز الخطاب الديني، الذي يعكس قيم وتعاليم الإسلام، في تعميق ثقافة السلم والتسامح وترسيخ قيم الحوار والمشاركة الإيجابية في عمارة الأرض بالخير والجمال والمسرة. هذا بالإضافة إلى الجهد العلمي في إطار بناء القدرات، من خلال مناهج تلبي احتياجات الشباب بمطالع الألفية الثالثة. وكذلك تدريب الشخصيات الدينية على رفد الخطاب السلمي العالمي بقيم التعارف الإسلامية المدهشة، ونبذ العنف والتطرف وإقصاء الغلاة والمتشددين أو المتطرفين.

معالي الشيخ عبدالله بن بيه يستقبل وزير الشؤون الدينية الباكستاني

إستقبل ‫معالي الشيخ عبدالله بن بيه رئيس ⁧‫#مجلس_الإمارات_للإفتاء⁩ وزير الشئون الدينية الباكستاني نور الحق قادري.

وقد كان اللقاء فرصة للتشاور في حالة الأمة الإسلامية وما تمر به من تحديات و كيفية تنسيق العمل بشأنها. وأكد العلامة عبدالله بن بيه على أهمية و مركزية جمهورية باكستان الإسلامية واستعداد مجلس الامارات للافتاء و منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة للتعاون في الأنشطة التعليمية والتدريبية والندوات الفكرية بما يخدم الإعتدال وتأكيد الفهم الصحيح لرسالة الرحمة التي يبشر بها ديننا الحنيف.

مِن جانبه أعرب وزير الشؤون الدينية الباكستاني نور الحق قادري عن تقديره للدور الكبير الذي يقوم به معالي رئيس مجلس الامارات للإفتاء في نشر الاعتدال وتصحيح المفاهيم وتعميم قيم التسامح.

وأعرب معالي وزير الشؤون الدينية الباكستاني عن رغبة وزارته في توثيق عرى التعاون لخدمة القضايا ذات الاهتمام المشترك.

مع شيخ الإسلام عبدالله بن بيه

تشرفت بالمشاركة في مؤتمر منتدى السلم، في أبوظبي بريادة شيخ الإسلام في أيامنا هذه دون مبالغة، العلامة بلا منازع في ميدانه الشيخ عبد الله بن بيه أدام الله عطاءه، وأبقاه ذخرا للبشرية ونبراسا للمعرفة ومفكرا أبرز في مجال التقارب والتآزر بين الحضارات والثقافات والاديان والشرائع السماوية والأرضية، والسلم الكوني.

إن اتساع مدارك شيخ الإسلام في عهدنا الشيخ عبد الله بن بيه، وحصافة رأيه، وسداد نظره، ورحابة أفقه، ونفاذ بصيرته، وحسن تدبيره، ورجاحة عقله، جعلت منه نسيج وحده، فاطمأنت القلوب الواجفة إلى خطابه الذي ينبعث من القلب ليدخل القلب دون استئذان ولا تكلف، لكن باطمئنان وصدق، وفطرية لاينالها إلا من أصبح الإيمان والورع والعرفان بالله، والثقة فيه، والفهم عنه.. سجية له وخلقا لايعزب عن ذهنه.

لقد أطلقت هذا اللقب على الشيخ عبد الله بن بيه ولا أعرف هل أطلق عليه قبلي، لأنه يتصف بهذه الصفة عن جدارة.. كما شاهدت فيه لعيني وسمعت منه باذني ووعيت بعقلي. فهو لقب مستحق له بدون منازع، علما وأخلاقا وسلوكا.

أدامه الله للمسلمين والإنسانية جمعاء.

د. محمد ولد احظانا

رئيس اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين

العلامة عبدالله بن بيه :حلف الفضول الجديد يريد أن يبرهن عمليا على أن الدين يمكن ويجب أن يكون قوة بناء ونماء، يبني ولا يهدم، يجمع ولا يفرّق.

قال العلامة المجدد الشيخ عبدالله بن بيه في كلمته التأطيرية بالملتقي الخامس لمنتدي تعزيز السلم “حلف الفضول فرصة للسلم العالمي” إنه في ملتقانا الأول بأبوظبي سنة 2014، غرسنا شجرة السلام، وتعهدناها بالرعاية والسقي في الملتقيات اللاحقة، ليقوى جذعها ويمتد فرعها وتثمر أقناؤها وأغصانها ؛ ففي كل نشاط أو فعالية يشارك فيها المنتدى في الداخل والخارج؛ كان همنا أن تصمد هذه الشجرة في وجه العواصف العاتية التي تهبُّ على البشرية ، وتزعزع أركان بناء السلام، فما يمر يوم إلا ونسمع من الأنباء ما تدمى له القلوب، ومن الأخبار ما تهتز له النفوس ألما وحسرة، فقد صار العنف لغة كل مفلس في مشارق الأرض ومغاربها، وخطاب الكراهية سلعة رائجة في أسواق المزايدات الإيديولوجية.

وأكد الشيخ بن بيه أنه في إطار الأوضاع الاستثنائية المتأزمة التي شهدها العالم الإسلامي إبان نشأة المنتدى؛ حتمت الطبيعةُ الاستعجالية لرهانات السياق أن تُولى الأولوية لجهود إطفاء الحريق المشتعل ولبث روح السكينة، فجاءت عملية الحفر المعرفي التي جسدتها الملتقيات السابقة، بمثابة المضادات الحيوية التي استطاع المنتدى من خلالها أن يقدم معالجة أصيلة وعلاجا ناجعا، وأن يؤثّث الساحة برؤية جديدة ورواية تجديدية.

غير أن المنتدى لم يزل منذ محطته التأسيسية يضع نصب عينيه الأفق الإنساني الأرحب، من خلال الوَعْي العميق بدرجة التشابك بين مصائر الشعوب وأوضاعها في سياق العولمة المعاصرة التي أضحت ترجّح المقاربات التشاركية، وتفرض القطع مع المنظور الصدامي الذي يُركِّز على الخصوصيات ويلغي دوائر المشترك بين بني البشر.

لقد عبّرنا عن هذه الإرداة منذ الملتقى التأسيسي مارس 2014، حيث جاء في الكلمة التأطيرية: ” نحن نبحث عن أولي بقية من العالم، أولي عقول وتمييز لنكوّن معهم حلف فضول، يدعو إلى السلام، يدعو إلى المحبة والوئام، يدعو إلى الارتفاع عن وهدة الحروب إلى ربوة الازدهار والنماء”.

فصناعة هذه الجبهة الموحّدة بين محبّي الخير والدخول في تحالفات عابرة للثقافات ومتجاوزة لحدود الانتماءات الضيقة من صميم رسالة المنتدى وغاياته الاستراتيجية.

وأشار العلامة ابن بية إلى أن التراث الإسلامي احتفظ بذكرى حلف تاريخي انعقد قبل الإسلام من أجل التضامن والتعاون على تفعيل قيم الخير والمعروف ونصرة الضعيف وإغاثة الملهوف، ومنع الظلم والتآسي في المعاش، وقد عرف هذا الحلف باسم حلف الفضول، وقد زكى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هذا الحلف وأكد استعداده للمشاركة في مثله لو دُعي إليه، وبَيّن كذلك أن اختلاف الدين لا يمنع التحالف على الخير بقوله: “وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدّة”، قال العلماء كالجصاص والنووي والقرطبي في تفسير هذا الحديث: إن العبرة بالغايات والقيم التي يمثلها، فأحلاف المسلمين إذا كانت للعدوان نفاها، وأحلاف الجاهلية (المشركين) إذا كانت على فضيلة تجوزها العقول وتستحسنها الشرائع كنصرة الحق والقيام به والمواساة – أَثْبَتَها ولم ينسخها، فالعبرة في الأحلاف بالغايات والأهداف  لا بالشركاء والأطراف، لأنّ الإسلام يُزكّي الفضيلة أيا كان مصدرها أو مُصدّرها، ومهما يكن منشؤها أو منشئها.

موضحا أنّ رمزية حلف الفضول وخصوصيته إنما أتت من كونه لم يؤسس على ما هو معهود في ذلك العصر من المشترك الديني أو الانتماء القبلي أو العرقي، بل تأسس على القيم والفضيلة.

استلهاما لهذه الروح، روح حلف الفضول، حرصنا أن يكون من مخرجات مؤتمر واشنطن الدعوة إلى إطعام مليار جائع، من المعوزين من بني الإنسان، بلا ميز بينهم بالدين أو العرق أو الوطن، وخاصة ضمن المجتمعات التي تعاني من أثر الحروب والصراعات الدموية.

وتسائل الشيخ ابن بيه لمادا نحن اليوم في حاجة إلى حلف فضول جديد؟ فعند النطق بكلمة “الحلف” قد يتبادر منها نوع من العسكرة أو الاستعداد لاستعمال القوة، وإنّ حلفنا هو حلف فضيلة وتحالف قيم مشتركة، يسعى أصحابها إلى تمثُّل هذه القيم في علاقاتهم، وإلى الدعوة إلى نشرها وامتثالها في حياة الناس؛ وسبيلُها تقديم النموذج، والمُعَبّر عنها هو الحوار والإقناع، وغايتها حسن التعايش بين البشر في ظل سلام لا يحميه السلاح، ولكن تحميه الأخلاق وقيم التسامح والعدل والمحبّة واحترام الإنسانية، إنّ سلاما تحميه الأسلحة النووية هو بمثابة من يستأمن الذئب على الغنم ليحميها، إنها حماية تتحوّل إلى كابوس.

إن الحاجة إلى هذا الحلف تتجلى من خلال مقدمتين، أولاهما: الوعي بالمأزق، وثانيهما: القناعة بوجود قيم إنسانية مشتركة.

موضحا أن الدعوة إلى حلف فضول جديد تنبني على الوعي المشترك لدى العقلاء بالمأزق الذي غدت البشرية تعيش فيه، حيث بدأت أصوات كثيرة تتعالى بدق نواقيس الخطر، منبهة إلى عجز النموذج الحضاري المعاصر الذي انخرطت فيه الإنسانية جمعاء عن تلبية آمالها في الازدهار والاستقرار.

و الإنسانية قد بلغت مستوى من التطور التكنولوجي خوّلها لأول مرة في تاريخها القدرة على تدمير ذاتها، ونظرا لفشو الفكر المتطرّف بكل أصنافه أصبح احتمال استعماله أمرا واردا، لا سيما في ظل إمكانية انفلات أسلحة الدمار الشامل عن سلطة الدول المسؤولة ورقابتها. وطال هذا التطور التكنولوجي الأعمى مسار الحياة البشرية من خلال تقنيات الجينوم البشري وما اجترحت من معضلات أخلاقية، إذ أتاح العلم لنفوس عطشى إلى الاكتشاف التدخل في خلايا الأجنة واقتحام شفرة النطفة الأمشاج لتعديل الجنين بزيادة الهرمونات، وقضايا الاستنساخ وما تنطوي عليه من مآلات لا تزال وراء أستار الغيب التي لا يعلمها إلا من {يعلم الخبء في السموات والأرض} سبحانه وتعالى.

وحتى الأرض؛ هذه الأم التي وضعها الله سبحانه للأنام قد انْتُهِكَتْ حتى قاءت أفلاذ كبدها.

كل ذلك أدى إلى شيوع حالة من القلق والترقب وعدم اليقين وفقدان الثقة، صارت تحتم على الإنسانية السعي الحثيث إلى أن يتوازى التقدم العلمي مع التقدم الأخلاقي لتأطير وتحصين هذه الاختراعات بسياج من قيم الخير والمحبة والسلام.

وأشارإلى أن الدعوة إلى تحالف القيم إلحاحا وضرورة في هذه المرحلة من التاريخ ليس فقط وجود سوء فهم تاريخي لم تستطع لغة الاتصالات ووسائل المواصلات أن تمحوه من الذاكرة، بل كذلك لما انضاف إليه من أعمال مأساوية وعبثية في نفس الوقت يقوم بها أشخاص يتلبسون بلبوس الدين دون أي توكيل من سلطة دينية أو زمنية، فتضاعف سوء الفهم، وانضاف إلى السخيمة التاريخية المتراكمة ركام حوادث تحولت إلى أحداث مدوية فصدَّق كهانُ صدام الحضارة ظنهم وتحولت الكهانة إلى كارثة.

إننا أمام فشل حضاري، يحطُّ من قيمة الإنسان، فما جدوى أن يغزو الإنسان الفضاء ويبلغ أقصى الكواكب، بينما يظلُّ عاجزا عن التفاهم مع أخيه ونظيره ومثيله في الأرض.

أصبح الإرهاب بنجاعة أساليبه وقوة استقطابه يضع تحديا وجوديا أمام كلّ محبي السلام، ويفرض حتمية العمل المشترك لوضع خطط متكاملة أكثر نجاعة وأسرع وتيرة لاجتثاث التطرف والإرهاب من جذوره.

بل يمكن القول إن الديانات جميعها صارت اليوم في قفص الاتهام، حيث يعتبرها البعض المسؤولة عن العنف والحروب؛ فأصبح لزاما على رجال الدين أن يتصدوا لهذه الدعوى بالتفنيد قولا وعملا، لبيان أن الإنسان الذي يفسر الدين تفسيرا خاطئا أو يستنجد به، أو يسخره لأغراضه هو المسؤول وليس الدين في حد ذاته. وذلك بالعودة إلى نصوصهم الدينية وتراثهم ليستمدوا أسسا متينة للتسامح والتعايش، ونماذج مضيئة يسهم إحياؤها في إرساء قيم الخير والسلام في نفوس أتباع هذه الديانات.

إن واجب الوقت يحتم على رجال الدين التعاون لنزع اللبوس الأخلاقي الذي يستقوي به الخطاب التحريضي وسلبه الشرعية الدينية التي تلبّس بها، وإظهار الدين على حقيقته قوةً صانعةً للسلام والمحبة وعامل جذب بين المختلفين وذلك من خلال إبراز الإمكانات الكبيرة للعمل المشترك بين الأديان.

وأكد أنه في الإسلام ليس الآخر هو اللاوجود أو المعدوم كما لدى أرسطو، إذ هو المقابل الفلسفي للموجود être / autre، كما أنه ليس -كما لدى هيغل- النقيض الذي ينبغي الهيمنة عليه لتستكمل “الذات” وعيها بنفسها في صراع حتمي لإثبات الذات، ولا هو – كما لدى سارتر – الجحيم الذي يسلب الذات حريتها وكمالها الأصليَّين.

