ارشيف ل February, 2009

العلامة عبدالله بن بيه الدين والفن الجزء الرابع

محاضرة القيت في مهرجان جوائز المحبة عام 2008

الحكم الشرعي في بعض عمليات البورصة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه 

 

الحكم الشرعي في بعض عمليات البورصة 

الأستاذ/ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه 

 

 

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه بتكليف من المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث تضمنته رسالة فضيلة الأمين العام للمجلس أقدم هذا البحث عن الحكم الشرعي في بعض عمليات البورصة ويشتمل هذا البحث على:

  تعريف مختصر للبورصة.

  أهم المعاملات التي تدور فيها.

  عرض للقرارات الصادرة عن المجامع الفقهية حول قضية البورصة.

  ثم تعليقنا على بعض هذه القرارات يمثل رأينا الخاص.

  الخلاصة.

تعريف موجز للبورصة:

اسم البورصة مختلف في أصله التاريخي والظاهر أنها مشتقة من اسم تاجر بلجيكي من القرن 14 كان يقوم بالسمسرة أو من كيس النقود وهو بالفرنسية bourse وكذلك تقريباً باللغات الغربية.

إلا أن الذي ينبغي أن تعرفه هو مضمون هذا المصطلح فالبورصة هي سوق مالية ذات طبيعة خاصة فهي كالسوق في أن كلا منها بحل بيع وشراء واخذ وعطاء إلا أن البورصة تتميز عن السوق بكونها سوقاً منظمة تحكمها لوائح وقوانين وأعراف وتقاليد.

أهم وظائفها:

خلق سوق مستمرة لأدوات الاستثمار المتاحة بحيث يكون بوسع المستثمر في أي وقت تسييل أصوله المالية أو جزء منها بسرعة وسهولة وبأفضل سعر ممكن وبأدنى تكلفة ممكنة وتتحقق السوق من خلال وجود عدد كبير من البائعين والمشترين.

ويمكن أن نفرق بين نوعين من الاسواق سوق الأصدارات الجديدة أو السوق الأولية: وهي سوق تطرح فيها الشركات في طور التأسيس أسهمها للاكتتاب العام لأول مرة قد تكون شركة عقارية أو تجارية.أو شركات قائمة بالفعل تصدر سندات لزيادة رأسمالها.

كيفية التعامل في هذه السوق:

يكون التعامل فيها باحدى الطريقتين:

التعامل المباشر ويتم بالاتصال المباشر بين مصدر السندات والراغبين في الاشتراء ويقوم على العلاقة الشخصية.

التعامل الغير مباشر ويعتمد على استخدام الوسطاء الذين يقومون بدورهم بتولى مسئولية الاصدار وتغطية الاكتتاب وتحمل مخاطر تقلب الاسعار فإذا قررت الشركة طرح أسهمها للأكتتاب العام تتفاوض مع بنك لضمان تغطية الاصدار وقد يكون ذلك على شكل شراء الاوراق المصدرة من الشركة من طرف البنك لاعادة بيعها إلى الجمهور بسعر أعلى وهناك نشرة اكتتاب تتضمن كل المعلومات.

أما السوق الثانوية ( سوق التداول ) الاوراق التي سبق إصدارها في السوق الأولية كيف يجري تداولها والمناقلة فيها؟

الاجابة على هذا السؤال هو تكوين السوق الثانوية فهذ السوق يبيع فيها أصحاب الحقوق في الشركات المساهمة التي قد تكون أصولاً لا تسهل تصفيتها لحساب احد المستثمرين دون حاجة إلى المساس بأصل الثروة ودون مساس بحقوق الاخرين الذين قد لا يريدون بيع سهامهم.

وهذه السوق تسهل على المستثمر- بدل من أن يبحث عمن يشتري سهامه بصفة مباشرة وقد لا يجد – أن يدخل مباشرة إلى الجمهور عن طريق سوق الاوراق المالية التي يتم فيها التعامل عن طريق المزايدة حيث تعرض الايجاب من طرق الباعة والقبول من طرف المشترين في المنافسة للوصول إلى أفضل الاسعار المقبولة من جميع الاطراف.

ويتم تداول الاوراق في قاعة السوق عن طريق المزايدة المكتوبة وذلك بعرض جميع أوامر البيع والشراء على اللوحة المعدة لهذا الغرض طبقاً للقواعد والاجرآت المنصوص عليها في اللائحة التي تحكم التداول في البورصة.

يقصد بمكان السوق ردهة البورصة التي يتم عليها تداول الاوراق المالية علنا عن طريق وسطاء مرخص لهم يقومون بتنفيذ أوامر عملائهم في البيع والشراء.

وهذا يقتضي وجود قاعدة معلوماتية عن الشركات التي تعرض أصولها وأسهمها للبيع حتى يكون المشتري على بينة من أمره فعليه أن يعرف العائد المطلوب تحقيقه،العائد الخالي من المخاطر،العائد الموزع في نهاية أخر السنة المالية متوسط معدل نمو الارباح خلال السنوات الخمس الماضية.

ولكن للسوق حركتها التي تؤدي إلى رفع الاسعار وخفضها في مهب ريح المضاربات.

ولهذا نشأت جهات متخصصة كمؤشر دواجنز الذي يختار عدداً من الشركات ويقوم بوضع نظرية حركة متوسط اسعار هذه الشركات طبقاً لمعايير خاصة لا يستطيع المستثمر أن يوفرها لنفسه إلا عن طريق هذه الجهات المتخصصة تخصصاً دقيقاً وبالتالي فإن هذه الجهات توفر أساساً للخيارات والبدائل للمستثمرين وقد أسس داوجنز مؤشراً للشركات الاسلامية قبل سنة وسماه ” مؤشر داوجنز الاسلامي” واختار فيه مجموعة من الشركات العالمية من انحاء العالم وليس من الشرط أن تكون هذه الشركات مملوكة للمسلمين ولا معلنة تقيدها بالشريعة الإسلامية ولكن يشترط أن يكون تعاملها موافقاً للشريعة الاسلامية حسب المعايير التي وضعها وهي أن لا يكون نشاطها حراماً فهي لا تتعاطى الصريفة الربوية ولا تبيع الخمر ولا الخنزير وأن لا يزيد تعاملها ” العارض” مع جهات الاقراض الربوية على 5 % وأن لا تزيد ديونها أو التي عليها على حد معين ومنها شركات أمريكية ويابانية. وهكذا وفر داوجنز هذه القاعدة المعلوماتية لمن يريد أن يتعامل في أسهم هذه الشركات.

سنعرض هنا بعض أهم المعاملات التي تجري في البورصة لتكون مقدمة لفهم أليات الاسواق المالية على أن يكون حكمنا عليها من خلال تعليقنا على قرارات المجمعين الفقهيين.

أولاُ: عقود على الاسهم:

سواء في طور التأسيس في السوق الاولى أو عند تسبيل بعض المساهمين لحصصهم في السوق الثانية( سوق التداول) والظاهر أن ذلك لا يطرح معضلة في الشرع فاشتراء هذه الاسهم جائز باعتبار هذه الاسهم تمثل جزءاً شائعاً من رأسمال الشركة – التي تكون صناعية تجارية أو زراعية – الذي قد يكون عروضاً وسلعاً وعقارات كما تكون نقوداً وفي هذه الحالة يشترط فيها ما يشترط في بيع النقود بعضها ببعض إذا كان مشترياً الاسهم أما إذا كان مؤسساً أو داخلاً في حال اكتتاب لزيادة رأس المال فان الامر لا يكون كذلك والجواز فيها فرع عن جواز انشاء شركة المساهمة وإذا كان الأصل في العقود والمعاملات الجواز إلا ما نص الشارع على تحريمه فان شركة المساهمة وان كانت غير منضبطة بالضوابط التي اعتمدها أكثر الفقهاء في العقود والشركات فتدخل تحت هذا الأصل ولعل ابن تيمية قد نبه على أهمية التحرر من الصيغ وعزا إلى الامام أحمد أن هذا الاصل في العادات العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه الله ورسوله وإلا دخلنا في قوله تعالى:” قل ارأيتم ما انزل الله لكم من رزق” واضاف وأما السنة والاجماع فمن تتبع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من صيغ أنواع المبايعات والمؤاجرات والتبرعات علم بالضرورة انهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة من الطرفين والآثار بذلك كثيرة. الفتاوى

فمن يشتري السهم يشتري جزءاً مشاعاً من الشركة.

قلت وهو جائز ولهذا أجاز الامام احمد بعض الشركات التي لاتدخل في حد أي من الشركات التي أجازها الآخرون.

وق أفتى شيخ الازهر محمد شلتوت بجواز الاسهام في هذه الشركات وكذلك شيخ الازهر حسن مامون.

والذي يؤخذ على هذه الشركات هو مسؤلية الشريك لا تتجاوز مقدار حصته من رأس المال وبالتالي فلو فلست الشركة ماكان على الشركاء أي تبعة في أموالهم الخاصة.

