ارشيف ل February, 2009

القيادة من خلال حجة الوداع

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين الرحمن الرحيم نحمده على رحمته لنا بالإسلام ونعمته علينا بالإيمان وتفضله علينا بالانتماء إلى دين سيد الأنام سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وعلى آله الأبرار وصحابته الكرام.

 

القيادة من خلال حجة الوداع.

 

أود أن أنبه إلى أن سيرته عليه الصلاة والسلام العطرة في مختلف أبوابها مرجع ثرى وثر للقيادة بجوانبها المتنوعة من رسم الخطط والاستراتيحيات القريبة والبعيدة . 

      

إلا أن أحاديث حجة الوداع هي أحاديث أحكام في معظم ما جاء فيها فهي من نوع البلاغ الذي تحدث عنه القرافي وليست من تصرفات الإمامة “القيادة” كتلك الأحاديث الواردة في باب الجهاد مثلا بالمفهوم القرافي بيد أن ملامح التصرفات القيادية يمكن أن تستشف من خلال التصرفات الاجرائية وبخاصة في علاقة القائد مع الأتباع ومن خلال الكف عن فعل أو التشجيع على عمل أو التسامح فيه ومن طريق أستكناه المقاصد الأصلية والتبعية لفعل أو كف أو لتقرير .

وبناء على الطلب فإن خطتنا كالتالي:

أولاً: ننقل حديث جابر الطويل عن حجة الوداع.

ثانياً: تعريف للقيادة واندارج هذا المفهوم في تنوع أوصاف تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم كما صنفها الشهاب القرافي.

ثالثاً: معالم القيادة في أحاديث حجة الوداع.    

 


حديث جابر رضي الله عنه

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعًا عَنْ حَاتِمٍ – قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْمَدَنِىُّ – عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَ عَنِ الْقَوْمِ حَتَّى انْتَهَى إِلَىَّ فَقُلْتُ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ. فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَأْسِى فَنَزَعَ زِرِّى الأَعْلَى ثُمَّ نَزَعَ زِرِّى الأَسْفَلَ ثُمَّ وَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ ثَدْيَىَّ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلاَمٌ شَابٌّ فَقَالَ مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ أَخِى سَلْ عَمَّا شِئْتَ. 

فَسَأَلْتُهُ وَهُوَ أَعْمَى وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلاَةِ فَقَامَ فِى نِسَاجَةٍ مُلْتَحِفًا بِهَا كُلَّمَا وَضَعَهَا عَلَى مَنْكِبِهِ رَجَعَ طَرَفَاهَا إِلَيْهِ مِنْ صِغَرِهَا وَرِدَاؤُهُ إِلَى جَنْبِهِ عَلَى الْمِشْجَبِ فَصَلَّى بِنَا فَقُلْتُ أَخْبِرْنِى عَنْ حَجَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَقَالَ بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسْعًا فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَكَثَ تِسْعَ سِنِينَ لَمْ يَحُجَّ ثُمَّ أَذَّنَ فِى النَّاسِ فِى الْعَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَاجٌّ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُمْ يَلْتَمِسُ أَنْ يَأْتَمَّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَيَعْمَلَ مِثْلَ عَمَلِهِ فَخَرَجْنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِى بَكْرٍ فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- كَيْفَ أَصْنَعُ قَالَ « اغْتَسِلِى وَاسْتَثْفِرِى بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِى ». فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى الْمَسْجِدِ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِى بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَعَلَيْهِ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ وَهُوَ يَعْرِفُ تَأْوِيلَهُ وَمَا عَمِلَ بِهِ مِنْ شَىْءٍ عَمِلْنَا بِهِ فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ « لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ ». وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِى يُهِلُّونَ بِهِ فَلَمْ يَرُدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- تَلْبِيَتَهُ قَالَ جَابِرٌ – رضى الله عنه – لَسْنَا نَنْوِى إِلاَّ الْحَجَّ لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ حَتَّى إِذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا ثُمَّ نَفَذَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – فَقَرَأَ (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَكَانَ أَبِى يَقُولُ وَلاَ أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَقْرَأُ فِى الرَّكْعَتَيْنِ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وَ (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ) « أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ ». فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِىَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ « لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كَلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ ». ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِى سَعَى حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ فَقَالَ « لَوْ أَنِّى اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْىَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً ». فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لأَبَدٍ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِى الأُخْرَى وَقَالَ « دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِى الْحَجِّ – مَرَّتَيْنِ – لاَ بَلْ لأَبَدٍ أَبَدٍ ». وَقَدِمَ عَلِىٌّ مِنَ الْيَمَنِ بِبُدْنِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَوَجَدَ فَاطِمَةَ – رضى الله عنها – مِمَّنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَتْ إِنَّ أَبِى أَمَرَنِي بِهَذَا. قَالَ فَكَانَ عَلِىٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ مُسْتَفْتِيًا لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِيمَا ذَكَرَتْ عَنْهُ فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّى أَنْكَرْتُ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَقَالَ « صَدَقَتْ صَدَقَتْ مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ ». قَالَ قُلْتُ اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ. قَالَ « فَإِنَّ مَعِيَ الْهَدْىَ فَلاَ تَحِلُّ ». قَالَ فَكَانَ جَمَاعَةُ الْهَدْىِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِىٌّ مِنَ الْيَمَنِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- مِائَةً – قَالَ – فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا إِلاَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- وَمَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْىٌ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلَى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَلاَ تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلاَّ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِى فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ « إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا أَلاَ كُلُّ شَىْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَىَّ مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِى سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ. فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابَ اللَّهِ. وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّى فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ». قَالُوا نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ « اللَّهُمَّ اشْهَدِ اللَّهُمَّ اشْهَدْ ». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ فَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ إِلَى الصَّخَرَاتِ وَجَعَلَ حَبْلَ الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ وَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ وَيَقُولُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى « أَيُّهَا النَّاسُ السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ ». كُلَّمَا أَتَى حَبْلاً مِنَ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا قَلِيلاً حَتَّى تَصْعَدَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ وَصَلَّى الْفَجْرَ – حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ – بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا فَدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ وَكَانَ رَجُلاً حَسَنَ الشَّعْرِ أَبْيَضَ وَسِيمًا فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَرَّتْ بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ فَحَوَّلَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظُرُ فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ يَصْرِفُ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ يَنْظُرُ حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلاً ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِى تَخْرُجُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِى عِنْدَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِى ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ ثَلاَثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ فَطُبِخَتْ فَأَكَلاَ مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ فَأَتَى بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَقَالَ « انْزِعُوا بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ ». فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ.

 

 

القيادة :

إن القيادة هي مصدر من قاد قودا وقيادة فهي فعالة مصدر مقيس في الولايات كالإمارة والولاية والخلافة وقاد كساق كلاهما تدل على تحريك موضوعها.

إلا أن القيادة تختص بجذبه من أمام وساق بحثه من الخلف وتستعمل في الماديات كما تستعمل في المعنويات فالقائد الذي يطاع ويأمر وينهي ويبرم وينقض ومنه حديث علي رضي الله عنه: قريش قادة ذادة”. أي يقودون الناس ويذودنهم وعنهم.         

 

أما في المفهوم المعاصر:

فإن: عملية القيادة إما     فعلية أو كامنة: فالعمل الفعلي هو تحريك المنقادين بالنصح والتوجيه أمراً ونهياً . 2- والعمل الكامن وهو القدرة أو قابلية القيادة.

إن القدرة على التأثير في الآخرين تشكل جزءاً فاعلاً في ” عملية القيادة” إن أولئك الذين يقودون السباق بمعنى أنهم في مقدمة المتسابقين ليس لديهم موقع “القيادة” إذا لم يكن لديهم أساساً إمكانية التأثير على الآخرين بأي طريقة، لذا فهنالك تمايز واضح بين “إن تكون في المقدمة” وبين عملية القيادة أن” القيادة توحي بعلاقة بين السلطة وبين القدرة على توجيه الآخرين.

القيادة هي «عملية تحريك مجموعة من الناس باتجاه محدد ومخطط وذلك بتحفيزهم على العمل باختيارهم». والقيادة الناجحة تحرك الناس في الاتجاه الذي يحقق مصالحهم على المدى البعيد. ومهما كان الأمر، فان الوسائل والغايات يجب أن تخدم المصالح الكبرى للناس المعنيين حاضراً وعلى المدى البعيد.

وفيما يخص القيادة النبوية فهي طراز آخر فوق القيادات البشرية فهي المثال الأسمى والأنموذج الأعلى.

وهو عليه الصلاة والسلام القائد الأعظم والأمام الأكرم.

والقيادة إحدى صفاته وليست حصرا لكل صفاته فهو عليه الصلاة والسلام الإنسان المصطفى والنبي المجتبى بعثه الله تعالى رحمة للعالمين ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) كان يتصرف بوصف القيادة والإمامة ووصف التبليغ والدعوة ووصف القضاء والفصل في الخصومات.

ولهذا كانت تصرفاته متنوعة وأوجه تعامله متعددة لتعم الرحمة وتتسع دائرة النفع وتتم النعمة كان كل نوع من تصرفاته موسوماً بسمة لائقة به وكل جانب من جوانب معاملته موصوفاً بصفة مناسبة له فنشأت من ذلك أحكام متنوعة. في فروعها ومتعلقاتها متفقة في أصولها ونتائجها لأنها من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) هي شجرة النبوة الباسقة القوام الوارفة الظلال والجنية الثمار العطرة الأزهار التي تنبت في الواد المقدس تعهدها عهاد سحائب الفيض القدسي لتكون كما أراد لها الملك القدوس نورا ينير الظلمات وروحاً تحيا به النفوس ( وكذلك أوحينا إليك روحنا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكنه جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)

فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ما تعاقب الليل والنهار وتعانقت أغصان الأشجار بنسائم الأسحار وانقادت الأكوان لغالبات الأقدار صلاة يسلكنا بها في سلك المصلين عليه من الأبرار وينجينا بها في سفن النجاة عند خوض الغمار مع المصطفين الأخيار والمرتضين الأطهار يا حليم يا كريم يا رحمن يارحيم ياغفار.

لقد انتبه لتنوع ثمار تصرفاته وتفنن فنون أحكامه لفيف من العلماء والفقهاء ومنهم العالم الفقيه شهاب الدين القرافي رحمه الله تعالى فقال -في الفرق السادس والثلاثين بين قاعدة تصرفه صلى الله عليه وسلم بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ وبين قاعدة تصرفه بالإمامة- : اعلم أنَّ رسولَ الله هو الإمامُ الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم فهو إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته وهو أعظم من كل من تولى منصباً منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة فما من منصب دينيِّ إلا وهو متصف به في أعلى رتبة غير أن غالب تصرفه بالتبليغ؛ لأنَّ وصفَ الرسالة غالبٌ عليه ثم تقع تصرفاته منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعاً، ومنها ما يجمع الناسُ على أنه قضاءٌ، ومنها ما يجمع الناسُ على أنَّه بالإمامة، ومنها ما يختلف العلماءُ فيه لتردده بين رتبتين فصاعداً فمنهم من يغلب عليه رتبة ومنهم من يغلب عليه أخرى، ثم تصرفاته بهذه الأوصاف تختلفُ آثارها في الشريعة فكل ما قاله أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكماً عاماً على الثقلين إلى يوم القيامة فإنْ كان مأموراً به أقدم عليه كل أحد بنفسه وكذلك المباح، وإنْ كان منهياً عنه اجتنبه كل أحد بنفسه، وكل ما تصرف فيه عليه السلام بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أنْ يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به عليه السلام؛ ولأنَّ سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك، وما تصرف فيه بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم اقتداء به ؛ ولأن السبب الذي لأجله تصرف فيه بوصف القضاء يقتضي ذلك، وهذه هي الفروق بين هذه القواعد الثلاث.

وعلق عليه ابن الشاط بقوله: وتحرير الفرق بين القواعد الثلاث وبينها وبين الرسالة هو أن المتصرف في الحكم الشرعي إما أن يكون تصرفه فيه بتعريفه وإما أن يكون بتنفيذه فإن كان تصرفه فيه بتعريفه فذلك هو الرسول إن كان هو المبلغ عن الله تعالى وتصرفه هو الرسالة وإلا فهو المفتى وتصرفه هو الفتوى وإن كان تصرفه فيه بتنفيذه فإما أن يكون تنفيذه ذلك بفصل قضاء وابرام وامضاء فذلك هو القاضى وتصرفه هو القضاء وإما أن لا يكون تنفيذه ذلك بفصل قضاء وإبرام وإمضاء فذلك هو الإمام وتصرفه هو الإمامة.(ابن الشاط 1/206)

ولخص هذا الفرق مفتي المالكية بمكة الشيخ محمد علي بن الحسين المالكي في تهذيب الفروق. 

ولكن القرافي في كتابه “الإحكام ” كر على التفصيل في التصرفات النبوية وادعى أن الإمامة -الممارسة الفعلية التنفيذية لشئون الحكم- ليست جزء من ماهية الرسالة.

ولأنه اعتبر أن ماهية الرسالة هي تكليف بتبليغ الوحي قائلا: وأما تصرفه صلى الله عليه وسلم بالإمامة فهو وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء لأن الإمام هو الذي فوضت إليه السياسة العامة في الخلائق وضبط معاقد المصالح ودرء المفاسد في ردع الجناة وقتل الطغاة وتوطين العباد في البلاد إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس.

وأطال النفس في ذلك ليقول: وأما الرسالة فليس يدخل فيها إلا مجرد التبليغ عن الله تعالى وهذا المعنى لا يستلزم أنه فوض إليه السياسة العامة فكم من رسل الله تعالى على وجه الدهر قد بعثوا بالرسائل الربانية ولم يطلب منه غير التبليغ لإقامة الحجة على الخلق من غير أن يؤمروا بالنظر في المصالح العامة.)

قلت: إنه لا يظهر لي ما ذهب إليه القرافي رحمه الله تعالى من كون الإمامة خارج مفهوم الرسالة لأنه إذا كانت الإمامة من واجبات الدين وفروضه عند التمكين فكيف تكون خارجة عن الرسالة ثم إن التنفيذ والتطبيق للعدل في حياة الناس وهو مقتضى الإمامة هو في حقيقته طريق من طرق التبليغ قصارى ما يكون أن الرسالة الخاتمة تنوعت وسائلها وتعددت مخارجها ومداخلها بتنوع المهمات والمسئوليات مصداقاً لقوله تعالى (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) وإذا كان عدد كبير من المرسلين عليهم الصلاة والسلام إنما يقومون بتبليغ الدعوة إلى الناس فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فمن شاء ائتمر ومن شاء امتنع ويأمرون باطعام الجياع وكسوة العراة فمن شاء أنفق ومن شاء أوكى وأمسك.

فإن سيدنا محمداً عليه الصلاة والسلام كان عليه أن يغير الظلم ويحل مكانه حقائق العدل والإحسان وأن يطعم الجياع ويفك العاني ويغني المحتاج.

ولهذا فإن مهمة الدعوة والتبليغ التي تشمل معه أخوانه المرسلين ليست مهمته الوحيدة وإنما مهمة تغيير العالم بالدعوة والبلاغ وإقامة القسط بين الناس حتى يقوم الناس بالقسط فهو سيد الزهاد وإمام العباد ومعلم العلماء ومؤدب الأمراء ومبين سبيل الحكم والقضاء. ( يأيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشراً ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً)

بهذا نفهم لماذا كان هذا العنوان مقبولا في حقه عليه الصلاة والسلام ففي مجلسه الكريم ومن مدرسته العظيمة تخرج القادة من أمثال الخلفاء ، وقادة الجيوش من أمثال خالد وأبي عبيدة وسعد والقضاة كعلي ومعاذ وابن مسعود وأبي هريرة ، والزهاد من أمثال أبي ذر. وكان يوجه كل واحد إلى ما يصلحه  : يا أباذر إنك رجل ضعيف فلا تولين على اثنين.

وكلهم من رسول الله ملتمس    غرفا من البحر أو رشفاً من الديم.

ففي شخصه الكريم تجمعت كل الصفات وعلى عاتقه الشريف تحمل كل المسئوليات.

وليس على الله بمستنكر     أن يجمع العالم في واحد

ويمكن أن اختصر وسائل القيادة النبوية في: أسوة حسنة وسلوك به يقتدى وجماعة تنقاد بالطاعة وأهداف يسعى لتحقيقها وغايات يتحرك لبلوغها وأمر يهدي إلى الطريق الأمثل ونهي يصد عن السبيل الأرذل. ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)

( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ولله در البصيري عندما يقول:

نبينا الآمر الناهي فلا أحد   أبر في قول لا منه ولا نعم

(وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذنه)

الغايــة

(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)

فاشعر في أول الآية بأن الاستجابة لله هي الاستجابة للرسول وأعاد الضمير على الرسول فهو داع إلى الله بإذنه.

والغاية هي: الحياة بكل ما تتضمنه هذه الكلمة من مدلول عظيم من إحياء القلوب والأجساد وانعاش النفوس والأرواح وصلاح الدنيا وفلاح الآخرة.

 

معالم القيـادة في حجة الوداع 

إن الحج وإن كان من نوع العبادات وما سماه القرافي بالتبليغ الذي لا يظهر فيه أثر تصرفات الإمامة إلا أننا مع ذلك سنلمح من خلاله نماذج رفيعة للقيادة تتضمن مقاصد سامية ومبادئ عالية لتعليم القواد وتكوين الرواد ولنستند على حديث جابر الطويل في صفة حجه عليه الصلاة والسلام برواية مسلم وغيره من الأحاديث.  

1- استعمال الإعلام لتعبئة الناس.

“ثم أذن في الناس في العاشرة أنه حاج فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم”.

إن هذه العبارة إذا ترجمت بلغة العصر كانت توازي صدور بيان ونشره في مختلف وسائط الإعلام إلى الجمهور يحثهم على التهيؤ لحضور مؤتمر كبير لتلقي تعليمات مصيرية فهرع الناس رجالاً ونساء شيوخاً وشباناً حتى الأطفال الصغار كان لهم نصيبهم، ألهذا حج؟  قال: نعم ولك أجر.        

إن أهم صفة من صفات القائد هي تحريك الأتباع نحو الأهداف المرسومة مهما كان نوعها عن طريق الاقناع والاشراك والاعلام والصدق والمثال والقدوة.

وقد كانت كلها من صفاته عليه الصلاة والسلام فهو القائد الذي يقنع ببيانه وصدق لهجته ووضوح حجته.

وهو الذي يشرك الناس في الرأي ويستشيرهم إذا لم يرد وحي قاطع تلك إحدى الصفات البارزة في سيرته ففي بدر عقد مجلس شورى قبل الدخول في المعركة الفاصلة.

واستعمل وسيلة الإعلام الصادق حيث أحاطهم علماً بعدد العدو وما هم مقدمون عليه وتركهم كلا يفيض في شرح رأيه فمنهم من حذر من المضي في الحملة ومنهم من أيد الإقدام على المعركة وكان رأي هؤلاء هو الغالب فحينذ اتخذ القرار وبشرهم عليه الصلاة والسلام بحسن عاقبة الأمر.

وفي موضوعنا كان إعلام الناس بحجه عليه الصلاة والسلام قبل موعد الحج والتنبيه على أهمية الخروج معه خير وسيلة لتعبئة جماهير الأمة حتى يشهدوا هذه الحجة التاريخية التي لم تشهدها ولن تشهدها الإنسانية حجة التعليم وحجة التمام وحجة الوداع وحجة الإسلام وحجة البلاغ.

قال النووي: قوله ( ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حاج ) معناه أعلمهم بذلك وأشاعه بينهم ليتأهبوا للحج معه ويتعلموا المناسك والأحكام ويشهدوا أقواله وأفعاله ويوصيهم ليبلغ الشاهد الغائب وتشيع دعوة الإسلام وتبلغ الرسالة القريب والبعيد وفيه أنه يستحب للإمام إيذان الناس بالأمور المهمة ليتأهبوا.(8/172)

ولهذا وصف جابر في حديثه كثرة الناس بأنهم كانوا مد البصر بين يديه من الجهات الأربع من حوله عليه الصلاة والسلام من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ولم يتفق على عدد من حضرها إلا أنه يزيد على مائة ألف نسمة فهل كان مائة وعشرين أو ثلاثين.

2- ترك مساحة للاجتهاد وتشجيع المبادرة

“وأهل الناس بهذا الذي يهلون به فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته”.

قال القاضي عياض: فيه إشارة إلى ما روى من زيادة الناس في التلبية من الثناء والذكر كتلبية عمر لبيك ذا النعماء والفضل.

وزيادة ابن عمر: والخير بيدك والرغباء إليك. واستحب الاقتصار على تلبيته عليه الصلاة والسلام. ( النووي 8/174)

وكذلك ما ورد في حديث عبدالله بن عمر عند مسلم غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات منا الملبي ومنا المكبر. وفي رواية أخرى “عنده” منا المكبر ومنا المهلل فلا ينكر عليه وكان يكبر المكبر فلا ينكر عليه.

وفي الرواية الأخرى: فمنا المكبر ومنا المهلل ولا يعيب أحدنا على صاحبه.                     

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ غَدَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَاتٍ مِنَّا الْمُلَبِّى وَمِنَّا الْمُكَبِّرُ.

وَحَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَيَعْقُوبُ الدَّوْرَقِىُّ قَالُوا أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِى سَلَمَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى غَدَاةِ عَرَفَةَ فَمِنَّا الْمُكَبِّرُ وَمِنَّا الْمُهَلِّلُ فَأَمَّا نَحْنُ فَنُكَبِّرُ قَالَ قُلْتُ وَاللَّهِ لَعَجَبًا مِنْكُمْ كَيْفَ لَمْ تَقُولُوا لَهُ مَاذَا رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصْنَعُ.

وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ الثَّقَفِىِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِى هَذَا الْيَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ كَانَ يُهِلُّ الْمُهِلُّ مِنَّا فَلاَ يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ مِنَّا فَلاَ يُنْكَرُ عَلَيْهِ.

وَحَدَّثَنِى سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِى بَكْرٍ قَالَ قُلْتُ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ غَدَاةَ عَرَفَةَ مَا تَقُولُ فِى التَّلْبِيَةِ هَذَا الْيَوْمَ قَالَ سِرْتُ هَذَا الْمَسِيرَ مَعَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- وَأَصْحَابِهِ فَمِنَّا الْمُكَبِّرُ وَمِنَّا الْمُهَلِّلُ وَلاَ يَعِيبُ أَحَدُنَا عَلَى صَاحِبِهِ.

  وكذلك فإنه ما سئل عن عمل قدم أو أخر إلا قال: أفعل ولا حرج.  

كل ذلك يدل على إفساح المجال للاجتهاد وأن ترك الشارع لا يدل على الحظر ولا على الكراهة بل أنه يدل على أن ما فعله وواظب عليه هو الأولى لكن لا إنكار في فعل ما تركه على ما وصفنا من اندراجه ضمن السياق العام والأصل المتبع والمنهج الفسيح وهو في حالة التلبية تعظيمه سبحانه وتعالى وتكبيره.