إن الآخر في رؤية الإسلام قد أجمل التعبير عنه الإمام عليٌّ رضي الله عنه بقوله: “الناس صنفان: أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”، فالآخر هو الأخُ الذي يشترك معك في المعتقد أو يجتمع معك في الإنسانية.

ويتجلى هذا بسُمُوٍّ في تقديم الإسلام الكرامة الإنسانية بوصفها أول مشترك إنساني، لأن البشر جميعا على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ومعتقداتهم كرّمهم الله عز وجل بنفخة من روحه في أبيهم آدم عليه السلام، (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا). (سورة الإسراء الآية 70) الكرامة الإنسانية سابقة في التصوّر والوجود على الكرامة الإيمانية.

وهكذا، يُشَدِّد الإسلام في التصور الكلي للآخر على وحدة النوع والمساواة في الكرامة الإنسانية، والبحث عن تنمية المشتركات ونبذ معايير التفاضل إلا بالخير والتقوى، وهو ما يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلّم (يأيها الناس إن ربّكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى).

يلزمنا الانطلاق من الرغبة المشتركة النابعة عن القيم المشتركة والمسؤولية المشتركة لإحلال السلم محل الحرب والمحبة مكان الكراهية والوئام بدل الاختصام، إذ من شأن ذلك أن يعبئ طاقات رجال الدين والمثقفين والأكاديميين – من أولي بقية من كل الأديان والثقافات، للتحالف في حلف فضول لإزالة هذا الخطر الحضاري.

إن البشرية الآن في سفينة واحدة على وشك الجنوح، فلا بد لأهل القيم أن يأخذوا على أيدي الذين يريدون خرق السفينة- على حد استعارة الحديث النبوي الشريف.

وأكد ان الهدف من حلف فضول جديد  هو صناعة جبهة من رجال الدين للدعوة إلى السلام ورفض استغلال الدين في النزاعات والحروب:

فالبحث عن حلف فضول جديد يحمّل رجال الدين عبئا فيما يتعلق بكل ديانة لمعالجة التطرف والغلو، وطرد النعاج الجرب -كما يقول المثل- من القطيع، وإعادة التوازن في نطاق كل ديانة لبناء الجسور بينها على أسس صلبة ودعائم قوية قابلة للاستمرار والاستقرار، بل للازدهار ولإعلان الانتصار على الشر.

ولا يتأتى ذلك إلا من خلال البحث عن آليات عملية تضمن انخراط أكبر عدد ممكن من رجال الدين من العائلة الإبراهيمية في خطوات عملية ميدانية لتعزيز السلم، وإلى تبني مقاربة تصالحية تتيح لهم نشر روح الأخوة ضمن أتباعهم ومجتمعاتهم، ودعوتهم إلى تجاوز العداوات ومشاعر الكراهية بكل أنواعها وأصنافها.

والهدف الثاني هو تزكية العقود المجتمعية وتأصيل المواطنة الإيجابية التي تلتئم فيها المجتمعات لتجنبها الحروب والفتن، وبالخصوص عقود المواطنة الإيجابية  القائمة على مبادئ المساواة والحرية والاحترام المتبادل.

إن حلف الفضول الجديد يربط المواطنة وقيمها كالحرية بهدفين أساسيين هما: السلم الاجتماعي والمحافظة على النظام العام باعتبارهما مؤطرين لتنزيل هذه المفاهيم في البيئات المختلفة تنزيلا لا يعود على المواطنة بالإبطال والإخلال.  فلا بد من ربط عنوان الحرية بالسلم الاجتماعي، وربط مبدأ حرية التعبير الذي أصبح مقدسا في الحضارة السائدة بمبدأ المسؤولية عن نتائج التعبير.

والهدفى الثالث احترام جميع المقدسات والدعوة إلى ميثاق بين أتباع ديانات العائلة الإبراهيمية، ميثاق احترام متبادل تجاه مقدساتهم، فلا يقبل من أحد منهم شتم مقدسات الآخرين أو أي شكل من أشكال إهانة المقدسات أو ازدراء أديان الآخرين، ويكونون في ذلك على سواء.

فإن شتم المقدس لا يمكن أن يعتبر وجها من وجوه حرية التعبير، لأن المسيء لا يرمي من خلاله إلا إلى إيذاء الآخرين والإساءة إليهم، وليس يقصد به تحقيق خير أو نفع له أو لغيره، فإن شتم الرموز المقدسة لدى أتباع دين معين هو في الحقيقة شتم وإيذاء لهؤلاء المؤمنين بتلك المقدسات وتعد على حقهم في احترام معتقداتهم، هذا فضلا عن كونه يهدّد السلم والأمن

والهدف الرابع هو التصدّي لاضطهاد الأقليات باسم الدين ورفض كل اضطهاد يوجّه إلى أقلية دينية أو عرقية أو ثقافية، ويرفض استغلال الدين في هذه الأعمال الشنيعة التي لا يقبلها عقل أو يبرّرها دين.

وفي ختام كلمته طالب الشيخ بن بيه بضرورة أن نفكّر معًا كيف نضع خارطة طريق لتحقيق بعض هذه الأهداف ولتجربة تعاوننا ميدانيا وتفعيل المشتركات. إنّ ذلك يمثل أفضل رد على المتطرفين من كل الاتجاهات الذين يستغلون الجماهير لإشعال الحروب والفتن ويبثون روح الكراهية؛ وبه نقدم خير برهان على أن الأخلاق الدينية قادرة من جديد على أن ترشد العالم إلى سبيل الخلاص من مشكلاته العضالية في هذه الدنيا، والتي منها الظلم والجهل والتعصب والحروب والإرهاب، والتهديد بالحروب النووية والكيمياوية والإبادة، لتحل محل ذلك روح الإخوة والعدلوحب الإنسانية والمصالحة والتسويات بالحسنى، كما أنَّ الدين بذلك يوفر مناخا للتنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية.

لقد آن لقادة الديانات أن يبرهنوا على فعالية أفضل وانخراط أكبر لهموم المجتمعات البشرية لإعادة الرشد وإبعاد شبح الحروب والفتن المهلكة، فإذا كان البعض ينظر إلى الدين كعامل تفرقة وتمزيق لنسيج الشعوب؛ فإن حلف الفضول الجديد يريد أن يبرهن عمليا على أن الدين يمكن ويجب أن يكون قوة بناء ونماء ووئام وإطفاء للحريق، يبني ولا يهدم، يجمع ولا يفرّق، ويعمّر ولا يدمّر.

تعريف “الآخر” بين الفلاسفة و الإسلام – العلامة عبدالله بن بيه

“في الإسلام ليس الآخر هو اللاوجود أو المعدوم كما لدى أرسطو، إذ هو المقابل الفلسفي للموجود être / autre، كما أنه ليس -كما لدى هيغل- النقيض الذي ينبغي الهيمنة عليه لتستكمل “الذات” وعيها بنفسها في صراع حتمي لإثبات الذات، ولا هو – كما لدى سارتر – الجحيم الذي يسلب الذات حريتها وكمالها الأصليَّين.

إن الآخر في رؤية الإسلام قد أجمل التعبير عنه الإمام عليٌّ رضي الله عنه بقوله: “الناس صنفان: أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”، فالآخر هو الأخُ الذي يشترك معك في المعتقد أو يجتمع معك في الإنسانية.”

ويتجلى هذا بسُمُوٍّ في تقديم الإسلام الكرامة الإنسانية بوصفها أول مشترك إنساني، لأن البشر جميعا على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ومعتقداتهم كرّمهم الله عز وجل بنفخة من روحه في أبيهم آدم عليه السلام، (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا). (سورة الإسراء الآية 70) الكرامة الإنسانية سابقة في التصوّر والوجود على الكرامة الإيمانية.

وهكذا، يُشَدِّد الإسلام في التصور الكلي للآخر على وحدة النوع والمساواة في الكرامة الإنسانية، والبحث عن تنمية المشتركات ونبذ معايير التفاضل إلا بالخير والتقوى، وهو ما يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلّم (يأيها الناس إن ربّكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى).

*من الكلمة التأطيرية في منتدى تعزيز السلم2018

مفتي القدس يوجه رسالة شكر و امتنان للعلامة عبدالله بن بيه

IMG_4257.jpeg

تلقى معالي العلامة عبدالله بن بيه رئيس مجلس الامارات للإفتاء رسالة شكر و امتنان من المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية الشيخ محمد حسين بمناسبة انتهاء أعمال النسخة الخامسة من منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة و التي عقدت في العاصمة الإماراتية أبوظبي. وتوجه مفتي القدس إلى الله عز وجل بالدعاء أن يديم على معالي الشيخ ابن بيه الأمن والإيمان و أن يجزيه خير الجزاء .

كلمة العلامة عبدالله بن بيه في مؤتمر (الوحدة الإسلامية.. مخاطر التصنيف والإقصاء) في مكة المكرمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

تنزيل : كلمة العلامة عبدالله بن بيه في مؤتمر الوحدة الاسلامية بمكة المكرمة

 

صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل أمير مكة المكرمة ومستشار خادم الحرمين الشرفين حفظه الله

صاحب السماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ

صاحب المعالي الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى

أصحاب المعالي والفضيلة والسماحة كل باسمه وجميل وسمه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

إنّ الوحدة مفهوم إسلامي عظيم، يشمل جميع دوائر الوجود الإنساني، ويغطي جميع العلاقات الفردية والجماعية والدولية، فالإسلام هو دين التوحيد ودين الوحدة، وحدة الشعور والشعائر.

إنّ هذه الوحدة لها أسسها ومضمونها ووسائلها.

فأساس الوحدة هو روح الأخوة الإسلامية: (إنّما المؤمنون إخوة) والمحبة: (لا تدخلون الجنّة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا)، إنّ الحبّ قيمة من أعظم القيم وشيمة من أمثل الشيم فهو وحده الذي يقوي روح التواصل وينسج لحمة التضامن والتكافل ويعطي بعداً وجدانياً لعملية التبادل.

إنّ الإسلام يضع مثالاً لكنّه يتعامل مع واقع ومصالح ومفاسد، فالمثال يتجلى في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبينان المرصوص يشد بعضه بعضا)  وقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).

ذلك هو المثال ولكن الإسلام يتعامل مع الواقع والإمكان، فالوحدة وإن كانت مطلباً شرعياً ومقصداً عظيماً ومثالاً يطمح إليه في خدمة الدين والدنيا، إلا أنها ينبغي أن تكون اختيارية، ويراعى في التدرج إليها السياقات الزمانية والمكانية والإنسانية.

ان مفهوم الوحدة لا يعني بالضرورة أن يكون المسلمون في كيان واحد، ولا يجوز إعلان الحروب وإلحاق الضرر بالناس من أجل ذلك، فالخلافة مثلاً هي أمر مصلحي وليس تعبدياً، ولهذا فإن كل ما يدرأ المفاسد ويحقق المصالح يعتبر من مقاصد الشريعة. قال الجويني: ( ثم الغاية القصوى في استصلاح الدين والدنيا ربطُ الإيالات بمتبوع واحد إن تأتى ذلك، فإن عسر ولم يتيسر تعلق إنهاء أحكام الله تعالى إلى المتعبدين بها بمرموقين في الأقطار والديار)، وقال ابن الأزرق المالكي : (إن شرط وحدة الإمام بحيث لا يكون هناك غيره لا يلزم مع تعذُّر الإمكان).

ولهذا كان ما قام به الحكماء في هذا العصر من إنشاء مؤسسات للتضامن والتعاون بين المسلمين يشكل امتثالاً لمقاصد الشريعة وتعاملاً مع روح العصر، ذلك ما قام به الملك فيصل بن عبدالعزيز حينما دعا لمؤتمر لوزراء الخارجية في جدة في مارس ١٩٧٠م، والذي نشأت عنه منظمة تجمع أقطار الدول ذات الغالبية المسلمة، وتضم مؤسسات مساندة كالبنك الإسلامي وغيره.

وعلى هذا دلت الممارسة التاريخية للأمة، حيث تعددت دول الإسلام وتعدد أئمتهم ولم يثبت أن أحداً سعى إلى توحيد الأقطار تحت راية واحدة بدافع عقدي يستبطن مبدأ وجوب الخلافة ووحدة الإمام.

 فأفق الوحدة المنشود لا يمكن أن يكون مبررا لسلب الدولة الوطنية حقها في الشرع والشرعية والمشروعية. فالدول الوطنية في عالمنا الإسلامي اليوم مع اختلاف أشكالها وصورها، هي نظم شرعية لها من المشروعية ما كان للإمبراطوريات الكبرى التي كانت قائمة في التاريخ بناء على قانون المصالح والمفاسد الذي تدور حوله أحكام الشرع.

وإنّ من أبرز وسائل تحقيق الوحدة اليوم تنمية أوجه التّضامن، من خلال تعزيز المشتركات، والإيمان بأن التنوع المتناغم هو القاعدة الذهبية، وأنه أساس الوحدة والانسجام وليس القطيعة والانفصام.

إن أهم قيمة يمكن أن تكون مفتاحا لتعزيز الوحدة هي احترام الاختلاف بل حبه بحيث ينظر له كإثراء وكجمال وكأساس لتكوين المركب الإنساني، إن الاختلاف ليس بالضرورة عداوة وحربا بل إنه يمكن أن يكون جمالا كاختلاف ألوان الطبيعة.

إنّ الاختلاف بين أهل الحق سائغ وواقع وما دام في حدود الشرع وضوابطه فإنه لا يكون مذموما، بل يكون ممدوحا ومصدرا من مصدرا من مصادر الإثراء الثقافي والفكري، إذا احترمت آداب الاختلاف، كاحترام رأي المخالف وعدم تجريحه وإنصافه وعدم المعاداة وتغليب مصلحة الألفة وحسن الظن بالمخالف والبحث له عن أقرب الأعذار.

مع احترام آداب الاختلاف يكون الاختلاف رحمة كما جاء في الأثر المشهور على ألسنة الناس: (اختلاف أمتي رحمة) قال في المقاصد الحسنة: رواه البيهقي بسند منقطع عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيّما أخذتم به اهتديتم، وختلاف أصحابي لكم رحمة. والكلام في تخريج هذا الحديث طويل.