ويؤخذ عليها ما يدعى من الغرر في أن الذي يشتري السهم لا يدري حقيقة ما يشري ولم يعتبر مجمع الفقه الاسلامي بجدة في قراره الذي سيذكر لاحقاً ما أشرنا إليه سبباً للتحريم فأجاز شركات المساهمة ذات المسؤلية المحدودة ومع تحفظي على عدم مسؤلية الشريك خارج مال الشركة فإن قرار المجمع يمكن أن يكون أساساً مقبولاً فتكون شركة المساهمة جائزة إلا إذا كانت غايتها محرمة أو تعاملت بالحرام أخذا وعطاء فحينئذ يحرم الاشتراك فيها واشتراء أسهمها في السوق الاولى والسوق الثانية.

والعقود على هذه الاسهم هم من البيوع التي يجري تنفيذها في أسواق الاوراق المالية على أصول مالية تتحدد أسعارها من خلال العرض والطلب عند أعلى سعر يعرضه المشترون وأدنى سعر يقبله البائعون.

وهي من نوع بيوع المزايدة لان البيع أنواع منه مساومة ومرابحة ومزايدة وقد أجمع الجمهور على جواز بيع المزايدة كما يقول ابن رشد الحفيد.

ثانياً عقود الخيارات:

ومن المعلوم أن الخيار التعاقدي عند الفقهاء هو:( بيع وقف بته أولاً على امضاء يتوقع) على حد تعريف ابن عرفة المالكي.

وانما قولنا التعاقدي احترازاً من خيار المجلس وخيار النقيصة لأن هذه لم يتعاقد عليها الطرفان، والخيار أنما يكون في اشتراء سلعة مالية، اما هذا الخيار فهو أن يكون لأحد المتعاقدين الحق في فسخ العقد في موعد التصفية، أو قبل حلوله، أو تنفيذ العقد إذا جاءت تقلبات الاسعار في صالحه. وذلك في مقابل مبلغ يدفع مقدماً، ولا يرد للمضارب،يعرف بالتعويض ويعطي هذا الحق المشتري فيكون له الخيار بين استلام الصكوك ودفع الثمن المتفق عليه أو فسخ الصفقة مقابل تعويض.

هل هذا التعويض يدخل في بيع العربون الذي قال به عمر وابنه وابن سيرين وذهب إليه احمد.

وهناك خيار الشراء بسعر كذا أو البيع بسعر كذا دون تحديد من البائع والمشتري.

وبتدقيق النظر في هذا النوع نرى أنه من باب تعليق اللزوم وقد نص المالكية على تعليق لزوم البيع على الاتيان بالثمن (كابيعك بشرط الا ينعقد البيع إلا بدفع الثمن وهذه جائزة معمول بها كما لأبي الحسن على المدونة ) الزرقاني ج5ص5 وتسمى تعليق لزوم لأن البيع قائم.

ثالثاً: عقود المستقبليات

وهي شبيهة بالسلم. والسلم مشروع بعموم الكتاب ونصوص السنة وإجماع الامة. أما عموم القرآن فهو قوله تعالى (وأحل الله البيع) والسلم بيع، واما السنة فالحديث المتفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلىالله عليه وسلم قدم المدينة وهو يسلفون في التمر العام والعامين فقال:”من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم“.

إلا أن سلم البورصات الذي يسمى بالمستقبليات أو البيوع الآجلة أنواع منوعة وألوان متلونة، فمنها ما يكون على سلع وهي معاملات تتحكم فيها قوانين البورصة وأعرافها. ومن أهمها أن يبيع الانسان سلعة من شخص إلى أجل يتم فيها التسليم والبائع لا يملك السلعة إلا أنه يمكنه الحصول عليها عند الاجل المحدد.

إلا أن المشتري لا يدفع الثمن الآن بل انه سيدفعه فقط عند تسليم السلعة أو التصفية وتمكن الزيادة في الاجل مقابل ثمن.

وهذا العقد في أصله سلم إذ أن السلم هم بيع سلعة موصوفة في الذمة في مقابل ثمن عاجل من غير جنسها).

وقد اختلفت عبارات العلماء في تعريف السلم طبقاً لاختلافهم في بعض صور السلم وصيغه فقد عبر أكثرهم بأن الثمن يدفع في المجلس بينما عبر البعض بأنه يدفع عاجلاً. ولعل أهم عقدة في هذا العقد هي أن الثمن فيه مؤجل وهذا يخالف رآي جمهور العلماء ولكن… هذه العقدة جعلت كافة الكتاب الإسلاميين المعاصرين في الاوراق المالية يجزمون بأن هذه المعاملة ممنوعة شرعاً وطبقاً لذلك ضربوا صفحاً عن هذه المعاملة وجاءت قرارات المجامع الفقهية لتسير في هذا الاتجاه وتصب في هذا المجرى وقد يكون من المناسب أن ننقل هنا إلى اخواننا في المجلس الاوروبي نص هذه القرارات.

وهي قرارات صادرة عن مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي وأخرى صادرة عن محمع الفقه الاسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.

وغنى عن القول أن هذين المجمعين الدوليين يضمان خيرة علماء العالم الإسلامي من كل المذاهب والاتجاهات.

وبعد عرض هذه القرارات بنصها سأعلق عليها بما يسر لي ربي، ليكون موضوع بحث الزملاء الكرام وأكتفي بمحل الاتفاق في القرارات باعتباره يمثل رأيي وأعلق على محل الاختلاف معها.

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.

قرار رقم: 63 ( 1/7بشأن الاسواق المالية

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 – 12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9 –14 أيار( مايو)1992م.

بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع “الاسواق المالية” الأسهم،الاختيارات،السلع،بطاقة الائتمان، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله قرر ما يلي:

أولأ الأسهم:

1 – الإسهام في الشركات:

أ – بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز.

ب – لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم كالتعامل بالربا أو انتاج المحرمات أو المتاجرة بها.

ج – الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات،كالربا ونحوه بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة .

2 – ضمان الإصدار ( UNDER WRITING):

ضمان الاصدار هو الاتفاق عند تأسيس شركة مع من يلتزم بضمان جميع الإصدار من الأسهم أو جزء من ذلك الإصدار وهو تعهد من الملتزم بالاكتتاب في كل ما تبقى مما لايكتتب فيه غيره وهذا لا مانع منه شرعاً إذا كان تعهد الملتزم بالاكتتاب بالقيمة الاسمية بدون مقابل لقاء التعهد ويجوز أن يحصل الملتزم على مقابل عن عمل يؤديه – غير الضمان- مثل أعداد الدراسات وتسويق الاسهم.

3 – تقسيط سداد قيمة السهم عند الاكتتاب:

لا مانع شرعاً من أداء قسط من قيمة السهم المكتتب فيه، وتأجيل سداد بقية الاقساط لأن ذلك يعتبر من الاشتراك بما عجل دفعه والتواعد على زيادة رأس المال ولا يترتب على ذلك محظور لأن هذا يشمل جميع الأسهم، وتظل مسؤولية الشركة بكامل رأس مالها المعلن بالنسبة للغير، لأنه هو القدر الذي حصل العلم والرضا به من المتعاقدين مع الشركة.

4- السهم لحاملهبما ان المبيع في ( السهم لحامله ) هو حصة شائعة في موجودات الشركة وأن شهادة السهم هي وثيقة لإثبات هذا الاستحقاق في الحصة فلا مانع شرعاً من أصدار أسهم في الشركة بهذه الطريقة وتداولها.

5 – محل العقد في بيع السهمإن محل المتعاقد عليه في بيع السهم هم الحصة الشائعة من أصول الشركة وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة.

6 – الأسهم الممتازةلا يجوز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال أو ضمان قدر من الربح أو تقديمها عند التصفية أو عند توزيع الارباح. ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالامور الإجرائية أو الإدارية.

7 – التعامل في الاسهم بطريقة ربوية:

أ – لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم، لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن وهما من الأعمال المحرمة بالنص على آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه.

ب- لا يجوز أيضاً بيع سهم لا يملكه البائع إنما يتلقى وعداً من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم لأنه من بيع مالا يملك البائع ويقوى المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به بإداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض.

8 – بيع السهم أو رهنه:

يجوز بيع السهم أو رهنه مع مراعاة ما يقضي به نظام الشركة كما لو تضمن النظام تسويغ البيع مطلقاً أو مشروطاً بمراعاة أولوية المساهمين القدامى في الشراء وكذلك يعتبر النص في النظام على إمكان الرهن من الشركاء برهن الحصة المشاعة.

9 – إصدار أسهم مع رسوم إصدار:

إن إضافة نسبة معينة مع قيمة السهم لتغطية مصاريف الإصدار لا مانع منها شرعاً مادامت هذه النسبة مقدرة تقديراً مناسباً.

10 – إصدار أسهم بعلاوة إصدار أو حسم ( خصمإصدار:

يجوز أصدار أسهم جديدة لزيادة رأس مال الشركة إذا أصدرت بالقيمة الحقيقية للأسهم – حسب تقويم الخبراء لأصول الشركة – أو بالقيمة السوقية.