ومن هنا يقول ابن قدامة في طواف الأسابيع دون أن يتخللها ركوع وكونه عليه السلام لم يفعله لا يدل على الكراهة. ويقول ابن حزم : ولم يصم صلى الله عليه وسلم شهرا كاملا ولا خلاف في جواز ذلك.

وفي هذا تندرج عشرات المسائل مما يسمى ببدع الترك التي يختلف فيها العلماء حيث اعتبرها بعضهم كالشاطبي زيادة في الدين لقيام الموجب وعدم الفعل.

واعتبرها البعض الآخر مرغوبة لاندراجها تحت الدليل العام كالسبكي وأبي سعيد بن لب شيخ الشاطبي.

والذي نراه أنها لو ضبطت بجملة من المعايير ككونها لا تنضاف إلى عبادة لا تتجزء كإضافة ركعة إلى الصلاة أو ركن إلى الحج ولا يحدد لها مقدار معين من الثواب ولا توصف بحكم من أحكام الشرع كالوجوب مثلا أو السنية إلا بدليل خاص إذ أن تحديد ماهية كل عبادة وتقدير الثواب وتحديد الأحكام يرجع إلى الشارع ويبقى الفعل خاضعاً لعموم الأدلة كما حققه القرافي وشيخه العز بن عبدالسلام وغيرهما من الشافعية ومتأخرو المالكية وقد حققنا المسألة في كتاب “المقاصد”.       

3– ضرب القائد المثل بنفسه وأقاربه في النصيحة وتطبيق الأوامر الشاقة التي تصعب على نفوس الرعية وذلك في وضع دماء الجاهلية ورباها.

ويعلق النووي على قوله عليه الصلاة والسلام ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضعه من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث … إلى قوله: وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبدالمطلب فإنه موضوع كله”.

قائلا: وأن الإمام وغيره ممن يأمر بمعروف أو ينهي عن منكر ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهله فهو أقرب إلى قبول قوله وإلى طيب نفس من قرب عهده بالإسلام. (8/182)

فهو عليه الصلاة والسلام بدأ بدم ابن عمه وهو ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب فأبطل دمه قطعاً لدابر أحقاد الجاهلية وترات الحروب وبدأ بإسقاط الديون المتراكمة لعمه العباس بن عبدالمطلب على الناس جراء المعاملات الربوية ليكون ذلك محل القدوة ومناط الأسوة.           

4- النظر في مئالات الأمور وعواقب التصرفات

إن هذه القاعدة من أهم القواعد السياسية والحكم حتى قال بعضهم إن السياسة هي النظر في عواقب الأمور وعبر عنها الفقهاء تارة بقاعدة “الذرائع” وتارة بالنظر في المئالات في الأقوال والأفعال كالشاطبي.

والذي يعنينا هو ما أشارت إليه بعض المواقف في هذه الحجة : فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم”.

“لولا حدثان عهد قومك بالجاهلية لنقضت الكعبة ثم لبنيته على أساس إبراهيم”.

إن القائد وهو يتخير أفضل القرارات ويلتمس أكثرها تحقيقاً للمصالح الدينية والدنيوية يجب عليه أن يتصور نتيجة ذلك العمل وعاقبة ذلك التصرف وردود فعل الجمهور التي قد تكون سلبية وعكسية وهو بذلك يحسن وزن المصالح والمفاسد ويتعامل مع الحاضر بعين المستقبل.    

5- النظام والسكينة

إن النظام هو أساس كل حضارة راشدة والعنصر الفعال في كل مشروع ناجح ، وعبادة الحج بطبيعتها عبادة منتظمة وقد كان ارتباط الصحابة بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وحركاته وسكناته وانخراطهم في الإقتداء به مسطرة النظام ولهذا يقول جابر: وما عمل به من شيء عملنا به”. وقال: ” كلهم يلتمس لأن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومع ذلك فقد كان عليه الصلاة والسلام يذكر السكينة السكينة حتى لا تفيض الحماس “ليس البر بالايضاع” أي السرعة في السير.

وحديث ابن عباس : وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالا … إلى آخر الحديث في كتاب “الاستذكار” إنهم يتقدمون إليه أفواجاً أفواجاً وذلك دليل على النظام.

6- مركز القيادة يجب أن يكون بارزاً ومكان القائد يجب أن يكون معروفاً.

ونرى الحالتين: أولاً في أمره عليه السلام قبل التوجه إلى عرفات بأن تضرب له قبة بنمرة”. لتكون مقراً له قبل أن يتوجه إلى جبل الرحمة.

وإن كان شراح الحديث لم يروا في ذلك إلا أنه للاستظلال والاستكنان من الحر فإني أرى فيه إشارة إلى أهمية إقامة مقر للقيادة فلو كان لمجرد الاستظلال فإنه ربما لم يكن أمر بذلك بيوم قبل وصوله إلى المكان ولرتبه على عجل عندما يصل إلى المقر.

أما بالنسبة لمكان القائد فإن طوافه عليه الصلاة والسلام راكباً هو من باب ظهور القائد للناس ليستجيب لطلباتهم وليجيب على تساؤلاتهم.

ولهذا فسر راوي الحديث ذلك بتفسيرين أولهما: ليشرف على الناس أي ليكون على شرف في مكان مرتفع يسمح للناس بتمييزه حتى يستفتوه كما أشار إليه جابر حين علل طوافه راكباً بقوله : ليراه الناس وليشرف وليسألوه”.

والتفسير الثاني: ليتجنب ازدحام الناس عليه الذين قد يحملهم الشوق والمحبة أن يتدافعوا حول شخصه فيؤذى بعضهم بعضاً ويضطر الصحابة لدفعهم وصرفهم وهو عليه الصلاة والسلام لا يسمح بضرب الناس بين يديه ولا بصرفهم عن حضرته الشريفة وهذا تفسير أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قائلة: كراهية أن يُضرب عنه الناس أو يصرف عنه. ولهذا يقول النووي إن كلا الروايتين صحيحة من جهة المعنى.

7-  الرفق بالضعاف وعدم إغفالهم في الخطة العامة: وعليه يدل تقديمه للضعفة وللنساء والولدان دون إلزامهم بالمبيت في منى.

8-  الحرص على إيصال التوجيه والتعليم إلى كل أحد والتأكيد من خلال رفع الصوت ومن خلال اتخاذ مبلغين.

ويدل عليه ما ورد أنه عليه الصلاة والسلام كان يرفع صوته وأحيانا يتطاول على دابته لاسماع الناس ومع ذلك فكان له مبلغ عنه يرفع صوته لابلاغ الناس.

9-  شرح تصرفات قد تصعب على النفوس من جراء أمر أو توجيه: وفي هذا يندرج قوله لما صعب على الناس التحلل ” لولا أني سقت الهدي لجعلتها عمرة”. وقوله: وقفت هنا وعرفات كلها موقف”. “نحرت هنا ومنى كلها …”  

10-                     تشجيع القائمين على خدمة المجتمع والحجيج كالرعاة وأصحاب السقاية بالتيسير عليهم باعفاء الرعاة وأهل السقاية من المبيت بمنى.

وكل ما تقدم يدل على ضرورة القيادة في جوانب الحياة المختلفة دينية أو مدنية طبقاً للعنوان الأصلي وإن كانت القيادة النبوية لا توصف إلا بكونها دينية ولكن طبقاً لمفهوم الدين الشامل. 

 

        

 

 

وأخيراً: فإن خطب حجة الوداع وما جاء فيها من الوصايا هي عمل قيادي رائع لعلكم سمعتم ممن قادة في العالم تحضر آجالهم فينصرفون عن أحوال أممهم ومستقبل شعوبهم ويشتغلون بأنفسهم ويهتمون بها، إلا أنه من النادر أن يهتم القائد بأمور الناس وهو يودعهم لقد جاءت تلك الإشارات معبرة لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا .. لعلكم لا تروني..

إنها الشفقة العظيمة على الأمة : وَيْحَكُمْ – أَوْ قَالَ وَيْلَكُمْ – لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِى كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ » كما في الصحيح.

.. إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام.

ويقول ابن عمر نزلت إذا جاء نصر الله أوسط أيام التشريق فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع فخطب الناس خطبة أمرهم فيها ونهاهم.

وهكذا تعلم خلفاؤه فكانوا رابطي الجأش يديرون أمر الرعية وهم على فراش الموت.

ولقد انبهر بعض المنصفين من المستشرقين لما قرأوا شيئا من سيرته فتحدثوا بإعجاب ونذكر مقتطفات فقد قال عنه المستشرق الألماني سانت هيلر: كان محمد رئيساً للدولة وساهرا على حياة الشعب وحريته وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبي بين ظهرانيها فكان النبي داعيا إلى ديانة الإله الواحد وكان في دعوته هذه لطيفاً ورحيماً حتى مع أعدائه وإن في شخصيته صفتين هما من أجلّ الصفات التي تحملها النفس البشرية وهما العدالة والرحمة.(الشرقيون وعقائدهم)

وفي كلمة لبرنارد شو: إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد هذا النبي الذي وضع دينه دائماً موضع الاحترام والإجلال فإنه أقوى دين على هضم جميع المدنيات خالداً خلود الأبد وإني أرى كثيراً من بني قومي قد دخلوا هذا الدين على بينة وسيجد هذا الدين مجاله الفسيح في هذه القارة “يعني أوروبا” إنّ رجال الدين في القرون الوسطى ونتيجة للجهل أو التعصب قد رسموا لدين محمد صورة قاتمة لقد كانوا يعتبرونه عدوا للمسيحية لكنني اطلعت على أمر هذا الرجل فوجدته أعجوبة خارقة وتوصلت إلى أنه لم يكن عدوا للمسيحية بل يجب أن يسمى منقذ البشرية وفي رأيي أنه لو تولّى أمر العالم اليوم لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها”.   

إن المساكين هيلر وشو لا يعرفان أنهما لا يتكلمان عن قائد وزعيم من زعماء العالم الذين يعاطى الناس سيرتهم فيأخذون منها ويردون ، أما نحن فإننا نقر بأن الحديث عن القيادة في حقه إنما هو أمر تقريبي وضرب للأمثال، إننا نتحدث عن إمام المرسلين وقائد الغر المحجلين وسيد العالمين الحاشر الذي يحشر الناس على قدمه يوم القيامة والعاقب الذي ختم الله به الأنبياء والمرسلين الشافع المشفع والنور المبين الشاهد على الأمة والمبشر بالجنة والنذير من النار فمدده لا ينقطع وغيوث أفضاله لا تنقشع فهو رحمة في حياته ورحمة بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى ورحمة في عرصات القيامة حين تشرئب الأعناق إلى شفاعته نسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ووالدينا ومن نحب والمسلمين جميعاً ممن تنالهم شفاعته وتحوطهم رعايته وأن يحشرنا في زمرته ويسكننا بجواره في فسيح جنته.

             

عبدالله بن بيـــه

 

 


– القرافي      الفروق           1/205

الخطاب الإسلامي بين القواطع والاجتهاد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه

 

“الخطاب الإسلامي بين القواطع والاجتهاديات” 

الخطاب هو: فعال مصدر من خاطبه خطاباً ومخاطبة. وهو يعني كلاماً موجها إلى طرف آخر، قال تعالى:( وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ) (وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا) (وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ 

والخطاب عند الأصوليين حسب عبارة الزركشي في البحر المحيط عرفه المتقدمون: بِأَنَّهُ الكلامُ الْمَقْصُودُ منه إفْهَامُ مَنْ هو مُتَهَيِّئٌ لِلْفَهْمِ. وَعَرَّفَهُ قَوْمٌ بِأَنَّهُ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِفْهَامُ أَعَمُّ مِن أَنْ يكون مَن قَصَدَ إفْهَامَهُ مُتَهَيِّئًا أَمْ لا. قِيل: وَالْأَوْلَى أَنْ يُفَسَّرَ بِمَدْلُولِ مَا يُقْصَدُ بِهِ الْإِفْهَامُ “.  

وهو في الاصطلاح الغربي: شرح شفوي يتعلق بموضوع معين يوجه إلى الجمهور، وهو عبارة  عن مجموعة المظاهر القولية والمكتوبة التي تمثل إيديولوجية.

وقد ينقسم إلى مستويات كثيرة، هي عند فوكو Michel Foucault   خطاب متغير وخطاب ثابت، فالأول هو خطاب الناس اليومي المعتاد، الذي يفنى وينقضي بانقضاء زمنه، والثاني هو خطاب يتردد في حياة الناس ولا ينقضى، كالخطاب الوارد في الكتب المقدسة.

كما عبروا عن مستويات الخطاب بأنها ترجع إلى موضوعاته، ومصادره، وفحواه، ومحتواه، فمنه الخطاب الديني، والخطاب الفلسفي، والخطاب الأخلاقي، والخطاب القانوني، والتاريخي، والخطاب الاجتماعي السياسي، إلى غير ذلك من أنواع الخطاب.

والخطاب الإسلامي بالنظر لشموله يحتوي كل هذه المناحى، باعتبار عموم مفهوم الدين وكونيته، التي تلج كل مجالات الحياة، ليس بالمعنى الضيق الكنسي للدين الذي يقابل العقل، ولكن بالمعنى الواسع الفسيح الذي يجعل كل نشاط -إنساني وجداني أو عقلي أو سلوكي بمختلف تعبيراته النافعة موزوناً بميزان القيم ومصالح العباد- من الدين.  

وحيث أنَّ البحث يتعلق بالخطاب الإسلامي في جوهره، في قواطعه واجتهادياته، في ثوابته ومتغيراته، فينبغي أنْ نقرر أنَّ الخطاب الإسلامي مبني في أصله على خطاب الله تعالى لعباده، فهو تقديم لمضمون الخطاب الإلهي إلى البشرية، سواء تعلق بالكليات أو الجزئيات، أو بالشكل أو الأساس، أو بالوسائل أو بالمقاصد.

وهنا تكون القواطع والاجتهادات الظنية.

ومعلوم أنَّ خطاب الله تعالى للعباد ينقسم إلى نوعين، خطاب إخباري يجب الإيمان بمقتضاه، كإخباره عن ذاته وصفاته وعن الكون من سموات وأرض وملائكة وجن وعن الآخرة وما فيها من جنان ونيران وحساب وميزان وثواب وعقاب.

وخطاب يتعلق بأفعال المكلفين من حيث إنهم به مكلفون، فهذا هو الذي يسمى بالحكم وينقسم إلى خطاب تكليف وخطاب وضع؛ لأنه إما أنْ يكون طلباً أو تخييرا أو وضعاً، على التفصيل المعروف عند الأصوليين.   

فالقواطع من الخطاب -سواء تعلق الأمر بالأخبار أو الأحكام- هي ما كان دليلها قطعياً، وغير القواطع هي ما بني على اجتهادات وظنيات.

يقول الاصفهاني في شرح المحصول: من الأحكام ما يثبت بأدلة حصل العلم بمقتضاها، وذلك في الأحكام الثابتة بنصوص احتفت بقرائن تدفع الاحتمالات المتعارضة عنها، بانحصار تعيين المدلول في واحد. ومنها ما ثبت بأخبار آحاد، أو نصوص لم تعتضد بما يدفع الاحتمالات، فتلك الأحكام مظنونة لا معلومة، قال: هذا هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وذلك بسبب انقسام الطرق إلى الأدلة والأمارات.    

ويرى ابن دقيق العيد أنَّ الأحكام تنقسم إلى متواترات وهي مقطوع بها وإلى ما ليس كذلك.

والحق انقسام الحكم إلى قطعي وظني، وممن صرح بذلك من الأقدمين الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب “الحدود” وابن السمعاني في “القواطع”.

ولشرح ما أشار إليه الأصفهاني من كون القواطع تنشئو عن أدلة يحصل بها القطع.

فلابد من لمحة هنا عن الأدلة القطعية، التي إذا ثبت خطاب أو حكم بها يكون قاطعاً، إنَّ الأدلة القطعية من حيث الدلالة هي نصوص من الكتاب والسنة، لا تحتمل التأويل، ومن حيث الثبوت قطعية الورود؛ لأنها في القرآن الكريم بين دفتي المصحف، أو في متواتر الحديث، على الاختلاف المعروف في حده، أو الإجماع النطقي، المستند إلى دليل من الأدلة القطعية، ويشترط في الجميع الخلو عن المعارض القوي الذي ينهض حجة.

وهناك ما هو قريب من القطعي كالمستفيض، إذا رواه أربعة فما فوق أو اشتهر، وكخبر الآحاد السالم من العلل، المروي في الصحيحين عند بعض العلماء، وقد ندد إمام الحرمين في البرهان بقائل ذلك في خبر الآحاد ببداهة احتمال الخطأ على رواية العدل.           

وكالعام المتكرر عند الشاطبي، وكالكلي المستفاد معناه من معقول النصوص، المشهود له بتفاريق الأدلة، وبشتى القرائن الحافة، والإجماع السكوتي على خلاف، مع الخلو من المعارض، وكذلك قياس الأولى، أو المساوي، إذا كان مستند الأصل قطعياً.

          وجود جامع به متمما شرطٌ    وفي القطع إلى القطع انتمى

بهذه المقدمة يراد إثبات نوعين من الخطاب، لا ترجع إلى القسمة المعهودة للخطاب بين خطاب تكليف وخطاب وضع، وإنما ترجع إلى مرتبة الدليل، ودرجته، قوة وضعفاً، ووضوحاً وغموضاً، تواتراً أو انفراداً، شيوعاً واستفاضة أو خمولاً وزمانة.

فيكسب الدليل القوي المتواتر الواضح مدلوله قوة وقبولاً وشمولاً يرفعه من درجة العمل بمقتضاه إلى مكانة تحتم الاعتقاد بمحتواه وذلك ما علم من الدين ضرورة.

وهذه هي القواطع التي تمثل أساس بناء هذا الدين ومرتكزاته ودعائمه.

فالأساس هو الإيمان وما يجري مجراه وما يتعلق بمقتضياته.

أما الدعائم فهي تلك الأركان التي ترفع سقف الدين فهي برهان الإيمان، وتتفاوت بعد الأساس والدعائم مشمولات البناء التي تمثلها أحكام الشريعة الغراء حيث تتشكل منظومة كاملة وشاملة لمناحي الحياة موزعة في مختلف المهمات، وموجهة إلى مختلف المرامي والغايات، متناغمة في اختلافها، متجانسة في تنوع أهدافها.

فقواطع الخطاب الإسلامي إنما هي تذكير دائم بالأساسيات القطعية في الإسلام اعتقاداً وسلوكاً ومعاملة.

قد لا تكون هناك ضرورة لذكر الأدلة من الكتاب والسنة، وأقوال الأئمة المعروفة والمتداولة في مختلف المصادر، وإنما التذكير بكبريات قضايا هذا الدين، الذي يقوم على التوحيد ومقتضياته، والنبوة ولوازمها، وتكريم الإنسان وتكليفه، والمحافظة على ضروراته لإيجاد توازن بين الدنيا والآخرة، وبين الروح والجسد.

إيمان بعالم الغيب لا يلغي عالم الشهادة، الذي يقوم دليلا وبرهاناً على عالم الغيب، ومعبراً إليه (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ)  (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ،،،)

 

القواطع الكبرى 

تمهيد: إنَّ معظم القواطع كانت في القرآن المكي فيما يتعلق بالأصول العقدية، قال الشاطبي: وغالب المكي أنه مقرر لثلاثة معان، أصلها معنى واحد وهو الدعاء إلى عبادة الله تعالى.

أحدها: تقرير الوحدانية لله الواحد الحق، غير أنه يأتي على وجوه؛ كنفي الشريك بإطلاق، أو نفيه بقيد ما ادعاه الكفار في وقائع مختلفة من كونه مقرباً إلى الله زلفى أو كونه ولداً أو غير ذلك من أنواع الدعاوى الفاسدة.

والثاني: تقرير النبوة للنبي محمد، وأنه رسول الله إليهم جميعا، صادق فيما جاء به من عند الله؛ إلا أنه وارد على وجوه أيضا كإثبات كونه رسولا حقا، ونفي ما ادعوه عليه من أنه كاذب أو ساحر أو مجنون أو يعلمه بشر، أو ما أشبه ذلك من كفرهم وعنادهم.

والثالث: إثبات أمر البعث والدار الآخرة، وأنه حق لا ريب فيه، بالأدلة الواضحة والرد على من أنكر ذلك بكل وجه يمكن الكافر إنكاره به فرد بكل وجه يلزم الحجة ويبكت الخصم ويوضح الأمر.

فهذه المعاني الثلاثة هي التي اشتمل عليها المنزل من القرآن بمكة في عامة الأمر، وما ظهر ببادي الرأي خروجه عنها فراجع إليها في محصول الأمر، ويتبع ذلك الترغيب والترهيب والأمثال والقصص وذكر الجنة والنار ووصف يوم القيامة وأشباه ذلك”.

وطبق ذلك الشاطبي على سورة المؤمنين قائلا إنها: ” افتتحت بثلاث جمل:

إحداها: -وهي الآكد في المقام- بيان الأوصاف المكتسبة للعبد التي إذا اتصف بها رفعه الله وأكرمه، وذلك قوله (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ،،، إلى قوله: هم فيها خالدون).

والثانية: بيان أصل التكوين للإنسان وتطويره الذي حصل له جارياً على مجارى الاعتبار والاختيار، بحيث لا يجد الطاعن إلى الطعن على من هذا حاله سبيلا.

والثالثة: بيان وجوه الإمداد له من خارج بما يليق به في  التربية والرفق والإعانة على إقامة الحياة، وأنّ ذلك له بتسخير السموات والأرض وما بينهما وكفى بهذا تشريفاً وتكريماً.

مما تقدم ومن قوله تعالى:( الرَّحْمَنُ  عَلَّمَ القُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ)

نتحدث عن ثلاث قواطع:

الرحمن( الألوهية والتوحيد)  القرآن( الرسالة والنبوة) الإنسان ( مناط الخطاب).

القاطع الأول: توحيد الله تعالى الخالص

وما يتعلق به من قدرة وقدر وعلم ورحمة ورزق وخلق ونفع وضر إلى آخر الصفات.

فالخطاب في هذا المجال على ثلاثة مستويات:

 المستوى الأول: خطاب التوحيد الموجه إلي المسلمين وإنما يراد منه أن يتمسكوا بالتوحيد الخالص الكامل طبقاً لقوله تعالى{ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} دون تشكيك في عقائد المسلمين ونواياهم.

وفي سياق هذا الخطاب تجب الإشارة إلى شيئين هما: أن تكون دعوة التوحيد مقرونة بالإحسان الذي هو قرين الإيمان مما يعني أنْ تكون التربية الإيمانية الروحية الرامية إلى تطهير النفوس والإرتقاء بها في مدارج التوكل والرضا والزهد والحب حاضرة.

أما الشيء الثاني فهو: العمل، فالإيمان قول وعمل، عبادة ومعاملة، فذلك أدنى إلى الهدي النبوي وأنئ عن الجدل والمراء الذي لا يجدي فتيلا.   

المستوى الثاني: الدعوة الموجهة إلى أتباع الديانات السماوية السابقة، وهي تذكير لهم بما في كتبهم (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)

 (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)

(مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)

إنه تذكير دائم بأن رسالة التوحيد هي رسالة كل الأنبياء، وأنه عليه الصلاة والسلام إنما هو مكمل لسلسلة الأنبياء، ومتمم لمكارم الأخلاق.