 

إنّ روح الإقصاء التي يحذر منها مؤتمرنا اليوم تنبع أساساً من الانغلاق الذي يسبب رفض الآخر وإساءة الظن به، وقد أحسنتم سمو الأمير بإهتمامكم بقيم الإعتدال، التي هي الدواء الناجع للتنطع والتشدد. إن ما تقومون به من جهود نموذج يجب احتذاؤه في أنحاء العالم الإسلامي. إن الإقصاء في مظهره الأشد ألا وهو التكفير ليس من منهج أهل الإسلام كما دلت على ذلك أقوال وأفعال العلماء الراسخين.

يقول الشيخ تقي الدين ابن تيمية: (إنّ علماء المسلمين المتكلمين في الدين باجتهادهم لا يجوز تكفير أحدهم بمجرد خطأ أخطأه في كلامه، فإن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات).

(ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة.. والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن من الله، قال صلى الله عليه وسلم: ((من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ذمة الله ورسوله، فلا تخفروا الله في ذمته)).

كما يقول : (والذي نختاره ألا نكفر أحداً من أهل القبلة).

 يقول الحافظ بن رجب: (ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم، كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظن أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذوراً وقد لا يكون معذوراً، بل يكون متبعاً لهواه، مقصراً في البحث عن معرفة ما يبغض، فإن كثيراً من البغض لذلك إنما يقع لمخافة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن قد يخطيء ويصيب، وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرد الهوى والألفة أو العادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله، فالواجب على المسلم أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز، وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه، خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرم).

قال يونس الصدفي: (ما رأيث أعقل من الشافعي، ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أباموسى، ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة).

قالت عائشة عن بعض الصحابة وقد اختلفت معه: (أما إنّه لم يكذب ولكن لعله نسي أو أخطأ).

ولقد كان الذهبي مثال العالم المتفتح المنصف الذي لا يتعصب لأتباع مذهبه، فقد قال عن الشيخ عبدالساتر المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى: (إنّه قل من سمع منه لأنه كان فيه زعارة وكان فيه غلو في السنة). (وعني بالسنة وجمع بها، وناظر الخصوم وكفرهم، وكان صاحب حزبية، وتحرّقٍ على الأشعرية، فرموه بالتجسيم، ثم كان منابذاً لأصحابه الحنابلة، وفيه شراسة أخلاق مع صلاح ودين يابس).

وقال: (كل فرقة تتعجب من الأخرى، ونرجو لكل من بذل جهده في تطلب الحق أن يُغفر له من هذه الأمة المرحومة).

قال الشاطبي: (فكلّ مسألة حدثت في الإسلام فاختلف النّاس فيها، ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة، علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة، علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء، وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية، وهي قوله تعالى: (إنّ الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً)، فيجب على كل ذي دين وعقل أن يتجنبها. وظاهر أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطفو فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين).

وأنكر ابن مسعود على عثمان رضي الله عنهما إتمام الصلاة في السفر، ثم صلّى خلفه وقال: (الخلاف شر).

قال أحمد: (لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً).

وختاماً يسرني أن أحيي جهود رابطة العالم الإسلامي بقيادة الشيخ محمد عبدالكريم العيسى في التقريب بين المسلمين ومد جسور الوحدة فيما بينهم، كما أتمنى لمؤتمرنا الذي يجمع بين شرف المكان والمكانة النجاح والتوفيق.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

حلف الفضول : فرصة للسلام – الكلمة التأطيرية لمنتدى تعزيز السلم 5 – معالي الشيخ عبدالله بن بيه

خطة البحث

 

تمهيد:

  • المنتدى ومنجزاته
  • سياق الملتقى الخامس

المحور الأول: في الحاجة إلى حلف فضول جديد

  • الوعي بالمأزق
  • القناعة بالمشترك

المحور الثاني: أهداف حلف الفضول الجديد

خاتمة

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين:

أصحاب المعالي، أصحاب السعادة، أصحاب السماحة، أصحاب الغبطة والنيافة، أصحاب الفضيلة،

أيها الحضور الكريم، كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

 

يجمعنا اليوم الملتقى الخامس لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، في أبوظبي، عاصمة الإمارات العربية المتحدة، أرض المؤسس القائد المغفور له الشيخ زايد في عام زايد الخير، برعاية كريمة من أبناء زايد، زادهم الله من خيره وفضله.

يسرنا أن نجتمع من ثقافات وخلفيات وديانات وأعراق مختلفة، هنا في أبو ظبي، فضاء الإنسانية والتسامح.

هنا بدأنا قبل خمس سنوات رحلة البحث عن السلام، وسرنا في دروبه، وعلى أرضها قام صرح منتدانا، ولوّح بلواء السلم عسى أن يفيء وينحاز إليه كل مؤمن بالسلام، وكلّ محب للعافية.

أيها الحضور الكريم:

في ملتقانا الأول بأبوظبي سنة 2014، غرسنا شجرة السلام، وتعهدناها بالرعاية والسقي في الملتقيات اللاحقة، ليقوى جذعها ويمتد فرعها وتثمر أقناؤها وأغصانها ؛ ففي كل نشاط أو فعالية يشارك فيها المنتدى في الداخل والخارج؛ كان همنا أن تصمد هذه الشجرة في وجه العواصف العاتية التي تهبُّ على البشرية ، وتزعزع أركان بناء السلام، فما يمر يوم إلا ونسمع من الأنباء ما تدمى له القلوب، ومن الأخبار ما تهتز له النفوس ألما وحسرة، فقد صار العنف لغة كل مفلس في مشارق الأرض ومغاربها، وخطاب الكراهية سلعة رائجة في أسواق المزايدات الإيديولوجية.

لكن لا يأس من روح الله، فلا يزال في الناس اليوم أولو بقية من المحبين للسلام، وهم وإن تنوعت مشاربهم، واختلفت أديانهم وألسنتهم، إلا أنهم توحدت مقاصدهم، لقد وضعنا أيدينا في أيديهم، وتقاسمنا وإياهم آمال السلام وآلام الواقع.

وكما اعتدنا في كل ملتقى يجمعنا، تلح علينا الأسئلة التقليدية التي هي نتاج طبيعي للمسار الذي نسيره، والمراحل التي نقطعها، ماذا ميز سنتنا الماضية؟ وماذا سيضيفه ملتقانا الخامس؟ ولماذا اجتماعنا اليوم؟

الأسئلة لا تتغير، لكن الأجوبة منها الثابت، ومنها الذي هو رهين بالمستجدات والأحداث التي عرفها العالم، ومنها الذي تجيب عليه مبادرات المنتدى وإنجازاته.

منجزات المنتدى بين 2017 و2018

سؤالنا الأول دائما من شقين: شق فكري تنظيري، وجوابه أن موسوعة السلم التي كانت بالأمس القريب توصية من توصيات البيانات الختامية للملتقيات السابقة، صارت اليوم واقعا، فسَعْي القائمين عليها حثيث نحو إخراج الجزء الأول منها خلال السنة التي نستقبلها بعد أن استقر تصور بنائها، واتضحت معالم منهجها، وارتسمت رسوم أبوابها ومباحثها.

وقد خصص أكثر بحوث الموسوعة لتصحيح المفاهيم المفجّرة، وذلك أن جزءا كبيرا مما يعيشه العالم اليوم من فتن مردُّه إلى التباس مفاهيم دينية في أذهان شريحة واسعة من المجتمعات المسلمة، كدولة الخلافة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وطاعة أولي الأمر، وهي مفاهيم كانت في الأصل سياجا على السلم وأدوات للحفاظ على الحياة ومظهرا من مظاهر الرحمة الربانية التي جاء بها الإسلام على لسان نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم، فلما فهمت على غير حقيقتها وتشكلت في الأذهان بتصور يختلف عن أصل معناها وصورتها، انقلبت إلى ممارسات ضدّ مقصدها الأصلي وهدفها وغاياتها، فتحوّلت الرحمة إلى عذاب اكتوى به المذنب والبريء، واستوى في إشاعته العالم والجاهل.

ذلك أن هذه المفاهيم مرتبطة بخطاب الوضع الذي هو الشروط والأسباب والموانع، والرخص والعزائم وهو يمثل أرضية تنزيل لخطاب التكليف، والآلية الناظمة للعلاقة بين خطاب التكليف وبين الواقع الذي هو الوجود الخارجي المشخّص، المركب تركيب الكينونة البشرية في سعتها وضيقها، ورخائها وقترها، وضروراتها وحاجاتها، وتطور سيروراتها.

إن المفاهيم منها مفاهيم منغلقة ضبطها الشرع فلم يعد للاحتمال اللغوي مجال لصرفها عن الحقيقة الشرعية، وهذه حال غالب المفاهيم العبادية كالصلاة والصيام، بينما يغلب على مفاهيم المعاملات البشرية أنها من نوع المفاهيم المفتوحة، بمعنى أنها ليست محصورة بالشرع ولا محاصرة باللغة، فهي قابلة للاجتهاد، مرنة في التداول على أساس المرونة اللغوية والسعة الشرعية، فتجب إعادة النظر فيها طبقا للمقاصد المعتبرة والمصالح المتوخاة طبقا لشروط الزمان والمكان وظروف الإنسان.

وهذه المفاهيم المفتوحة تمكن صياغتها وترميمها ومراجعة أحكامها على ضوء النصوص الحاكمة وضمن المقاصد المعتبرة ووفق المصالح المقررة، والاختيار من اختلاف العلماء لا في التعريف فقط ولكن في الأحكام المتعلقة بموضوعها، مع سعة في التأويل وتوسّع في الملاءمة، فتمكن محاولة تنزيلها في المجال العام، طبقا لمزاج العصر ومذاق المصالح وروح الشريعة القاضية باليُسر، كل ذلك مع درجة عالية من الانضباط في الاستنباط والشعور بمسؤولية العلم وأمانة البلاغ.

بالإضافة إلى موسوعة السلم، أصدرت مجلة السلم أربعة أعداد فيها من فقه السلم وفكره ما يسدُّ بعض حاجات الفضاء الفكري، وأعمال أخرى ترى النور قريبا بإذن الله تعالى.

والشق الثاني: شق عملي ميداني، فمنتداكم منذ تأسيسه بحمد الله لم يغب عن الساحة العالمية، فعلى مدى العام كان المنتدى مشاركا فاعلا في كثير من المحافل التي التأم فيها محبو السلام، والساعون إلى كرامة الإنسان:

– ففي فبراير من هذه السنة نظم منتدى تعزيز السلم مؤتمر “إعلان واشنطن لتحالف القيم” الذي توج لقاءات قوافل السلام الأمريكية التي ضمت عددا مهما من علماء ورجال أديان العائلة الإبراهيمة، واستضافتها أبو ظبي والرباط في 2017. وسنكمل الحديث عن هذا المؤتمر لاحقا.

– كما شارك المنتدى في فعاليات مؤتمر التواصل الحضاري بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الإسلامي بدعوة كريمة من معالي الدكتور محمد عبد الكريم العيسى الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي.

–  وأسهم المنتدى في مؤتمر الحريات الدينية الذي تنظمه وزارة الخارجية الأمريكية، وفي مؤتمر السلام في الأديان الذي نظمته رابطة العالم الإسلامي بالتعاون مع جامعة أكسفورد.

– وكان المنتدى شريكا للمجلس الإسلامي للأديان بسنغافورة في تنظيم المؤتمر الدولي عن القيم الدينية في عالم التعددية.

-وآخر فعالية نظمها المنتدى كانت بشراكة مع ويلتون بارك حول المواطنة الشاملة.

وفي كل هذه اللقاءات كان هدفنا الترويج للسلام والتخفيف من غلواء التعصُّب والكراهية.

أما سؤالنا الثاني، عن القيمة المضافة التي يقدمها الملتقى الخامس، فإن جوابه أن المنتدى يستثمر في كل ملتقى مخرجات الملتقيات السابقة، والدليل مجموع المبادرات التي قدمها خلال السنوات الأربع التي تلت تأسيسه، وهي مبادرات حية ومستمرة، وليست رهينة حاجات طارئة، أو ناتجة عن انفعالات غير مدروسة، ونحن نطمح من خلال الملتقى الخامس أن نفكر جميعا فيما يمكن أن نقوم به ونقدمه ونسهم به في الفترة القادمة بحول الله، وعليكم بعد الله المعول في مدنا بآرائكم السديدة وبمقترحاتكم القيمة.

سياق الملتقى الخامس:

في إطار الأوضاع الاستثنائية المتأزمة التي شهدها العالم الإسلامي إبان نشأة المنتدى؛ حتمت الطبيعةُ الاستعجالية لرهانات السياق أن تُولى الأولوية لجهود إطفاء الحريق المشتعل ولبث روح السكينة، فجاءت عملية الحفر المعرفي التي جسدتها الملتقيات السابقة، بمثابة المضادات الحيوية التي استطاع المنتدى من خلالها أن يقدم معالجة أصيلة وعلاجا ناجعا، وأن يؤثّث الساحة برؤية جديدة ورواية تجديدية.

غير أن المنتدى لم يزل منذ محطته التأسيسية يضع نصب عينيه الأفق الإنساني الأرحب، من خلال الوَعْي العميق بدرجة التشابك بين مصائر الشعوب وأوضاعها في سياق العولمة المعاصرة التي أضحت ترجّح المقاربات التشاركية، وتفرض القطع مع المنظور الصدامي الذي يُركِّز على الخصوصيات ويلغي دوائر المشترك بين بني البشر.

لقد عبّرنا عن هذه الإرداة منذ الملتقى التأسيسي مارس 2014، حيث جاء في الكلمة التأطيرية: ” نحن نبحث عن أولي بقية من العالم، أولي عقول وتمييز لنكوّن معهم حلف فضول، يدعو إلى السلام، يدعو إلى المحبة والوئام، يدعو إلى الارتفاع عن وهدة الحروب إلى ربوة الازدهار والنماء”.

فصناعة هذه الجبهة الموحّدة بين محبّي الخير والدخول في تحالفات عابرة للثقافات ومتجاوزة لحدود الانتماءات الضيقة من صميم رسالة المنتدى وغاياته الاستراتيجية.