11 – ضمان الشركة شراء الاسهم:

يرى المجلس تأجيل إصدار قرار في هذا الموضوع لدورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.

12 – تحديد مسؤولية الشركة المساهمة المحدودة:

لا مانع شرعاً من أنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محددة برأس مالها، لأن ذلك معلوم للمتعاقدين مع الشركة وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة.

كما لا مانع شرعاً من أن تكون مسؤولية بعض المساهمين غير محدودة بالنسبة للدائنين بدون مقابل لقاء هذا الالتزام. وهي الشركات التي فيها شركاء متضامنون وشركاء محدودو المسؤولية.

13 – حصر تداول الاسهم بسماسرة مرخصين، واشتراط رسوم للتعامل في أسواقها:

يجوز للجهات الرسمية المختصة أن تنظم تداول بعض الأسهم بأن لا يتم إلا بواسطة سماسرة مخصوصين ومرخصين بذلك العمل لأن هذا من التصرفات الرسمية المحققة لمصالح مشروعة.وكذلك يجوز اشترط رسوم لعضوية المتعامل في الأسواق المالية لأن هذا من الأمور التنظيمية المنوطة بتحقيق المصالح المشروعة.

14 – حق الأولوية:

يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.

15 – شهادة حق التملك:

يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.

 

ثانياً: الاختيارات:

أ – صورة عقود الاختيار:

إن المقصود بعقود الاختيارات الاعتياض عن الالتزام ببيع شئ محدد موصوف أو شرائه بسعر محدد خلال فترة زمنية معينة أو في وقت معين إما مباشرة أو من خلال هيئة ضمانية لحقوق الطرفين.

ب – حكمها الشرعي:

إن عقود الاختيارات – كما تجري اليوم في الاسواق المالية العالمية – هي عقود مستحدثة لا تنضوي تحت أي عقد من العقود الشرعية المسماه.

وبما أن المعقود عليه ليس مالاً ولا منفعة ولا حقاً مالياً يجوز الاعتياض عنه فإنه عقد غير جائز شرعاً.

وبما أن هذه العقود لا تجوز ابتدءً فلا يجوز تداولها.

ثالثاً: التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الاسواق المنظمة:

1 – السلع:

يتم التعامل بالسلع في الاسواق المنظمة بإحدى أربع طرق هي التالية:

الطريقة الأولى:

أن يتضمن العقد حق تسليم المبيع وتسليم الثمن في الحال مع وجود السلع أو إيصالات ممثلة لها في ملك البائع وقبضه.

وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة.

الطريقة الثانية:

أن يتضمن العقد حق تسليم المبيع وتسليم الثمن في الحال مع إمكانهما بضمان هئية السوق.

وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة.

الطريقة الثالثة:

أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم وأن يتضمن شرطاً يقتضي أن ينتهي فعلاً بالتسليم والتسلم.

وهذا العقد غير جائز لتأجيل البدلين، ويمكن أن يعدل ليستوفي شروط السلم المعروفة،فإذا استوفى شروط السلم جاز.

وكذلك لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها.

الطريقة الرابعة:

أن يكون العقد على تسليم السلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم دون أن يتضمن العقد شرطاً يقتضي أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعليين، بل يمكن تصفيته بعقد معاكس.

وهذا هو النوع الأكثر شيوعاً في أسواق السلع، وهذا العقد غير جائز أصلا.

2 – التعامل بالعملات:

يتم التعامل بالعملات في الاسواق المنظمة بإحدى الطرق الأربع المذكورة في التعامل بالسلع.

ولا يجوز شراء العملات وبيعها بالطريقتين الثالثة والرابعة.

أما الطريقتان الأولى والثانية فيجوز فيهما شراء العملات وبيعها بشرط استيفاء شروط الصرف المعروفة.

3 – التعامل المؤشر:

المؤشر هو رقم حسابي يحسب بطريقة إحصائية خاصة يقصد منه معرفة حجم التغير في سوق معينة، وتجري عليه مبايعات في بعض الاسواق العالمية.

ولا يجوز بيع وشراء المؤشر لأنه مقامرة بحتة وهو بيع شئ خيالي لا يمكن وجوده.

4 – البديل الشرعي للمعاملات المحرمة في السلع والعملات:

ينبغي تنظيم سوق اسلامية للسلع والعملات على أساس المعاملات الشرعية وبخاصة بيع السلم، والصرف، والوعد بالبيع في وقت آجل، والاستصناع، وغيرها.

ويرى المجمع ضرورة القيام بدراسة وافية لشروط هذه البدائل وطرائق تطبيقها في سوق إسلامية منظمة.

قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة البورصة في الدورة السابعة للمجمع صدر القرار التالي سنة 1404ى هـ القرار الأول حول سوق الأوراق المالية والبضائع ( البورصة)

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وبعد:-

فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في موضوع سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصةوما يعقد فيها من عقود – بيعاً وشراءً – على العملات الورقية وأسهم الشركات، وسندات القروض التجارية والحكومية والبضائع وما كان من هذه العقود على معجل، وما كان منها على مؤجل.

كما اطلع مجلس المجمع على الجوانب الإيجابية المفيدة لهذه السوق في نظر الاقتصاديين والمتعاملين فيها، وعلى الجوانب السلبية الضارة فيها.

أ – فإما الجوانب المفيدة فيها:

أولاًأنها تقيم سوقاً دائمة تسهل تلاقي البائعين والمشتريين، وتعقد فيها العقود العاجلة والآجلة على الاسهم والسندات والبضائع.

ثانياً: أنها تسهل عملية تمويل المؤسسات الصناعية والتجارية والحكومية عن طريق طرح الأسهم وسندات القروض للبيع.

ثالثاًأنها تسهل بيع الأسهم وسندات القروض للغير والانتفاع بقيمتها لأن الشركات المصدرة لا تصفي قيمتها لأصحابها.

رابعاًأنها تسهل معرفة ميزان اسعار الاسهم وسندات القروض والبضائع وتموجاتها في ميدان التعامل عن طريق حركة العرض والطلب.

ب – وأما الجوانب السلبية الضارة في هذه السوق فهي:

أولاًأن العقود الآجلة التي تجري في هذه السوق ليست في معضمها بيعاً حقيقياً،ولا شراءً حقيقياً لأنه لا يجري فيها التقابض بين طرفي العقد فيما يشترط له التقابض في العوضين أو في أحدهما شرعاً.

ثانياًأن البائع فيها غالباً يبيع ما لا يملك من عملات وأسهم أو سندات قروض أو بضائع،على أمل شرائه من السوق وتسليمه في الموعد دون قبض الثمن عند العقد كما هو الشرط في السلم.

ثالثاًأن المشتري فيها غالباً يبيع ما اشتراه لآخر قبل قبضه،والآخر يبيعه أيضاً لآخر قبل قبضه. وهكذا يتكرر البيع والشراء على الشئ ذاته قبل قبضه إلى أن تنتهي الصفقة إلى المشتري الأخير الذي يريد أن يستلم المبيع من البائع الأول، والذي يكون قد باع ما لا يملك أو أن يحاسبه على فرق السعر في موعد التنفيذ، وهو يوم التصفية بينما يقتصر دور المشتريين والبائعين-غير الأول والأخير- على قبض فرق السعر في حالة الربح،أو دفعه في حالة الخسارة، في الموعد المذكور كما يجري بين المقامرين تماماً.

رابعاًمايقوم به المتمولون من احتكار الأسهم والسندات والبضائع في السوق للتحكم في البائعين الذين باعوا ما لا يملكون ؛على أمل الشراء قبل موعد تنفيذ العقد بسعر أقل، والتسليم في حينه،وإيقاعهم في الحرج.

خامساًأن خطورة السوق المالية هذه تأتي من اتخاذها وسيلة للتأثير في الأسواق بصفة عامة، لأن الأسعار فيها لا تعتمد كلياً على العرض والطلب الفعليين من قبل المحتاجين إلى البيع أو إلى الشراء،وإنما تتأثر بأشياء كثيرة بعضها مفتعل من المهيمنين على السوق أو من المحتكرين للسلع أو الأوراق المالية فيها كإشاعة كاذبة أو نحوها. وهنا تكمن الخطورة المحظورة شرعاً لأن ذلك يؤدي إلى تقلبات غير طبيعية في الأسعار مما يؤثر على الحياة الاقتصادية تأثيراً سيئاً.

وعلى سبيل المثال لا الحصر: يعمد كبار الممولين إلى طرح مجموعة من الأوراق المالية من اسهم أو سندات قروض، فيهبط سعرها لكثرة العرض فيسار صغار حملة هذه الأوراق إلى بيعها بسعر أقل خشية هبوط سعرها أكثر من ذلك وزيادة خسارتهم فيهبط سهرها مجدداً بزيادة عرضها فيعود الكبار إلى شراء هذه الأوراق بسعر أقل بغية رفع سعرها بكثرة الطلب وينتهي الأمر بتحقيق مكاسب للكبار وإلحاق خسائر فادحة بالكثرة الغالبة، وهو صغار حملة الأوراق المالية نتيجة خداعهم بطرح غير حقيقي لأوراق مماثلة. ويجري مثل ذلك أيضاً في سوق البضائع.