وبهذا الصدد تمكن الاستعانة بما في كتبهم كقول عيسى عليه السلام في أنجيل مرقس : إن أول الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل الرب إلهنا ربٌّ واحد. وتحب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك هذه هي الوصية الأولى.) إلى غير ذلك من النصوص الواردة في العهد القديم والجديد. 

المستوى الثالث: خطاب موجه إلى سائر الأجناس واللادينيين انطلاقاً من قوله(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) وهذا الخطاب –وكل خطاب- يجب أن يعتمد على المنطق والعلم والأدلة الكونية والمنهج القرآني(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ)

لقد كان محمد بن أبي زيد القيرواني موفقاً عندما قال في عقيدته: نبهه بآثار صنعته واعذر إليه على ألسنة المرسلين….”.

ومعنى كلامه أنه سبحانه وتعالى أقام على وجوده ووحدانيته دلائل من كونه، الذي أبرز فيه بالغ حكمته، ودقيق صنعته، ودليل عنايته، وهي دلائل يتلقاها العقل المركب في الإنسان وكأنها كلام ينطق، وضوء يشرق، فتنتبه الفطرة الإنسانية إلى التشوف للخالق.

فتتدخل العناية الإلهية ببيان الوحي الناطق على ألسنة رسله، الذين أيدهم باسمي آيات الصدق، فقامت في نفوسهم وفي نفوس من باشرهم معان اضطرارية بصدق أخبارهم، وسطوع أنوارهم، فكان حديثهم عن الغيب كحال الشاهد الذي لا يتمارى أحد في صدقه، يحدثك عن مدينة لم ترها فتصدقه؛ لما عرفت قبل ذلك وجربته من صدق لهجته.

 والإيمان بالله يقتضى الإيمان بدعائم الإسلام الكبرى المتواترة، من صلاة وزكاة وصيام وحج‘ إذ تلك قواطع معلومة من الدين ضرورة.

ولكل مستوى من هذه المستويات أسلوبه في الخطاب ووسائله. 

وهو خطاب يرد كل الشبهات والمتشابهات إلى المحكمات، ككون عيسى يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى فإنه يُرد إلى أصل التوحيد المحكم، وهو أن كل ذلك بقدرة الله تعالى وإذنه.

وهكذا فإن كرامات الأولياء وخوارق العادات لهم أمر واقع ومقبول عند المسلمين؛ لكنه مردود إلى الأصل الثابت وهو قدرة الباري فهو سبحانه جل وعلا الخالق لذلك والمقدر له (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)

القاطع الثاني: النبوة ولوازمها.

وهذا القاطع الثاني يستلزم الإيمان بظاهرة الوحي، الذي هو اتصال إلهي بالإنسان المصطفى، لاطلاعه على جملة من الحقائق، وإبلاغه برسالة إلى البشرية هي مراد الخالق من الخلق، تبين له أساسيات فوق سقف العقل؛ إلا أن العقل لا يحيلها فالوحي وحده هو الذي يعرفه على الخالق جل وعلا، وما يجب في حقه جلت قدرته، وعلى شرائعه وعلى أصل الكون، ومصير البشرية، وأحوال الآخرة والبعث والنشور، وأحوال البرزخ وفتنة القبور والاختبار فيها وأخذ صحف الأعمال بالأيدي على ما يصف القرآن، ووزن الأعمال يوم القيامة والعبور على الصراط والورود على حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم – سقانا الله تعالى منه- كما نؤمن بالملائكة وبالجن وبالسحر، وبكل ما ورد به الخبر الثابت، فالأبصار والأسماع محدودة الإدراك في هذه الدنيا. 

بل إنَّ العلوم الكونية فهي كما يقول بحق عالم الفيزيولوجيا –وظائف الأعضاء- الفرنسي كلود برنار في القرن التاسع عشر فإنها إنما تعرف العلل الثانوية، كما يحكيه عنه تلميذه.

تلك هي الحقائق الكبرى التي جاءت بها الرسل، والإسلام يؤكد أن رسالة الرسل هي في جوهرها واحدة (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا)

وهو عليه الصلاة والسلام إنما هو حلقة خاتمة لسلسلة الرسالات ومتمم لكلمات الله تعالى إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.

ورسالة الرسل تقوم عليها دلائل المعجزات “: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامةً”. حديث صحيح.

وأهم دليل على صدق النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم القرآن الصادق، الذي تضمن الرسالة والدليل في نفس الوقت والدعوى والبينة، فكان تحدياً للبشرية بنظمه وبمعانيه وأخباره التي لم يزدها الزمان إلا جدة وصدقاً، فلم يأت أحد بقرآن يتلى (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) محفوظ في الصدور والسطور، فلم تستطيع يد الدهر أن تسطو عليه، يخرج خب الضمائر وينفذ إلى خبايا النفوس.

وهذا الإعجاز العلمي في هذا العصر دليل على أنه من عالم الغيب والشهادة. فآية أطوار الإنسان (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مّن طِينٍ،،،) وآية الناصية وآية الأصل الدخاني للكون وآية الرتق. كل تلك أدلة لا ريب فيها على صدق القرآن، وقد صدق العلم الحديث ما جاء في القرآن.   

ولقد أقام الباري جل وعلا الدليل على النبوة في الإنسان نفسه (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) وذلك بواردات استشعار الأحداث خارج السياق المعتاد؛ لإدراك الموجودات وذلك من خلال الرُّؤَى التي لا يتمارى أحد في وقوعها، والتي تقدم الأحداث مرموزة فتفسرها الوقائع أو يفك شفرتها من له علم من الكتاب.

وأحيانا تقدم المشهد الذي سيكون كما هو فيكون، ولقد نبه عليه الصلاة والسلام على الرؤيا في الحديث الصحيح الذي يرويه البخاري وغيره فيه: الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة”.

وقد اضطرب شراح الحديث في المراد بهذه التجزئة، وفسرها بعضهم بفترة النبوية قبل الوحي، وسكت البعض الآخر، ويمكن أنْ تفسر – والله أعلم- بأنَّ الجزء يشير إلى أنَّ النبوة تشتمل على معان كثيرة، وأنَّ الرؤيا في كشفها للحقيقة الغيبية واستيعابها لها بوضوح تمثل هذا الجزء الصغير من حالة انكشاف المغيبات والوضوح والصدق، فهي مثال للاطلاع والصدق؛ لكنه ضعيف لا يرقى إلى الاطلاع الواضح للنبوة كما لا يجب الاعتقاد به فقد يتطرق إليها الوهم والخطإ والضبابية ما لا يتطرق إلى انكشاف الحقائق في حالة النبوة، ما لم تكن رؤيا نبي من الأنبياء فإنها حق سواء كانت مرموزة كرؤيا إبراهيم إنه يذبح ولده فكانت ابتلاء لتصدق على كبش عظيم يكون سنة وقربة إلى الله تعالى في الغابرين (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ) أو رؤيا يوسف عليه السلام (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) أو رؤيا دانيال من أنبياء بني إسرائيل التي لم يتأكد شراح أهل الكتاب من إدراك حقيقتها.

أما رؤى نبينا عليه الصلاة والسلام وهي التي بدأ بها الوحي فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح.

 وكثير من الرؤى من غير الأنبياء كانت صادقة وصحيحة كرؤيا ملك مصر الواردة في القرآن الكريم التي فسرها يوسف عليه الصلاة والسلام ( إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ)

ورؤيا الموبذان قبل مبعث النبي عليه الصلاة والسلام رأى إبلا صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادهم.

ورؤيا الرئيس الأمريكي إبراهام لنكولن الذي رأى أنه قتل وسجل ذلك فكان كما رأى.

والكثير من الناس قد رأى أو سمع في نومه، إنها شهادة للنبوة قائمة في الإنسان، لأن الرؤيا في بعض صورها خارج دائرة الحس والعقل وما زالت محيرة، رغم تفسير العلم الحديث لها بأنها: ظاهرة نفسية ترد في حالة النوم”. ولهذا يقول الفيلسوف الفرنسي الشاعر بول فاليري :  إن الرؤيا هي فوضوية لأننا لن نعرفها أبدا إلا بالذكرى، Le réve est une hypothése puisque nous ne le connaissons jamais que par le souvenir”     

يجب أن نؤكد دائما على إمكان النبوة.

ومن مستلزمات النبوة العصمة التي تنافي الكذب والخطأ في البلاغ، مع وجوب الاعتقاد والاقتداء (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى)

وكذلك فإن من مستلزمات ذلك أنْ لا تكون العصمة لغير النبي؛ إذ من شأن ذلك أن يوجد مصدرا للوحي غير المصدر النبوي، وهو مناف للعصمة الخاصة ومؤد إلى انتشار المصادر.

فمن العقائد أنه لا قول لأحد مع قوله الثابت جزماً، الواضح دلالة حتماً، ولهذا فقد تبرأ الأئمة المقتدى بهم من مخالفة ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في عبارات قوية وحاسمة كتلك الواردة عن مالك ” كل كلام يأخذ منه ويرد إلا كلام صاحب هذا القبر.

وكقول الشافعي: إذا خالف قولي الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط. وكقول أبي حنيفة: إذا ثبت الحديث فهو مذهبي”. وقول أحمد: ضعيف الحديث أحب إلي من رأي الرجال”.

ومن مستلزمات النبوة ومكملات إبلاغ الرسالة الاعتراف بمكانة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغين لرسالته والمطبقين لأوامره والمرآة الأمينة التي تتراءى من خلالها صورة الرسالة النبوية الشريفة.

ولهذا فإن أي دعوة ترمي إلى تجريح الصحابة حملة الرسالة وأمناء الوحي إنما هي في حقيقتها وفي مئالاتها تجريح في الرسالة يكاد يصل إلى التشكيك فيها. ولهذا فإن تظافر النصوص القرآنية والحديثية في الثناء على ذلك الرعيل في الجملة وفي التفصيل لخير دليل على أن تعظيم جنابهم ورعاية حرمتهم والذب عن حريم حماهم بمكانة من الدين فلنقرأ قوله تعالى: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)

وقوله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وقوله (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

وقوله (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ.. إلى قوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ…)

ولنستمع لقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح: لا تسبوا أصحابي فلو أنَّ أحدكم أنفق مثل جبل أحد ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه”.

وعن أبي بردة قال صلَّينا المغرب مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم قُلنا لو جلسنا حتى نُصلِّي معه العشاء، قال: فجلسنا فخرج علينا، فقال: ما زلتم هاهنا، قلنا: يا رسول اللَّه صلَّينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نُصلِي معك العشاء، قال: أحسنتم أو أصبتم، قال: فرفع رأسه إلى السماء، -وكان كثيرًا ما يرفع رأسه إلى السماء- فقال: النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فإذا ذهب أصحابي أَتى أُمَّتي ما يُوعدون“. رواه مسلم.

وقوله: يَأْتِى عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُونَ. نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيُفْتَحُ لَهُمْ “. متفق عليه واللفظ لمسلم.

إلى ما لا يحصى من الأخبار والآثار.

ولهذا أجمع علماؤنا على تقديم أصحابه صلى الله عليه وسلم على غيرهم، والكف عما شجر بينهم رعاية لحرمة الرسول صلى الله عليه وسلم وحرمة الرسالة، ونأيا بجانب الشريعة عن الطعن، بالإضافة إلى أنَّ لوك تاريخ يفرق الأمة وينشر التفرقة واللعن والسباب لا يفيد الأمة في دينها ولا في دنياها ولا يرضى الله ورسوله، ولهذا فيرد المتشابه إلى المحكم، وبنفس المبدإ فإن آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم عظيم الحرمة وجزيل الاحترام أبناء وبنات وزوجات فقد اذهب الله تعالى عنهم الرجس وجعل حبهم عنوان الإيمان وطهارة النفس (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)

ولقد أحسن الطحاوي في قوله: ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس فقد برئ من النفاق”.

وكل ما خالف هذا من المتشابهات فيرد إلى المحكمات، فترد أخبار الآحاد المنافية إلى التواتر، وترد المشتبهات إلى التأويل.

ولهذا فيجب تربية الأمة على أنه لا يوجد تناقض ولا تناف بين حب آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب الصحابة، وأن الأمة المحمدية بريئة ممن ولغوا في دماء آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم فئة قليلة عليها ما اكتسبت من الإثم (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)

وهذا ما ندين الله تعالى به.                       

 القاطع الثالث: الإنسان

الإنسان هو هذا المخلوق الذي تحير الفلاسفة في وصفه فهو مادة وروح وعقل وعاطفة وعالم غيب وشهادة، هذا الإنسان المكرم بالعلم وتسخير الكائنات ولعل ذلك ما تشير إليه آيتان (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ

ويرجع الإنسان إلى آدم الذي خلقه الله تعالى، ونفخ فيه من روحه، وقد كان ذلك إجماع البشرية، وهو رأي الفلاسفة وكل البشر إلى عهد داروين ولامارك ؛ حيث أصبح التمايز بين الأجناس موضوع مراجعة، وأصبح البحث جاريًا عن أصل جديد للإنسان بين البريمات التي يجمعها به كمال الأسنان والقدرة على المشي على رجلين واستعمال اليدين، وأصبحت اكتشافات الحفريات والخيال تمثل مرجعيات لهذا الأصل الذي لم يثبت علميًّا.

وفي أكتوبر 2009م اكتشف العلماء ما سموه “آردي” في حفريات بأثيوبيا: إنسان معتدل القامة مناف للشنبازا لا يتعلق بالأشجار ولا يمشي على أربع، ويرجع إلى أكثر من أربعة ملايين سنة، كل ذلك يدل على أن نظرية داروين إنما كانت رجما بالغيب.        

ونحن نؤمن بالوحي السماوي، ونعتقد أنه الجهة المؤهلة بجدارة للتحدث عن أصل الإنسان الذي هو من المقولات التي تقع فوق سقف الرؤية العقلية.

يقول البعض: إن طبيعة الإنسان ذات أوجه ثلاث :

       الوجه الغريزي البيولوجي كسائر الحيوانات.

       الوجه الاجتماعي فهو اجتماعي يمارس حياته ويتأثر بالمجتمع.

       الوجه الإنساني، الذي يطمح إلى الرقي وإلى ملكوت السماء، ويتعرف على الخالق، ويتوق إلى عالم القيم والروحانيات.

فهو مزيج من الجسم والروح، وفي هذا المزيج تتمثل أوجه الطبيعة: الروح الشفافة الرفافة، والمادة الثقيلة، وحاجاتها الضاغطة.

ولطبيعته المركبة قد يطغى: ] إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآَهُ اسْتَغْنَى [()  وقد يتعجل: ]خُلِقَ الإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ[ () ، وقد يضعف : ] وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا [() فسرها المفسرون بأنه لا يقاوم شهواته، ] إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [() .

إنَّ الوحي يضع الإنسان أمام مرآة الحقيقة ليرى صورته بدون مجاملة ولا محاباة، فهو كائن مميز بطبيعته الازدواجية المنسجمة وتركيبه النفسي الفريد في عالم ينسجم مع طبيعته وحاجاته وتكوينه في تركيبه العجيب وترتيبه الغريب -سبحان الخالق-.

ولذا كان مخلوقًا مميزًا سخر له الكون، وكان ذلك مظهر الاستخلاف: ] إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [() ، والاستعمار للأرض: ] أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [() ووضعت الأرض مجهزة بمختلف الاحتياجات لاستقبال هذا الضيف الإنساني: ] وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأكْمَامِ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ [ ()

إنَّ هذا الاستخلاف للإنسان مثَّل تشريفًا وتكليفًا أيضًا، اقتضته حكمة الباري -جل وعلا- ليحمل الإنسان مسؤولية الخلافة في الأرض: أيشكر أم يكفر؟ أيصلح أم يفسد؟ وهكذا كان الإنسان مخلوقًا مكرمًا، وليس سيدًا مطلقًا، وقد وصف الفيلسوف الفرنسي لامارك الإنسان بأنَّه مشروع الله في الأرض.

إلا أنه سبحانه وتعالى انطلاقاً من هذا التكريم ورحمة بالإنسان ومتاعاً له إلى حين أحاطه للمحافظة على كيانه وصيانة لوجوده بكليات تشريعية هي من الثوابت والقطعيات تتمثل في حماية دينه ونفسه وعقله ونسله وماله.

وتبعاً لذلك فهم العلماء مقصداً أعلى للشريعة الغراء أنها إنما جاءت لمصالح العباد حيث يقول الشاطبي: كما أنَّ كلَّ حُكمٍ شرعِيٍّ؛ ففيهِ حقٌّ للعبادِ إما عاجلاً وإمَّا آجلاً؛ بناء على أنَّ الشريعةَ إنما وُضعتْ لمصالحِ العبادِ، ولذلك قال في الحديث: «حقُّ العبادِ علَى اللهِ إذَا عبدُوه ولمْ يُشْرِكوا بهِ شيئاً ألاَّ يُعَذِّبهم».

ويقول العز بن عبدالسلام: معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل وذلك معظم الشرائع”.

ولهذا كانت حقوق الإنسان الكثيرة بإزاء واجباته خادمة لمصالحه في المعاش والمعاد فعلى الخطاب الإسلامي في هذا القاطع أنْ ينبه على كبريات قضايا الإنسان وثوابت حقوقه، وأن يشارك الآخرين في القيم الإنسانية النبيلة، التي تسهم في التعايش البشري وإقامة العدل ودرء المفاسد وجلب المصالح، ومؤكداً على مصدر القيم والحقوق في الإسلام وهو الوحي؛ الذي جعل الإنسان مكرماً، وهذا هو المصدر المتعالى الذي كرم الإنسان، وليس الإنسان منشئ حقوق ولا مصدر قيم باستقلاله، إنها مجالات مهمة يجب أن يلجها الخطاب الإسلامي.     

ثانياً: الاجتهاديات في الخطاب:

لقد قدمنا في المقدمة أن الخطاب ينقسم إلى قاطع وظني، باعتبار الدليل والقرآئن الحافة، فإذا قوي الدليل إلى حد تحصيل العلم صار قاطعاً، وإذا ضعف نزل إلى مرتبة الظن، وأحيانا إلى مرتبة التخمين، وقد قدمنا هناك صنفي الأدلة الواردة على الأحكام والتي مهدت لهذا التصنيف ولهذا فسنعرف الاجتهاد والمجتهد فيه. 

أما الظنيات فهي أخبار الآحاد الصحيحة التي يجب العمل بها إذا خلت عن معارض إلا أنها لا تقيد العلم عند جمهور الأصوليين خلافاً للبعض. قال في نظم ورقات إمام الحرمين:

                وموجب العمل دون العلم      دعاه بالآحاد أهل العلم

والظواهر ومفهوم المخالفة والأقيسة والمصالح المرسلة وسد الذرائع والإجماع السكوتي وقول الصحابي والاستحسان والاستصحاب والاستقراء على خلاف في التام.

  التعريف وتحرير المصطلح: عرف العلماء الاجتهاد بأنه: بذل الوسع من قبل المجتهد للوصول إلى ظن أو قطع بأن حكم الله تعالى هو كذا.

قال الرازي: وهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في أيِّ فعل كان يقال: استفرغ وسعه في حمل الثقيل ولا يقال: استفرغ وسعه في حمل النواة. 

وأما في عرف الفقهاء فهو: استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه.

وهذا سبيل مسائل الفروع ولذلك تسمى هذه المسائل مسائل الاجتهاد والناظر فيها مجتهد وليس هذا حال الأصول”.

قال: الزركشي: وهو لغة: افتعال من الجهد وهو المشقة وهو الطاقة ويلزم من ذلك أن يختص هذا الاسم بما فيه مشقة لتخرج عنه الأمور الضرورية التي تدرك ضرورة من الشرع إذ لا مشقة في تحصيلها ولا شك أنَّ ذلك من الأحكام الشرعية.

وفي الاصطلاح: بذل الوسع في نيل حكم شرعيِّ عملي بطريق الاستنباط فقولنا: “بذل” أي بحيث يحس من نفسه العجز عن مزيد طلبٍ حتى لا يقع لوم في التقصير.

وقال أبو بكر الرازيّ: اسم الاجتهاد يقع في الشَّرع على ثلاثة معانٍ:

أحدها: القياس الشرعي لأن العلة لما لم تكن موجبة الحكم لجواز وجودها خالية منه لم يوجب ذلك العلم بالمطلوب فلذلك كان طريقه الاجتهاد.

والثاني: ما يغلب في الظن من غير علة كالاجتهاد في المياه والوقت والقبلة وتقويم المتلفات وجزاء الصيد ومهر المثل والمتعة والنفقة وغير ذلك.

والثالث: الاستدلال بالأصول”.    

ومع تخصيص ولوج باب الاجتهاد بالمجتهد مطلقاً أو مقيداً فإن الفقيه المتبصر إذا تمكن من ترتيب الأدلة الجزئية على المقاصد الكلية وأحسن عملية التنزيل على الواقع يكون أهلا لتقديم الخطاب.

قال في مراقي السعود :  

       بَذْلُ الفَقِيهِ الوُسْعَ أن يُحصِّلا    ظَنَّا بأنَّ ذاكَ حَتْمُ مَثَلا 

فلا بد من بذل الجهد واستفراغ الطاقة من الفقيه، أما غير الفقيه المجتهد وهو المقلد فاستفراغ طاقته لا يكون اجتهاداً بالمعنى الأخص. 

المجتهد فيه وهو كل حكم شرعي عملي أو علمي يقصد به العمل ليس فيه دليل قطعي، فخرج بالشرعي العقلي فالحق فيها واحد، والمراد بالعمل ما هو كسب للمكلف إقداماً وإحجاماً.

وبالعلمي ما تضمنه علم الأصول من المظنونات التي يستند العمل إليها. وقولنا: ليس فيها دليل قاطع –احترازا- عما وجد فيه ذلك من الأحكام فإنه إذا ظفر فيه بالدليل حرم الرجوع إلى الظن.      

ومما يجرى هذا المجرى قول الأحناف: إنَّ المجتهد فيه الذي يسوغ فيه الاجتهاد هو: ما لم يخالف كتاباً ولا سنة مشهورة ولا إجماعاً، إذ لو خالف شيئا من ذلك في رأى المجتهد لم يكن مجتهداً فيه، حتى لو حكم به حاكم يراه لا ينفذ.      

قال في الفتح: وعدم تسويغ الاجتهاد لوجود الإجماع، أو النص الغير المحتمل بلا معارضة نص آخر في نظر المجتهد وإن كانت المعارضة ثابتة في الواقع. 

فالمعارضة المشار إليها في كلام صاحب الفتح يردها الأحناف بأحد أمرين باحتمال ناشئ عن الدلالة، كما أنَّ الاحتمال قد يكون ناشئا عن الثبوت.

إن الاجتهادات تتعلق بتفاصيل قيم التسامح والعدل والشورى والتعايش والتواصل والوحدة والتعدد في إطار الثوابت، وهو تعدد تجليه مرونة الفقه وسعته، وتنوع دلالات النصوص، وتوسع نطاق الأدلة الإجمالية في ضوء الزمان؛ لتحقيق مقولة هي بالتأكيد حق: إن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان؛ وذلك بتسليط الاجتهاد على الربط المتواصل بين الزمان وبين الشريعة نصوصًا ومقاصد وأصولاً وقواعد، انطلاقًا من مبدأي: العقل المصلحة. وترجمة لثلاثة مقاصد: الضروري الحاجي- والتحسيني.