وفي هذا الصدد، جاء إعلان مراكش التاريخي في يناير 2016 ليضع الأسس المعرفية لهذا المسعى من خلال الكشف عن المبادئ الكلية للخطاب الإنساني في الإسلام.

وتأسيسا على هذا الإعلان؛ قامت قيادات دينية أمريكية تمثل العائلة الإبراهيمية الكبرى في الولايات المتحدة، بوضع ملامح مبادرة تتصف بالديمومة للتعاون الإيجابي بين أتباع الديانات الكبرى، من أجل التّخفيف من النبرة العدمية وإبعاد شبح الكراهية والعنصرية الذي أصبح يلقي بظلاله القاتمة على مجتمعاتهم وعلى العالم أجمع.

وهكذا استقبل المنتدى في أبو ظبي ثم في الرباط، أوَّل قافلة أمريكية للسلام، ضمَّت رجال دين من المسلمين والمسيحيين الإنجيليين واليهود الأمريكيين، يمثلون ولايات أمريكية كبرى أصبح فيها التنوع الديني واقعا والتعايش السعيد مطلبا ملحا.

ونحن نستحضر التوصية التي خلصنا إليها في الملتقى الرابع والذي جاء فيها ضرورة التحرك في اتجاهات ثلاثة: أحدها الانتقال إلى مرحلة التضامن مع أولي بقية يلتزمون بالقيم والمثل المشتركة للأخوة الإنسانية لتكوين حلف فضول ينبذ التمييز والكراهية، حلف يدعو إلى السلام والإخاء بين أبناء البشر كافة.

وتتويجا لهذا المسار واستكمالا لحلقاته، عقد منتدى تعزيز السلم في العاصمة الأمريكية واشنطن في مطلع فبراير 2018، مؤتمرا دوليا بعنوان “حلف الفضول من أجل الصالح العام”، بمشاركة المئات من القساوسة النصارى والحاخامات اليهود والأئمة المسلمين، ولفيف من العلماء الأكاديميين والباحثين المهتمين بثقافة السلام، وعدد من الرسميين الأمريكيين الحكوميين ومن أعضاء مجلس الشيوخ، وكذلك بعض ممثلي المنظمات الدولية الكبرى وجمعيات المجتمع المدني الأمريكي.

وقد مثّل هذا اللقاء التاريخي محطة بارزة في مسيرة العمل الديني المشترك من حيث شكله وأبعاده، إذ هذه هي أول مرة يلتئم فيها شمل العائلة الإبراهيمية بكل فروعها على أسس جديدة لحوارٍ دينيّ يتجاوز منطق الجدل الديني والتبشير بالحقيقة الخاصة لكلّ دين إلى منطق التعارف والتعاون انطلاقا من القيم والفضائل المشتركة.

لقد احتفظ التراث الإسلامي بذكرى حلف تاريخي انعقد قبل الإسلام من أجل التضامن والتعاون على تفعيل قيم الخير والمعروف ونصرة الضعيف وإغاثة الملهوف، ومنع الظلم والتآسي في المعاش، وقد عرف هذا الحلف باسم حلف الفضول، وقد زكى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هذا الحلف وأكد استعداده للمشاركة في مثله لو دُعي إليه، وبَيّن كذلك أن اختلاف الدين لا يمنع التحالف على الخير بقوله: “وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدّة”، قال العلماء كالجصاص والنووي والقرطبي في تفسير هذا الحديث: إن العبرة بالغايات والقيم التي يمثلها، فأحلاف المسلمين إذا كانت للعدوان نفاها، وأحلاف الجاهلية (المشركين) إذا كانت على فضيلة تجوزها العقول وتستحسنها الشرائع كنصرة الحق والقيام به والمواساة – أَثْبَتَها ولم ينسخها، فالعبرة في الأحلاف بالغايات والأهداف  لا بالشركاء والأطراف، لأنّ الإسلام يُزكّي الفضيلة أيا كان مصدرها أو مُصدّرها، ومهما يكن منشؤها أو منشئها.

ذلك أنّ رمزية حلف الفضول وخصوصيته إنما أتت من كونه لم يؤسس على ما هو معهود في ذلك العصر من المشترك الديني أو الانتماء القبلي أو العرقي، بل تأسس على القيم والفضيلة.

استلهاما لهذه الروح، روح حلف الفضول، حرصنا أن يكون من مخرجات مؤتمر واشنطن الدعوة إلى إطعام مليار جائع، من المعوزين من بني الإنسان، بلا ميز بينهم بالدين أو العرق أو الوطن، وخاصة ضمن المجتمعات التي تعاني من أثر الحروب والصراعات الدموية.

ويسرني أن أشكر معالي الدكتور عبد الله معتوق المعتوق، عضو مجلس أمناء المنتدى، مستشار صاحب السمو أمير الكويت، على وفائه بوعده الذي قدمه في واشنطن ….

ومع ما حصل من التوفيق لهذه المبادرات تجدّد الأمل وتأكدت القناعة بضرورة المضي قدما في مسار ترسيخ هذه النجاحات، من خلال صناعة تحالف أخلاقي بين ديانات العائلة الإبراهيمية الثلاث بكل فصائلها ومذاهبها، وبمشاركة كل محبي الخير كذلك من أبناء العائلة الإنسانية الكبرى.

وهكذا اخترنا في اجتماعات مجلس أمناء منتدى تعزيز السلم أن يكون موضوع الملتقى الخامس هو “حلف الفضول: فرصة للسلم العالمي”.

ويأتي هذا الاختيار للدعوة إلى تفعيل إعلان واشنطن من خلال تعميق الحفر المعرفي في شروط إمكان حلف الفضول الجديد بين الأديان، ومدى راهنية التعاون الديني في سياق الواقع المعاصر المحكوم بمنطق مغاير، والمحتكم إلى المواثيق الدولية الجديدة. كما يتوخّى الملتقى الكشف عن ميادين عمل هذا الحلف والصيغ المؤسسية لتفعيله.

فلا يمكن أن نغفل الأسئلة المفاتيح التي بها يتم الإحكام المنهجي لهذه المبادرات، فهل ما تحقق من ثمراتٍ لإعلانَيْ مراكش وواشنطن بآفاقهما الإنسانية الفسيحة وأبعادهما الدولية وانبنائهما على الشراكة في القيم، يُسوّغ الدعوة إلى حلف فضول جديد؟ هل تعبّر دعوتنا هذه عن حاجة إنسانية حقيقية؟ ثم  ما طبيعة هذا الحلف؟ وما الدور الذي سيناط به؟ وما هي مجالات اشتغاله وطرائق عمله؟ وما هي آلياته وصيغه العملية؟

تلك هي الأسئلة المقترحة على قرائحكم أيها العلماء والحكماء والخبراء، في ملتقانا الخامس، وأملنا كبير أن نتمكّن من الخروج بأجوبة علمية ومقترحات عملية.

 

المحور الأول: في الحاجة إلى حلف فضول جديد

إنّ كلمة “الحلف” قد يتبادر منها نوع من العسكرة أو الاستعداد لاستعمال القوة، وإنّ حلفنا هو حلف فضيلة وتحالف قيم مشتركة، يسعى أصحابها إلى تمثُّل هذه القيم في علاقاتهم، وإلى الدعوة إلى نشرها وامتثالها في حياة الناس؛ وسبيلُها تقديم النموذج، والمُعَبّر عنها هو الحوار والإقناع، وغايتها حسن التعايش بين البشر في ظل سلام لا يحميه السلاح، ولكن تحميه الأخلاق وقيم التسامح والعدل والمحبّة واحترام الإنسانية، إنّ سلاما تحميه الأسلحة النووية هو بمثابة من يستأمن الذئب على الغنم ليحميها، إنها حماية تتحوّل إلى كابوس.

إن الحاجة إلى هذا الحلف تتجلى من خلال مقدمتين، أولاهما: الوعي بالمأزق، وثانيهما: القناعة بوجود قيم إنسانية مشتركة.

 

أولا: الوعي بالمأزق

إن الدعوة إلى حلف فضول جديد تنبني على الوعي المشترك لدى العقلاء بالمأزق الذي غدت البشرية تعيش فيه، حيث بدأت أصوات كثيرة تتعالى بدق نواقيس الخطر، منبهة إلى عجز النموذج الحضاري المعاصر الذي انخرطت فيه الإنسانية جمعاء عن تلبية آمالها في الازدهار والاستقرار.

 ليس من غرضنا في هذه الورقة أن نستوفي مظاهر المأزق، وإنما يكفي أن نشير إلى بعض أبرز هذه المظاهر التي يشترك الجميع اليوم في الشعور بها.

لقد دخلت الإنسانية في القرن الأخير في سياق العولمة التي تجسدت في حضور الآخر حضورا يبدو اختياريا، ولكنه في عمقه إجباري.  فأنتجت العولمة واقعا جديدا معقد البنية والتركيب، تتجاذبه قوّتان، اندفاع جامح نحو إلغاء الخصوصيات الدينية والعرقية وتنميط العالم وفق النموذج الحضاري المتغلب، ومن جهة أخرى التشبُّث المستميت بالهويات الضيقة وما يصحبها من خطابات الكراهية التي تجذر التناقض في شخصية الفرد وعدم الانسجام مع النفس ومع المحيط بشراً وبيئة وقيماً وحضارة.

كما أن الإنسانية قد بلغت مستوى من التطور التكنولوجي خوّلها لأول مرة في تاريخها القدرة على تدمير ذاتها، ونظرا لفشو الفكر المتطرّف بكل أصنافه أصبح احتمال استعماله أمرا واردا، لا سيما في ظل إمكانية انفلات أسلحة الدمار الشامل عن سلطة الدول المسؤولة ورقابتها. وطال هذا التطور التكنولوجي الأعمى مسار الحياة البشرية من خلال تقنيات الجينوم البشري وما اجترحت من معضلات أخلاقية، إذ أتاح العلم لنفوس عطشى إلى الاكتشاف التدخل في خلايا الأجنة واقتحام شفرة النطفة الأمشاج لتعديل الجنين بزيادة الهرمونات، وقضايا الاستنساخ وما تنطوي عليه من مآلات لا تزال وراء أستار الغيب التي لا يعلمها إلا من {يعلم الخبء في السموات والأرض} سبحانه وتعالى.

وحتى الأرض؛ هذه الأم التي وضعها الله سبحانه للأنام قد انْتُهِكَتْ حتى قاءت أفلاذ كبدها.

 كل ذلك أدى إلى شيوع حالة من القلق والترقب وعدم اليقين وفقدان الثقة، صارت تحتم على الإنسانية السعي الحثيث إلى أن يتوازى التقدم العلمي مع التقدم الأخلاقي لتأطير وتحصين هذه الاختراعات بسياج من قيم الخير والمحبة والسلام.

وإن من مظاهر المأزق الذي تعيشه البشرية كذلك الانفصام الحادّ الحاصل في منظومة الإنتاج والتوزيع بين فلسفة الاقتصاد وروح الأخلاق، حيث سادت القيم المادية الخالية من كل قيم إلهية أو إنسانية نبيلة، وغدا الإنسان مخلوقا جسديا، يعيش لِذاته مستغرقا في لَذّاته، فلا نبل ولا كرم ولا إيثار ولا تضامن ولا نظر في المآلات إلا مآلات الربح بلا روح والثروة بلا رائحة، واستولى الشح على النفوس وهيمن الجشع على الأثرياء.

ومما يزيد الدعوة إلى تحالف القيم إلحاحا وضرورة في هذه المرحلة من التاريخ ليس فقط وجود سوء فهم تاريخي لم تستطع لغة الاتصالات ووسائل المواصلات أن تمحوه من الذاكرة، بل كذلك لما انضاف إليه من أعمال مأساوية وعبثية في نفس الوقت يقوم بها أشخاص يتلبسون بلبوس الدين دون أي توكيل من سلطة دينية أو زمنية، فتضاعف سوء الفهم، وانضاف إلى السخيمة التاريخية المتراكمة ركام حوادث تحولت إلى أحداث مدوية فصدَّق كهانُ صدام الحضارة ظنهم وتحولت الكهانة إلى كارثة.

إننا أمام فشل حضاري، يحطُّ من قيمة الإنسان، فما جدوى أن يغزو الإنسان الفضاء ويبلغ أقصى الكواكب، بينما يظلُّ عاجزا عن التفاهم مع أخيه ونظيره ومثيله في الأرض.

أصبح الإرهاب بنجاعة أساليبه وقوة استقطابه يضع تحديا وجوديا أمام كلّ محبي السلام، ويفرض حتمية العمل المشترك لوضع خطط متكاملة أكثر نجاعة وأسرع وتيرة لاجتثاث التطرف والإرهاب من جذوره.

بل يمكن القول إن الديانات جميعها صارت اليوم في قفص الاتهام، حيث يعتبرها البعض المسؤولة عن العنف والحروب؛ فأصبح لزاما على رجال الدين أن يتصدوا لهذه الدعوى بالتفنيد قولا وعملا، لبيان أن الإنسان الذي يفسر الدين تفسيرا خاطئا أو يستنجد به، أو يسخره لأغراضه هو المسؤول وليس الدين في حد ذاته. وذلك بالعودة إلى نصوصهم الدينية وتراثهم ليستمدوا أسسا متينة للتسامح والتعايش، ونماذج مضيئة يسهم إحياؤها في إرساء قيم الخير والسلام في نفوس أتباع هذه الديانات.

 إن واجب الوقت يحتم على رجال الدين التعاون لنزع اللبوس الأخلاقي الذي يستقوي به الخطاب التحريضي وسلبه الشرعية الدينية التي تلبّس بها، وإظهار الدين على حقيقته قوةً صانعةً للسلام والمحبة وعامل جذب بين المختلفين وذلك من خلال إبراز الإمكانات الكبيرة للعمل المشترك بين الأديان.

هذه بعض مظاهر الأزمة التي يتأسس على الوعي بها والشعور بإلحاحها مسؤولية جميع النخب ولا سيما النخب الدينية في المبادرة، فكل تأخُّر عن المبادرة إلى الفعل في الوقت المناسب يرهن مستقبل الإنسانية ويجعل الأجيال الآتية أسيرة سيرورات لن يكون بوسعها السيطرة عليها، كالنمو السكاني والحروب الأهلية وتدهور البيئة والتفاوت المجحف بين الشمال والجنوب وداخل المجتمعات الواحدة.