ولذلك قد أثارت سوق البورصة جدلاً كبيراً بين الاقتصاديين والسبب في ذلك أنها سببت – في فترة معينة من تاريخ العالم الاقتصادي – ضياع ثروات ضخمة في وقت قصير بينما سببت غنى للآخرين دون جهد حتى أنهم في الأزمات الكبيرة التي اجتاحت العالم طالب الكثيرون بإلغائها ؛إذ تذهب بسببها ثروات، وتنهار أوضاع اقتصادية في الهاوية، وبوقت سريع كما يحصل في الزلازل والانخسافات الأرضية.

لذلك كله، فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي، بعد اطلاعه على حقيقة سوق الأوراق المالية والبضائع( البورصة) وما يجري فيها من عقود عاجلة وآجلة على الاسهم وسندات القروض والبضائع والعملات الورقية ومناقشتها في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية يقرر ما يلي:

أولاًأن غاية السوق المالية (البورصة) هي إيجاد سوق مستمرة ودائمة يتلاقى فيها العرض والطلب والمتعاملون بيعاً وشراءً وهذا أمر جيد ومفيد ويمنع أستغلال المحترفين للغافلين والمسترسلين الذين يحتاجون إلى بيع أو شراء، ولا يعرفون حقيقة الأسعار، ولا يعرفون المحتاج إلى البيع ومن هو المحتاج للشراء.

ولكن هذه المصلحة الواضحة يواكبها في الأسواق المذكورة (البورصة) أنواع من الصفقات المحظورة شرعاً والمقامرة والاستغلال وأكل أموال الناس بالباطل

ولذلك لا يمكن إعطاء حكم شرعي عام بشأنها ؛بل يجب بيان حكم المعاملات التي تجري فيها، كل واحدة منها على حدة.

ثانياًأن العقود العاجلة على السلع الحاضرة الموجودة في ملك البائع التي يجري فيها القبض- فيما يشترط له القبض في مجلس العقد شرعاً- هي عقود جائزة، مالم تكن عقوداً على محرم شرعاً، أما إذا لم يكن المبيع في ملك البائع فيجب أن تتوفر فيه شروط بيع السلم، ثم لا يجوز للمشتري بعد ذلك بيعه قبل قبضه.

ثالثاًأن العقود العاجلة على أسهم الشركات والمؤسسات حيث تكون تلك الأسهم في ملك البائع جائزة شرعاً، ما لم تكن تلك الشركات أو المؤسسات موضوع تعاملها محرم شرعاً كشركات البنوك الربوية وشركات الخمور، فحينئذ يحرم التعاقد في اسهمها بيعاً وشراءً.

رابعاًأن العقود العاجلة والآجلة على سندات القروض بفائدة بمختلف أنواعها غير جائزة شرعاً، لأنها معاملات تجري بالربا المحرم.

خامساًأن العقود الآجلة بأنواعها، التي تجري على المكشوف، أي على الاسهم والسلع التي ليست في ملك البائع، بالكيفية التي تجري في السوق المالية

(البورصةغير جائزة شرعاً؛ لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك أعتماداً على أنه سيشتريه فيما بعد ويسلمه في الموعد.وهذا منهي عنه شرعاً لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:” لا تبع ما ليس عندك”،وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داوود بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه:” أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم“.

سادساًليست العقود الآجلة في السوق المالية (البورصة) من قبيل بيع السلم الجائز في الشريعة الإسلامية،وذلك للفرق بينهما من وجهين:

أ – في السوق المالية(البورصة) لا يدفع الثمن في العقود الآجلة في مجلس العقد، وإنما يؤجل دفع الثمن إلى موعد التصفية،بينما الثمن في بيع السلم يجب أن يدفع في مجلس العقد.

ب – في السوق المالية(البورصةتباع السلعة المتعاقد عليها وهي في ذمة البائع الأول-وقبل أن يحوز المشتري الأول– عدة بيوعات وليس الغرض من ذلك إلا قبض أو دفع فروق الأسعار بين البائعين والمشتريين غير الفعليين،مخاطرة منهم على الكسب والربح،كالمقامرة سواء بسواء بينما لا يجوز بيع المبيع في عقد السلم قبل قبضه.

وبناء على ما تقدم يرى المجمع الفقهي الإسلامي أنه يجب على المسئولين في البلاد الإسلامية ألا يتركوا أسواق البورصة في بلادهم حرة تتعامل كيف تشاء في عقود وصفقات ؛سواء أكانت جائزة أم محرمة،وألا يتركوا للمتلاعبين بالاسعار فيها أن يفعلوا مايشاؤون،بل يوجبوا فيها مراعاة الطرق المشروعة في الصفقات التي تعقد فيها، ويمنعوا العقود غير الجائزة شرعاً؛ ليحولوا دون التلاعب الذي يجر إلى الكوارث المالية ويخرب الاقتصاد العام، ويلحق النكبات بالكثيرين ؛لأن الخير كل الخير في التزام طريق الشريعة الإسلامية في كل شئ،قال الله تعالى:” وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون“.

والله سبحانه هو ولي التوفيق، والهادي إلى سواء السبيل وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

إن قرارات المجمعين استوعبت كثيراً من الصور التي يقع بها التعامل في البورصات وأصدرت عليها احكاماً بالقبول أو الرد.

إلا أن لدي ثلاثة ملاحظات على القرارات السالفة الذكر وهي:

 

الملاحظة الأولى:

مسألة منع بيع المسلم فيه قبل القبض، وتداول السند الممثل للسلعة المسلم فيها مثال ذلك أن يشتري شخص سلماً كمية من البترول أو الحديد أو النحاس،لتسلم له بعد أربعة أشهر،ويستلم سنداً (وثيقة بدين) تمثل هذه الكمية فلا خلاف بين المجمعين في أنه لا يجوز أن يبيع هذه الكمية حتى يقبضها وبالتالي فإن هذا السند لا يمكن تداوله كما هو الحال في البورصات.

وتعليقاً على هذا –مع الاحترام لقرار المجمعين- أن هذا العقد صحيح ويمكن تداول السندات الممثلة لدين السلم قبل القبض بناء على مذهب مالك والاوزاعي في جواز بيع سلع الدين قبل قبضها وقبل حلول أجلها بما فيها دين السلم ما لم تكن طعاماً. وإليكم النصوص التالية:

قال مالك في الموطأ:( ومن سلف في سلعة إلى أجل وتلك السلعة مما لا يؤكل ولا يشرب فإن المشتري يبيعها ممن شاء بنقد أو عرض قبل أن يستوفيها من غير صاحبها الذي اشتراها منه ولا ينبغي له أن يبيعها من الذي ابتاعها منه إلا بعرض يقبضه ولا يؤخره).

قال القاضي عبدالوهاب البغدادي في المعونة:( وما عدا الطعام والشراب من سائر العروض والعبيد والحيوان والعقار وما ينقل ويحول وما لا ينقل ولا يحول وما يكال وما لا يكال وما يوزن ومالا يوزن كان عيناً معينة أو سلماً مضموناً في الذمة فبيعه قبل قبضه جائز) ص 973.

وقد جمع مالك بين احاديث الباب بأن ردها كلها إلى معنى الطعام. قال أبو عمر بن عبدالبر في حديث حكيم:(ياابن أخي إذا اشتريت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه) حمل الشافعي والثوري هذا الحديث على عمومه في كل بيع وجعله مالك ومن تبعه مجملاً يفسره قوله صلى الله عليه وسلم:(من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه) وكذلك حملوا ربح ما لم يضمن على الطعام وحده.

وقال عيسىسألت ابن القاسم عن ربح ما لم يضمن؟ فقال:ذكر مالك أن ذلك بيع الطعام قبل أن يستوفيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وربحه حرام. قال وأما غير الطعام من العروض والحيوان والثياب فإن ربحها حلال لا بأس به لأن بيعها قبل استيفائها حلال.

وكذلك قال مالك وقال ابن وهب عن مالك: أرى أن ربح ما لم يضمن: بيع الطعام قبل أن يستوفي وبيع كل ما ابتاع المرء بالخيار شهراً أو شهرين أو أقل أو أكثر من ذلك وكل ما تضمنته من البائع والله أعلم.الإستذكار ج19ص262.

وحجة مالك ومن قال بقوله في هذا الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خص الكعام ألا يبيعه كل من ابتاعه حتى يستوفيه ويقبضه فإدخال غير الطعام في معناه ليس بأصل ولا قياس لأنه زيادة على النص بغير نص……..)

وأما حديث حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إذا ابتعت بيعة فلا تبعه حتى تقبضه) فإنما أراد الطعام بدليل رواية الحافظ لحديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:(إذا ابتعت طعاماً فلا تبعه حتى تقبضه) الاستذكار ج 20 ص 154.