إن تقرير وجود مساحة واسعة وفسيحة للاجتهاد في الشريعة يجب أن يكسو الخطاب الإسلامي ثلاث سمات هي:

1-   التسامح

2-   التصالح

3-   التيسير

ويمكن ترجمة ذلك في ثلاث قضايا أساسية هي: التسامح في الاختلاف، والتصالح مع الآخرين والكف عن التكفير. والتيسير على الناس.

 السمة الأولى: التسامح في الاختلاف

 إن الاختلاف ظاهرة لا يمكن تحاشيها باعتبارها مظهرا من مظاهر الإرادة التي ركبت في الإنسان إذ الإرادة بالضرورة تؤدي إلى وقوع الاختلاف والتفاوت في الرأي.
وقد انتبه لذلك العلامة ابن القيم عندما يقول: “وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه”

قال ابن عابدين في تعليقه على قول صاحب الدر المختار: “وعلم بأنَّ الاختلاف من آثار الرحمة فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر”.

وهذا يشير إلى الحديث المشهور على ألسنة الناس وهو اختلاف أمتي رحمة قال في المقاصد الحسنة: رواه البيهقي بسند منقطع عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني، فإن لم تكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة”. وأورده ابن الحاجب في المختصر بلفظ اختلاف أمتي رحمة للناس.

  ونقل السيوطي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول: ما سرني أنَّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة.

وأخرج الخطيب أنَّ هارون الرشيد قال لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله نكتب هذه الكتب – يعنى مؤلفات الأمام مالك- ونفرقها في آفاق الإسلام لنحمل عليها الأمة. قال: يا أمير المؤمنين إن اختلاف العلماء رحمة من الله تعالى على هذه الأمة كل يتبع ما صح عنده وكلهم على هدى وكل يريد الله تعالى. وتمامه في كشف الخفاء ومزيل الإلباس.   

  ولهذا اعتبر العلماء معرفة الاختلاف ضرورية للفقيه حتى يتسع صدره وينفسح أفقه.

فقد قال قتادة: من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه.

وعن هشام بن عبيد الله الرازي: من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه.

وعن عطاء: لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس.

وقال يحي بن سلام: لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول: هذا أحب ألي.

إلى غير ذلك من الأقوال يراجع الشاطبي في الموافقات، فقد عد معرفة الاختلاف من المزايا التي على المجتهد أن يتصف بها.   

كما في مسألة أمره عليه الصلاة والسلام بصلاة العصر في بني قريظة فقد صلاها بعضهم بالمدينة ولم يصلها البعض الآخر إلا وقت صلاة العشاء ، ولم يعنف أحدا منهم كما جاء في الصحيحين.

وفي السفر كان منهم المفطر والصائم. وما عاب أحد على أحد كما جاء في الصحيح. حتى في الاختلاف في القراءة في حديث ابن مسعود وحديث عمر وأبي بن كعب…

إنها التربية النبوية للصحابة ليتصرفوا داخل دائرة الشريعة حسب جهدهم طبقا لاجتهادهم.

وبعده عليه الصلاة والسلام كانت بينهم اختلافات حسمت أحيانا كثيرة بالاتفاق، كما في اختلافهم حول الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم.

وكما في اختلافهم حول قتال مانعي الزكاة، وحول جمع القرآن الكريم، ورجوع عمر إلى قول علي في مسألة المنكوحة في العدة حيث كان عمر يرى التفريق بينها وبين من تزوجها في العدة وتحريمها أبدا عليه وإعطاءها الصداق من بيت المال ، وكان علي يرى أنها لا يتأبد تحريمها فرجع عمر إلى رأيه. 

وتارة يظل الطرفان على موقفهما وهما في غاية الاحترام لبعضهما البعض.
كقصة عمر مع ربيعة بن عياش في التفضيل بين مكة المكرمة والمدينة المنورة .

وقصة الأراضي المفتوحة هل تصير خراجية أم توزع على الغانمين.

وقصة عائشة وابن عباس في رؤيته عليه الصلاة والسلام للباري جل وعلا.
وبين عائشة وبين الصحابة في سماع الموتى.

وبين عمر وبين فاطمة بنت قيس في مسألة سكنى المبتوتة ونفقتها حيث قالت بنت قيس إنه لا سكنى لها ولا نفقة وقال عمر بخلافها قائلا: لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندرى أحفظت أم نسيت.

واختلاف ابن مسعود وأبي موسى الأشعري في مسألة إرضاع الكبير حيث رآه الأول غير مؤثر وراءه الثاني مؤثراً.

واختلاف أبي هريرة وابن عباس في الوضوء مما مست النار حيث أوجبه الأول ولم يوجبه الثاني.

واختلاف عمر مع أبي عبيدة في دخول الأرض التي بها وباء حيث رأى عمر الامتناع من دخولها ورأى أبو عبيدة الإقدام عليها قبل أن يخبرهما عبد الرحمن بن عوف بالحديث.

ويدخل التابعون في بعض الأحيان في حلبة الخلاف كأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مع ابن عباس في عدة الحامل المتوفى عنها هل تعتد بأبعد الأجلين أو تعتد بالوضع.

وتقف عائشة إلى جانب ابن عباس قائلة لأبي سلمة إنما أنت فروج – رأى الديكة تصيح فصاح – معتبرة أنه لم يبلع بعد درجة الاجتهاد ولكن الأمر لا يتجاوز ذلك.

وموضوعات الاختلاف كثيرة جدا ولكنها تحسم بالتراضي أحيانا ، ويسجل لعمر رضي الله عنه كثرة رجوعه إلى آراء إخوانه من الصحابة واعترافه أمام الملأ بذلك قائلا أحيانا: امرأة أصابت ورجل أخطأ. وتأصيله للقاعدة الذهبية وهي:” أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد” وهي قاعدة تبناها العلماء فيما بعد فأمضوا أحكام القضاة التي تخالف رأيهم واجتهادهم حرصاً على مصلحة إنهاء الخصومات وحسم المنازعات وهي مصلحة مقدمة في سلم الأوليات على الرأي المخالف الذي قد يكون صاحبه مقتنعا به.

أقوال العلماء في الاختلاف :

يقول الحافظ بن رجب: ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظن أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذورا وقد لا يكون معذورا؛ بل يكون متبعاً لهواه، مقصراً في البحث عن معرفة ما يبغض، فإنَّ كثيراً كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن قد يخطئ ويصيب، وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرد الهوى والألفة أو العادة، وكل هذا يقدح في أنْ يكون هذا البغض لله، فالواجب على المسلم أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز، وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه، خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرم.

وها هنا أمر خفي ينبغي التفطن له وهو أنَّ كثيراً من أئمة الدين قد يقول قولا مرجوحاً ويكون فيه مجتهداً مأجوراً على اجتهاده فيه موضوعاً عنه خطؤه فيه ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة؛ لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله، بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله ولا انتصر له ولا والى من يوافقه ولا عادى من خالفه، وهو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه وليس كذلك، فإن متبوعه إنما كان قصد الانتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده.

وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظن أنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته، وأنه لا ينسب إلى الخطأ وهذه دسيسة تقدح في قصده الانتصار للحق فافهم هذا، فإنه مهم عظيم، (وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم). انتهى كلام الحافظ ابن رجب في “جامع العلوم والحكم” وهو كلام في غاية الفضل.

قال يونس الصدفي: ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته يوما في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني، فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة”.

وقال الشافعي: ما ناظرت أحداً إلا قلت: اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معي اتبعني وإذا كان الحق معه اتبعته”.

 

العذر باختلاف العلماء:

عدم الإنكار في مسائل الاختلاف ومسائل الاجتهاد يقول ابن القيم: إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل فيها مجتهداً أو مقلداً.

ويقول العز بن عبد السلام: من أتى شيئا مختلفا في تحريمه إن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفا.

ويقول إمام الحرمين: ثم ليس للمجتهد أنْ يعترض بالردع والزجر على مجتهد آخر في موقع الخلاف إذ كل مجتهد في الفروع مصيب عندنا، ومن قال إن المصيب واحد فهو غير متعين عنده فيمتنع زجر أحد المجتهدين الآخر على المذهبين.  

وكان مالك رحمه الله تعالى يستعظم أن يقول المفتي هذا حرام في مسائل الاجتهاد الخلافية وإنما يقول: أكره.

قال ابن رشد في البيان والتحصيل: قال مالك: لم تكن فتيا الناس أن يقال هذا حلال وهذا حرام ولكن يقال: أنا أكره هذا ولم أكن لأصنع هذا، فكان الناس يكتفون بذلك ويرضون به، وكانوا يقولون: إنا لنكره هذا وإن هذا ليتقى، لم يكونوا يقولون هذا حلال وهذا حرام. وقال: وهذا الذي يعجبني والسنة ببلدنا.

أسباب الاختلاف

إن أسباب الاختلاف بعضها يرجع إلى فطرة البشر وإلى طبيعة الأدلة فمن الأول ما يقول فيه ابن القيم : وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لابد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه.      

   أما طبيعة الأدلة فيمكن إجمالها في أربعة أوجه تعتبر عناوين كبيرة لأسباب الاختلاف الكثيرة والمتنوعة.

1- اختلاف في دلالات الألفاظ وضوحاً وغموضاً واعتباراً ورداً.

2- اختلاف في أدلة معقول النص التي ترجع إلى مقاصد الشريعة قبولاً ورفضاً.

3- اختلاف في وسائل ثبوت النصوص الشرعية ودرجات الثبوت.

4- اختلاف في ترتيب الأدلة عند التعارض قوة وضعفاً.

فهذه العناوين الأربعة يرجع إليها اختلاف العلماء، وقد ذكر ابن السيد ثمانية أسباب لاختلاف العلماء .                                                          

   وأما الحافظ ابن رجب فقد قال عن أسباب الخلاف: منها أنه قد يكون النص عليه خفياً، لم ينقله إلا قليل من الناس، فلم يبلغ جميع حملة العلم.

ومنها: أنه قد ينقل فيه نصان، أحدهما: بالتحليل، والآخر: بالتحريم، فيبلغ طائفة منهم أحد النصين دون الآخر؛ فيتمسكون بما بلغهم، أو يبلغ النصان معاً من لا يبلغه التاريخ فيقف لعدم معرفته بالناسخ.

ومنها: ما ليس فيه نص صريح، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيراً.

ومنها: ما يكون فيه أمر أو نهي، فتختلف أفهام العلماء في حمل الأمر على الوجوب أو الندب، وفي حمل النهي على التحريم أو التنزيه.

إنه بالنظر إلى منهجية مختلف المذاهب ندرك بداهة أنها لا تختلف في اعتبار الكتاب والسنة مصدرين منشأين للتشريع، وهو أصل عقدي للمسلم كما أنها تعتبر الإجماع والقياس مصدرين معرفين على الأصلين، وهذا في الجملة.

أما في التفصيل، فإنَّ ملامح الاختلاف تتحدد على ضوء اجتهاد يتوسع في معتبر الحديث؛ فيعمل بالمراسل والبلاغات والمنقطع والضعيف أحياناً، مقدماً ذلك في الرتبة على معقول النص المدرك بالاجتهاد. وبين مقتصر على اعتبار ما صح بمعايير حديثية صارمة تاركاً للاجتهاد بالقياس وما في حكمه، أو للاستصحاب مساحة أوسع، وربما قدم بعضهم عمل الراوي على العمل بمرويه.

كما أنَّ تفاصيل التعامل مع الإجماع يعرض فيها الاختلاف بين موسع لمفهوم الإجماع ليشمل الإجماع السكوتيّ وإجماع سائر القرون والعصور ومعتبر إجماع أهل المدينة.

وبين مضيق في مفهوم الإجماع لحصره في النطقي، ومن يحصره في إجماع الصحابة فقط.

وكذلك فإن قياس العلة يتفق على اعتباره أكثر العلماء، غير أنَّ الاختلاف يعرض في أنواع أخرى من القياس؛ كقياس الشبه وقياس العكس، وكذلك بعض مسالك العلة.

أما الأدلة الأخرى كالمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان وقول الصحابي وشرع من قبلنا.

فتتفاوت المذاهب بالأخذ بها، ولكنها لا تعرو عنها، والتباين إنما هو في التنائي عن النص والشسوع عنه أو اللياطة به واللصوق، كما يشير له إمام الحرمين وهو يقرر موقف الشافعي من المصالح المرسلة.

وبصفة عامة يختلف الأئمة في الأخذ بالمقاصد، فمن متوسع في الأخذ بها متعمق في أغوارها دائر مع إيرادها وإصدارها ومن متشبث بالنصوص متمسك بأهدابها. 

وكل المذاهب بدون استثناء اعتمدت قادة مجتهدين ومجتهدى مذهب ومقلدين متبصرين ومقلدين ناقلين، وجعلت من سلك سبيلهم من عوام المسلمين في سعة في دينه وسداد في أمره، كما أنها اعتمدت ما اشتهر من أقوال هؤلاء وترجح لكنها أيضاً ذكرت جواز العمل بغير الراجح وبغير المشهور لضرورة أو حاجة منزلة منزلتها.

السمة الثانية: التصالح في الخطاب والكف عن التبديع والتكفير.

لخطورة التكفير فقد ورد في الحديث: من رمي مؤمنًا بكفر فهو كقتله”.()

“إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما”.()

والأحاديث بمثل هذا المعني كثيرة، وما ذلك إلا لما يستلزمه الكفر من النتائج الخطيرة التي من جملتها إباحة الدم، والمال، وفسخ عصمة الزوجية، وامتناع التوارث، وعدم الصلاة عليه، ومنع دفنه في مقابر المسلمين، وغيرها من البلايا والرزايا نعوذ بالله تعالى منها.

هذا وقد اختلف العلماء في مسائل التكفير وتبادلت الطوائف تهمته بحق أو بغير حق، إلا أنه بسبب ما ورد فيه من الوعيد حذّر أشد التحذير من التكفير جماعة من العلماء حتى قال الإمام السبكي: ما دام الإنسان يعتقد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكفيره صعب”.

وقال الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني: لا أكفر إلا من كفرني”.

وقد بالغ الإمام أبو حامد الغزالي حتى نفي الكفر عن كل الطوائف فقال: هؤلاء أمرهم في محل الاجتهاد، والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بالتوحيد خطا، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم.

وبعد أن ذكر أمثلة لطوائف يكفر بعضها بعضاً.

قال: والسبب في هذه الورطة الجهل بموقع التكذيب والتصديق، ووجهه أن كل من نزل قولاً من أقوال الشرع على شيء من الدرجات العقلية التي لا تحقق نقصًا فهو من التعبد، وإنما الكذب أنْ ينفي جميع هذه المعاني ويزعم أنَّ ما قاله لا معني له إنما هو كذب محض، وذلك هو الكفر المحض، ولهذا لا يكفر المبتدع المتأول ما دام ملازمًا لقانون التأويل؛ لقيام البرهان عنده على استحالة الظواهر”.()

“وفي جامع الفصوليين روي الطحاوي عن أصحابنا: لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، ثم ما تيقن أنه ردة يحكم بها، وما يشك أنه ردة لا يحكم بها؛ إذا الإسلام الثابت لا يزول بالشك، مع أن الإسلام يعلو وينبغي للعالم إذا رُفع إليه هذا أن لا بادر بتكفير أهل الإسلام مع أنه يقضي بصحة إسلام المُكره”.

أقول: قدمت هذا ليصير ميزانًا فيما نقلته في هذا الفصل من المسائل، فإنه قد ذكر في بعضها أنه كفر مع أنه لا يكفر على قياس هذه المقدمة، فليتأمل أحد ما في جامع الفصوليين.

وفي الفتاوى الصغرى: الكفر شيء عظيم فلا أجعل المؤمن كافرًا متى وجدت رواية أنه لا يكفر”.

وفي الخلاصة وغيرها: إذا كان في المسألة وجوه توجب الكفر ووجه واحد يمنعه، فعلى المفتي أنْ يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسينًا للظن بالمسلم، زاد في البزازية: إلا إذا صرح بإرادة موجب الكفر فلا ينفعه التأويل، وفي التتار خانية: لا يكفر بالمحتمل؛ لأن الكفر نهاية في العقوبة فيستدعي نهاية في الجناية والاحتمال لا نهاية معه “.

“والذي تحرر أنه لا يفتي بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة، فعلي هذا فأكثر ألفاظ التكفير المذكور لا يفتي بالتكفير فيها، ولقد ألزمت نفسي أن لا أفتي بشيء منها”. أ.هـ كلام البحر –باختصار-().

ومثله نص عليه في تنوير الأبصار مع شرحه رد المحتار، وعلق ابن عابدين على قوله: ولو رواية ضعيفة بقوله: قال الخير الرملي: أقول: ولو كانت الرواية في غير أهل مذهبنا، ويدل على ذلك اشتراط كون ما يوجب الكفر مجمعًا عليه”.()

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أن ليس كل من قال قولاً أخطأ فيه أنه يكفر بذلك وإن كان قوله مخالفًا للسنة، فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع، لكن للناس نزاع في مسائل التكفير قد بسطت في غير هذا الموضع –والمقصود هنا- أن ليس لكل من الطوائف المنتسبين إلى شيخ من الشيوخ أو لإمام من الأئمة أن يكفروا من عداهم، بل في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما”.()

ولهذا فالخطاب الإسلامي ينبغي أن لا يكفر أحداً من الأمة المحمدية من دخل الدائرة الكبرى وهي دائرة التوحيد والاعتراف بالنبوة الخاتمة إلا أن يأتي بناقض غير محتمل عليه من الله برهان قاطع.

هذا الذي رجع إليه العلماء وارتضاه الفقهاء ورجع إليه من خاضوا بحور علم الكلام ودونوا مقالات أهل البدع وأهل الإسلام.            

ولعلي اختم بكلمات للحافظ الذهبي وهي قوله: رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي، سمعت أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال: أشهد على أني لا أكفر أحداً من أهل القبلة، لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات..

قلت: وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحدا من الأمة، ويقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ” فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم”.( الذهبي   سير أعلام النبلاء 15/88 )

السمة الثالثة: التيسير على الناس ورفع الحرج

قال أبو إسحاق الشاطبي:”المسألة السادسة”: فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه والدليل على ذلك أمور:

أحدها: النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى:} وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَْغْلَـٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ { وقوله} رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا{ وفي الحديث:”قال الله تعالى قد فعلت” وقد جاء:} لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا{  }يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ{ و } وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ { و}يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَـٰنُ ضَعِيفاً{ و} مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { وفي الحديث:” بُعِثتُ بالحَنِيفية السمحة” وحديث:”ما خُيِّرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُما أَيْسَرُ من الآخَرِ إلاّ اخْتَار أَيْسَرَهُما مَا لَمْ يُكنْ إِثْماً فَإنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ”.

وإنما قال:” ما لم يكن إثماً ” لأن ترك الإثم لا مشقّة فيه من حيث كان مجرد ترك إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى. ولو كان قاصداً للمشقة لما كان مريداً لليسر ولا التخفيف ولكان مريداً للحرج والعسر وذلك باطل.

والثاني: ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومما علم من دين الأمة ضرورة كرخص القصر والفطر والجمع، وتناول المحرمات في الاضطرار، فإن هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقّة، وكذلك ما جاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال.

ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكلف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف.

وأطال النفس قائلاً: إلى جزئيات كثيرة جداً يحصل من مجموعها قصد لرفع الحرج فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها عملاً بالاستقراء.

والتيسير قاعدة من قواعد الترجيح في الخلاف لما تقدم ومن مظاهر التيسير التعامل مع عامل الزمن.

ومن مظاهر التيسير النظر في مئالات الأفعال والأقوال واعتبار الأعراف والعادات.

فالخطاب الإسلامي يجب أن يستوعب كل هذه القواعد ليكون أكثر نجاعة وجدة وتأثيراً لأنه أكثر تيسيراً وتبشيراً.


خلاصة القول: إن الخطاب الإسلامي يقوم على قواطع وثوابت علمت من الدين بالضرورة، هي أساس الدين ودعائمه كالألوهية والتوحيد والنبوة والرسالة ومكانة الإنسان في التشريع والكليات التي تحميه وتصوب حياته.

هذه الثوابت يجب أنْ توظف كل الأساليب العلمية في بيانها، وجمع الأمة حولها، وتقديمها للبشرية مدعومة بالحجج العلمية والبراهين العقلية ليهدي الله تعالى بها من يشاء من عباده.  

ولحسن حظنا وحظ الإنسانية ليس في ديننا ما يناقض العلم أو ينافي العقل، بل إن العلم والعقل خير معين على بيان صحة هذا الدين.

فهل أحسنا العرض وأجدنا الإبرام والنقض ؟

إنَّ الخطاب الجديد في عصر العولمة والقرية الكونية وطغيان القيم المادية الخالية من كل قيم إلاهية أو إنسانية نبيلة مما أوجد الإنسان الحسي أو الجسدي الذي يعيش لذاته مستغرقاً في لذاته فلا نبل ولا كرم ولا إيثار ولا تضامن ولا نظر في المئالات إلا مئالات الربح بلا روح والثروة بلا رائحة، إنه نذل لا غيرة له حسب ما يقول فوكوياما وهو الهلباجة في مفهوم الأعرابي وخلف الأحمر.

فالخطاب الإسلامي متسامح؛ لأنه يقبل الاختلاف ويتسع لمختلف وجهات النظر والآراء، فلا إنكار في مختلف فيه كما أصلنا ذلك، إذا كان اختلافاً معتبرا، ومن لا يستطيع إدراك طبيعة الاختلاف فليس من أهل الميدان ولا من فرسان الشان.

والخطاب الإسلامي متصالح لأنه لا يكفر من دخل الدائرة الكبرى؛ إلا بناقض مجمع عليه قام عليه برهان قاطع.

والخطاب الإٍسلامي ميسر لأنه يتوخى مصالح الناس ويراعى ضعفهم ( يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا)

والخطاب الإسلامي إنساني لأنه يرفع قيمة الإنسان.

والخطاب الإسلامي ثابت صلب في جوهره مرن في تعبيراته.

ومع ذلك فإن خطابنا بقواطعه وثوابته راسخ رسوخ الجبال الراسيات شامخ شموخ الأطواد المشمخرات ولكنه في تفريعاته مائس مع رياح المصالح ميس فروع البان بنسائم الأسحار على وعساء الكثبان.

والله سبحانه وتعالى وليّ التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.         


– الزركشي       البحر المحيط                   1/96  

– الشاطبي            الموافقات               3/416

([3]) سورة العلق : 6 – 7 .

([4]) سورة الأنبياء : 37 .

([5]) سورة النساء : 28 .

([6]) سورة المعارج : 19 .

([7]) سورة البقرة : 30 .

([8]) سورة هود : 61 .

([9]) سورة الرحمن : 10 – 12 .

– جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه “كتاب الجهاد” وغيره. ومسلم في صحيحه “كتاب الإيمان”.