ثانيا: الإيمان بالمشتركات 

تنبثق الدعوة إلى حلف فضول جديد من الإيمان العميق والقناعة الراسخة بأن لدى الإنسانية مشتركات كثيرة أدَّى تجاهلها وإذكاء الخصوصيات بدلها إلى كثير من الحروب والدمار، وإلى ابتعاد البشرية عن القيم التي أرساها الأنبياء، قيم الخير والمحبة والتراحم.

إن هذه المشتركات على مستويات مختلفة، منها المشتركات على مستوى الدين الواحد ومنها أخرى على مستوى ديانات العائلة الإبراهيمية ومشتركات عليا يجتمع فيها جميع البشر تتجسد في القيم الإنسانية التي تجمع عليها البشرية بدياناتها المختلفة وفلسفاتها الكونية المتنوعة. إن تفعيل هذه الدوائر والوصل بينها في تناغم وانسجام هو الذي من شأنه أن يرأب الصدع ويزيل سوء الفهم ويخفِّف من غلواء الاختلاف.

في الإسلام ليس الآخر هو اللاوجود أو المعدوم كما لدى أرسطو، إذ هو المقابل الفلسفي للموجود être / autre، كما أنه ليس -كما لدى هيغل- النقيض الذي ينبغي الهيمنة عليه لتستكمل “الذات” وعيها بنفسها في صراع حتمي لإثبات الذات، ولا هو – كما لدى سارتر – الجحيم الذي يسلب الذات حريتها وكمالها الأصليَّين.

إن الآخر في رؤية الإسلام قد أجمل التعبير عنه الإمام عليٌّ رضي الله عنه بقوله: “الناس صنفان: أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”، فالآخر هو الأخُ الذي يشترك معك في المعتقد أو يجتمع معك في الإنسانية.

ويتجلى هذا بسُمُوٍّ في تقديم الإسلام الكرامة الإنسانية بوصفها أول مشترك إنساني، لأن البشر جميعا على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ومعتقداتهم كرّمهم الله عز وجل بنفخة من روحه في أبيهم آدم عليه السلام، (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا). (سورة الإسراء الآية 70) الكرامة الإنسانية سابقة في التصوّر والوجود على الكرامة الإيمانية.

وهكذا، يُشَدِّد الإسلام في التصور الكلي للآخر على وحدة النوع والمساواة في الكرامة الإنسانية، والبحث عن تنمية المشتركات ونبذ معايير التفاضل إلا بالخير والتقوى، وهو ما يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلّم (يأيها الناس إن ربّكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى).

المشترك الإنساني هو القيم الكونية التي لا تختلف فيها العقول، ولا تتأثر بتغير الزمان، أو محددات المكان، أو نوازع الإنسان، لأن لها منابت وأصولا تحفظها من عوادي الدهر وتعسفات البشر.

يذهب أكثر الفلاسفة تحت قيادة “كانت” رئيس المذهب المطلق إلى أن الحق والخير والجمال هي قيم أزلية، لا علاقة لها بالزمان ولا بالمكان، فما كان قيمة في الماضي هو قيمة في الحاضر، وسيظل قيمة في المستقبل، وأن هذه القيمة بالنسبة للصيني وبالنسبة للأوروبي وبالنسبة للعربي هي قيمة واحدة ولو كانوا يجهلون ذلك.

 ولئن كان “كانت” قد رام تأسيس الأخلاق خارج الدين، ولم يعترف بأصولها وجذورها الدينية، إلا أن هذا المذهب المطلق، يتفق مع الديانات السماوية وتقدمه أوعية اللغة ومفاهيمها، فالعدل في كل لغة وفي كل مكان كلمة جميلة، وعندما ننطق كلمة الوفاء فإنها كلمة جميلة. عندما ننطق بالظلم وبالغدر نجدها في كل اللغات والثقافات كلمات ممقوتة، بل حتى الظالم والغادر لا يريد أن يكون كذلك، ويود لو وُصف بأنه عادل وفـيٌّ صادق.

 هذه القيم المشتركة تجب إعادتها في حياة الناس، وهي مبثوثة في كل رسائل ودعوات الأنبياء، والإنسانية كلها اليوم محتاجة إليها حاجة الرضيع إلى الحنو والحنان والعطف بعد أن أحال السفهاء والمجانين مجالات حركتها إلى حقول ألغام، إنها قيم السلم الثابتة التي لا تتغير،  والتي يزكيها العقل وتقتضيها المصالح الإنسانية، ولا يمكن وصم هذا المستوى المشترك من القيم بالقصور أو العجز، أو ما أسماهُ بول ريكور “الأخلاق الفقيرة”، بل إنها تصلح أساسا متينا للعمل المشترك، مهما اختلفت المنطلقات اللاهوتية الدينية أو الفلسفية التي يتأسس عليها موقف كل طرف.

يلزمنا الانطلاق من الرغبة المشتركة النابعة عن القيم المشتركة والمسؤولية المشتركة لإحلال السلم محل الحرب والمحبة مكان الكراهية والوئام بدل الاختصام، إذ من شأن ذلك أن يعبئ طاقات رجال الدين والمثقفين والأكاديميين – من أولي بقية من كل الأديان والثقافات، للتحالف في حلف فضول لإزالة هذا الخطر الحضاري.

إن البشرية الآن في سفينة واحدة على وشك الجنوح، فلا بد لأهل القيم أن يأخذوا على أيدي الذين يريدون خرق السفينة- على حد استعارة الحديث النبوي الشريف.

المحور الثاني: أهداف حلف الفضول الجديد

يقع السلم في مقدمة أهداف حلف الفضول الجديد ومقاصد الشراكة بين أطرافه، والسلم يمثّل غاية في ذاته ووسيلةً للوصول إلى الأهداف الأخرى والتي بتوفُّرها نضمن استمرار السلم وديمومته.

  • صناعة جبهة من رجال الدين للدعوة إلى السلام ورفض استغلال الدين في النزاعات والحروب:

لعل أوّل خطوة في دروب السلم تتمثل في إيجاد مجموعة من رجال الدين من العائلة الإبراهيمية ومن يرغبون من الدّيانات الأخرى من العائلة الإنسانية تتبنّى أهدافا وغايات مشتركة، فذلك في حدّ ذاته هدف وإنجازٌ.

       إن البحث عن حلف فضول جديد يحمّل رجال الدين عبئا فيما يتعلق بكل ديانة لمعالجة التطرف والغلو، وطرد النعاج الجرب -كما يقول المثل- من القطيع، وإعادة التوازن في نطاق كل ديانة لبناء الجسور بينها على أسس صلبة ودعائم قوية قابلة للاستمرار والاستقرار، بل للازدهار ولإعلان الانتصار على الشر.

       ولا يتأتى ذلك إلا من خلال البحث عن آليات عملية تضمن انخراط أكبر عدد ممكن من رجال الدين من العائلة الإبراهيمية في خطوات عملية ميدانية لتعزيز السلم، وإلى تبني مقاربة تصالحية تتيح لهم نشر روح الأخوة ضمن أتباعهم ومجتمعاتهم، ودعوتهم إلى تجاوز العداوات ومشاعر الكراهية بكل أنواعها وأصنافها.

إن هذا الهدف المتمثل في الدعوة إلى قيم السلام أكيد وضروري في كل البيئات، ويزداد تأكدا في المجتمعات الموبوءة بداء التطرُّف والكراهية.

  • تزكية العقود المجتمعية وتأصيل المواطنة الإيجابية:

من أهداف حلف الفضول الجديد تزكية العقود المجتمعية التي تلتئم فيها المجتمعات لتجنبها الحروب والفتن، وبالخصوص عقود المواطنة الإيجابية القائمة على مبادئ المساواة والحرية والاحترام المتبادل. لقد قمنا في منتدى تعزيز السلم من خلال إعلان مراكش بتأصيل المفهوم الجديد للمواطنة انطلاقا من صحيفة المدينة المنورة؛ بوصفها خيارا يرشحه الزمن والقيم للتعامل مع كلّيّ العصر وتفعيل المشترك الإنساني وتحييد عناصر الإقصاء والطرد، وقد استهدفنا المصالحة بين الهوية الدينية والهوية الوطنية، فلا نرى أن قوة الانتماء إلى الهوية الدينية تؤدي إلى انهيار روح المواطنة؛ بل نرى أن الانتماء الديني قد يمثل حافزا لتجسيد المواطنة وتحييد سلبيات تأثير عامل الاختلاف الديني عليها.

إن أهم مقومين من مقومات المواطنة في إعلان مراكش هما مقوم الاعتراف بالتعددية وإقرار الحرية الدينية، ومقوم المساواة في الواجبات والحقوق المتساوية، فبهذه المقاربة ترتقي المواطنة إلى المؤاخاة وتنتقل من الوجود المشترك إلى الوجدان المتشارك.

إن حلف الفضول الجديد يربط المواطنة وقيمها كالحرية بهدفين أساسيين هما: السلم الاجتماعي والمحافظة على النظام العام باعتبارهما مؤطرين لتنزيل هذه المفاهيم في البيئات المختلفة تنزيلا لا يعود على المواطنة بالإبطال والإخلال.  فلا بد من ربط عنوان الحرية بالسلم الاجتماعي، وربط مبدأ حرية التعبير الذي أصبح مقدسا في الحضارة السائدة بمبدأ المسؤولية عن نتائج التعبير.

  • احترام جميع المقدسات

يهدف حلف الفضول الجديد إلى الدعوة إلى ميثاق بين أتباع ديانات العائلة الإبراهيمية، ميثاق احترام متبادل تجاه مقدساتهم، فلا يقبل من أحد منهم شتم مقدسات الآخرين أو أي شكل من أشكال إهانة المقدسات أو ازدراء أديان الآخرين، ويكونون في ذلك على سواء.

فإن شتم المقدس لا يمكن أن يعتبر وجها من وجوه حرية التعبير، لأن المسيء لا يرمي من خلاله إلا إلى إيذاء الآخرين والإساءة إليهم، وليس يقصد به تحقيق خير أو نفع له أو لغيره، فإن شتم الرموز المقدسة لدى أتباع دين معين هو في الحقيقة شتم وإيذاء لهؤلاء المؤمنين بتلك المقدسات وتعد على حقهم في احترام معتقداتهم، هذا فضلا عن كونه يهدّد السلم والأمن وهذا من أهمّ الاعتبارات فأولوية السّلم بين المواطنين والبشرية جمعاء ينبغي الحرص عليها، ولذلك فإننا نثمّن قرار المحكمة الأوروبية (360/2018) الصادر منتصف شهر أكتوبر الماضي والقاضي بسلامة أحكما القضاء النمساوي في قضية شتم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معللا بأن الدعاوى المسيئة لا يمكن أن تدخل في نطاق حرية التعبير حيث إنها تمس حقوق المواطنين الآخرين في احترام معتقداتهم الدينية وتهدد السلم الديني في المجتمع النمساوي. إن هذا القرار يسهم في تعزيز السلم العالمي ونشر المحبة والتسامح في العالم ويمثل مع أحكام أخرى مشابهة سوابق قضائية سيكون على محاكم الغرب أن تأخذها بعين الاعتبار في هذا النوع من القضايا، وهو ما راعاه وأرساه القانون الاماراتي.

ولا يفوتني هنا أن أشيد بالسياسة الرشيدة لدولة الإمارات في ترسيخ مبادئ المواطنة التي تتسم بالواقعية في مراعاة خصوصية السياق المحلي وبوضوح الهدف، ويتجلّى ذلك بوضوح في سنّها القانون الاتحادي رقم 2 سنة 2015، والذي يتعلق بمكافحة التمييز وخطاب الكراهية وازدراء الأديان، ويعمل على تحصين المجتمع وحمايته من خطابات الكراهية والتحريض على العنف وزعزعة السكينة والسلم الاجتماعي.

 

  • التصدّي لاضطهاد الأقليات باسم الدين

يؤكّد حلف الفضول الجديد ويشدّد على رفض كل اضطهاد يوجّه إلى أقلية دينية أو عرقية أو ثقافية، ويرفض استغلال الدين في هذه الأعمال الشنيعة التي لا يقبلها عقل أو يبرّرها دين.

ولا يفوتني هنا أن أنوّه هنا بجهودكم أخي -سعادة السفير سام براون باك- في حماية الروهينغا والتحسيس بقضيتهم، حيث أسهمت جهودكم في إيصال صوت هذه الأقلية إلى المحافل الدولية والأمم المتحدة، وكان لها الأثر المهم في اتخاذ الأمم المتحدة  القرار في حمايتها من جحيم الإبادة الجماعية.

  • تزكية المعاهدات الدولية الرامية إلى إحلال السلام وتعزيزه

يهدف حلف الفضول الجديد إلى تزكية ودعم المعاهدات الدولية والإقليمية التي تتغيا إحلال السلام وتعزيزه ووقف الصراعات ودعم روح الوئام والإخاء بين البلدان والشعوب والثقافات.

وقد سنّ الإسلامُ المعاهدات فما كانت العرب تعرف إنهاء الحروب بالمعاهدات، بل كانت تتفانى وربما استمرّت الحرب بين القبيلتين عقودا من الزمن. وقد وقّع النبي صلى الله عليه وسلّم العديد من المعاهدات مع مختلف الفئات والديانات لنشر السلم في جزيرة العرب.

وقد عظّم الإسلام شأن المعاهدات وجعلها تقوم على حسن النية والشفافية قال تعالي: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثمّ لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتــمّوا إليهم عهدهم إلى مُدّتهم إن الله يحبّ المتّقين). وقال عز وجل: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) وفي الحديث (لا دين لمن لا عهد له)، رواه أحمد.

  • إحياء القيم وإرساء الفضيلة

كما أن من أبرز أهداف حلف الفضول الجديد إحياء قيم الفضيلة وتعريفها والدعوة إليها وتحسس الخلل الحائق بالحضارة ومحاولة رأب صدعه وإصلاح ثآه بتفعيل قيم الأخلاق الكريمة، وليس فقط حقوق الإنسان  التي تمثل الحد الأدنى الذي لا غنى عنه لتعايش البشرية : كالرأفة والرحمة والإيثار والتضامن ومساعدة المحتاج من الفقراء والعاجزين، دون التفات إلى عرقهم أو دينهم أو أصولهم الجغرافية، إذ من شأن ذلك أن يقدم مفهوماً جديداً للإنسانية يتجاوز المبدأ المحايد لحقوق الإنسان المتمثل في المساواة وعدم الاكتراث بالاختلاف إلى الإيجابية في التعامل التي تشعر الآخر بدفء المحبة والأخوة.