قلت ووجه الحمل واضح حيث حمل العام على الخاص وهو أمر معهود عند الاصوليين.

ولهذا فإن الفتوى هنا في ديار الاقليات ينبغي أن تكون بمذهب مالك والاوزاعي وهو رواية عن أحمد وتوسعة على العباد وترجيحاً يستند إلى قاعدة التيسير.

أما الملاحظة الثانية:

وتتعلق بصيغة هي الاكثر شيوعاً في البورصات وهي العقد على سلعة مؤجلة الا أن المشتري لا يدفع الثمن عاجلاً وهذا يسمى “بتأجيل البدلين” ولا خلاف بين المجامع في تحريم هذا العقد إلا أنه توجد عقود صححها العلماء وفيها تأجيل البدلين من ذلك بيع أهل المدينة وهي أن تشتري من دائم العمل كالخباز مثلاً ما يحتاج إليه من الخبز شهرياً على أن تدفع له الثمن في نهاية الشهر ويبدأ بتسليم السلعة شيئاً فشيئاً ويسمى ذلك بالاستجرار والمالكية خرجوه على أن قبض الأوائل ينزل منزلة الأواخر،كما أن جواز تأجيل البدلين في عقد الاستصناع أمر معروف وبخاصة في المذهبين المالكي والحنفي كما روى أشهب عن مالك جواز فسخ الدين في منافع الاجارة وهي منافع يتأخر قبضها.

ولا يختلف أكثر أهل العلم في تحريم السلم مع تأجيل البدلين وهو ما يسمى بالنسئة من الطرفين الذي قال عنه ابن رشد في البداية:فأما النسيئة من الطرفين فلا يجوز بإجماع لا في العين ولا في الذمة لأنه الدين بالدين المنهي عنه).

إلا أن التحريم ليس منصوصاً في كتاب ولا سنة وكلمة من أسلف التي وردت في الحديث يصدق على العقد كما تصدق على النقد، ولأن العلة هي الغرر فإذا انتفت عن طريق توثيق البيع في البورصة التي تمثل طرفاً ثالثاً يضمن إيصال كل ذي حق لحقه واعتبرنا أن السلم مستثنى من بيع ما ليس عندك بنص الشارع للحاجة والرفق بالناس فهذا من السلم الذي يحتاج إليه الناس.

أضف إلى ذلك أن مالكاً لا يوجب نقد ثمن السلم (رأس المال) في المجلس بل يجوز تأخيره عنده بالشرط إلى ثلاث وبدون شرط مطلقاً فهذا داخل في العقود المباحة(وأحل الله البيع). وجواز تأجيل البدلين قول سعيد بن المسيب كما نص عليه ابن يونس في جامعه، وابن المسيب اعلم التابعين بالبيوع، وهو أفضل التابعين كما يقول الإمام أحمد رحمه الله واتفق المحدثون والفقهاء على قبول حديثه المرسل وليست هذه الخاصية لغير سعيد رضي الله عنه والحق بعضهم الحسن البصري.

ثم أن عمدة الجمهور هو حديث النهي عن التكالئ بالتكالئ وهو حديث لم يثبت كما صرح به الحافظ وقال أحمد ليس في هذا حديث يصح.

ولو صح فإن العلماء اختلفوا في تفسير الكالئ فذهب المالكية أن معناه فسخ الدين في الدين أي أن يكون لك على شخص مائة ديناً إلى أجل فتبيعها له بمائة وعشرين إلى أجل أبعد فهذا هو فسخ الدين بالدين وهو الكالئ بالكالئ ولهذا اجازوا ابتداء الدين بالدين.

وقال ابن تيمية وهو يمدح مذهب المالكية( فأصول المالكية في البيوع أجود من أصول غيره فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال:هو أفقه الناس في البيوع كما كان يقال عطاء افقه الناس في المناسك وإبراهيم افقههم في الصلاة والحسن اجمعهم لذلك كلهلهذا وافق أحمد كل واحد في أغلب ما فضل فيه لمن استقر ذلك من اجوبة وأحمد موافق لكالك في ذلك في الأغلب) الفتاوىج29ص26-27.

الملاحظة الثاثة:

اشكال بيع الخيار الذي منعته المجامع والذي يذهب أكثر الفقهاء المعاصرين إلى تحريمه بناء على أنه ليس متمولاً وأن المالية لا تثبت الا بالتمول والتمول حيازة الشئ واحرازه).

على حد عبارة الاحناف فيشترط إمكان الحيازة وإمكان الانتفاع به على وجه معتاد.واذا كان غير الحنفية جعلوا المنافع مالاً وإن كانت لا تحاز مستقلة فحيازتها بحيازة أصلها ومصدرها.

إلا ان المالكية قد أجازوا المعاوضة في بعض المعاملات فقالوا عن ابن رشد إذا قال شخص يسوم سلعة لأخر يريد أن يسومها: كف عني ولك دينار جاز ولزمه الدينار اشترى أو لم يشتر ولو قال كف عني ولك بعضها على وجه الشركة جاز)

واستشكل ابن ملال ماقاله ابن رشد من جواز المعاوضة على ترك الزيادة قائلاً أنه من أكل اموال الناس بالباطل وقال ابن عبدوس: لا اشكال فيه لانه عوض على ترك وقد ترك) يراجع الزرقاني والبناني على هامشه ج5ص90-91.

ويجري على هذه المسألة من اراد أن يتزوج امرأة فقال له آخر كف عن خطبتها ولك كذا)

وكذلك”جواز أخذ شئ من دراهم ونحوها في نظير إباحة صيد من بركة ماء” حسب عبارة الزرقاني ج 5 ص222.

قلت ومعلوم بأن السمك في الماء لا يجوز بيعه لأنه من الغرر والجهالة ولكن حق الاصطياد تجوز المعاوضة فيه.

لعل هذه الفروع عند المالكية تدل على أن العقود يمكن أن ترد على فعل أو ترك امتياز مما يرغب فيع المتعاقدان ويحقق لهما مصلحة. والله تعالى أعلم.

خلاصة البحث:

فتحصل من هذا أن ما يجري في البورصات:

 – 1إذا كان اشتراء لأسهم شركات فهو جائز أياً كانت عقارية أو صناعية أو تجارية ذات أصول لا يغلب على رأس مالها الدين وكان الثمن معجلاً. سواء كانت في طور التأسيس أو قائمة بالفعل باعتبار صك السهم انما يعتبر وثيقة بحصة شائعة في موجودات الشركة.

 -2 إن أسهم الشركات التي تتعامل بالحرام أو في حرام لا يجوز اشتراؤها ولا يجوز الاقتراض الربوي لشراء الاسهم.

 -3 تفاصيل ضمان الاسهم وتقسيط السداد والسهم لحامله لا مانع منها طبقاً لما ورد في قرارات المجمع.

 -4 البيع العاجل ثمناً ومثمناً مع وجود السلع أو ايصالات ممثلة لها بشروط البيع المعروفة ويمكن أن تضمن العقد ضمان هيئة السوق.

 -5 بيع السلعة المشتراة قبل قبضها –إذا لم تكن طعاماً- وتداولها على مذهب مالك عكساً لما ورد في قرارات المجمعين.

 -6 جواز تأجيل البدلين بأن يكون العقد على سلعة آجلة ليكون تسلم السلعة مقروناً بتسليم الثمن للأدلة التي ذكرناها عكساً لما ورد في قرارات المجمعين.

 -7 جواز اشتراء حق الخيار لكن لا يمكن تمديد أجل الخيار أو تأخير التسليم مقابل عوض لأنه من باب أما أن تقضي أو تربي.

 -8 تجب دراستها مع الاختفاظ في الوقت الحاضر بموقف المجمع الفقهي المتمثل في المنع.

أولاًمسألة الاسهم الممتازة التي لها خصائص تؤدي إلى ضمان رأس المال أو ضمان قدر من الربح.

ثانياًمسألة التصفية دون تسلم السلعة المتعاقد عليها.

هذه نتائج موجزة بنيناها على جهد مجامعنا الموقرة وأضفنا إليها بعض الاراء التي توخينا فيها أن لا تكون مصادمة لنص صريح من كتاب أو سنة أو قاعدة قطعية مع تقيدنا بالعزو إلى من يقتدى به من هذه الامة وبذلك نخلص أنفسنا من ربقة مخالفة الاجماع التي قد يتصورها المرء بادي ذي بدء. ورائدنا إن شاء الله هو التيسير في ظروف الاقليات التي هي ضروف ضرورة، أو حاجة تلامس الضرورة بناء على قاعدة رفع الحرج، وقاعدة تغير الاحكام بتغير الزمان وقاعدة تحكيم العرف الذي لا يصادم نصاً غير قائم عليه وقاعدة تحقيق المناط لتأصيل فقه التيسير فمن اختار العزيمة وآثر الاخذ بالاشد فذلك له وهو مأجور -إن شاء الله- بحسب نيته إلا أنه يطلب منه أن يتأمل وأن يتجنب إتهام من خالفه فمبدأ حسن الظن في الاختلافات الفرعية يجب أن يسود علاقات أعضاء المجامع الفقهية تطبيقاً لأدب الخلاف الرفيع الذي ورثناه عن السلف الصالح رحمهم الله تعالى.