– القرافي                نفائس الأصول في شرح المحصول         4/513

– الزركشي                  البحر المحيط             4/488

– سيدي عبدالله             نشر البنود                 2/315

– نفس المرجع        2/560

– نفس المرجع        2/574

– ابن القيم           إعلام الموقعين

– قال الملا علي القارئ: إن السيوطي قال: أخرجه تصر المقدسي في الحجة والبيهقي في الرسالة الأشعرية بغير سند، ورواه الحليمي والقاضي حسين، وإمام الحرمين وغيرهم، ولعله خُرِّج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا.  

– ابن عابدين             رد المحتار      1/46-47  

– الذهبي                            سير أعلام النبلاء          ترجمة الإمام الشافعي

– ابن القيم                 إعلام الموقعين     3/365

– العز بن عبد السلام       قواعد الأحكام    1/109

– إمام الحرمين            الإرشاد         ص 312

– ابن رجب        جامع العلوم والحكم   1/131  

([24]) هو جزء من حديث أوله: ((من خلف بملّة غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال))، فتح الباري 8/32.

([25]) متفق عليه، البخاري، فتح الباري 8/32، مسلم 1/79.

([26]) الزركشي، المنثور 2/ 87- 88.

([27]) حاشية ابن عابدين 3/ 289.

([28]) حاشية ابن عابدين: 3/ 289.

([29]) مجموع الفتاوى: 7/ 685.

[30] سورة الأعراف       الآية 157

– سورة البقرة         الآية 286

 أخرجه مسلم عن ابن عباس باب الإيمان حديث رقم180

– سورة البقرة       الآية 286

– سورة البقرة        الآية 185

– سورة الحج        الآية 78  

– سورة النساء       الآية 28

– سورة المائدة       الآية 6

– الحديث أخرجه الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه حديث رقم 21260 باقي مسند الأنصار.

– الحديث أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها كتاب الفضائل رقم 6047

– الشاطبي      الموافقات      2/121- 122

– نفس المرجع    2/ 299

التأمين التعاوني والتأمين التجاري

التأمين التعاوني والتأمين التجاري 

    2/4/2008 م 

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه

 

    – التأصيل 

التعريف : التقليدي( التجاري)

التكافلي (التعاوني)

– خصائص كل منهما.

– الفروق.

– الغرر

– عقود فيها شائبة معروف

– الضمان

خاتمة.

 

 تنبيه: قد يستعمل في هذا البحث مصطلح: التعاوني أو التكافلي أو التبادلي للدلالة على مفهوم واحد ولا مشاحة في الاصطلاح إذا فهم المراد.والحال نفسه فالتجاري هو التقليدي.

 

 

 

 

– التأصيل :

 

إن التأمين التكافلي له ثلاثة أصول أحدها: ما عرف من تشوف الشارع الحكيم للتعاون والتضامن قال تعالى ﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ﴾ حديث الأشعريين “إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم. أخرجه الشيخان.

وقد نبه العلماء كالعيني في عمدة القاري على أن هذا ليس من الهبة وإنما هو من الإباحة. كما نبه بعضهم كالباجي على أنه اعتبارا بهذا الأصل يجوز للإمام أن يفعل ذلك. وذكر ابن بطال أن للسلطان أن يأمر الناس بالمواساة ويجبرهم على ذلك، ويشركهم فيما بقى من أزوادهم أحياء لأرماقهم وإبقاء لنفوسهم.

والثاني: أصل خاص يتعلق بما فهم من قصد الشارع في جنايات إلى تفتيت الضرر وذلك بتسريع العاقلة.

إن نظام العواقل في الإسلام الذي كان يختص بعصبات النسب دليل واضح على قصد الشارع الحكيم تفتيت جبر الضرر، وقد عممه عمر رضي الله عنه ليشمل منسوبي الديوان[1] عندما ضعفت العصبية وأصبح لأهل الديوان الواحد نوع عصبية وتضامن وذلك لما فهم رضي الله عنه من قصد الشارع إناطة الحكم بوصف التضامن الذي يمكن أن ينشأ عن النسب كما يمكن أن ينشأ عن الديوان ففتح الباب للاجتهاد في أي شكل من التضامن الذي وإن كان قد بدأ بالوضع فإنه لا يستبعد أن يكون بالعقد. وهنا يبرز الأصل الثالث: الذي يتمثل في عقد الولاء قال تعالى ﴿ والذين عاقدت أيمانكم فاتوهم نصيبهم﴾ وهذه الآية جعلت لإرادة المتعاقدين حظاً في التوريث الذي كان بالوضع، وهذه الآية وإن كان حكمها منسوخاً عند أكثر العلماء فقد تمسك بها بعضهم كالأحناف في تقريرهم للميراث بهذا النوع من الولاء بشروط.

وهذه الأصول وإن اختلف العلماء في ثبوت الحكم في بعضها وصلوحية ما ثبت فيه للقياس إلا أنها لا أقل من أن تصلح للاستئناس.

فالقياس إن لم يكن بتنقيح المناط من خلال إلغاء الفارق لا بد فيه من أصل معين مخصوص باسم لإلحاق الفرع به ويبقى باب الاستصلاح واسعاً لأنه استنباط حكم عن طريق المناسب المرسل.

الذي لا يرجع إلى شاهد معين بل إلى كلي مصلحي في مرتبة الضرورة أو الحاجة علم اعتبار الشرع له في الجملة.

وانطلاقاً من هذا تكون الحاجة أصلا لهذا النوع على أن يكون الدليل المنطبق على هذا الموضوع هو استحسان مبني على استصلاح وهو نوع من أنواع الاستحسان عند المالكية أو ما يسميه الأحناف بالقياس الخفي مقابل القياس الظاهر كما سيتبينه القارئ عند مطالعة الفقرة المتعلقة بالعقود ذات شائبة المعروف.

 

 

التعريف : التقليدي( التجاري)

 

 

التأمين التجاري يعرف بأنه: ضمان يقدمه مؤمن إلى مؤمن له بتعويضه عن خطر محتمل مقابل نقود يدفعها أو اشتراك[2].

ويعرفه الفرنسي هيما : بأنه عقد بموجبه يحصل أحد المتعاقدين وهو المؤمن له في نظير مقابل يدفعه على تعهد بمبلغ يدفعه له أو للغير إذا تحقق خطر معين المتعاقد الآخر وهو المؤمن الذي يدخل في عهدته مجموعاً من هذه الأخطار يجري مقاصة فيما بينها طبقاً لقوانين الإحصاء.”[3]

 

– أهم مميزات التأمين التجاري:

 

الانفصال الكامل لشخصية المأمن “صاحب المشروع” عن شخصية المؤمن له “مالك وثيقة التأمين”.

تهدف الهيئات الممارسة للتأمين التجاري أساساً إلى تحقيق الربح فالمال الذي يجمع من الأقساط يصبح ملكاً للمؤمن والربح أو الخسارة عبارة عن الناتج عن زيادة الأقساط المتحصلة أو نقصها عن التكلفة الفعلية للتأمين مع ملاحظة تحمل قسط التأمين التجاري المقدر منذ بداية العقد بجزء لمقابلة الأرباح المراد تحقيقها.

يتميز التأمين التجاري بأن الأقساط التي يدفعها المؤمن لهم ثابتة منذ إبرام العقد تتحرر على أسس معينة وتبقى كذلك طيلة مدة العقد فيكون المؤمن لهم لهم على علم بما يلتزمون به منذ البداية.

أما التأمين التكافلي فيقوم على فكرة بسيطة هي قيام جماعة بتجميع مبالغ من المال كل قدر وسعه وحسب طاقته ليتواسوا فيما بينهم وذلك يرجع إلى الثلاثة الأصول السابقة.

 

 

تعريف التأمين التكافلي (التعاوني):

 

وقد ورد تعريف التأمين التكافلي في قرار المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث في دورته بدبلن بما نصه: والبديل الشرعي لذلك هو التأمين التكافلي القائم على تكوين محفظة تأمينية لصالح حملة وثائق التأمين، بحيث يكون لهم الغنم وعليهم الغرم، ويقتصر دور الشركة على الإدارة بأجر، واستثمار موجودات التأمين بأجر أو بحصة على أساس المضاربة. وإذا حصل فائض من الأقساط وعوائدها بعد دفع التعويضات فهو حق خالص لحملة الوثائق، وما في التأمين التكافلي من غرر يعتبر مغتفراً؛ لأن أساس هذا التأمين هو التعاون والتبرع المنظم، والغرر يتجاوز عنه في التبرعات”.

وعرفه بعضهم: باعتباره نظاما هو تعاون مجموعة من الأشخاص يسمون “هيئة المشتركين” يتعرضون لخطر أو أخطار معينة على سبيل التبرع على تلافي آثار الأخطار التي قد يتعرض لها أحدهم بتعويضه عن الضرر الناتج من وقوع هذه الأخطار وذلك بالتزام كل منهم بدفع مبلغ معين يسمى “القسط” أو “الاشتراك” تحدده وثيقة التأمين أو “عقد الاشتراك” وتتولى شركات التأمين الإسلامية إدارة عمليات التأمين واستثمار أمواله نيابة عن هيئة المشتركين في مقابل حصة معلومة من عائد استثمار هذه الأموال باعتبارها مضارباً أو مبلغا معلوما باعتبارها وكيلاً أو هما معاً).

و” أنه يقوم على مبدإ التعاون الإسلامي وأن أساسه عقد التبرع الشرعي وأن هذا التبرع يلزم بالقول على رأي الإمام مالك رضي الله عنه وعلى ذلك فإن “عضو” ما يسمى “بهيئة المشتركين” يصبح ملتزما بدفع القسط بمجرد توقيعه على عقد التأمين وإن كان أساس دفع القسط هو التبرع.

يسأل المؤمن في التأمين التجاري عن أداء التعويضات أو مبالغ التأمين دون إلقاء العبء على المؤمن لهم حتى لو طرأت ظروف غير متوقعة وغير عادية اضطرته إلى دفع مبالغ كبيرة تجاوز مجموع المبالغ التي تحصل عليها كأقساط محسوبة على أساس الظروف العادية والمتوقعة.

درجت القوانين الخاصة بالإشراف والرقابة على هيئات التأمين على اشتراط حد أدنى معين لرأسمال هيئة التأمين التجاري حتى تضمن قدرة الهيئة على الوفاء بالتزاماتها تجاه المستفيدين من عقودها التأمينية المبرمة حتى في حالة انحراف النتائج الفعلية عن تلك المتوقعة والمتخذة أساساً لحساب الأقساط.

تعمل بعض هيئات التأمين التجاري على الاستفادة من بعض مزايا التأمين التبادلي فصارت في بعض فروع التأمين تعطي للمؤمن لهم قدراً من الأرباح مما يحقق لهم استرداداً جزئياً للأقساط التي دفعوها.

 

 

– أهم مميزات التأمين التعاوني :

 

اتحاد شخصية المؤمن “صاحب المشروع” وشخصية المؤمن له “حامل وثيقة التأمين” ومن هنا جاء وصف هذا النوع من التأمين بالتبادلي حيث يؤمن الأعضاء بعضهم بعضاً فكل منهم مؤمن ومؤمن له في وقت واحد. وتتحدد حقوق وواجبات عضو الهيئة التبادلية باعتباره شريكاً مؤمناً من خلال نظام الهيئة الذي يلتزم به أو قرارات الجمعية العمومية التي هو أحد أعضائها أساساً. كما تتحدد حقوق وواجبات عضو الهيئة التبادلية باعتباره مؤمناً له من خلال وثيقة التأمين والتي تخضع للأسس الفنية ذاتها التي تخضع لها وثيقة التأمين التجاري.

وتقتصر بذلك عضوية الهيئة التبادلية ” التي هي عبارة عن عضوية اختيارية مفتوحة” على المؤمن لهم وهم المالكون لها وهم الذين يديرونها وهم الذين ينتفعون من خدماتها وهم متساوون في الحقوق أساساً ولكل منهم صوت واحد فقط في الجمعية العمومية على خلاف ذلك في المساهمة للتأمين التجاري التي تعدد فيها الأصوات للمساهم الواحد بقدر ما يملك من أسهم في رأس المال.

عدم استهداف الربح والخلاص من الاستغلال الرأسمالي الذي تمارسه شركات التأمين التجاري.

إن الهدف الأساسي للهيئات التبادلية للتأمين هو تقديم خدمة التأمين للأعضاء بسعر التكلفة بل وبأقل تكلفة ممكنة فلا وجود للربح في عناصر التكلفة التي يتحملها الأعضاء ولا تحتاج غالباً إلى رأس مال للمشروع حيث تنشأ بين عدد كبير من الأفراد المعرضين لخطر معين يتشاركون في تحمل الخسائر التي تحل بأي منهم عند تحقق الخطر وهذا هو الأساس في وصفها بالتعاونية.

-رأس المال تتكون الهيئات التبادلية التعاونية أساساً بدون رأس مال حيث إنها لا تستهدف الربح كما تقدم ولا يوجد بها مساهمون يتقاضون أرباحاً لأسهمهم وتلزم القوانين في بعض الدول الهيئات التبادلية برأسمال تأسيس يقدمه المؤسسون ويحصلون عليه عادة بوساطة الاقتراض وهو يقوم مقام رأسمال المساهمين في الشركات المساهمة للتأمين التجاري وتستهلك “تسدد” القروض خلال مدة عمل الهيئة.

– الاشتراكات والفائض تعتمد الهيئة التبادلية في توفير المال اللازم لعملها على اشتراكات الأعضاء والاحتياطيات التي تحرص على تكوينها بالشكل الكافي لمواجهة الانحرافات التي تتوقعها. وإذا اشترط مقدار من الربح أكثر لبعض الشركاء سواء تفاوتوا في الأسهم أو تساووا لسبب أو آخر طبقاً للإتفاق كما هو مذهب الإمامين أبي حنيفة وأحمد صح خلافاً للإمامين مالك والشافعي[4].

 

إن الهدف الأساسي للتأمين التكافلي هو تجنب محظورات التأمين التجاري وفي نفس الوقت الوصول إلى صيغ تكون فيها خدمة المؤمنين مساوية لشركات التأمين التجاري أو أفضل منها من بعض الوجوه وبخاصة إذا كانت شركة المضاربة لها نشاط تجاري غير التأمين في البلاد التي تسمح قوانينها بذلك.

ويتميز التأمين التكافلي أساساً بأن الاشتراكات أو الأقساط التي يدفعها المؤمن لهم قد تكون متغيرة حسب نتائج أعمال كل سنة فللهيئة الحق في مطالبة أعضائها بأنصبتهم في العجز في الاشتراكات المحصلة عن التعويضات والمصروفات الفعلية كما أن للأعضاء الحق في استرداد الفائض إن وجد.

وقد يكون ذلك من حيث المبدإ فقط بدفع نسبة مقدرة فقط تمثل الحد الأقصى المقدر للاشتراك أو أن يتم دفع اشتراك ثابت فعلا. لتتماشى والطريقة المثلى في الشرع إلا أنهم في الواقع وفي الغالب إنما يدفعون قسطاً ثابتاً.

إن تعريف المجلس الأوربي إنما هو تعريف لصورة مفضلة من التأمين التكافلي لأن التأمين التكافلي قد يأخذ صوراً متعددة كأن تأسس جماعة شركة مضاربة تقوم بالتجارة في موجودات الشركة ويلحقون بنظام الشركة عقداً تكافلياً يلتزم فيه أعضاء الشركة بتأمين بعضهم البعض وحمايته من الأخطار سواء كان ذلك من ربح الشركة وهو أمر جائز أن يتبرع المضارب بربحه.

وهناك صيغة أخرى طبقناها في بعض البلاد وهي تكوين شركة مضاربة بأموال يقوم فيها بعض أعضاء الشركة بالإدارة لصالح الجميع فيكون لهؤلاء مزيد من الأرباح لأنهم مؤسسون ومشتركون بأموالهم وأبدانهم وهو جائز على مذهب أحمد وقد بين ذلك ابن قدامة حيث قال : وأما المضاربة التي فيها شركة وهي أن يشترك مالان وبدن صاحب أحدهما مثل أن يخرج كل واحد منهما ألفاً ويأذن أحدهما للأخر في التجارة بهما فمهما شرطا للعامل من الربح إذا زيد على النصف جاز لأنه مضارب لصاحبه في ألف ولعامل المضاربة ما اتفقا عليه بغير خلاف …..

وبعد شرح طويل قال : فحصل مما ذكرنا أن الربح بينهما على ما اصطلحا عليه في جميع أنواع الشركة[5]. وهو مذهب أبي حنيفة.

ومما ذكرنا يتبين أنه قد تكون أفضل صيغة للتأمين الإسلامي أن تكون شركة مضاربة ومعها شركة أموال فيمنح المساهمون الكبار وهم المضاربون بأبدانهم لتوليهم الإدارة وأرباب المال لاشتراكهم بأموالهم حصةً من الربح أكبر من حصص المشتركين حملة الوثائق لوجود التراضى ولهذا فيكون لهؤلاء المشتركين في الجمعية العامة ممثلون – وهذا ما قررناه لشركة التأمين الإسلامي بموريتانيا –

وهي صيغة مختصرة وبسيطة تقوم على تأسيس شركة تجارية من مساهمين كبار تبرعوا بجزء من أموالهم لجبر الإضرار التي تنزل بهم ويلتحق مشتركون صغار بنفس الصيغة أي انهم شركاء بالأقساط التي دفعوها متضامنين مع الآخرين مع قبولهم بمنح جزء أكبر من الربح لهؤلاء المساهمين المؤسسين وهي شركة تلزم بالقول وهذا مذهب مالك قال خليل ( ولزمت بما يدل عرفاً كاشتركنا).

 

– الفرق بين التأمين التعاوني والتأمين التقليدي:

 

1- أن التأمين التقليدي يغلب عليه الغرر فيمكن أن يعبر عنه بأنه عقد هو الغرر بعينه كما قدمنا عن الباجي وبالتالي فهو من الغرر الشديد الغالب المحرم فلا تجيزه الحاجة إلا في ظروف استثنائية.

وأن التأمين التكافلي يخف فيه الغرر وذلك لعنصر التبرع القائم عليه ومحدودية المؤمنين فتجيزه الحاجة، وهذا هو الفرق الأول.

2- أن التأمين التكافلي عقد إرفاق ومعروف؛ لأنه مبني في نيته على التعاون ولهذا يغتفر فيه الغرر.

بخلاف التأمين التقليدي فالقصد الغالب فيه التجارة وكسب الربح ولهذا لا يجوز فيه الغرر، وهذا هو الفرق الثاني.

3- الفرق الثالث أن الغرر في التأمين التقليدي أصل لأن المؤسسة قائمة على كسبها من الحوادث التي لم تحصل بينما الغرر في التكافلي إضافي وتبعي، وكما في مسألة الظئر والرضيع عن المواق.

العناصر الأساسية للتكافل

 

– وأهم شيء في التأمين التكافلي ثلاثة عناصر:

 

1- عنصر التبرع وهو تبرع للمتضرر من أعضاء الشركة بجزء من الربح أو بالربح بكامله، وهذا كما يجوز في المضاربة التبرع بجزء من رأس المال وهذا جائز؛ لأنه يغتفر الغرر في التبرعات.

2- عنصر الشراكة وهو اعتبار كل قسط يدفع إلى الشركة إنما هو قسط اشتراك وليس مدفوعاً في مقابل.

3- عنصر اتحاد الشخص ذي الجهتين بين المؤمن بصيغة أسم الفاعل والمؤمن بصيغة أسم المفعول سواء أداروا الشركة بأنفسهم كشركة أبدان وأموال أو أداروها بواسطة جهاز إداري يمارس عملية وكالة بأجر[6].

 

 

– الغرر:

 

إن أهم مشكلة فقهية يواجهها عقد التأمين وتقف عقبة في سبيل الحكم فيه بالجواز هي أنه عقد يشتمل على الغرر وعليه فإني في هذا البحث الوجيز سألقي الضوء على تعريف الغرر وسند تحريمه وأنواع الغرر من شديد لا يختلف في تحريمه وخفيف جداً لا يختلف في جوازه ومتوسط يختلف العلماء فيه بين من يلحقه بالشديد فيمنعه ومن يلحقه بالخفيف فيجيزه مع النظر إلى اعتبار الحاجة التي من شأنها أن تبيح مثل هذه العقود.

فما هو الغرر ؟ وأصل النهي عنه ومدى تأثير الحاجة في إلغاء حكمه .

فالغرر عرّفه القرافي بأنه : الشيء الذي لا يدري هل يحصل أو لا . وعرّف الجهالة بأنها : ما عُلم وجوده وجهُلت صفته .

وعرّف الجرجاني الغرر بأنه : ما يكون مجهول العاقبة لا يدري أيكون أو لا (التعريفات).

وقيل: ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول. قال الأزهري: ويدخل في بيع الغرر البيوع المجهولة التي لا يحيط بكنهها المتبايعان.[7]

حكم الغرر: بيع الغرر ممنوع شرعاً بعموم الكتاب لقوله تعالى : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل  ]البقرة2/88[ .

ومحرّم بنصوص السنّة . ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى اله عليه وسلّم نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر.[8]

وأخرجه مالك في الموطأ مرسلاً عن أبي حازم بن دينار عن سعيد بن المسيب أن النبي نهى عن بيع الغرر[9].

علّق عليه الباجي بقوله ” نهيه صلّى اله عليه وسلّم عن بيع الغرر يقتضي فساده ومعنى بيع الغرر  واله أعلم  ما كثر فيه الغرر وغلب عليه حتى صار البيع يوصف ببيع الغرر فهذا الذي لا خلاف في المنع منه “.

وأما يسير الغرر فإنه لا يؤثر في فساد عقد بيع فإنه لا يكاد يخلو منه عقد. وإنما يختلف العلماء في فساد أعيان العقود لاختلافهم فيما فيها من الغرر هل هو من حيز الكثير الذي يمنع الصحة أو من حيز القليل الذي لا يمنعها ، فالغرر يتعلق بالمبيع من ثلاثة أوجه : من جهة العقد ، والعوض ، والأجل (المنتقى:5/41).

قلت : وجه ما ذكره الباجي وغيره أن مجرد وجود الغرر ليس مبطلاً للعقد حتى يكون غالباً ناشئاً عن كون إضافة البيع إلى الغرر هي من إضافة الموصوف إلى الصفة . ووصف ابن مالك  في التسهيل  هذا النوع من الإضافة بأنه من شبه المحضة ومثل له بمسجد الجامع لأن المسجد هو الجامع وذلك صفته ومعنى هذا أن النهي وارد على بيع غرر وليس عن بيع فيه غرر والفرق يدركه البصير بموارد الألفاظ.