ومن أهم قيم الفضيلة التي أصابها الضمور في سياق عولمة القيم وقيم العولمة، والتي ينبغي أن يحييها حلف الفضول الجديد لشديد حاجة البشرية إليها: قيمة الضيافة، وهي قيم أصيلة في العائلة الإبراهيمية. فإكرام نزل الضيف سنة إبراهيمية، حدثتنا عنها الكتب المقدسة، ففي القرآن الكريم: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون، فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون). وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: “من لم يضف فليس من محمد ولا من إبراهيم”. وكذلك قيمة الجوار أصيلة في قيم العائلة الإبراهيمة، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي ملك الحبشة وكان نصرانيا بأنه ملك لا يظلم عنده أحد، فقد حمى اللاجئين المسلمين الفارّين من بطش مشركي مكة، وقال لهم: “اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، فما أحب أن لي دَبْرَ ذهبٍ وأني آذيت رجلا منكم”.  ونجد في سفر الخروج (9:23): ( لا تضايق الغريب فإنكم عارفون نفس الغريب، لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر)، وفي سفر اللاويين (33:19): ( وإذا نزل عندك غريب في أرضكم فلا تظلموه، كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم، وتحبه كنفسك، لأنكم كنت غرباء في أرض).

إن هذه النصوص تمثل الإطار الأمثل لما ينبغي لأبناء العائلة الإبراهيمية القيام به في حقِّ كل غريب يدخل أرضا ليست أرضه، وخاصة في سياق ما يشهده العالم اليوم من حروب أدت إلى نزوح الفئام من الناس هربا من الموت والجوع، وبحثا عن حياة كريمة، إلى مناطق قد لا تكن لها المودة أو تتوجس منها خيفة، فأمام الأديان تحدّ كبير يتعلق بدورها في جبر النقص في الآليات الدولية المتعلقة بحماية اللاجئين والنازحين والمهاجرين ومواجهة الأزمات الإنسانية.

إن على أبناء العائلة الإبراهيمية أن يعودوا إلى هذه النصوص لتمثل لهم الإطار الأمثل الذي يعيد للدين طاقته الإيجابية، ليغدُوَ بلسما لجراح الإنسانية ودواء لمآسيها وسكينة تنزل على القلوب وحُبّا يَسْكُن في النُّفوس.

خاتمة

لا بُدّ أن نفكّر معًا كيف نضع خارطة طريق لتحقيق بعض هذه الأهداف ولتجربة تعاوننا ميدانيا وتفعيل المشتركات. إنّ ذلك يمثل أفضل رد على المتطرفين من كل الاتجاهات الذين يستغلون الجماهير لإشعال الحروب والفتن ويبثون روح الكراهية؛ وبه نقدم خير برهان على أن الأخلاق الدينية قادرة من جديد على أن ترشد العالم إلى سبيل الخلاص من مشكلاته العضالية في هذه الدنيا، والتي منها الظلم والجهل والتعصب والحروب والإرهاب، والتهديد بالحروب النووية والكيمياوية والإبادة، لتحل محل ذلك روح الإخوة والعدل وحب الإنسانية والمصالحة والتسويات بالحسنى، كما أنَّ الدين بذلك يوفر مناخا للتنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية.

إن نموذج قوافل السلام يمكن أن يؤسس لنوع جديد من الحوار التعارفي، فالقس بوب روبرت يستقبل في كنيسته في تكساس إخوته من المسلمين، والحاخام بروس لاستك يفتح أمامهم أبواب كنيسه في واشنطن، والإمام ماجد يحتفي بإخوته من الإنجيليين واليهود في مسجده بمركز آدم في فرجينيا. إنه حضور الذوات في الحيز المكاني والزماني ولو لمدة محدودة، حضور يتمثل في التشارك في العيش في الحركة معا والأكل معا والنوم معا والسفر معا، وكلهم يقوم بشعائر دينه التي هي جزء من حياته اليومية بمرأى ومسمع من الآخر، إنهم يتكلمون ويبحثون، ولكن الأهم أنهم يشاهدون ويشهدون ويكتشفون في النهاية أنهم إخوة يشتركون في أكثر مما يتصورون.

ينبغي لحلف الفضول الجديد أن يرسخ هذا النموذج ليصبح آلية للتعاون والتعايش أكثر عملية ونجاعة، وتقليدا ينبغي العمل على تعميمه والاستفادة منه. وستظل هذه التجربة نموذجا للتعارف ولعملية الحوار، بل لعملية التعارف الإيجابي والتعاون على البر في حركة أسست لما نحن بصدده من تدشين عهد جديد في العلاقات بين ديانات العائلة الإبراهيمية، وبالتالي فاتحة عهد في التعاون بين أصحاب العقول النيرة وذوي النهى لتصحيح مسيرة الإنسانية.

إن جهودا كثيرة تبذل في نطاق كل الديانات من أجل السلام، تقام الصلوات وترفع الدعوات من أجل ذلك، لكن تيار التضامن والتعاون يجب في النهاية أن يبرز وأن ينجز أعمالا ميدانية تبرهن للعالم كله أن الدين في أصله هو عامل خلاص ورحمة للعالمين.

لقد آن لقادة الديانات أن يبرهنوا على فعالية أفضل وانخراط أكبر لهموم المجتمعات البشرية لإعادة الرشد وإبعاد شبح الحروب والفتن المهلكة، فإذا كان البعض ينظر إلى الدين كعامل تفرقة وتمزيق لنسيج الشعوب؛ فإن حلف الفضول الجديد يريد أن يبرهن عمليا على أن الدين يمكن ويجب أن يكون قوة بناء ونماء ووئام وإطفاء للحريق، يبني ولا يهدم، يجمع ولا يفرّق، ويعمّر ولا يدمّر.

تلك هي العبرة والدعوة والرسالة التي نوجهها من خلال هذا الحلف.

عمليا: قد يكون من المناسب إيجاد إطار تنظيمي لهذا التجمّع طبقا للقوانين والنظم المعمول بها في البلد المقرر، كما سبق أن أشار به بعض القادة في اجتماع واشنطن.

وعمليا: يمكن أن يقوم رجال الدين بمبادرات لتشجيع الحلول السلمية في بعض المناطق التي تشكو من داء البغضاء وتنازع البقاء إذا وجدوا مكانا أو صدورا تتسع لتدخلهم. لا نحمل سلاحا بل نحمل سلاما وكلاما، نحن إطفائيون بالحكمة والكلمة الطيبة.

نحن نشفق على هؤلاء الأطفال الذين يتنازعون أحيانا ويتصارعون في حين يمكن أن يتصالحوا، إنهم رجال ولكنهم في الحقيقة أطفال كبار، بحاجة إلى رجال عقلاء ليحجزوا بعضهم عن بعض، ويُبَصّروهم بالطريق الأفضل. بالحوار تتبين البدائل عن الاحتراب كما يقول أفلاطون.

إن الحرب وبخاصة في هذا الزمان لا غالب فيها، بل الكل مغلوب.

وأخيرا أقول للصحافة: أوصلوا أفكارنا وأخبارنا، روجوا للخير، لا تنتظروا أن يقتتل القساوسة والحاخامات والأئمة لتتحدثوا عن عدد القتلى والجرحى، ذلك ما لا نرجوه، إننا نرجو السلام.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الكويت و”منتدى تعزيز السلم” يطلقان مبادرة إطعام مليار جائع حول العالم

برعاية الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، أمير دولة الكويت، بدأت المرحلة الأولى من تنفيذ مبادرة “إطعام مليار جائع حول العالم”، التي عُقد من أجلها مؤتمر “إنسانية واحدة ضد الجوع”، الذي نظمته دولة الكويت بالشراكة مع “منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة” والأمم المتحدة، في دولة الكويت 26 نوفمبر/تشرين الثاني.

جاء ذلك بحضور الشيخ عبدالله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، والدكتور عبد اللطيف بن راشد الزياني أمين عام مجلس التعاون الخليجي، والدكتور حمزة يوسف نائب رئيس منتدى تعزيز السلم، والدكتور محمد مطر الكعبي أمين عام منتدى تعزيز السلم، وفهد محمد محسن العفاسي وزير العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت.

كما حضر الدكتور عبدالله معتوق المعتوق، عضو مجلس أمناء منتدى تعزيز السلم المستشار في الديوان الأميري، ورشيد خاركوف مساعد الأمين العام للأمم المتحدة، وحشد كبير من الجمعيات الخيرية، والمنظمات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني المعنية بالأعمال الإنسانية في الشرق الأوسط والعالم عموما.

وتوجه الشيخ عبدالله بن بيه، في افتتاح المؤتمر، بخالص الشكر وجميل الثناء إلى أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، كما شكر الدكتور عبد الله معتوق المعتوق على جهوده لإنجاح هذه المبادرة.

** إقرأ كلمة العلامة عبدالله بن بيه كاملة**

 وقال: “لقد كنا معا في واشنطن بداية شهر فبراير/شباط الماضي، في تجمُّع كبير ضم قياديين من رجال العائلة الإبراهيمية في الولايات المتحدة، وبمشاركة كثير من محبي الخير من أبناء العائلة الإنسانية الكبرى، من سياسيين وأكاديميين وفاعلين مجتمعيين”.

وأضاف: “لقد سعينا في مؤتمر واشنطن لإيقاظ النفوس وإصغاء القلوب إلى دعوة السلام والتعاون في سبيل صياغة تحالف إنساني، يُستلهم من حلف الفضول، ويقوم على تفعيل القيم المتشركة، قيم العدل والرحمة والتآسي في المعيشة، التي أدى تجاهلها إلى ما هو مشاهد من المآسي الإنسانية، التي تدمي القلوب”.

وقال الشيخ عبدالله بن بيه إن حلف الفضول الجديد، يستلهم القيم التي قام عليها حلف الفضول التاريخي، الذي استمد فرادته من كونه لم يُؤسَّس على ما هو معهود في ذلك العصر” من المشترك الديني أو الانتماء القبلي، وإنما تأسس على القيم والفضيلة.

وتابع الشيخ عبدالله بن بيه: “حرصنا أن يكون من مخرجات مؤتمر واشنطن الدعوة إلى إطعام مليار جائع، من المعوزين من بني الإنسان، من دون تمييز بينهم بالدين أو العرق أو الوطن، وخاصة ضمن المجتمعات التي تعاني من أثر الحروب والصراعات الدموية”.

وقال إن تقارير الأمم المتحدة وهيئات الإغاثة الدولية والمنظمات الناشطة في العمل الإنساني، لا تزال تدق أجراس الخطر، وتصدع بحقيقة مؤلمة يكاد لا يصدقها العقل، حول أعداد البشر الذين يموتون سنويا؛ جراء المجاعة وسوء التغذية.

وأضاف: “هذا الواقع المرير ناشئ عن اختلالات بنيوية في منظومة الإنتاج والتوزيع في الاقتصاد العالمي، لِما أصاب هذه المنظومة من انفصام حاد بين فلسفة الاقتصاد وروح الأخلاق، حيث سادت القيم المادية الخالية من كل قيم إلهية أو إنسانية نبيلة، وهذا هو ما يُلقي على عاتق رجال الدين مسؤولية السعي، من مواقعهم، انطلاقا من دوائر تأثيرهم واهتمامهم؛ ليسهموا في استعادة الضمير الأخلاقي للإنسانية، الذي يُعيد الفاعلية لقيم الرحمة والغوث، ويُرسي معاني التعاون والإحسان وفعل الخير.

 وتابع الشيخ عبدالله بن بيه: “إننا في منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة منذ تأسيسه سنة 2014 في أبوظبي بدولة الإمارات، نعتبر أن من أهم عناصر الارتكاز في رؤية المنتدى التأكيدَ على مِحورية المَدخل القِيميّ في تجديد الخطاب الديني واستعادة البعد الإنساني لهذا الخطاب، باستثمار ما تتيحه النصوص القطعية والمقاصد الكلية، من الأرضية الروحية الصلبة لإطلاق مبادرات ميدانية تعيد للدين طاقته الإيجابية، ليغدو بلسما لجراح الإنسانية ودواء لمآسيها وسكينة تنزل على القلوب وحُبا يسكن في النفوس”.

وأكد أن المنتدى ينطلق في هذه الرؤية، من قوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَررَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْررًا عَظِيمًا”، فمقاصد السلم والإصلاح بين الناس والرحمة والمحبة هي مرتكزات الرواية الصحيحة للإسلام التي يسعى المنتدى في جميع المحافل للتأصيل لها وتوصيلها.

وقال: “ها نحن اليوم نجتمع في إطار هذه الرواية والرؤية لندعوَ إلى أفضل الصدقة (إطعامِ الجائع، مواساة المحتاج ومَدِّ يد العون للفقير)”.

وتابع: “في الرؤية التي يتبناها المنتدى، انطلاقا من هذه النصوص، لا انفكاك بين مقصد السلم ومقصد الأمن الغذائي، وهو ما نفهمه من قوله تعالى “الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”؛ و قد أيدت الدراسات المتخصصة والتقارير الدولية هذا التلازم، حيث برز أن من أهم أسباب المجاعة في العالم، بالإضافة إلى العوامل المناخية المتربطة بالاختلالات البيئية، عامل الحروب الأهلية، والصراعات الدموية التي تدمر النسيج الاقتصادي للمجتمعات، وتكسر دائرة الإنتاج والتوزيع، وتعيق الوصول السلس إلى الأسواق.

وختم الشيخ الشيخ عبدالله بن بيه كلمته، معتبرا أن هذه الدعوة من صميم رسالة الديانات السماوية والفلسفات الإنسانية كافة، فكل النصوص المقدسة جاءت بدعوة الإنسان إلى الإنفاق والتصدّق والبذل ولو من إقتار، وقيمة الإيثار.

وتحدث في الافتتاح الدكتور عبد الله معتوق المعتوق، قائلا إن المؤتمر يتصدى لقضية من أهم القضايا الإنسانية، وهي قضية الجوع الذي يهدد حياة الملايين في بعض المجتمعات الإنسانية المعاصرة، وبخاصة  المجتمعات التي تشهد نزاعات عرقية وإثنية وحروب أهلية.