وأود أن انبه على أن ما ذكرته ليس من باب الفتوى بل هو أراء معروضة أمام سماحة الرئيس حفظه الله تعالى وأعضاء المجلس المحترمين لمناقشة الموضوع وتقدير الحاجة. واستغفر الله العظيم ونسأله التوفيق في القول والعمل.

العلامة عبدالله بن بيه الدين والفن الجزء الخامس

محاضرة القيت في مهرجان جوائز المحبة عام 2008

معالم وضوابط التواصل مع الآخر ووسائله وآلياته

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه

 

                            ورقة معالي الشيخ عبد الله بن بيــّه المقدمة إلى مؤتمر                             

 نحن… والآخر” بدولة الكويت 6-8 مارس 2006 م 


     بناء على دعوة كريمة من وزارة الأوقاف الموقرة والتي تضمنت طلب بحث حول ” معالم وضوابط التواصل مع الآخر ووسائله وآلياته”. وبعد تقديم واجب الشكر والدعاء بالمثوبة والأجر لصاحب الدعوة يطيب لي أن أُقدم هذا البحث الذي سيكون في مقدمة وفصلين وخاتمة:

       أما المقدمة فإنها تؤكد على ضرورة البحث عن أسس للتواصل.

       بينما يكون الفصل الأول عن معالم وضوابط التواصل. 

       والفصل الثاني عن الوسائل والآليات. 

       ثم خاتمة هي خلاصة البحث.  

 

 

مقدمة:

هل هناك ضرورة للبحث عن أسس التواصل ؟

 

 إن التواصل هو تفاعل بين اثنين فأكثر فهو إقامة صلة مادية أو معنوية وهو باللغة الأجنبية Communication وتستعمل في حقيقتها الأولى لإقامة علاقة مع شخص ما. وقد نبه الكاتب الفرنسي دومينك ولتون في كتابه “العولمة الأخرى” إلى أن الإعلام مثلاً ليس هو التواصل قائلاً: أميز جيداً مصطلح أعلم: أخبر عن مصطلح تواصل لأن عولمة الإعلام توصلت إلى إعلام الناس بالأخبار لكنها لم تجعلهم يتواصلون ليتفاهموا بشكل أفضل”.

إن الإعلام بالتأكيد أداة من أدوات التواصل التي من أهمها الحوار الذي أصبح ضرورة وواجبا مقدساً فقد بلغ السيل الزبى فإذا كان التواصل يفترض وجود إشكاليات يراد التغلب عليها أو عقبات يرجى تجاوزها أو سوء فهم تُحاول إزالته فإن الجواب لا بد أن يكون إيجابياً والتواصل ضرورة في هذه المرحلة من التاريخ ليس فقط لوجود سوء فهم تاريخي لم تستطع لغة الاتصالات ووسائل المواصلات أن تمحوه من الذاكرة يضاف إليه حوادث عارضة تتهم فيها أطراف تنتمى إلى الإسلام على الرغم من أنها تتم بدون استشارة ولا إشارة من الغالبية العظمى من المسلمين.

 وهكذا انضاف إلى السخيمة التاريخية المتراكمة ركام حوادث تحولت إلى أحداث مدوية فصدَّق كهانُ صدام الحضارة ظنهم وتحولت الكهانة إلى كارثة 

  فما هو أصل سوء الفهم هذا أو سوء الظن ذلك ؟

 فلنقل أولاً: إن الاحتكاك طبيعي بين الجيران وهذا الاحتكاك قد يتحول إلى معارك حول “البحيرة” البحر الأبيض فكان كل من الجيران يجتاز البحر هذا الحاجز المائي أو الواصل المائي إلى الضفة الأخرى فكان ما قدره بعض الباحثين بـ 3000 معركة كبرى.

إذ أن ظهور الإسلام في القرن السابع كقوة -حضارية وروحية وإمبراطورية – عازلة بين أوربا وإفريقيا وتخوم آسيا وما تلا ذلك من أحداث امتدت فصولها عبر قرون بدأت بفتح الشام وباقتطاع جنوب المتوسط عن الإمبراطورية الرومانية والاستيلاء على الأندلس وفتح القسطينطنية جعلت الإسلام يشار إليه في الغرب بأنه العدو الأكبر والعدو اللدود الذي يجب القضاء عليه بكل السبل العسكرية والثقافية واستعمال أسلحة السب والتشهير ووجدت تلك الألفاظ البذيئة والصفات المقيتة طريقها إلى ما يسمى “بالكتاب التنويريين” من أمثال دانتي وجان جاك روسو وفولتير وغيرهم ليكرسوا صورة نمطية سيئة للإسلام والمسلمين.

وهكذا نشبت الحروب الصليبية و”الاستردادية” بعد نداء البابا اوربان 1059م.

ولم يكن سقوط الأندلس في نهاية القرن الخامس عشر وتراجع الجيش التركي عند أسوار فيينا 1683م إلا بداية للمد الاستعماري الغربي وبقية القصة معروفة وقد انتهت بإنشاء دولة إسرائيل في قلب العالم العربي.          

  وهناك سبب آخر انتبه له بعض الكتاب الغربيين – مارسل بوزار- وسماه بعقدة الأقارب باعتبار أن الأقارب هم أقل الناس تفاهما فالمسيحي يجد في الإسلام أشياء كثيرة تذكر بدينه وأفكارا قريبة جدا من أفكاره .

 فإذا كان المسيحيون أظهروا تسامحا إزاء الأديان السابقة أنبياء اليهود فقد قابلوا الإسلام الذي ظهر لاحقا بالرفض المطلق فقد اعتبروه انحرافا للنصرانية وقد كانوا يظنون أن بإمكانهم تشويه الإسلام و انشأوا لذلك الاستشراق الذي كان يحاول أن يعرف الإسلام معرفة جيدة ليحاربه محاربة جيدة كما يقول بوزار. وإذا كنا في شك من النوايا المبيتة ضد الإسلام في الدراسات الاستشراقية فما علينا إلا أن نراجع خطاب أرنست رينان الذي ألقاه في كوليج دي فرانس في 23فبراير1862حيث يقول: في هذا الوقت المناسب إن الشرط الأساسي لتمكين الحضارة الأوربية من الإنشاء هو تدمير كل ماله علاقة بالسامية ألحقة تدمير سلطة الإسلام التيوقراطية لان الإسلام لا يستطيع أن يعتبر إلا كدين رسمي وعندما يختزل إلى وضع دين فردي فإنه سينقرض هذه الحرب الدائمة الحرب التي لن تتوقف إلا عند ما يموت آخر أولاد إسماعيل  بؤسا أو يرغمه الإرهاب علي أن ينتبذ في الصحراء مكاناً قصياً .

 إن الإسلام هو التعصب إن الإسلام هو احتقار العلم ،هو القضاء على المجتمع المدني,انه سذاجة الفكر السامي المرعبة, إنه يضيق الفكر الإنساني, يغلقه دون كل فكرة دقيقة, دون كل عاطفة لطيفة, ودون كل بحث عقلاني ..  إلى آخر كلامه.        

 إنه تصريح لا يحتاج إلى تفسير وإن كل تعقيب من شأنه إضعاف النص كما يقول المستشرق الفرنسي المنصف فنسان مونتاي (يراجع كتاب الإسلام اليوم-منشورات اليونسكو)

 ومع الأسف فإن رواسب هذا الحقد أو”الجهل” لنسميه باسمه مازالت في الكتب المدرسية في الغرب لتُلقِن الأجيال دائما تلك الصورة المشوهة عن الإسلام وهكذا فإن لجنة من جمعية دراسات الشرق الأوسط في الولايات المتحدة أبرزت الأخطاء التي تتضمنها الكتب المدرسية في الوقائع المتعلقة بالإسلام والمسلمين والعرب يراجع هذا التقرير فهو لا يحتاج إلى تعليق .

  فالإسلام قلما يقدم كإحدى ديانات التوحيد الكبرى  

وكذلك أجريت دراسة في فرنسا فأظهرت نتائج مزعجة وتحاول بعض التعديلات التربوية أن تعالج السببين الرئيسين لتشويه الإسلام وهما النسيان أو التناسي وتكرار القوالب المغلوطة وكذلك الصورة في وسائل الإعلام. – يراجع “الإسلام اليوم”.

كما أن أعمالاً مأساوية وعبثية في نفس الوقت يقوم بها أشخاص ينتمون إلى الإسلام – إذا صح أنهم قاموا بها- دون أي توكيل من سلطة دينية أو زمنية تضاعف من سوء الفهم لتوصله إلى الذروة وتخرج نظريات السوء من خزائن كهان الفتن إلى ذرى المنابر السياسية لتتحول إلى مكاتب وزارات الدفاع فتصبح أساطيل تمخر البحار وطائرات تسبح في الأجواء وصواريخ تتحرى الإطلاق وأصابع على الزناد تزرع الدمار- أطلقت الصواريخ بالفعل وأزهقت الأرواح البريئة والمتهمة في مناطق عدة من العالم الإسلامي ولم تصل القصة إلى نهاية بعد-  إذا كانت هذه اللوحة السوداء الحمراء هي التي تبرز الآن فإن الحوار ضروري لإنقاذ أنفسنا وإنقاذ الغرب من نفسه.