وقال القرافي : ” قاعدة : الغرر ثلاثة أقسام : متفق على منعه في البيع كالطير في الهواء ومتفق على جوازه كأساس الدار ومختلف فيه هل يلحق بالقسم الأول لعظمه أو بالقسم الثاني لخفته أو للضرورة إليه كبيع الغائب على الصفة والبرنامج ونحوهما ؟

فعلى هاتين القاعدتين يتخرج الخلاف في البراءة . فـ (ح) يرى إن كان المبيع معلوم الأوصاف حق للعبد فيجوز له التصرف فيه وإسقاطه بالشرط ، وغيره يراه حق الله تعالى وأنه حجر على عباده في المعاوضة على المجهول . و (ح) يرى أن غرر العيوب في شرط البراءة من الغرر المغتفر لضرورة البائع لدفع الخصومة عن نفسه وغيره يراه من الغرر الممنوع لأنه قد يأتي على أكثر صفات المبيع ، فتأمل هذه المدارك فهي مجال الاجتهاد وانظر أيها أقرب لمقصود الشرع وقواعده فاعتمد عليه والله هو الهادي إلى سبيل الرشاد.[10]

ويقول النووي : ” (فرع) الأصل أن بيع الغرر باطل لهذا الحديث والمراد ما كان فيه غرر ظاهر يمكن الاحتراز منه ( فأما ) ما تدعو إليه الحاجة ولا يمكن الاحتراز عنه كأساس الدار وشراء الحامل مع احتمال أن الحمل واحد أو أكثر وذكر أو أنثى وكامل الأعضاء أو ناقصها  وكشراء الشاة في ضرعها لبن ونحو ذلك  فهذا يصح بيعه بالإجماع .

ونقل العلماء الإجماع أيضاً في أشياء غررها حقير (منها) أن الأمّة أجمعت على صحة بيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها ولو باع حشوها منفرداً لم يصح ، وأجمعوا على جواز إجارة الدار وغيرها شهراً مع أنه قد يكون ثلاثين يوماً وقد يكون تسعة وعشرين ، وأجمعوا على جواز دخول الحمام بأجرة وعلى جواز الشرب من ماء السقاء بعوض مع اختلاف أحوال الناس في استعمال الماء أو مكثهم في الحمام .  قال العلماء مدار البطلان بسبب الغرر والصحة مع وجوده على ما ذكرناه وهو أنه إذا دعت الحاجة إلى ارتكاب الغرر ولا يمكن الاحتراز عنه إلاّ بمشقة أو كان الغرر حقيراً جاز البيع وإلاّ فلا . وقد يختلف العلماء في بعض المسائل كبيع العين الغائبة وبيع الحنطة في سنبلها ويكون اختلافهم مبنياً على هذه القاعدة ، فبعضهم يرى الغرر يسيراً لا يؤثر ، وبعضهم يراه مؤثراً والله سبحانه وتعالى أعلم.[11]

أما الشيخ تقي الدين بن تيمية فإنه قيّد الحاجة بالشدّة عندما قال في حديثه عن الجوائح : ” والحاجة الشديدة يندفع بها الغرر اليسير والشريعة مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها مصلحة راجحة أبيح المحرّم فكيف إذا كانت المفسدة منتفية ” (الفتاوى)

 

– الغرر المضاف:

 

واعتبر المالكية أن الغرر إذا كان مضافاً لأصل جائز يغتفر للحاجة بخلاف ما لو كان الغرر أصلاً في العقد فيبطل العقد . قال المواق: ” ومن المدونة من باع أمة وله رضيع حر وشرط عليهم رضاعته ونفقته سنة فذلك جائز إذا كان إن مات الصبي أرضعوا له آخر .. (ابن يونس) والفرق بين هذا وبين الظئر لا يجوز أن يشترط إن مات الطفل أن يؤتى بغيره ، أن مسألة الأمة الغرر فيها تبع لأنه انضاف إلى أصل جائز . كقول مالك في بيع لبن شاة جزافاً شهراً أنه لا يجوز وأجاز كراء ناقة شهراً واشترط حلابها ، أصله جواز اشتراط المبتاع ثمراً لو يؤبر انظر بعد هذا عند قوله  وخلفه الفصيل . وقال أشهب إلا أنه على قوله يعطي الموجود حكم المعدوم كالغرر والجهالة في العقود إذا قال وعسر الاحتراز عنهما نحو أساس الدار وقطن الجبة ورداءة باطن الفواكه ودم البراغيث ونجاسة ثوب المرضع . وانظر بالنسبة للربا لا يجوز منه قليل ولا كثير لا لتبعية في بيع الحلي- من ابن يونس[12].

وهذا الكلام واضح في أمرين أحدهما أن الغرر قد يجوز تبعاً للحاجة ويجوز منه اليسير وأن الربا لا يجوز منه قليل ولا كثير.

وهذه نصوص تبين حدود تأثير الحاجة في المنهيات وذلك بحسب مرتبة النهي فما كان في مرتبة وسطى كالغرر تؤثر فيه بشروط وما كان في مرتبة عليا لا يتأثر بها.

 

– العقود التي فيها شائبة معروف:

 

تعامل العلماء معها تعاملاً يعتمد على المقاصد وذلك من وجهين: من جهة قصد العاقد إسداء النفع وتقديم الخير للآخرين، ومن جهة ما علم من قصد الشارع إلى تشجيع عمل البر والمعروف. وقد تفطن الفقهاء لذلك فخصصوا به عموم النهي وحدوا به من اطراد القاعدة وهذا النوع من تخصيص الكلي يعتبر من صميم الاستحسان، وتوضيحاً لذلك نقول: إن العقود تنقسم إلى معاوضات وتبرعات فالأولى يمتنع فيها الغرر والجهالة وغيب السلعة ..إلى آخره. أما الثانية فلا يمتنع فيها شيء من ذلك إلا أننا نجد أن الفقهاء رتبوا أحكاماً خاصة لعقود هي في أصلها معاوضات يمتنع فيها الربا ويمنع فيها من حيث الأصل والأساس الغرر وعيوب الإرادة غير أنهم عولوا فيها على شائبة الإرفاق فأجازوا مداخلة الغرر لها تشجيعاً للمعروف بين الناس والقطوف التالية توضح ذلك قال في التوضيح والأصل منعها “الزيادة القليلة في المبادلة” إلى قوله: ولأنه لما كان النقص حينئذ لا ينتفع به صار أبداله معروفاً والمعروف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره”.

إلى أن قال: ورأوا أن قصد المعروف يخصص العمومات كما في القرض ألا ترى أن بيع الذهب بالذهب نسيئة ممتنع فإذا كان على وجه القرض جاز”[13].

وقال ابن رشد في سماع ابن القاسم المتقدم ظاهر هذه الرواية جواز بدل الطعام المعفون بالصحيح السالم على وجه المعروف في القليل والكثير ومنعه أشهب كالدنانير الكثيرة النقص”.( 4/333)

قال ابن رشد: كره مالك أن يعطي الرجل المثقال ويأخذ أربعة وعشرين قيراط معدودة مراطلة لأن الشيء إذا وزن مجتمعاً ثم فرق زاد أو نقص، وأجاز ذلك ابن القاسم استحساناً على وجه المعروف في الدينار الواحد كما أجازوا مبادلة الدينار الوازن بالناقص على وجه المعروف.(المواق4/333)

وقد أجاز مالك أن يؤجر الخياط على ما يحتاج هو وأهله من الثياب في السنة والفران على خبز ما يحتاج إليه من الخبر سنة أو شهراً إذا عرف عيال الرجل وما يحتاجون إليه من ذلك”.

وقد علل ابن يونس ذلك بأن أكل الناس معروف والخياطة قريب منه”.

وأجاز مالك الهبة لغير ثواب مسمى قال لأنه على وجه التفويض في النكاح”[14].

وهو شبيه بهبة الثواب عند مالك قال خليل: وجاز شرط الثواب ولزم بتعيينه وصدق واهب فيه إن لم يشهد عرف بضده”.

قال الزرقاني: والحاصل أن هبة الثواب كالبيع في أكثر الحالات فيما يحل ويحرم من عوضها إلا أنه إنما يجوز فيها في العين بأكثر حيث جرى فيه عرف كما قال القابسي وقوله في أكثر الحالات لأنها تخالفه في أقلها وذلك في ستة أمور جوازها مع جهل عوضها حين عقدها وأنه لا يلزم عاقدها الإيجاب والقبول ولا تفيتها حوالة السوق وعوضها إنما يلزم بتعيينه ويجوز مع جهل أجل العوض ولا يجوز تعويضها بأكثر من قيمتها إلا لعرف.( 7/109)

ومن هذا القبيل تأثير الحاجة معتمدة على اشتمال العقد على معنى الرفق والمعروف فقد يكون العقد في أصله حراماً ولكنه يباح للحاجة بناءً على ما علم من التفات الشارع للمعروف والرفق .

ومن ذلك أنهم أجازوا إجارة لا تعرف فيها طبيعة المنافع المستأجر عليها ولا الذات المستأجرة وذلك في صيغة عرفت عند المالكية بـ”أعني بغلامك لأعينك بغلامي”.

وتصور هذه المسألة من مختصر خليل ممزوجاً بشارحه الزرقاني : ” وجاز أعني بغلامك على خرثي ونحوه لأعينك بغلامي . أراد أو نفسي على حرثك أو غيره . ولذا حذف متعلق حال كون ذلك ، إجارة لا عارية  ، لأنها بغير عوض وهذا بعوض ، تحدث المنفعة أم لا ، تساوى زمنها أو اختلف ، تماثل المعان به للآخر أم لا ، كحرث وبناء وغلام وثور فلا يشترط اتحاد المنفعة ولا عين المستعمل) . وهذه إجارة ومعلوم أن الإجارة كالبيع . أركانها ، والركن الثاني  الأجر- هو كالثمن يطلب كونه معروفاً قدراً وصفة ” هذا كلام ابن عرفة (المواق:5/389).

وهذه الصيغة التي اعتبرت تشتمل على جهل قدر الأجرة وصفتها ؛ لأنها قد تكون ثوراً في مقابل غلام ، وقد تكون حرثاً في مقابل البناء لأن الإعانة معروف حسب عبارة الزرقاني (نفس المرجع) .

قال ابن شاس لو قال أعني بغلامك يوماً وأعينك بغلامي يوماً فليس بعارية بل ترجع إلى حكم الإجارة لكن أجازه ابن القاسم ورآه من الرفق (المواق:5/269) .

وسمع القرينان لا بأس أن يقول الرجل العامل لمثله أعني خمسة أيام وأعينك خمسة أيام في حصاد زرعك ودرسه وعمله (ابن رشد) .

لأنه من الرفق فكان ذلك ضرورة تبيح ذلك وإنما يجوز ذلك فيما قل وقرب من الأيام وإن اختلفت الأعمال (المواق: 4/418) .

قلت : قوله فكان ذلك ضرورة إلى آخره معناها هنا الحاجة كما قدمنا . وكذلك نصّوا على أن (قولهم الصفقة تفسد إذا جمعت حلالاً وحراماً مخصوص بالمعاوضات المالية بالبيع والشراء) (في الزرقاني: 7/79)

قال في معرض التعليق على بعض عقود الوقف التي تجمع حلالاً وحراماً ومعناه أن التبرعات لا تبطل بالجمع بين الحلال والحرام بل يبطل فقط الجزء الذي تعلقت به الحرمة ويصحح غيره وذلك لأن عقود المعروف والرفق يتسامح فيها نظراً لقصد الشارع العام في إيقاعها ما لا يتسامح في غيرها ويغتفر فيها من الخلل الذي تدعو إليه الحاجة ما لا يغتفر في عقود المكايسة المحضة .

ومن هذا القبيل ما ذكر ابن يونس في جامعه وهو يعلل بعض عقود الصرف:” انظر هل العلة أنهم إذا قصدوا الإقالة جاز لأنها معروف ، وإذا قصدوا التبايع لم يجز لأنها مكايسة . فيجب على هذا إذا ابتاع حنطة بوازن فأعطاه ناقصاً ورد عليه من الحنطة ، إن قصدوا التبايع لم يجز ولو قصدوا الإقالة فقال المشتري وقد وجد ديناره ينقص سدساً أقلني بهذا النقص من سدس الطعام وخذ الدينار الناقص لجاز ” (كتاب الصرف من ابن يونس) .

في هذه المجالات برز إعمال الحاجة لتصحيح خلل مضاف للعقد وليس متبوعاً في تصحيح خلل يتعلق بعقد إرفاق ومعروف.( يراجع بحثنا : الضرورة والحاجة لمزيد من التفصيل)

 

– مسألة الضمان:

 

الضمان شغل ذمة بالحق وصح “ولزم” من أهل التبرع إلى أن قال: وصح الضمان عن “الضامن” وإن تكرر بأن ضمن ضامن أو متعدد وضمن الضامن ضامن كذلك وهكذا.( خليل بشرح الزرقاني 6/3)

وبعد أن قرر العلماء امتناع الضمان بجعل فإنهم استثنوا منه حالة اشتراء سلعة يدين شركة من طرف اثنين أو أكثر ويضمن كل منهم صاحبه في قدر ما ضمنه فيه فإنه جائز وبيعهما سلعة أواقتراضهما.

حسب الزرقاني تعليقاً على قول خليل لا في اشتراء شيء بينهما أو بيعه ” كان أسلمهما شخص بشيء وتضامنا فيه” كقرضهما فالتضامن جائز على الأصح عند ابن عبدالسلام وإليه ذهب ابن أبي زمنين وابن العطار خلافاً لابن الفخار ورآه سلفاً جر منفعة وعلل الجواز في هذه الأمور الثلاثة بعمل الماضين….

ويترتب على التضامن بين المشترين قول خليل: فإن اشترى بستمائة بالحمالة فلقي أحدهم أخذ منه الجميع ثم إن لقي “المؤدى” أحدهم أخذه بمائة لأصالة ثم بمائتين “حمالة” ثم إن لقي أحدهما ثالثاً أخذه بخمسين وبخمسة وسبعين فإن لقي الثالث رابعاً أخذه بخمسة وعشرين وبمثلها ثم أخذه باثني عشر ونصف وستة وربع فإن لقي سادسا أخذه بستة وربع” وهناك صور لقي الأول الثالث بعد أن لقي الثاني يراجع الزرقاني.

من المدونة إن أشهد رجل على نفسه أنه ضامن بما قضي لفلان على فلان أو قال أنا كفيل لفلان بماله على فلان وهما حاضران أو أحدهما غائب لزمه ما أوجبه على نفسه من الكفالة والضمان لأن ذلك معروف والمعروف من أوجبه على نفسه لزمه”. ( المواق 5/100)

وقال البرزلي يجري على ضمان ما لا يضمن في الإجارات والعواري وفيه خلاف.( الحطاب 5/391)

من هذه النصوص يمكن حل إشكالية ضمان المشتركين بعضهم لبعض أو تبرع الشركة المديرة بالضمان.

 

– خلاصة القول:

 

في مطلع هذا البحث أشرنا إلى الأدلة الكبرى التي تبين مقاصد الشريعة في هذا العقد وأمثاله من عقود التعاون والمشاركات وهي مقاصد من شأنها أن تخصص ما علم من مقصد الشارع في منع الغرر والجهالات.

وأن التأمين التكافلي بصيغه المختلفة يمكن تخريجه على عقود تبيحها الحاجة وبخاصة تلك التي تشتمل على شائبة المعروف التي تجيز الغرر ويكون تضامن المؤمنين مسموحاً فيه بشائبة الجعل.

كما أن ضمان الهيئة المأجورة على الإدارة يمكن أن يخرج على مسألة المدونة وهي الإلتزام بالكفالة.

وباختصار فإن التأمين الإسلامي يمكن أن يصاغ في شكل عقد مضاربة وشركة أموال معقودة على التبرع بالربح أو جزء من رأس المال للمتضرر من أرباب المال والمضاربين الذين يشكلون جمعية إدارة الشركة وأن هذا العقد الجديد بهذا الشكل يجوز مع اشتماله على قدر من الغرر لأنه عقد معروف ورفق وأن التبرع لاحق بالعقد والغرر في لواحق العقد وفي سوى وجه الصفقة يجوز للحاجة كما أوضحنا في مبحث الفرق بين الضرورة والحاجة في كتابنا “صناعة الفتوى”.

كما أن الشروط والضوابط الشرعية يجب توفرها كما تجب الإشارة إلى نقطة أخيرة وهي أن شركات التأمين التكافلي يجب أن ينص نظامها على عدم التعامل بالربا .

وخلاصة القول : أن شركات التأمين التكافلي عليها أن تحاول صياغة عقودها من جديد على ضوء العناصر التي أشرت إلى بعضها وأن توحد – إن لم تكن هيكلها فعلى الأقل- أسس أنظمتها لإحداث شيء من الانسجام والاقتراب ما أمكن من العقود الشرعية للشركات.

وختاماً : فالفرق واضح بين التأمين التقليدي وبين التأمين التكافلي لمن له دراية بالفقه أوعناية بالاستنباط. ( قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبتك كثرة الخبيث).

وأخيراً: فقد يكون من المناسب عقد ندوة خاصة بالتأمين لتأصيل المعاني التي وردت وسترد في البحوث والدراسات الأخرى ووضعها في القوالب التنظيمية العملية واقتراح الأدوات الكفيلة بتطبيقها. والله تعالى وتقدس ولي التوفيق.

عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيـّه

رئيس هيئة الرقابة الشرعية للمجموعة المتحدة للتأمين التعاوني.



[1] – وإلى فعل عمر ذهب أبو حنيفة ومالك في أحد قوليه وهو في العتبية والمازونية ومشى عليه خليل في مختصر حيث يقول:” وبدئ بالديوان إن أعطوا”. خلافاً لمذهب المدونة.

أما الشافعي وأحمد فيريان أن العاقلة هي عصبة النسب فقط وهي رواية المدونة عن مالك فلهذا فقد اعتمدها الشروح بناء على أن العاقلة أصل على غير قياس كما بينه الشافعي من كون الأصل أن الأنسان هو الذي يضمن جنايات نفسه ومن قال بالقياس رءاه أمراً معقول المعنى.

وقد عبر إمام الحرمين عن المعنى الذي فهم منه بقوله: والمقدار الذي ذكره العلماء في المعنى الذي فهموه من غرض الشارع –وإن كان لا يستند على السبر اعتبارُه- أن العرب كانت تتناصر ويذبّ بعض العشيرة عن البعض، بالنفس والمال، ويناضل البعض دون البعض، فورد الشارع بإعانة المخطئ إذا ورد منه زلل، وقد كانوا يتعاطون استعمال الأسلحة للتدرب بها، ولا يبعد إفضاء استعمالها في وجوه من الخطأ، فهذا ما تخيله الناظرون على البعد، وإنما ذكرناه لأنا في تفصيل المسائل قد نعتضد بأطراف هذا المعنى.[1]

وما قاله إمام الحرمين في تعاطى العرب للسلاح مبررا تشريع العاقلة، فإن الأخطار التي نجمت عن … الحديثة التي تفضى إلى أنواع من الحوادث غير مسبوقة تبرر بدون شك إيجاد وسائل لتفتيت الديات وبجبر الأضرار والتعاون على الكوارث والأخطار.

 

[2] – لاروس الصغير الفرنسي

[3] – الوسيط للسنهوري  7/1090

[4] – والدليل على جواز ذلك عند الحنابلة قول الخرقي:( والربح على ما اصطلحا عليه ) قال ابن قدامة : يعني في جميع أقسام الشركات.

وبعد ذكر الإجماع في المضاربة على أن الأمر فيها على ما يتفق عليه بين رب المال والمضارب تعرض” لشركة العنان” وهو أن يشترك بدنان بماليهما فيجوز أن يجعلا الربح على قدر المالين. ويجوز أن يتساويا مع تفاضلهما في المال وأن يتفاضلا فيه مع تساويهما في المال وبهذا قال أبو حنيفة.

وذكر خلاف مالك والشافعي رحمهما الله تعالى .

وقال في : شركة الأبدان فهي معقودة على العمل المجرد وهما يتفاضلان فيه مرة ويتساويان أخرى فجاز ما اتفقا عليه من مساواة أو تفاضل كما ذكرنا في شركة العنان بل هذه أولى لا نعقادها على العمل المجرد…

وأما شركة الوجوه فكلام الخرقي بعمومه يقتضى جواز ما يتفقان عليه من مساواة وتفاضل .

وهو قياس المذهب لأن سائر الشركات الربح فيها على ما يتفقان عليه فكذلك هذه.

وذكر خلاف القاضي في هذه الأخيرة فقط ورد عليه ثم قال : وأما المضاربة التي فيها شركة وهي أن يشترك مالان وبدن صاحب أحدهما مثل أن يخرج كل واحد منهما ألفاً ويأذن أحدهما للأخر في التجارة بهما فمهما شرطا للعامل من الربح إذا زيد على النصف جاز لأنه مضارب لصاحبه في ألف ولعامل المضاربة ما اتفقا عليه بغير خلاف …..

وبعد شرح طويل قال : فحصل مما ذكرنا أن الربح بينهما على ما اصطلحا عليه في جميع أنواع الشركة .( المغني 7/ 138-139-140 دار هجر)

يبقى إشكال واحد هو موقع الجزء المتبرع به في عقد الشركة فيمكن أن يكون ذلك في صلب عقد المضاربة من باب اشتراط بعض الربح للمضارب أو رب المال ولو شرطه لمن شاء المضارب فإن شاءه لنفسه أو لرب صح الشرط .( الدر المختار   )

وقول المالكية في اشتراط جميع الربح ( وجاز “الربح” أي اشتراطه كله لأحدهما أو لغيرهما من رب المال والعامل لأنه من باب الهبة فإن اشترطه لمعين قضي له به إن قبل) يراجع الزرقاني 6/219 وغيره من كتب المالكية وهذا يحل المشكلة.

فالشركة تقوم على اشتراط جزء لأرباب المال وذلك جائز ولو كان لأجنبي معين حكم له به ولو كان لغير معين وجب من غير قضاء وبذلك تعرف أنه لا داعي إلى تخريجه على مسألة ملكية الهبة بالقول لأن المسألة منصوصة في القراض .

ويضاف إلى التبرع بالربح التبرع بجزء من رأس المال وهو تبرع مشروط بالحاجة ومع أن هذا العقد فيه تلفيق لأقوال العلماء فإن ذلك يجوز للحاجة التي تبيح محرمات الوسائل والتي تبيح عقود الرفق والمعروف كما في مسألة المالكية المعروفة بأعنى بغلامك على أن أعينك وهي إجارة في الأصل فاسدة أجازه ابن القاسم و رآه من الرفق – حسب عبارة المواق 5/269-

 

[5] – ابن قدامة    المغني    7/138-139-140

[6] – قرار المجلس الأوربي : التأمين وإعادة التأمين:

ناقش المجلس البحث والأوراق المقدمة إليه في موضوع التأمين وما يجري عليه العمل في أوربا، واطلع على ما صدر عن المجامع الفقهية والمؤتمرات والندوات العلمية بهذا الشأن، وانتهى إلى ما يلي :

أولا: مع مراعاة ما ورد في قرارات بعض المجامع الفقهية من حرمة التأمين التجاري -الذي يقوم على أساس الأقساط الثابتة دون أن يكون للمستأمن الحق في أرباح الشركة أو التحمل لخسائرها- ومشروعية التأمين التعاوني – الذي يقوم على أساس التعاون المنظم بين المستأمنين، واختصاصهم بالفائض – إن وجد – مع اقتصار دور الشركة على إدارة محفظة التأمين واستثمار موجوداتها- فإن هناك حالات وبيئات تقتضي إيجاد  حلول لمعالجة الأوضاع الخاصة، وتلبية متطلباتها، ولا سيما حالة المسلمين في أوروبا حيث يسود التأمين التجاري، وتشتد الحاجة إلى الاستفادة منه لدرء الأخطار التي يكثر تعرضهم لها في حياتهم المعاشية بكل صورها، وعدم توافر البديل الإسلامي ( التأمين التكافلي) وتعسر إيجاده في الوقت الحاضر، فإن المجلس يفتي بجواز التأمين التجاري في الحالات التالية وما يماثلها:

1-حالات الإلزام القانوني مثل التأمين ضد الغير على السيارات والآليات والمعدات، والعمال والموظفين ( الضمان الاجتماعي، أو التقاعد) وبعض حالات التأمين الصحي أو الدراسي  ونحوها.