ولفت إلى أن المؤتمر هو ترجمة لتوصيات مؤتمر واشنطن، الذي نظمه منتدى تعزيز السلم، حيث جرى إطلاق مؤسسة حلف الفضول، مضيفا: و”تعهدنا لفضيلة الشيخ عبدالله بن بيه بالعمل لتنفيذها على أحسن ما يكون؛ لأننا كنا واثقين من تجربة دولة الكويت الإنسانية، كما كنا واثقين من المؤسسات والجمعيات الأهلية في الكويت والمنطقة باستعدادها للاستجابة لهذه المبادرة الإنسانية”.

وأوضح المعتوق أن ترجمة “مبادرة إطعام مليار جائع” تأتي على ثلاثة مستويات: أولا: رغیف الخبز، والسلال الغذائیة، والمطابخ المركزیة، وتغذیة الطلبة والأیتام، والأطعمة المعلبة، والمكملات الغذائیة، وبنوك الطعام، وثانيا: التنمية المجتمعية، ويندرج في إطارها تمكین المستفیدین من القروض المیسرة، والمشاریع الصغیرة، والتأھیل الحرفي، والمزارع الإنتاجیة والزراعية، وثالثا: استصلاح الأراضي وتوفیر آلات الزراعة ومستلزماتھا، ومشاریع الري والسدود، ومحطات المیاه والخزانات والآبار، والصناعات الغذائیة.

كما تحدث الدكتور عبد اللطيف بن راشد الزياني، فوجَّه أسمى التحيات إلى الأمير جابر الأحمد الصباح، ودولة الكويت وشعبها المعطاء، مشيرا إلى أن ما حققته دولة الكويت في مجال العمل الإنساني وما اكتسبته من خبرات جعلها تستحق لقب مركز العمل الإنساني، وجعل أميرها قائدا للعمل الإنساني، حسبما كرمته الأمم المتحدة، على دوره المشهود في مد يد العون للمحتاجين حول العالم.

ونوّه الزياني بجهود الأمم المتحدة التي تندرج في إطار خطة القضاء التام على الجوع في العالم، داعيا لمعالجة العوامل المسببة للجوع، مثل: الفقر وانعدام التنمية والحروب الأهلية، ما يستدعي تدخل المجتمع الدولي لتخفيف المعاناة عما يزيد 21 مليون إنسان مهددون بخطر الموت جوعا، فضلا عن نحو 800 مليون شخص لا يجدون ما يفيهم من الغذاء.

وأضاف الزياني أن دول مجلس التعاون الخليجي تبذل جهودا مخلصة في دعم وتعزيز العمل الإنساني، وخاصة من جهة توفير المشاريع المتخصصة في تنفيذ برامج ومشاريع تهتم بالإنسان على كل المستويات الصحية والغذائية، كما أن الجمعيات الخيرية في دول مجلس التعاون تكتسب خبرات كبيرة في مساعدة المعوزين وتحسين شروط حياتهم.

إلى ذلك توجه رشيد خاركوف مساعد الأمين العام للأمم المتحدة، بالشكر إلى الشيخ عبدالله بن بيه رئيس “منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة”، على جهوده الملحوظة دوليا في تعزيز السلم العالمي.

وأثنى على مبادراته الإنسانية الرائعة، التي تندرج في إطار محاربة الجوع، وهو جهد تثاقل به المجتمع الدولي في السنوات الأخيرة؛ بسبب ازدياد عدد الجائعين والمشردين حول العالم؛ جراء الحروب والنزاعات، التي تزايدت وتيرتها في العقود الأخيرة.

وفي الختام، جرى تكريم الشيخ عبدالله بن بيه على دوره المشهود في ترسيخ ثقافة التسامح وتعزيز السلم العالمي، وعلى مبادراته الإنسانية التي تستعيد إحياء القيم الأخلاقية، التي تتسق مع روح الأديان وتستجيب لحاجات الإنسان في كل زمان أو مكان.

كما جرى تكريم نخبة من الشخصيات وممثلي المؤسسات الخيرية الإنسانية، العاملة في إطار مد يد العون للمحتاجين حول العالم، من دون تمييز بين الأعراق والأديان أو الأوطان.

كلمة في ملتقى “إنسانية واحدة ضد الجوع” – العلامة عبدالله بن بيه

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما

كلمة في ملتقى “إنسانية واحدة ضد الجوع”

الكويت  26 نوفمبر 2018

معالي الشيخ عبد الله بن بيه

رئيس منتدى تعزيز السلم

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي

معالي المستشار الدكتور فهد محمد محسن العفاسي وزير العدل وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية

معالي الدكتور عبد الله معتوق المعتوق، مستشار صاحب السمو أمير الكويت،

معالي الدكتور عبد اللطيف بن راشد الزياني، الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربي،

أصحاب المعالي والفضيلة والاحترام،

أيها الحضور، كلٌّ باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

في مستهلّ مؤتمرنا هذا الذي يشرف برعاية كريمة من صاحب السمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح حفظه الله ومتعه بالصحة والعافية، أتوجّه بالشكر لمعالي الدكتور عبد الله معتوق المعتوق، لاضطلاعه بأعباء هذه المبادرة واحتفائه بها وبذله الجهود المضنية في سبيل إنجاحها والحشد لها. فله جميل الثناء وصادق الدعاء.

لقد كناّ معا في واشنطن بداية شهر فبراير الماضي، في تجمُّع كبير ضمّ قياديين من رجال العائلة الإبراهيمية في الولايات المتحدة، وبمشاركة كثير من محبي الخير من أبناء العائلة الإنسانية الكبرى، من سياسيين وأكادميين وفاعلين مجتمعيين.

سعينا في مؤتمر واشنطن لإيقاظ النفوس واستصغاء القلوب إلى دعوة السلام والتعاون في سبيل صياغة تحالف إنساني، يستلهم من حلف الفضول، ويقوم على تفعيل القيم المتشركة، قيم العدل والرحمة والتآسي في المعيشة، التي أدَّى تجاهلها وإذكاء الخصوصيات عوضها إلى ما هو مشاهد من الحروب والاقتتال.

لقد رام حلف الفضول الجديد أن يستلهم القيم التي قام عليها حلف الفضول التاريخي، وهو حلف استمد فرادته من كونه لم يؤسس على ما هو معهود في ذلك العصر من المشترك الديني أو الانتماء القبلي أو العرقي، بل تأسس على القيم والفضيلة، ومنا هنا زكاه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : (لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أُحِبُّ أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت)، وذلك أن الإسلام يزكي الفضيلة أيا كان مصدرها  ومهما كان مصدرها، وأيا كان منشئها أو منشؤها.

استلهاما لهذه الروح، روح حلف الفضول، حرصنا أن يكون من مخرجات مؤتمر واشنطن الدعوة إلى إطعام مليار جائع، من المعوزين من بني الإنسان، بلا ميز بينهم بالدين أو العرق أو الوطن ، وخاصة ضمن المجتمعات التي تعاني من أثر الحروب والصراعات الدموية.

لقد أطلقناها معا دعوة عامة عليها يجتمع الجميع، وفي سبيلها يتعاون كافة الأطراف من الجهات الحكومية والهيئات الدينية ومنظمات المجتمع المدني.

أيها الحضور،

لا تزال تقارير الأمم المتحدة وهيئات الإغاثة الدولية والمنظمات الناشطة في العمل الإنساني تدقّ أجراس الخطر وتصدع بحقيقة مؤلمة يكاد لا يصدقها العقل، حول أعداد البشر الذين يموتون سنويا من جراء المجاعة وسوء التغذية، ويكفي أن نعلم أنه في كلّ خمس ثوان يموت طفل من الجوع، فضلا عن  مئات الملايين مِن مَن لا يجدون ما يسدُّ رَمَقَهم أو يروي عطشهم.

إن هذا الواقع المرير ناشئ عن اختلالات بنيوية في منظومة الإنتاج والتوزيع في الاقتصاد العالمي، لما أصاب هذه المنظومة من انفصام حادّ بين فلسفة الاقتصاد وروح الأخلاق، حيث سادت القيم المادية الخالية من كل قيم إليهة أو إنسانية نبيلة، وغدا الإنسان مخلوقا جسديا ، يعيش لِذاته مستغرقا في لَذّاته، فلا نبل ولا كرم ولا إيثار ولا تضامن ولا نظر في المآلات إلا مآلات الربح بلا روح والثروة بلا رائحة حيث استولى الشح على النفوس وهيمن الجشع على الأثرياء.

ذلك هو ما يُلقي على عاتق رجال الدين مسؤوليةَ السعي من مواقعهم وانطلافا من دوائر تأثيرهم واهتمامهم ليسهموا في استعادة الضمير الأخلاقي للإنسانية، الذي يُعيد الفاعليةَ لقيم الرّحمة والغوث ويُرسي معاني التعاون والإحسان وفعل الخير، من خلال مبادرات، تتصف بالديمومة والتجدُّد، تجمع ولا تفرِّق، تنفع ولا تضر، تتّسق مع روح الأديان وتستجيب لحاجات الإنسان.

منذ تأسيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة  سنة 2014 في أبو ظبي، بدولة الإمارات العربية المتحدة، لم نزل نعتبر أن من أهم عناصر الارتكاز في رؤية المنتدى التأكيدَ على مِحورية المَدخل القِيميّ في تجديد الخطاب الديني واستعادة البعد الإنساني لهذا الخطاب، باسْتثمار ما تتيحه النصوص القطعية والمقاصد الكلية، من الأرضية الروحية الصلبة لإطلاق مبادرات ميدانية تعيد للدين طاقته الإيجابية، ليغدُوَ بلسما لجراح الإنسانية ودواء لمآسيها وسكينة تنزل على القلوب وحُبّا يَسْكُن في النُّفوس.

إن المنتدى، في هذه الرؤية، ينطلق من قوله تعالى: (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)، فمقاصد السلم والإصلاح بين الناس والرحمة والمحبة هي مرتكزات الرواية الصحيحة للإسلام التي يسعى المنتدى في جميع المحافل للتأصيل لها وتوصيلها.

وها نحن اليوم نجتمع في إطار هذه الرواية والرؤية لندعوَ إلى أفضل الصدقة، إطعامِ الجائع، مواساة المحتاج ومَدِّ يد العون للفقير، ونحن نستحضر حديثا من أوّل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة حين دعا الناس قائلا : “يأيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصِلوا الأرحام وصَلُّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام”.  وقد روى البخاري موقوفا على عمار بن ياسر رضي عنهما وهو في حكم المرفوع، ورُويَ مرفوعا،  أنه قال : ( ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من أقتار).

  في الرُؤية التي يتبناها المنتدى، انطلاقا من هذه النصوص، لا انفكاك بين مقصد السلم ومقصد الأمن الغذائي، وهو ما نفهمه من قوله تعالى ” الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”؛ و قد أيدت الدراسات المتخصصة والتقارير الدولية هذا التلازم، حيث بَرَز أن من أهم أسباب المجاعة في العالم -بالإضافة إلى العوامل المناخية المتربطة بالاختلالات البيئية، عامل الحروب الأهلية والصراعات الدموية التي تدمر النسيج الاقتصادي للمجتمعات وتكسر دائرة الإنتاج والتوزيع وتعيق الوصول السلس إلى الأسواق.

إن هذه الدّعوة من صميم رسالة كافة الديانات السماوية والفلسفات الإنسانية، فكل النصوص المقدسة جاءت بدعوة الإنسان إلى الإنفاق والتصدّق والبذل ولو من إقتار وقيمة الإيثار.

وأخيرا أقول لمعالي الدكتور عبد الله معتوق المعتوق، لقد وَفَيْتَ بوعدك في واشنطن، فلمعاليكم الشُّكر وللهيئة الخيرية الإسلامية العالمية ولدولة الكويت، أميرا وحكومة وشعبا كريما مِعْطاءً، فجزاكم الله خيرا، وتقبّل الله منّا ومنكم.

العلامة ابن بيه: حضارة ومستقبل الإنسان منوطة بـ«طفل اليوم»

أبوظبي(الاتحاد)

أكد معالي العلامة الشيخ عبدالله بن بيه رئيس مجلس الإفتاء الشرعي بدولة الإمارات أهمية انعقاد مؤتمر «تحالف الأديان لأمن المجتمعات.. كرامة الطفل في العالم الرقمي» في عام زايد، الذي كان مستقبل الأطفال أمرا قريبا إلى قلبه، مؤكدا ضرورة الاهتمام بالأطفال وحقوقهم لأنهم أجيال الغد. وأشار إلى أن الحديث عن الطفل حديث عن المستقبل واهتمام بمصير الإنسان.

وأشاد بريادة دولة الإمارات في حماية الطفل، لافتاً إلى أن إصدار «قانون وديمة» كان خطوة رائدة من أجل حماية حقوق الطفل بمختلف أوجهها.

وقال: مستقبل الإنسان وحضارته منوطة بطفل اليوم، لذلك كانت رعاية حقوق الطفل من أهم الحقوق التي جاءت في التشريعات والشرائع، وكفلت الشريعة الإسلامية حقوق الأفراد والمجتمعات الإنسانية، بخاصة المخلوقات الهشة التي تحتاج للمحافظة والرعاية، حيث لم تكتفِ الشريعة بالنصائح، بل قننتها بنصوص ملزمة جاءت لصيانة الكينونة الإنسانية.

وأضاف: سنت الشريعة أحكاما عاما وجزئية، ضمن مقاصد ناظمة للمعاملات والعادات، فهيأت وجود البيئة الملائمة للطفل، من خلال تأسيس الأسرة المتماسكة والمتضامنة القائمة على روح المودة والرحمة، ووضعت مؤسسات شرعية للعناية به، إيجاداً لأسباب البقاء والنماء ليكون إنساناً صالحاً يضطلع بدور إيجابي في هذا العالم.

وأشار إلى أن من المؤسسات الشرعية المحافظة على الطفل هي مؤسسة الحضانة التي لا يوجد لها نظير، حيث إن حقوق الطفل هي واجبات على والديه أو على المجتمع أو الدولة، والحضانة هي صيانة العاجز والقيام بمصالحه والقيام بمبيته، وحفظ المحضون بعمل ما يصلحه والتعهد بالعمل فيما يحتاجه.