إذ الغرب كما يقول المؤرخ توينبى : عرض حياة الآخرين لعدم الاستقرار وأن قوة الغرب عرضت نمط حياته هو نفسه للخطر نظرا لانعدام الكوابح والرقابة اليقظة .

 والبلدان الغربية مصممة تصميما شيطانيا- حسب عبارته- على متابعة هذا السياق الفاجع فلم يعد من الوارد أن يعود إليه الوعي لينقذ نفسه من المصير المحتوم وينقذ معه باقي الإنسانية وإذا كان لا بد من إعادة الاستقرار إلى حياة الإنسانية التي جعلها الغرب حائرة وإذا كان لا بد من تخفيف غلواء الديناميكية الغربية لجعلها قوة تهب الحياة لا الدماء فلا بد من البحث عن موجهى هذه الحركة من خارج الغرب. ( حركات التاريخ الكبرى عبر العصور)

ليس من الضروري أن نوافق توينبي على تقويمه للحضارة الغربية لأن الحضارة الغربية ككل حضارة ذات أوجه وألوان وأطياف فهي حضارة التكنولوجيا والعلوم والديمقراطية وحقوق الإنسان ولكنها في نفس الوقت تلغى حضارة الآخر وتضيق ذرعا بالتنوع الحضاري وأحيانا تحاول فرض توجهها العلماني على الآخر وتكرس اقتصاد السوق على حساب فقراء العالم الثالث فكيف أكون معها أو ضدها ؟  

 لكن من الأكيد أن كل الحضارات مدعوة للتعاون لإنقاذ البشرية من النزوات الضارة مهما كان مصدرها.  

إن الغاية من هذا التواصل هو البحث عن نقاط الالتقاء عن طريق المنطق والعقل والفهم للوصول إلى أرضية مشتركة تعتمد على المصالح المتبادلة تكشف عن زيف رواسب التعصب التي تشوه صورة الإسلام والمسلمين.

والغاية الأخرى هي المثاقفة والتلاقح الفكري الذي يسمح بالتأثر والتأثير وليحل التسامح محل نظرة الاستعلاء والتفوق لدى قطاع كبير من قادة الفكر في الغرب وهي نظرة تتلخص في إقصاء الآخر كما شرحتها الكاتبة الفرنسية صوفي بسيس في كتابها ” الغرب والآخر”.

ونتيجة لهذه النظرة الاستعلائية يحاول الغرب جاهداً أن يفرض رؤيته على الآخرين ولا يعترف بحق التنوع والاختلاف ومن لم يقبل بذلك فهو من معسكر الشر لأن العالم ينقسم إلى أخيار وأشرار وعلى هذه الأساس تقوم فكرة صراع الحضارات التي تعتبر الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي لا تزال العصية على الاحتواء الغربي وعلى الحداثة. كما يقول فوكوياما وهو لا يختلف في ذلك عن صاموئل هانتغتون.

إن الإيحاء بحتمية الصدام نتيجة تنوع الحضارات إنما هو دليل على فشل إحدى الحضارتين في أن تدرك أهمية الاعتراف بحق التنوع وهو الحق الذي سيكون أساسا للحوار ووسيلة التعارف.

 وهكذا فإن مفهوم التواصل يتقدم ليواجه مفهوم الصدام ولقد اخترعت بعض الدوائر الغربية ما سمته “بالحوار النقدي” مع بعض الدول الأخرى.

فالهدف الأسمى من الحوار والتواصل هو إيجاد خرق في جدار هذا التصور الغالي المتطرف، الذي لن يؤدي إلا إلى تطرف وغلو وصدام، ففي المثل: من يزرع الريح لن يحصد إلا العاصفة.

إن أوضح مثال على هذا التباين هو موقف الكثير من المثقفين في الغرب من الرسوم الرامية إلى الإساءة إلى صورة سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنهم إذا لم يؤيدوا الإساءة صراحة فإنهم يمتعضون من رد فعل العالم الإسلامي ويعتبرون أن ما تقوم به الصحيفة أمر طبيعي يدخل في حرية التعبير.

إن عملية التواصل ستحاول تجاوز الحاجز النفسي والثقافي ومد الجسور بين الحضارات لجعل الآخر يفهم البدائل المتاحة عن للصراع الدائم والعقيم في نفس الوقت.              

الفصل الأول: معالم التواصل وشروطه.

إن أول معالم التواصل التي يجب أن يركز عليها هو معلم الاعتراف بالاختلاف والتنوع الثقافي والحضاري الذي لا يعني القطعية بين الحضارات والتقوقع على الذات والفصام بين الحضارات فهناك جوامع بين الحضارات وإنما يعني أن يكون نقطة البداية حتى يكون الطرفان على درجة من الاستعداد النفسي لاستيعاب الاختلاف وتحييد أسباب الصراع ليتحول الاختلاف إلى إثراء وليس إلى عداء ذلك هو الشرط الذي لا غنى عنه.

لهذا فالاختلاف سنة كونية قال تعالى ﴿ ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ﴾

قال تعالى﴿ ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود… ﴾

إن الاختلاف الذي نؤكد عليه هو اختلاف في القيم والرؤى والأعراف والقوانين والثقافات وأيضا السياسات والمصالح.

وهو أمر يضيق به الكثير من الغربيين ذرعاً ولهذا فعلينا أن نؤكد مشروعيته.

ونبرز بعض نقاط الاختلاف في القيم بين الفكر الإسلامي والحضارة الغربية لأن الاعتراف بها يمثل منطلقاً جيداً للحوار.

لعل أهم نقاط الاختلاف ترجع إلى اختلاف في القيم.

وأهم وثيقة تحظى بالإجماع هي: إعلان حقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948م لم تسلم من تجاهل خصائص الحضارات الأخرى ، وإغفال التنوع الذي يقوم على الخصائص الثقافية ، التي تفترض التعددية في النظم ومن خلال وقفات مع هذه الوثيقة تلمح بعض أوجه الاختلاف مع الغرب.

لنؤكد على حق شعوب العالم الإسلامي في أن تطالب بالتعددية الحضارية ، استنباطاً من قوله تعالى] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [()

فالآية تشير إلى تعددية تمد من فوقها جسور التعارف والتعايش ، وإذا أصر الغرب على العالمية وأصرت الحضارة الإسلامية على العالمية – وهي كذلك حتمًا – وقد اعترف فوكوياما بالصفة العالمية للحضارة الإسلامية في كتابه نهاية التاريخ .

فيمكن للحوار من خلال العالميتين أن يوصلنا إلى شيء من النسبية لهذا سنتعرض لبعض أوجه الاختلاف التي تمثل خلفية الاختلاف القيمي مع الغرب.

أولاً: مصدر الحقوق:

في المادة الأولى : “يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة وقد وهبوا عقلاً وضميرًا” .

ما أصل هذه الكرامة ؟ من هو الفاعل المجهول في وهبوا ؟ لقد سماها الإعلان الفرنسي حقوقًا مدنية ؛ حيث ينص في مقدمته على الآتي : لما كان جهل أو نسيان أو ازدراء حقوق الإنسان هي الأسباب الوحيدة للمصائب العامة ولفساد الحكومات قرر ممثلو الشعب الفرنسي المجتمعون في جمعية عمومية عرض الحقوق الطبيعية المقدسة وغير القابلة للتصرف في إعلان مهيب ؛ لكي يبقى هذا الإعلان حاضرًا ، ونصب أعين جميع أعضاء الجسم الاجتماعي فيذكرهم بحقوقهم .

فهكذا اعتبرها حقوقًا طبيعية ومقدسة ولكن من قدسها ؟

ويقول هيكتور جروس إشبيل – وزير خارجية أورجواي الأسبق ورئيس محكمة حقوق الإنسان الأمريكية -: إن الأساس العالمي لهذه الحقوق هو الكرامة الكامنة في الكائنات البشرية”.

من أعطى هذه الكرامة ؟ من أودعها في الإنسان ؟

ذلك ما تجنبه ميثاق حقوق الإنسان العالمي ، بل إنه في المناقشات التي دارت في اللجنة التحضيرية لميثاق حقوق الإنسان رُفضت الإشارةُ إلى الله تعالى وإلى كلمة “الخلق” وما تصرف منها ، كما يقول في مذكراته الأستاذ شارك مالك – الحقوقي اللبناني والعضو في اللجنة التحضيرية لإعلان حقوق الإنسان – حيث كانت النتيجة هي اعتبار الإنسان نفسه مركزيًّا وكأنه هو الله تعالى وتقدس.