2-حالات الحاجة إلى التأمين لدفع الحرج والمشقة الشديدة، حيث يغتفر معها الغرر القائم في نظام التأمين التجاري.

ومن أمثلة ذلك:

1-التأمين على المؤسسات الإسلامية كالمساجد، والمراكز، والمدارس، ونحوها.

2-التأمين على السيارات والآليات والمعدات والمنازل والمؤسسات المهنية والتجارية، درءا للمخاطر غير المقدور علي تغطيتها، كالحريق  والسرقة وتعطل المرافق المختلفة.

3-التأمين الصحي تفاديا للتكاليف الباهظة التي قد يتعرض لها المستأمن وأفراد عائلته، وذلك إما في غياب التغطية الصحية المجانية، أو بطئها، أو تدني مستواها الفني.

ثانياً: إرجاء موضوع التأمين على الحياة بجميع صوره لدورة قادمة لاستكمال دراسته.

ثالثاً: يوصي المجلس أصحاب المال والفكر بالسعي الحثيث لإقامة المؤسسات المالية الإسلامية كالبنوك الإسلامية، وشركات التأمين التكافلي الإسلامي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

-التأمين على الحياة:

ناقش المجلس البحوث المقدمة إليه حول التأمين على الحياة، واطلع عل ما صدر عن المجامع الفقهية والمؤتمرات والندوات العلمية بهذا الشأن.

وبعد المناقشة والتحاور حول جوانب هذا الموضوع وما عليه أحوال المسلمين في أوروبا وسائر البلاد غير الإسلامية، ومع مراعاة ما يجري عليه العمل في شركات التأمين التجاري والتأمين التعاوني في أوروبا انتهى إلى ما يأتي:

أولاً: تأكيد ما صدر عن المجلس في دورته السادسة حول موضوع التأمين وإعادة التأمين.

ثانياً: تأكيد ما صدر عن بعض المجامع الفقهية من حرمة التأمين التجاري على الحياة، وجواز التأمين التعاوني إذا خلا عن الربا والمحظورات الشرعية، وعلى ما صدر من الندوة الفقهية الثالثة لبيت التمويل الكويتي التي حضرها ثلة من الفقهاء المعاصرين والاقتصاديين في 1413 هـ – 1992 م وانتهت إلى إصدار الفتوى التالية:

1- التأمين على الحياة بصورته التقليدية القائمة على المعاوضة بين الأقساط والمبالغ المستحدثة عند وقوع الخطر أو المستردة مع فوائدها عند عدم وقوعه هو من المعاملات الممنوعة شرعاً لاشتماله على الغرر الكثير، والربا والجهالة.

2- لا مانع شرعاً في التأمين على الحياة إذا أقيم على أساس التأمين التعاوني (التكافلي) وذلك من خلال التزام المتبرع بأقساط غير مرتجعة[6]، وتنظيم تغطية الأخطار التي تقع على المشتركين من الصندوق المخصص لهذا الغرض، وهو ما يتناوله عموم الأدلة الشرعية التي تحض على التعاون وعلى البر والتقوى وإغاثة الملهوف ورعاية حقوق المسلمين والمبدأ الذي لا يتعارض مع نصوص الشريعة وقواعدها العامة.

ثالثاً: ومع ما سبق فإن حالات الإلزام قانونياً ، أو وظيفياً، مسموح بها شرعاً، إضافة إلى ما سبق استفتاؤه في قرارات الدورة السادسة.

 

 

[7] – الزبيدي    تاج العروس        3/443

[8] – شرح مسلم للنووي             11/156

[9] – الباجي       المنتقى على الموطأ     5/41

[10] – القرافي          الذخيرة            5/93

[11] النووي           المجموع            9/258

[12] – المواق      حاشية على مواهب الجليل              4/365

[13] – الحطاب        مواهب الجليل        4/ 322

[14] – المواق    حاشية على مواهب الجليل   5/390

أدب الإختلاف

 

الشيخ /عبد الله بن بيه
وزير العدل الموريتاني سابقاً
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبد العزيز–جدة
 

     



الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ، وبعد
فهذه ورقة عن أدب الاختلاف مقدمة إلى المؤتمر لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة جمادى الآخرة 1422هـ. تشتمل هذه الورقة على مقدمة عن معنى الاختلاف والخلاف ،والباعث على تقديم هذه الورقة ، نتعرض فيها للعناوين التالية :-
1 – تأصيل الألفة والجماعة .
2- تأصيل الاختلاف بين أهل الحق وتسويغه .
3- أقوال العلماء في الاختلاف.
4- آداب الاختلاف .
5- أسباب الاختلاف .
– خاتـمة .


مقدمـة:
الاختلاف هو التباين في الرأي والمغايرة في الطرح وقد ورد فعل الاختلاف كثيراً في القرآن الكريم قال تعالى:{ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ } (مريم الآية 37) ،وقال تعالى:{ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }(البقرة113) ،وقال تعالى:{ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ }(البقرة 213) ،وقال تعالى:{ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} (الشورى 10).
والاختلاف قد يوحي بشيء من التكامل والتناغم كما في قوله تعالى { فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } (فاطر27).
وأما الخلاف فإنه لا يوحي بذلك وينصب الاختلاف غالباً على الرأي اختلف فلان مع فلان في كذا والخلاف ينصب على الشخص.
ثم إن الاختلاف لا يدل على القطيعة بل قد يدل على بداية الحوار فإن ابن مسعود اختلف مع أمير المؤمنين عثمان في مسألة إتمام الصلاة في سفر الحج ولكنه لم يخالف بل أتم معه وقال : الخلاف شر.
قد يدل الخلاف على القطيعة.
هذه الإيحاءات والظلال جعلتنا نرشح كلمة الاختلاف لكي تكون مقدمة للتفاهم والتكامل على كلمة الخلاف وإن كان العلماء يستعملون كلتا الكلمتين لتأدية نفس المعنى باعتبارهما من المترادف فتتعاوران وتتعاقبان .

 

الكلمات ذات العلاقة :
هناك كلمات قوية في دلالتها على اشتداد الخلاف كالنزاع والشقاق وهو الوقوف في شق أي في جانب يقابل ويضاد الجانب الآخر.
الاختلاف ظاهرة لا يمكن تحاشيها باعتبارها مظهراً من مظاهر الإرادة التي ركبت في الإنسان إذ الإرادة بالضرورة يؤديان إلى وقوع الاختلاف والتفاوت في الرأي.
وقد انتبه لذلك العلامة ابن القيم عندما يقول : “وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه” ( إعلام الموقعين)
فإن الشقاق يمكن تفاديه بالحوار الذي من شأنه أن يقدم البدائل العديدة لتجنب مأزق الاصطدام في زاوية الشقاق.
ونحن في ورقتنا هذه إنما نبحث عن البدائل انطلاقاً من الشريعة الإسلامية نصوصاً ومقاصد وأصولاً وفروعاً وتطبيقات بنماذج تاريخية .
الباعث : إن الباعث على هذه الورقة هو ملاحظة لا تعزب عن بال أحد بل لا تغرب عن حواسه تتمثل في اختلاف كثير تصديقا لقوله عليه الصلاة والسلام { وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً } .
وهو اختلاف انتشر في الأمة أفقيًا وعمودياً في كل الفئات وعلى مختلف المستويات. تعددت أسبابه وتنوعت ألوانه واستعلمت فيه كل الوسائل من تكفير وتفسيق وتبديع وتشويه وتسفيه وما شئت من مصدر على وزن تفعيل.
وأستعمل فيه الخصوم كل أدوات الدفاع والهجوم وضاقت بالحياد فيه الأرض بما رحبت فالكل متهم والكل براء وأعجز داء الأمة الدواء فحضر الشهود إلا شاهد العقل واستحضرت الحجج إلا حجة الإنصاف ( وما أبرئ نفسي ).
ونحن هنا لا نحاول إصدار فتاوى في مسائل الاختلاف ولا تحضير بلسم سحري يبرء الأوصاب لأن ذلك ليس في مقدورنا ولا في طاقتنا فقد نتكلف شططاً ونكلفكم عناء وعنتا لو حاولنا ذلك ، وقد يكون من المفارقات أن أطلب من الآخرين التواضع والنسبية في الحكم ، وفي الوقت نفسه أصدر أحكامه باتة في قضاياهم.
إن محاولتنا تعنى بحثاً عن كيفية تعقيل أو عقلنة جدلنا وتنظيم اختلافاتنا وترتيب درجات سلم أولوياتنا وتحسين نياتنا وإرادتنا على ضوء ما يستخلص من نصوص شرعية حاكمة وآثار عن السلف شارحة وممارسات رشيدة هادية. إذ من شأن ذلك أن يقلل من الخلاف أو ينزع فتيل ناره لتصبح بردًا وسلاماً.
يقول العلامة ابن القيم : ” فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية لأنه إذا كان الأصل واحدا والغاية المطلوبة واحدة والطريقة المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف وإن وقع كان اختلافًا لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة ) (الصواعق المرسلة ج 2 ص 519 )
كيف نجعل اختلافنا من هذا النوع الذي أشار إليه ابن القيم ؟ فإذا ذلك غرضنا فلننتقل إلى تأصيل أهمية الألفة وإصلاح ذات البين.



تأصيل الألفة والاعتصام بحبل الجماعة :
إنه من المعلوم ضرورة تأصيل الألفة من الدين قال تعالى { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}،{ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم }.قوتكم وجماعتكم ونصركم.
{ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البيانات}،{أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}.
هذه أوامر بالاعتصام بحبل الله تعالى وإقامة دينه مقرونة بنواه عن التفرق والنزاع مع التنبيه إلى النتائج الحتمية المتمثلة في الفشل الذي يعنى العجز عن الوصول إلى غاية معينة وهنا فشل الأمة وعجزها عن القيام بوظيفتها في هداية البشر والخلافة الراشدة في الأرض { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم }.
وقد بين عليه الصلاة والسلام ذلك خير بيان ، وهو المبين للذكر المبلغ للوحي في نهي صريح ” لا تقاطعوا وتدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخواناً ”

 

الأمر إصلاح ذات البين :
{ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } ،{ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } ، { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم } وحديث ” ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم الله تعالى ” أخرجه مسلم من حديث أنس وفي حديث أبي هريرة ” لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ” وخرج أحمد وأبوداود والترمذي من حديث أبي الدرداء عنه عليه السلام { ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال : إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة { والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا }.
وفي ثاني خطبة له بالمدينة بعد الهجرة كما يروى ابن إسحاق دعا إلى حب الله تعالى قائلاً : أحبوا ما أحب الله أحبوا الله من كل قلوبكم ” ثم دعا المسلمين إلى الحب فيما بينهم قائلاً : وتحابوا بروح الله بينكم “
استخلص العلماء رحمهم الله تعالى من ذلك أن الجماعة والألفة أصل من أصول الدين يضحى في سبيله بالفروع.
وعبر عنه خير تعبير ابن تيمية حيث يقول : “الاعتصام بالجماعة والألفة أصل من أصول الدين والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع”( 22 ص 254 ).وهو كلام صحيح فيه فقه وبصر بأحكام الشرع ولقد اعتذر نبي الله هارون لأخيه موسى عليهما السلام- في عدم اتباعه له عندما عبد بنو إسرائيل العجل بالمحافظة على وحدة بني إسرائيل فلو تفرقوا لحملتني مسئولية ذلك:{ يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني أفعصيت أمري قال يابنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي }.


 

ومن هنا نفهم ترتيب الأوليات ووزن المصالح لنصل إلى قبول الاختلاف وتفعيله .

تسويغ الاختلاف :

 

إن الاختلاف بين أهل الحق سائغ وواقع ، وما دام في حدود الشريعة وضوابطها فإنه لا يكون مذموماً بل يكون ممدوحاً ومصدراً من مصادر الإثراء الفكري ووسيلة للوصول إلى القرار الصائب ، وما مبدأ الشورى الذي قرره الإسلام إلا تشريعاً لهذا الاختلاف الحميد { وشاورهم في الأمر } فكم كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشيروا أصحابه ويستمع إلى آرائهم وتختلف وجهات نظرهم في تقرير المضي في حملة بدر ونتائج المعركة وكان الاختلاف من الموقف من الأسرى.

فعندما استشار في المضي فدماً لنزال المشركين بعد أن تبين كثرة جيوشهم بالنسبة للمسلمين وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينصت إليهم وما ليم أحد على رأي أبداه أو موقف تبناه وما تعصب منهم أحد ولا تحزب بل كان الحق غايتهم والمصلحة رائدهم.

وقد يقر النبي صلى الله عليه وسلم كلاً من المختلفين على رأيه الخاص ، وبدون أن يبدي أي اعتراض أو ترجيح.

كما في مسألة أمره عليه الصلاة والسلام بصلاة العصر في بني قريظة فقد صلاها بعضهم بالمدينة ولم يصلها العض الآخر إلا وقت صلاة العشاء ، ولم يعنف أحداً منهم كما جاء في الصحيحين.
وفي السفر كان منهم المفطر والصائم . وما عاب أحد على أحد كما جاء في الصحيح.  

والاختلاف في القراءة في حديث ابن مسعود وحديث عمر وأبي بن كعب.

إنها التربية النبوية للصحابة ليتصرفوا داخل دائرة الشريعة حسب جهدهم طبقاً لاجتهادهم.
وبعده عليه الصلاة والسلام كانت بينهم اختلافات حسمت أحيانا كثيرة بالاتفاق كما في اختلافهم حول الخليفة بعده صلى الله عليه وسلم.

وكما في اختلافهم حول قتال مانعي الزكاة وحول جمع القرآن الكريم ورجوع عمر إلى قول عليّ في مسألة المنكوحة في العدة.

 وتارة يظل الطرفان على موقفهما وهما في غاية الاحترام لبعضهما البعض.

 كقصة عمر مع ربيعة بن عياش في التفضيل بين مكة والمدينة.

وقصة الأراضي المفتوحة هل تصير خراجية أم توزع على الغانمين.

وقصة عائشة وابن عباس في رؤيته عليه الصلاة والسلام للباري جل وعلا.
وبين عائشة وبين الصحابة في سماع الموتى.

وبين عمر وبين فاطمة بنت قيس في مسألة سكنى المبتوتة ونفقتها وابن مسعود وأبي موسى الأشعري في مسألة إرضاع الكبير.

 وأبو هريرة وابن عباس في الوضوء مما مست النار.

واختلاف عمر مع أبي عبيدة في دخول الأرض التي بها وباء.

ويدخل التابعون في بعض الأحيان في حلبة الخلاف كأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مع ابن عباس في عدة الحامل المتوفى عنها.

وتقف عائشة إلى جانب ابن عباس قائلة لأبي سلمة إنما أنت فروج – رأى الديكة تصيح فصاح – معتبرة أنه لم يبلع بعد درجة الاجتهاد ولكن الأمر لا يتجاوز ذلك.
وموضوعات الاختلاف كثيرة جداً ولكنها تحسم بالتراضي إما بالرجوع إلى رأي البعض ، ويسجل لعمر رضي الله عنه كثرة رجوعه إلى آراء أخوته من الصحابة واعترافه أمام الملأ بذلك قائلا: امرأة أصابت ورجل أخطأ. وتأصيله للقاعدة الذهبية وهي : ” أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد ” وهي قاعدة تبناها العلماء فيما بعد فأمضوا أحكام القضاة التي تخالف رأيهم واجتهادهم حرصاً على مصلحة إنهاء الخصومات وحسم المنازعات وهي مصلحة مقدمة في سلم الأوليات على الرأي المخالف الذي قد يكون صاحبه مقتنعا به
.

 

أقوال العلماء في الاختلاف :-

يقول الحافظ بن رجب : (ولما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم وكل منهم يظن أنه يبغض لله وقد يكون في نفس الأمر معذوراً وقد لا يكون معذوراً بل يكون متبعاً لهواه مقصراً في البحث عن معرفة ما يبغض فإن كثيراً كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق وهذا الظن قد يخطئ ويصيب وقد يكون الحامل على الميل إليه مجرد الهوى والألفة أو العادة وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله فالواجب على المسلم أن ينصح لنفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز وما أشكل منه فلا يدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نهى عنه من البغض المحرم.

وها هنا أمر خفي ينبغي التفطن له وهو أن كثيراً من أئمة الدين قد يقول قولاً مرجوحاً ويكون فيه مجتهداً مأجوراً على اجتهاده فيه موضوعاً عنه خطؤه فيه ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله بحيث لو أنه قد قاله غيره من أئمة الدين لما قبله ولا انتصر له ولا والى من يوافقه ولا عادى من خالفه وهو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه وليس كذلك فإن متبوعه إنما كان قصد الانتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده.
وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظن أنه الحق إرادة علو متبوعه وظهور كلمته وأنه لا ينسب إلى الخطأ وهذه دسيسة تقدح في قصده الانتصار للحق فافهم هذا فإنه مهم عظيم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. )
انتهى كلام الحافظ وهو كلام في غاية الفضل.
وقال الشافعي : ” ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة ”
وقال : “ما ناظرت أحداً إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه فإن كان الحق معي اتبعني وإذا كان الحق معه اتبعته” – قواعد الأحكام
رفض مالك حمل الناس على الموطأ !
فقال مالك للخليفة العباسي – حينما أرد حمل الناس على الموطأ وهو كتاب مالك وخلاصة اختياره في الحديث والفقه – لا تفعل يا أمير المؤمنين معتبراً أن لكل قطر علماءه وآراءه الفقهية فرجع الخليفة عن موقفه بسبب هذا الموقف الرفيع من مالك في احترام رأي المخالف وإفساح المجال له.
وعدم التجريح في المختلف فيه كما قالت عائشة عن بعض الصحابة وقد اختلفت معه : أما إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ.

كان الذهبي مثال العالم المتفتح المنصف الذي لا يتعصب لأتباع مذهبه.

فقد قال الذهبي عن الشيخ عبد الستار المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى : “أنه قل من سمع منه لأنه كان فيه زعارة وكان فيه غلو في السنة ” وقال عنه : “وعني بالسنة وجمع فيها وناظر الخصوم وكفرهم وكان صاحب حزبية وتحرق على الأشعرية فرموه بالتجسيم ثم كان منابذاً لأصحابه الحنابلة وفيه شراسة أخلاق مع صلاح ودين يابس.”
اعتبر الذهبي ذلك حزبية.
والذهبي يدعو إلى الإنصاف فقد قال عن القاضي أبي بكر بن العربي : “لم ينصف القاضي أبو بكر رحمه الله شيخ أبيه في العلم ولا تكلم فيه بالقسط وبالغ في الاستخفاف به وأبو بكر على عظمته في العلم لا يبلغ رتبة أبي محمد ولا يكاد فرحمهما الله وغفر لهما”.
وكان الذهبي يثني ثناء عاطراً على تقي الدين السبكي مع أنه شيخ الأشاعرة الذي كان بينه وبين شيخه الشيخ تقي الدين بن تيمية من الخلاف ما هو معروف. ثم يتعذر الذهبي عن الظاهرية قائلاً : ” ثم ما تفردوا به هو شيء من قبيل مخالفة الإجماع الظني وتندر مخالفتهم الإجماع القطعي “.
ثم ذكر أنهم ليسوا خارجين عن الدين.
وقال عنهم : “وفي الجملة فداود بن علي بصير بالفقه عالم بالقرآن حافظ للأثر رأس في المعرفة من أوعية العلم له ذكاء خارق وفيه دين متين وكذلك فقهاء الظاهرية جماعة لهم علم باهر وذكاء قوي فالكمال عزيز والله الموفق”.
ويقول الذهبي :”ونحن نحكي قول ابن عباس في المتعة وفي الصرف وفي إنكار العول وقول طائفة من الصحابة في ترك الغسل من الإيلاج بغير إنزال وأشباه ذلك ولا يجوز تقليدهم في ذلك “.
وقال : ” كل فرقة تتعجب من الأخرى ونرجو لكل من بذل جهده في تطلب الحق أن يغفر له من هذه الأمة المرحومة “.
ويقول ابن تيمية : ” وأمرنا بالعدل والقسط فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني فضلا علن الرافضي قولا فيه حق أن نتركه أو نرده كله “.
وقال أيضاً : ” الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين والفرع المتنازع فيه من الفروع الخفية فكيف يقدح في الأصل بحفظ الفرع “. ( الفتاوى 22 – 254 )

 

المعاداة بين المختلفين في الاجتهاد اتباع للهوى :

يدخل الخلل في الموالاة والمعاداة حين يكون الاتباع للهوى وحيثما وجد التفرق كان مبعثه الهوى لأن أصل الاختلاف الاجتهادي لا يقتضي الفرقة والعداوة وقد جعل الشاطبي هذا الأصل مقياساً لضبط ما هو من أمر الدين وما ليس منه فقال : ( فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلفت الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر والتنابز والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في في شيء وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية وهي قوله تعالى { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً } فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها.. فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك بحدث أحدثوه من اتباع الهوى وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين ).
ووصف الشيخ تقي الدين بن تيمية من يوالى موافقه ويعادي مخالفه ويكفر ويفسق مخالفه دون موافقة في مسائل الآراء والاجتهادات ويستحل قتال مخالفة بأنه من أهل التفرق والاختلاف ( الفتاوى 7- 349 )
ويرى ابن تيمية ترك بعض المستحبات تأليفاً قائلاً : ” لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب “.
وأنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متماً وقال الخلاف شر. ( الفتاوى 22 – 407 )
رأي النووي في الطائفة المتصورة : ” ويحتمل أن هذه الطائفة تفرقت بين أنواع المؤمنين منهم شجعان مقاتلون ومنهم فقهاء ومنهم محدثون ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ومنهم أهل أنواع أخرى من أهل الخير ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض في أقطار الأرض “.
ويقول الذهبي في ميزان الاعتدال من ترجمة الحافظ أبي نعيم الأصفهاني : “كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به ولا سيما إذا لا ح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد لا ينجو منه إلا من عصم الله وما عملت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين”.
قال أحمد: “لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا “.


 

 

آداب عامة ينبغي للمختلفين أن يراعوها ليعذر بعضهم بعضاً :-

1- العذر بالجهل

يقول ابن تيمية : وكثير من المؤمنين قد يجهل هذا فلا يكون كافرا ( 11-411 )
وفي حديث ابن ماجة عن حذيفة ” يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدري ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها فيقول صلة بن زفر لحذيفة راوي الحديث ما تغنى عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة ؟ فأعرض عنه حذيفة ثم أقبل عليه في الثالثة فقال يا صلة تنجيهم من النار. ثلاثاً ” رواه الحاكم
وقد وقع في الديار الشيوعية وأيام سقوط الأندلس أشياء من هذا القبيل والله المستعان
.