ولفت إلى أن الحضانة تتعلق بالله والحاضن والطفل، وتزداد أهمية الحضانة في السياق المعاصر، خاصة مع غلبة النزعة الفردية، فابتعد الإنسان عن روح التسامح والسماحة، واستجدت أوضاع جديدة ومتغيرة في أطراف العقد العائلي، حيث لم تكن المرأة في الماضي تذهب إلى العمل، بينما الآن تقوم بالعمل بجانب الرجل.

وبين أن الإسلام كان سباقاً بالعناية بأطفال الحروب، فقد ثبُت في السيرة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يقبل بمشاركة الأطفال في المعارك ويردهم، مثلما فعل في غزوة أحد عندما رد عدداً من المراهقين، وهكذا كانت الشريعة سباقة في منع تجنيد الأطفال، لافتاً إلى أن وصايا الرسول الكريم تمثلت في أنه لا تقتلوا شيخاً أو امرأة أو صبياً، كما نهى عن قتل رجال الدين

معالي العلامةعبدالله بن بيه يؤكد ضرورة الارتقاء بتأصيل مفهوم المواطنة العلمي

أكد الشيخ عبدالله بن بيه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، ورئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة ضرورة الارتقاء بتأصيل مفهوم المواطنة العلمي، من كونها شراكة تعاقدية، إلى مستوى المؤاخاة الإنسانية المتكاملة بالسراء والضراء، المكفولة بالقوانين والدساتير، وبشكل ملزم على مستوى العالم.

جاء ذلك ضمن كلمة العلامة عبدالله بن بيه خلال افتتاح المرحلة الأولى من «حوارات المواطنة الشاملة» في أبوظبي، التي ينظمها منتدى تعزيز السلم، بالشراكة مع وكالة «ويلتون بارك» التابعة لوزارة الخارجية والكومنولث البريطانية، ومركز «كساب» للحوكمة الثقافية اللبنانية.

وتمحورت كلمه الشيخ عبدالله بن بيه حول 4 منطلقات، الأول في بيان منطلق مشاركة منتدى تعزيز السلم والتعريف بإعلان مراكش، والثاني حول مقومات المواطنة في إعلان مراكش، والثالث حول المبادئ المؤطرة لحقوق المواطنة، والرابع حول سب المقدّس وضرورة مراجعة مفهوم حرية التعبير، ملاحظاً أن حوارات المرحلة الأولى في أبوظبي، هي لمناقشة كيفية تعزيز المواطنة الشاملة في البلدان ذات الأغلبية المسلمة في الشرق الأوسط، للخروج بتصور مؤصل للمواطنة الشاملة، مستمد من النصوص الدينية، ومراع للسياق الحضاري المعاصر، المتمثل في الدساتير الوطنية والمواثيق الدّولية، فضلاً عن السعي لتقديم تشخيص دقيق للعراقيل والتحدّيات التي تحول دون تحقيق هذا المفهوم الشامل للمواطنة، والعقبات التي تعترضه في بلدان الشرق الأوسط.

وبشأن مقومات المواطنة الشاملة في إعلان مراكش، قال بن بيه «إن المواطنة في الماضي كانت تقوم على العرق أو الدين أو التاريخ المشترك، إلا أنها في العصر الراهن أخذت منحى تعاقدياً في إطار تعدُّدي أو ما يسمِّيه هابرماس بالمواطنة الدستورية، أي شعور الفرد بانتمـائه إلى جمـاعة مدنية مؤسسة على عقد مواطنة يسوي بين الجميع، ما يعني أن المواطنة رباط أو رابطة اختيارية معقودة في أفق وطني يحكمه الدستور».

وأضاف: «لقد سعينا من خلال إعلان مراكش إلى تأصيل هذا المفهوم الجديد للمواطنة انطلاقاً من صحيفة المدينة المنورة بوصفها أساساً صالحاً للمواطنة التعاقدية في المجتمعات الإسلامية، وخياراً يرشّحه الزمن والقيم؛ لتفعيل المشترك الإنساني وتحييد عناصر الإقصاء والطرد».

وشدد الشيخ بن بيه على ضرورة مراجعة كثير من المفاهيم المرتبطة بالمواطنة، مثل مفهوم حرية التعبير إذ لا بد من ربط عنوان الحريات الدينية بالسلم الاجتماعي، وربط مبدأ حرية التعبير، الذي أصبح مبدأ مقدساً في الحضارة السائدة، بمبدأ المسؤولية عن نتائج التعبير.

واستعرض بن بيه عدداً من الأمثلة على تقييد الحريات بمبدأ النظام العام في التراث القضائي الغربي، منوها إلى سياسة دولة الإمارات في ترسيخ مبادئ المواطنة التي تتسم بالواقعية في مراعاة خصوصية السياق المحلي وبوضوح الهدف، ويتجلى ذلك بوضوح في سنّها القانون الاتحادي رقم 2 سنة 2015، والذي يتعلق بمكافحة التمييز وخطاب الكراهية وازدراء الأديان ويعمل على تحصين المجتمع وحمايته من خطابات الكراهية والتحريض على العنف وزعزعة السكينة والسلم الاجتماعي.

وختم الشيخ بن بيه بتطلعه إلى تتويج هذه اللقاءات بمؤتمر دولي يعقد في عاصمة السلام أبوظبي حول المواطنة الشاملة تحت عنوان «ميثاق أبو ظبي العالمي للمواطنة».

نص كلمة العلامة عبدالله بن بيه في ملتقى تحالف الأديان : كرامة الطفل في العالم الرقمي.

 

كلمة في ملتقى تحالف الأديان لأمن المجتمعات

“كرامة الطفل في العالم الرقمي”

 

أبوظبي- 19 نوفمبر 2018

 

معالي الشيخ عبد الله بن بيه

رئيس منتدى تعزيز السلم

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي

الحمد لله رب العالمين ،

اللهم صلِّ وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وعلى جميع إخوانه من النبيين وسلِّم تسليما، الفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان،

أصحاب المعالي والفضيلة والنيافة والاحترام،

أيها الحضور، كلٌّ باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

سأحاول أن أسهم في هذا الملتقى بكلمات قليلة ورسائل مختصرة.

ولكن دعوني أولا أثني على هذا الملتقى وأشكر القائمين عليه، فأشكر الفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان، وأنوه بجهود الدولة الإمارات العربية افي دعم هذه المبادرات المهمة. وإنه لمن حسن الاتفاق والتوفيق أن يعقد هذا الملتقى في عام المغفور له زايد الخير الذي كان ذا بصيرة صادقة ورؤية رائدة في العناية بالأجيال وتنشئتها وحمايتها.

ثم أقول :

عن حماية الطفل في الإسلام

إن الحديث عن الطفل هو حديث عن المستقبل، هو اهتمام بمصير الإنسانية، فمسقبل الإنسان وحضارته منوط بأطفال اليوم، رجال ونساء الغد. ولهذا كانت رعاية حقوق الطفل وحمايته من أهم الحقوق التي جاءت بها الشرائع في كافة الديانات، واعتنت بها التشريعات الوضعية في مختلف الحضارات.

لقد كفلت الشريعة حقوق الأفراد والجماعات البشرية بل وكل الكائنات في هذا الكون ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق)، وبخاصة المخلوقات الهشّة التي تحتاج في المحافظة على وجودها إلى حماية ورعاية، ولم تكتفِ بوصايا ونصائح يطبّقها من شاء ويذرها من شاء، بل قننتها في نصوص ملزمة يرعاها المجتمع تطبيقا للأوامر الربانية وصيانة للكينونة الإنسانية.

ومن هذه الفئات التي رعتها الشريعة حقُّ الرعاية للطفل، وسنّت لذلك قواعد عامةً وأحكاما جزئية ترجع إلى مقاصد العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، الناظمة في مجملها للحقوق والواجبات ومحاسن الأخلاق والمعاملات والعادات.

فهيأت له من قبل وجوده، البيئة الملائمة لاستقباله من خلال تأسيس الأسرة المتماسكة والمتضامنة، القائمة على روح المودة والرحمة،. ووضعت له المؤسسات الشرعية التي تقوم على رعايته وحمايته، والعناية به إيجادا وإمدادا بأسباب البقاء والنماء، ليكون إنسانا صالحا يضطلع بدوره الإيجابي في هذا العالم.

ومن المؤسسات الشرعية الفريدة في هذا المجال، مؤسسة الحضانة التي لايوجد لها نظير في النظم الوضعية على الرغم من التطورات الحديثة فيما يتعلق بحقوق الطفل التي ما يزال أكثرُها توصيات غير محدّدة المعالم، لا من حيث طابع عدم الإلزام فحسب، بل أيضا من حيث الجهات المكلفة بها، ففي هذه المواثيق حقوق بدون جهات تجب عليها. وهذا الإغفال مخالف للتصور الإسلامي في الترابط بين الحقوق والواجبات، لأنّ كل حقوق لأشخاص هي واجبات على آخرين ، فلولا وجود الواجب في مقابل الحق ما كان للحقوق أي أساس من الإلزام، فحقوق الطفل هي واجبات على والديه أو من يقوم مقامهما من أقاربه أو من المجتمع أو الدولة.

والحضانة في الشرع هي حفظ من لا يستقلُّ بأموره وترتبيته بما يصلحه. وهي صيانة العاجز والقيام بمصالحه في مبيته ومؤنة طعامه ولباسه ومضجعه وتنظيف جسمه. ومقتضى الحضانة حفظ المحضون وإمساكه عما يؤذيه وتربيته لينمو وذلك بعمل ما يصلحه وتعهده بكل ما يحتاجه. وتتعلق بالحضانة ثلاثة حقوق: حقٌ لله عزّ وجلّ، وحقٌ للحاضن، وحق للطفل.

وتزداد أهمية مؤسسة الحضانة في السّياق المعاصر حيث بدأت المعايير المؤسسة للمجتمع تختلف وغدت النزعة الفردية متغلّبة وسادت روح المماكسة في التعامل فابتعد الإنسان رويداً رويداً عن روح التسامح والسماحة  واستجدّت أوضاع جديدة ومتغيرة في وظائف أطراف العقد العائلي، مما أصبح يُعرّض الطفل لمخاطر الضياع ويجعله غرضا سهلا لكل المتربصين في الفضائين الحقيقي والرقمي.

وقد كان الإسلام سبّاقا إلى العناية بحماية الطفل في الحروب وتجنيبه الاستغلال والعدوان، فقد ثبت في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقبل مشاركة الأطفال في المعارك ويَرُدّهم حتى في أشد الظروف احتياجا إلى الحشد والنفير، فردّ في يوم أُحد عددا من المراهقين من بينهم أسامة بن زيد ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، وعمرو بن حزم وغيرهم. وهكذا كانت الشريعة الإسلامية سبّاقة في منع تجنيد الأطفال، والوقوف في وجه استغلالهم في الحروب.

وكذلك وقف الإسلام في وجه العدوان على الفئات الضعيفة في الحروب ومن بينها فئة الأطفال، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلّم يأمر قادة جيوشه المدافعة قائلا: ” لَا تَقْتُلُوا شَيْخاً فَانِياً ، وَ لَا صَبِيّاً ، وَ لَا امْرَأَةً”. وقد كرّر هذه الوصية أبو بكر الصديق عند تجهيزه لجيش أسامة.

عن قانون وديمة الإماراتي:

لقد طبعت هذه المبادئ الإسلامية قانون “وديمة” الذي أصدرته دولة الإمارات لحماية حقوق الطفل ورعاية نموه وتطوره. كما يستفيد هذا القانون الريادي من تجربة الإنسانية وخبراتها التي راكمتها، على مرّ العصور، والتي تجسّدت في مواثيق الأمم المتحدة ومنظمة الامم المتحدة للطفولة.

تضمّن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في المادة 25 إشارة سريعة إلى حقوق الطفل : “للأمومة والطفولة الحق في مساعدة ورعاية خاصتين ، وينعم كل الأطفال بنفس الحماية الاجتماعية”.

بينما تكفّل قانون وديمة بتبيين جميع حقوق الطفل سواء كانت حقوقا أساسية مقترنة بحقه في الحياة والأمان أو حقوقا أسرية  أو صحية أو ثقافية أو اجتماعية أو تعليمية. ونصت المادة 33 على ضرورة حماية الطفل من “التعرض للاستغلال من قبل التنظيمات غير المشروعة وفي الإجرام المنظّم كزرع أفكار التعصُّب والكراهية أو تحريضه على القيام بأعمال العنف والترويع”. كما وضع القانون آلياتٍ لتمكين الطفل من هذه الحقوق رعايةً وحمايةً، بتحديده أدوار ومسؤوليات كل الجهات والأفراد، كالآباء، والمعلمين، ومديري المدارس، والممرضين، والأطباء، وإنشائه وحدات لحماية الأطفال. وهو بهذا يتلافى النقص والقصور الواقع في إعلان حقوق الإنسان، الذي لم يعين الجهات المنوط بها واجب التمكين من هذه الحقوق.

عن أهمية تحالف الأديان في خدمة الإنسان:

  إن أهمية هذا الملتقى لا تنبع من أهمية موضوعه فحسب، بل يكتسي مزيدا من الأهمية بالنظر إلى المقاربة التي يتبناها القائمون عليه، واختيارهم الاعتماد على الجهد المشترك بين الأديان، والوعي بالمسؤولية الملقاة على عاتق رجال الدين للسعي من مواقعهم وانطلافا من دوائر تأثيرهم واهتمامهم ليسهموا في استعادة الضمير الأخلاقي للإنسانية، وإرساء قيم الفضيلة واستشعار الواجب تجاه الفئات الهشة وخصوصا تجاه الأطفال، بوصفه واجبا دينيا وإنسانيا لا غنى للبشرية عنه.

إننا في منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة نشاطركم هذا الوعي وتلك القناعة وقد شرعنا منذ سنوات في صناعة تحالف أخلاقي بين ديانات العائلة الإبراهيمية الثلاث بكل فصائله ومذاهبها، وبمشاركة أيضا كل محبي الخير من أبناء العائلة الإنسانية الكبرى، وقد توّج هذا المسعى في بداية هذه السنة بإطلاق حلف فضول جديد بين الأديان في مؤتمر واشنطن.