 

2 – العذر بالاجتهاد :

يقول ابن تيمية أعذار الأئمة في الاجتهاد فليس أحد منهم يخالف حديثاً صح عن النبي صلى الله عليه وسلم عمدا فلا بد له من عذر في تركه مضيفا : وجميع الأعذار ثلاثة أصناف أحدها : عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله والثاني : عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك والثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ ( 20- 232 )
وعذر المقلد من نوع عذر الجاهل يقول ابن عبد البر : ولم يختلف العلماء أن العامة عليها تقليد علمائها ( جامع بيان العلم وفضله )
ويقول ابن تيمية : وتقليد العاجز عن الاستدلال للعالم يجوز عند الجمهور 19 – 262 )
ويقول ابن القيم : فالعامي لا مذهب له لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال.

3- العذر باختلاف العلماء :
عدم الإنكار في مسائل الاختلاف ومسائل الاجتهاد يقول ابن القيم : إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل فيها مجتهداً أو مقلدا. ( إعلام الموقعين 3 – 365 )
ويقول العز بن عبد السلام : من أتى شيئاً مختلفاً في تحريمه إن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفا ( قواعد الأحكام 1-109 ) قال إمام الحرمين : ثم ليس للمجتهد أن يعترض بالردع والزجر على مجتهد آخر في موقع الخلاف إذ كل مجتهد في الفروع مصيب عندنا ومن قال إن المصيب واحد فهو غير متعين عنده فيمتنع زجر أحد المجتهدين الآخر على المذهبين ( الإرشاد ص 312 )

 

4- الرفق في التعامل :-

والرفق أصل من أصول الدعوة ومبدأ من مبادئ الشريعة ففي حديث الرجل الذي بال في المسجد وزجره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنهاهم عليه الصلاة والسلام قائلاً : لا تزمروه – أي لا تقطعوا بوله – وأتبعوه ذنوبا من ماء وقال للرجل إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذه القاذورات.
وحديث خوات بن جبير رضي الله عنه حين راءاه مع نسوة فقال ماذا تبغي هاهنا قال التمس بعيراً لي شاردا . ثم حسن إسلامه وخلصت توبته فمازحه عليه الصلاة والسلام قائلا : ماذا فعل بعيرك الشارد قال : قيده الإسلام يا رسول الله .
وحديث الأعرابي الذي أعطاه فقال له أحسنت عليك فقال كلاما غير لائق فهم به الصحابة فنهاهم عليه الصلاة والسلام وأدخله في البيت فأعطاه ثم خرج به وقال هل أحسنت فقال أحسنت علي وفعلت وفعلت فضحك عليه الصلاة والسلام وضرب مثلاً بصاحب الراحلة الشاردة.

 

5- أن لا يتكلم بغير علم قال تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } لا بد من الإحاطة بما في المسألة قبل أن تخالف .

قل للذي يدعى علمـــــا ومــعــرفة  *** علمت شيئـــا وغـابت عنك أشـيــــاء
فالعلم ذو كثــرة في الصحف منتشر  *** وأنت يا خل لم تستكمـــل الصحفـــا

 

6- أدب مراعاة المصالح الشرعية في الإنكار فإذا كان النهي سيؤدي إلى مفسدة أكبر أو سيضيع مصلحة أعظم فلا نهي ولا أمر ويفصل ابن تيمية ذلك في الفتاوى (20/58)
ولو كان قوم على بدعة أو فجور ولو نهوا عن ذلك وقع بسبب ذلك شر أعظم مما هم عليه من ذلك ولم يمكن منعهم منه ولم يحصل بالنهي مصلحة راجحة لم ينهوا عنه ( 14/472)
فحيث كانت المفسدة للأمر والنهي أعظم من مصلحته لم يكن مما أمر الله به وإن كان قد ترك واجبا وفعل محرما إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباد الله وليس عليه هداهم . الاستقامة (2/211)
وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت آخرون فيكون ذلك من ذنوبهم وينكر عليه آخرون إنكاراً منهياً عنه فيكون ذلك من ذنوبهم فيحصل التفرق والاختلاف والشر وهذا من أعظم الفتن والشرور قديماً وحديثاً إذ الإنسان ظلوم جهول (26/142)

 

ولكن ما هي أسباب هذا الاختلاف؟

إنها أسباب موضوعية ترجع إلى بلوغ الأخبار والآثار إلى العلماء والقواعد التي يلتزم بها العالم في تصحيح وتضعيف الأخبار وبالتالي مسألة اختيار معايير التعامل مع السنة وقرائن نسخ الأخبار وإحكامها.
وإلى اللغة وضوحا وجلاء وغموضا وخفاء كما هو مفصل في كتب أصول الفقه في أبواب دلالات الألفاظ كعموم النصوص وخصوصها وظهورها وتأويلها ومجملها ومبينها .
كما يرجع الاختلاف إلى الأدلة المتعلقة بمعقول النص ومقاصد الأحكام كأنواع القياس والمصالح المرسلة والاستحسان والاستصحاب وسد الذرائع.
كما يرجع الاختلاف إلى الأعراف المعتبرة وتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان والموازنة بين المصالح والمفاسد.
فهذه العناوين الأربعة يرجع إليها اختلاف العلماء.


 

وفي الختام

فإنه لا بد من إحياء روح التسامح في الأمة فتتجنب التباغض وبث روح الأخوة والمودة بين المسلمين في أنحاء العالم
ولا بد من تأكيد أدب الاختلاف وتجنب سلبيات الخلاف .
-لا بد من التأكيد على أن للاختلاف أسباباً موضوعية مشروعة ووجيهة يجب إبرازها واستثمارها لرأب الصدع وإصلاح ذات البين.
والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل
.

تأثر الفتوى بمفهوم الاستطاعة والنوازل المستجدة

 

بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه

 

“تأثر الفتوى بمفهوم الاستطاعة والنوازل المستجدة”

عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

 

في هذا البحث الوجيز 1- تعريف الفتوى 2- أصل اعتبار الاستطاعة وتعريفها ومفهومها وتوظيفها في الحج 3– التيسير مقصد من مقاصد الشريعة ناشئ عن مشروعية الاستطاعة. 4–قواعد ذات علاقة بالاستطاعة 5–أمثلة.

الفتيا اصطلاحاً: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه.

قال القرافي: إنها إخبار عن الله تعالى فالمفتي كالمترجم ، قال الزقاق في المنهج بعد تعريف الحكم معرفاً الفتوى:

  …………………..           ورَسْمُهَا: إِخْبَارُ مَنْ  قَدْ عُرِفَا

بَأَنَّهُ أَهْــلٌ بِحُكْمٍ شُــرِعَا      والحُكْمُ وهْيَ فِي سِواهُ اجْتَمَعا.

قال في التكميل:

    إِخْبَارٌ الفَتْوَى كَمَنْ يُتَرْجِمُ    والحُكْمُ إِلزَامٌ كنَائِبِ اعْلَمُوا

وعن ابن القيم: المفتي بمنزلة الوزير الموقع عن الملك.

وقد أسند جل وعلا الفتوى لنفسه فقال تعالى:  } وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى ٱلنِّسَآءِ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ { } يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِى ٱلْكَلَـٰلَةِ { ِ.

الاستطاعة:

أصل من أصول التكليف وأساس من أسس الرخص والتخفيف، قال في مراقي السعود ناظماً لجمع الجوامع:

   العلم والوسع على المعروف     شرط يعم كل ذي تكليف

قال إمام الحرمين في البرهان: يكلف المتمكن ويقع التكليف بالممكن.

والوسع والطاقة والتمكن والإمكان بمعنى الاستطاعة.

 وأصلها من الكتاب والسنة: (فاتقوا الله ما استطعتم) قال تعالى( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) ( لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها) وقال تعالى( وعلى الموسع قدره) (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به)

وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل أكل عام يارسول الله فسكت حتى قالها ثلاثاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه”.

ذلك هو أصل الاستطاعة بعمومها وفي الحج بخصوصه ورد قوله تعالى( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا)

وقوله صلى الله عليه وسلم: وأن تحج البيت إن استطعت إليه سبيلا” متفق عليه، وفسرها عليه الصلاة والسلام بأنها “الزاد والراحلة”، كما في حديث الترمذي وابن ماجه والدار قطني.

ولهذا صار جمع من العلماء إلى أنه لا بد من ملك الزاد والراحلة فعلا ولا يحج بسؤال الناس على مذهب الجمهور ولا يحج إلا بما فضل عن قوت عياله ومسكنهم وخدمهم لما ورد في حديث أبي داود عنه عليه السلام : كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت”. ولا يبيع عقارا يحتاج إليه لسكناه أو سكنى عياله أو يحتاج إلى أجرته لنفقتهم أو بضاعة يختل ربحها بالبيع فتنقص بذلك عن نفقتهم.

ثم إن الاستطاعة نتفاوت والواجبات تتفاوت كذلك فقد يكون المرء مستطيعاً من وجه عاجزاً من وجه.

ويمثل لذلك بالعذر المبيح للتيمم، فقد يكون المرء قادرا على استعمال الماء لكنه فاقد الماء أو ليس عنده إلا ما يكفيه لشرابه، وقد يكون واجداً ماءا إلا أنه لو استعمله لمرض بحمى ونحوها فهو قادر من جهة توفر الماء عاجز من جهة المرض.   

     

قال الرَّاغِبُ : الاستطاعَةُ عندَ المُحَقِّقينَ : اسمٌ للمعاني التي بها يَتَمَكَّنُ الإنسانُ مِمّا يُريدُه من إحداثِ الفعلِ وهي أَربعَةُ أَشياءَ : بِنْيَةٌ مَخصوصَةٌ للفاعِلِ وتَصَوُّرٌ للفِعْلِ ومادَّةٌ قابِلَةٌ لتأْثيرِهِ وآلَةٌ إنْ كانَ الفِعْلُ آلِيّاً كالكِتابَةِ فإنَّ الكاتبَ يحتاجُ إلى هذه الأَربعَةِ في إيجادِه للكِتابَةِ ولذلكَ يُقال : فلانٌ غيرُ مُستَطيعٍ للكتابَةِ : إذا فقدَ واحِداً من هذه الأَربَعَةِ فصاعِداً ويُضادُّهُ العَجْزُ وهو أَن لا يَجِدَ أَحَدَ هذه الأَربعةِ فصاعِداً ومَتى وَجَدَ هذه الأَربعةَ كلَّها فمُستطيعٌ مُطلَقاً ومتى فقدَها فعاجِزٌ مُطلَقاً ومتى وجَدَ بعضَها دونَ بعضٍ فمُستَطيعٌ من وَجهٍ عاجِزٌ من وَجهٍ ولأَنْ يُوصَفَ بالعجزِ أَولَى . والاستِطاعَةُ أَخَصُّ من القُدْرَةِ وقوله تعالى : ” ولِلَّه على النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إليهِ سَبيلاً ” فإنَّه يحتاجُ إلى هذه الأَربعة وقولُه صلّى الله عليه وسلَّم : ” الاستِطاعَةُ الزَّادُ والرَّاحِلَةُ ” فإنَّه بيانٌ لِما يُحتاجُ إليه من الآلةِ وخصَّه بالذِّكْرِ دونَ الآخر إذْ كانَ مَعلوماً من حيثُ العقلُ مُقتَضى الشَّرعِ أَنَّ التَّكليفَ من دونِ تلكَ الأُخَرِ لا يَصِحُّ . ( التاج   5/444)

وبذلك ندرك أن الاستطاعة مفهوم واسع لا يعنى عدم القدرة البتة؛ ولهذا فإن مقصد التيسير يلتقي مع مفهوم الاستطاعة وهو مقصد مؤصل من الكتاب والسنة.

 

قاعدة التيسير ورفع الحرج وتجلياتها

قال أبو إسحاق الشاطبي:”المسألة السادسة” : فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه والدليل على ذلك أمور:

أحدها: النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى:} وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَْغْلَـٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ { وقوله} رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا{ وفي الحديث:”قال الله تعالى قد فعلت” وقد جاء:} لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا{  }يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ{ و } وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ { و}يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَـٰنُ ضَعِيفاً{ و} مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ { وفي الحديث:” بُعِثتُ بالحَنِيفية السمحة” وحديث:”ما خُيِّرَ رسولُ الله r بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُما أَيْسَرُ من الآخَرِ إلاّ اخْتَار أَيْسَرَهُما مَا لَمْ يُكنْ إِثْماً فَإنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ”.

وإنما قال:” ما لم يكن إثماً ” لأن ترك الإثم لا مشقّة فيه من حيث كان مجرد ترك إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى. ولو كان قاصداً للمشقة لما كان مريداً لليسر ولا التخفيف ولكان مريداً للحرج والعسر وذلك باطل.

والثاني: ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومما علم من دين الأمة ضرورة كرخص القصر والفطر والجمع وتناول المحرمات في الاضطرار، فإن هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقّة ، وكذلك ماجاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال.

ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكلف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف.

 

مما يرجع إلى الاستطاعة قاعدة عموم البلوى:

وهو الحالة أو الحادثة التي تشمل كثيراً من الناس ويتعذّر الاحتراز منها.

أو ما تمس الحاجة إليه في عموم الأحوال.

عسر الاحتراز:

ومعناها صعوبة التحفظ عن أمر وهي في العبادات وغيرها. قال الكاساني: كل فضل مشروط في البيع ربا سواء كان الفضل من حيث الذات أو من حيث الأوصاف إلاّ ما يمكن التحرز عنه دفعاً للحرج.

وعبّر عنه القرافي بالتعذر حيث قال: المتعذر يسقط اعتباره والممكن يستصحب فيه التكليف. 

 

المشقة:

وهي أنواع نقتبس من اختصار فروق القرافي: اعلم أن التكليف إلزام الكلفة على المخاطب يمنعه من الاسترسال مع دواعي نفسه هو أمر نسبي موجود في جميع أحكامه حتى الإباحة.

ثم يختص غير الإباحة بمشاق بدنية بعضها أعظم من بعض . فالتكليف به إن وقع ما يلزمه من المشاق عادة أو في الغالب أو في النادر كالوضوء والغسل في البرد والصوم في النهار الطويل والمخاطرة بالنفس في الجهاد ونحو ذلك، لم يؤثر ما يلزمه في العبادة لا بإسقاط ولا بتخفيف لأن في ذلك نقص التكليف إن لم يقع التكليف بما يلزمه من المشاق كان التكليف على ثلاثة أقسام:

الأول: متفق على اعتباره في الإسقاط أو التخفيف كالخوف على النفوس أو الأعضاء والمنافع لأن حفظ هذه الأمور هو سبب مصالح الدنيا والآخرة فلو حصلنا هذه العبادة مع الخوف على ما ذكر لثوابها لأدى لذهاب أمثالها. 

الثاني:       متفق على عدم اعتباره في ذلك كأدنى وجع في أصبع لأن تحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقة لشرف العبادة وخفة المشقة. 

الثالث:      مختلف فيه فبعضهم يعتبر في التخفيف ما اشتدت مشقته وإن بسبب التكرار لا ما خفت مشقته وهو الظاهر من مذهب مالك.

فيسقط التطهير من الخبث في الصلاة عن ثوب المرضع كل ما يعسر التحرز منه كدم البراغيث ويسقط الوضوء فيها بالتيمم لكثرة عدم الماء والحاجة إليه والعجز عن استعماله.

هذه الأقسام الثلاثة تطرد في جميع أبواب الفقه فكما وجدت المشاق الثلاثة في الوضوء، كذلك نجدها في العمرة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوقان الجائع للطعام عند حضور الصلاة والتأذي بالرياح الباردة في الليلة الظلماء والمشي في الوحل وغضب الحكام وجوعهم المانعين من استيفاء الفكر وغير ذلك . وكذلك الغرر في البيع ثلاثة أقسام وهكذا في كل أبواب الفقه.

 

تأثر الفتوى بعوارض الاستطاعة في الزمان والمكان نفياً للحرج نقتبس من إعلام الموقعين لابن القيّم في تغيّر الفتوى واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيّات والعوائد: هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يُعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالّة عليه وعلى صدق رسوله r.

ومن القرافي في الفروق: والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، وعلى هذه القاعدة تتخرج إيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحاً مستغنية عن النيّة.

 عدم الاستطاعة تلجؤ إلى العمل بالضعيف بشروط العمل بالضعيف ثلاثة: أن لا يكون القول المعمول به ضعيفاً جداً وأن تثبت نسبته إلى قائل يُقتدى به علماً وورعاً وأن تكون الضرورة محققة ومعناها الحاجة أو المشقة وحينئذ يترجح الضعيف كما نص عليه البناني نقلا عن المسناوي من المالكية ونظمه سيدي عبدالله في مراقي السعود:

     وذِكْرُ ما ضَعِّفَ لَيْسَ للعَمَلْ         ………………………

إلى قوله : وكَوْنِهِ يُلْجى إليهِ الضَّرَرُ         إنْ كانَ لَمْ يَشْتَـدّ فِيهِ الخَوَرُ

        وثَبَتَ العَزْوُ وقَـدْ تَحَقَّقَا            ضُرّاً من الضُّرِّ بِهِ تَعَلَّـقَا.

وهذا طريق لاحب للفقهاء لا يمترى فيه من عرف مقاصد الشريعة وذاق طعم حكمها ووزن الأحكام بميزانها الذي لا يحيف.              

وقد يعتبر البعض أن هذا من باب التساهل في الفتوى المنهي عنه وليس الأمر كذلك فمعنى التساهل عند ابن الصلاح: هو أن لا يتثبت “الفقيه” ويُسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة والإبطاء عجز ومنطقة وذلك جهل. ولأن يُبطئ ولا يخطئ أكمل به من أن يعجل فيضل ويُضل، وقد يكون تساهله وانحلاله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحظورة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلباً للترخيص على من يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضره ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينه.

وبذلك يتضح أن التساهل غير التسهيل.

وقاعدة النظر في المئالات إنما هي في حقيقتها قاعدة الموازنة بين مصلحة أولى بالاعتبار أوبين مصلحة ومفسدة ، إلا أنها في الغالب تعنى أن المصلحة أو المفسدة المرجحة متوقعة.

وهذا التوازن أساس من أسس الفتوى والاجتهاد لا يجوز للفقيه أن يغفل عنه أو يتغافل فالمصالح ليست على وزان واحد كما أن المفاسد ليست على وزان واحد وبالتالي درجة الحكم بحسب درجة المصلحة اكادة في الواجبات أو درجة المفسدة فقد يترك الواجب للمحافظة على الواجب الآكد وإرتكاب المفسدة الصغرى لتفادي المفسدة الكبرى.

ولعل قصة الخضر وموسى عليهما السلام تقدم أروع مثال في هذا السياق من قتل الغلام وخرق السفينة تفادياً لمفاسد متوقعة هي الطغيان والكفر الذي سيحمل عليه والده ﴿ فخشينا أن يرهقهما ظغياناً وكفرا ﴾ وخرق الخضر السفينة خشية أن يغصبها الملك ﴿ فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا﴾

ومن هذا المنطلق في وزن المصالح والمفاسد ومراعاة أنواع المشتقات ودرجة الواجبات يقوم ميزان الاستطاعة بالقسط فرمي الجمار ليس كطواف الإفاضة والمبيت بمنى ليس كالوقوف بعرفة فالمنجبر بالدم ليس كغيره وما اختلف فيه العلماء ليس كما اتفقوا عليه وما دليله قول صريح ليس كما دليله فعل محتمل وما دليله فعل ليس كما دليله ترك.

والاستطاعة تختلف باختلاف الزمان والمكان إذ أن الاستطاعة من الكلي المشكك الذي يختلف في آحاده قوة وضعفاً مقابل المشقة التي هي متفاوتة.

فهناك نوازل جديدة بالكلية كالصلاة بالطائرة لم يكن لها نظير لتقاس عليه، وإنما تؤخذ من وجوب ا لعمل بقدر الطاقة؛ ولهذا اصلوا لقاعدة الميسور لا يسقط بسقوط المعسور.

وهناك قضايا مستجدة بالنوع قديمة بالجنس، بمعنى أن المقتضى والمواجب أصبح أقوى مما كان عليه، فالرمي كانت فيه مشقة من الدرجة الثالثة التي لا تأثير لها ولكنها بسبب الأعداد الهائلة من الحجاج انتقلت إلى الدرجة الثانية المؤثرة على خلاف أو الأولى التي لا خلاف في تأثيرها.

وهذا هو تحقيق المناط الذي تترتب مراجعة الحكم على ضوء ما عرف من الشارع من مراعاة ذوى الأعذار مما تحرر منه بالاستقراء مقصد شرعي هو التيسير وترتبت عليه أحكام فرعية وكذلك في المبيت بمنى؛ وهو موضوع خلاف.

من شأن ذلك أن يرفع شق الخلاف المرجوح إلى الرجحانية لأن دليل القول المرجوح دعمه المقصد الشرعي في التيسير بناء على تغير المقتضيات وتطور المعطيات.

وهكذا فإن الميزان الثلاثي: الجزئي – والمقصد الكلي –وواقع القضية “المشقة” “المصلحة المتقاضاة” “المفسدة المتحاماة” هو الذي سيكون أساس الفتوى التي تخضع للمؤثرات التي يزنها الفقه حسب معايير دقيقة لا تكون متاحة لمن يجمد على ظواهر النقول ولا لمن يتحلل منها معتمدا على نتائج العقول، وكان بين ذلك قواماً.

والله ولي التوفيق. 

عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيـّه

 


الموسوعة الفقهية الكويتية 32/     وشرح المنتهى3/456

– المنجور   شرح المنهج    ص614

[3] سورة الأعراف       الآية 157

– سورة البقرة         الآية 286

 أخرجه مسلم عن ابن عباس باب الإيمان حديث رقم180

– سورة البقرة       الآية 286

– سورة البقرة        الآية 185

– سورة الحج        الآية 78  

– سورة النساء       الآية 28

– سورة المائدة       الآية 6

– الحديث أخرجه الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه حديث رقم 21260 باقي مسند الأنصار.

– الحديث أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها كتاب الفضائل رقم 6047

– الشاطبي      الموافقات      2/121- 122

– ابن عابدين       رد المحتار     1/310

– البزدوي        كشف الأسرار      3/16

– نفس المرجع       5/187

– القرافي       الفروق            3/198

– ابن حسين المالكي    تهذيب الفروق          1/131-132

– ابن القيم    إعلام الموقعين     3/11

– القرافي         الفروق     1/176- 177

– ابن الصلاح      أدب الفتوى وشروط المفتي   ص65 

 

ياأهل لبنان … مقابلة صوتية مع العلامة عبدالله بن بيه

استماع تحميل

“في رحاب الشريعة”(4)

استماع تحميل

يا فضيلة الشيخ.. العلامة عبدالله بن بيه

اذاعة اسلام اون لاين

استماع تحميل

تحالف القيم بين الشعوب

الدروس الحسنية

استماع تحميل

فقه الأقليات المسلمة : ضوابط واحكام

قناه الحوار

استماع تحميل

حلف الفضول

استماع تحميل

قناة الجزيرة

فتاوى رمضانية

قناه اقرا

استماع تحميل

لقاء خاص

استماع تحميل

التلفزة الموريتانية

نحو ترشيد الصحوة

استماع تحميل

قطر

 

درجات الواجب في حياةالمسلم الغربي

استماع تحميل

باريس