أما المرجعية الإسلامية فهي إلهية ، وهذا ما جاء في القرآن الكريم حيث يقول سبحانه وتعالى : ] وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ[ () .

ولهذا صرح إعلان القاهرة عن حقوق الإنسان في الإسلام في المادة الثانية :”الحياة هبة من الله ، وهي مكفولة لكل إنسان”.

هذه الهبة التي وردت في الإعلان العالمي غير مسندة إلى أحد ، فمصدر تعيين الحقوق الكبرى الخمس هو الله سبحانه وتعالى ، بينما المصدر في الإعلان العالمي إنساني ، والمصدر في الإسلام رباني حيث ترجع ثوابت الحقوق إلى الكليات الخمس وتدور في فلكها.

لكن ذلك لا يستبعد دور الإنسان ولكنه يحجمه وبخاصة في مجال الأخلاق والسلوك حيث توجد ثوابت دينية قوية تحدد إطارا حقوقيا وبخاصة في تقسيم الحقوق إلى حق لله تعالى وحق للآدمي ممنوح من البارئ الذي منحه الكرامة (ولقد كرمنا بنى آدم ) بينما في النظرة الغربية التي ترجمها إعلان حقوق الإنسان سنة 1948م ” حقوق الإنسان هي إنسانية فالإنسان هو الذي منح نفسه هذه الحقوق والمادة الأولى من الإعلان تقول: يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة وقد وهبوا عقلا وضميرا”

 

ثانياً : وانطلاقًا من ذلك نشأ اختلاف في بعض المفاهيم :

مفهوم الترجيح بين الحق الجمعي أو حق الجماعة وبين حق الفرد :

بينما تبدو النظرة الغربية أكثر ميلاً وترجيحًا لحق الفرد أو مصلحة الفرد تكون النظرة الإسلامية أكثر توازنًا ، فهي تقوم على أساس أن الحرية تساوي المسؤولية ، أي مسؤولية الفرد تجاه نفسه وتجاه غيره: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” ،
] وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ [() . وإن الفرد ينظر إلى مصالحه ومفاسده من خلال جهته الفردية ومن خلال علاقته بالمجتمع: ] وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [() ، فلا يجوز أن يضر نفسه ، ولا أن يتسبب في ضرر غيره.

 وقد شبه r تعسف الفرد في استعمال حقه في الحرية وحق الجماعة في الحد من هذه الحرية لمصلحة الجميع بأصحاب السفينة ، وذلك في الحديث : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا ؛ فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا” () .

إن هذا الحديث يدل على أهمية حق الجماعة وترجيحه على حرية الفرد لصالح الجماعة والفرد معًا ، وإن الحدود الشرعية إنما جاءت لحماية الجماعة والمجتمع .

وكذلك في الحديث : “لا ضرر ولا ضرار” ، ومن القواعد : “دفع الضرر العام مقدم على دفع الضرر الخاص” ، و “وارتكاب أخف الضررين” ،  “تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة” .

أما النظرة الغربية فإنها أكثر انحيازا إلى الفرد.

ثالثًا: مفهوم النظام العام :

وقد لا يبعد عن هذا المفهوم ما نسميه في الإسلام بالمعروف ” ، أو “قاعدة المصلحة” على اختلاف في المدلولين ، وقد أشار إليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كشرط من شروط التطبيق الميداني لمقتضيات الإعلان في المادة التاسعة والعشرين : “يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط ؛ لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها ، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي”.

وقد فسر القانونيون النظام العام بأنه : أمر يتعلق بتحقيق مصلحة عامة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تتعلق بنظام المجتمع الأعلى ، ولا نستطيع أن نحصر النظام العام في دائرة دون أخرى ، فهو أمر متغير يضيق ويتسع حسبما يعده الناس في حضارة معينة مصلحة عامة ، ولا توجد قاعدة ثابتة تحدد النظام العام تحديدًا مطلقًا يتماشى مع كل زمان ومكان ؛ لأن النظام العام شيء نسبي ، وكل ما نستطيعه هو أن نضع معيارًا مرنًا يكون معيارًا المصلحة العامة ، وتطبيق هذا المعيار في حضارة معينة يؤدي إلى نتائج غير التي نصل إليها في حضارة أخرى”. هذا ما يراه السنهوري.

إن تعريف السنهوري هو تعريف دقيق للنظام العام من كونه مبدأ يختلف من نظام إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى باعتباره راجعًا إلى النظام الأعلى للمجتمع ؛ ولهذا عبر عنه بعض القانونين الغربيين بأنه مبدأ غامض ، وأن هذا الغموض متعمد ليتيح للسلطات المعنية تقدير الحاجة إلى التدخل مثلاً ، فهو غموض يؤسس للمرونة التي يقصد المقنن إليها لتحقيق المصلحة المتوخاة .

ويرى السنهوري في كتابه “مصادر الحق” أن النظام العام يرادفه في الفقه الإسلامي “حق الله تعالى” في مقابل الحق الخاص ، وهو حق لا يمكن إسقاطه ولا العفو ، وبني على ذلك كثيرًا من المسائل الفقهية والقانونية مقارنة .

ومن أمثلة ذلك في الشريعة أنه لا يمكن أن يتنازل عن نسبه لينسب إلى غير
أبيه ، وكل العقود التي يعترض فيها الشرع على إرادة المتعاقدين: كالعقود الربوية ، والعقد على المحرمات : كالخمر ، والخنزير. (1/86 ) .

وسبق أن شرحنا أن النظام العام قد يرادف العرف ، وهذا حيث يوجد فراغ تشريعي ، وهو أكثر “النظام العام” عند الغربيين ؛ ولكنه قد يكون تطبيقا لنص
أو قاعدة ، وحينئذ يكون قريبًا من حق الله تعالى الذي أشار إليه العلامة السنهوري .

وقد أشار القانوني الفرنسي هنري كابتان إلى أن “النظام العام” قد يكون ناشئًا عن مبادئ غير مكتوبة “العرف” ومبادئ مكتوبة ؛ حيث يقول: إن النظام العام هو مجموعة المبادئ المكتوبة وغير المكتوبة ، التي تعتبر في النظام القضائي أساسية ؛ ولهذا فإنها تلغي أثر الإرادة الفردية ومفعول القوانين الأجنبية” .

أما الأستاذ كريستوف فيبيرا فيعرف النظام العام بما يلي: كل مجتمع يلزم أعضاءه باحترام مجموعة تضيق وتتسع من القواعد التي لها الأولوية المطلقة ، والتي يطلق عليها عبارة “النظام العام” ، فكلمة النظام (Ordre) توعز بفكرة التوجيه والأمر والترتيب ، وإضافة العمومي أو العام إليها تبرز أسبقية المصلحة العامة على المصلحة الشخصية الخاصة ( من بحثه النظام العام والمجلس الدستوري ) بالفرنسية .

ويقول كريستوف فينبر أيضا وهو المحاضر في جامعة روان بفرنسا: إن مبدأ النظام العام مبدأ غامض لأنه يختلف بحسب الوقائع والظروف والوضع المجتمعى وأصول وأهداف المجموعة تبعا للفلسفات والأخلاقيات والسياسيات”.

 – راجع بحثه القيم في دورية القانون الدستوري تحت عنوان: النظام العام في فقه قضاء المجلس الدستوري -باللغة الفرنسية ”

 ولهذا فالنظام العام يختلف بحسب الحضارات والمصالح والأخلاقيات لكل قوم فمن الطبيعي أن يختلف بين الإسلام وبين الحضارة الغربية ولأزيد الأمر وضوحاً أقدم مثالاً هو منع الحكومة البريطانية عرض فيلم يمس شخصية المسيح عليه السلام في بريطانيا بحجة أنه يسئ إلى النظام العام – حماية لمشاعر المسيحيين من الإساءة – وعندما رفعت بعض الجهات المهتمة بحقوق الإنسان دعوى  أمام محكمة حقوق الإنسان الأوربية  ضد قرار الحكومة البريطانية باعتبار هذا الحظر منافيا لحق الإنسان في التعبير عن رأيه ونشر رأيه إلى آخر الحقوق المكفولة أصدرت المحكمة قرارها في القضية المعروفة” وفقروف والمملكة المتحدة”أيدت المحكمة موقف الحكومة البريطانية وذلك في 25 نوفبر 1996 لاشتمال الفيلم على الشتم والوقاحة “. يراجع بحث الحقوقي الفرنسي جيل اندريان الأستاذ بكلية الحقوق برانسون تحت عنوان” تألق وفاقة النظام العام الأوربي” باللغة الفرنسية .

 ولكن بريطانيا نفسها دافعت عن سلمان رشدي في مفترياته المسيئة إلى مشاعر المسلمين مع ما اشتمل عليه من وقاحة وتفاهة انه منطق النظام العام والاختلاف الحضاري .

وعندما يشير إلى المبادئ غير المكتوبة فإنه يمنح للجهة التي تطبق القانون دورًا كبيرًا في تقدير نظرية “النظام العام” أو خلقها وكذلك للقاضي ؛ وهو ما يجعل النظام العام يدخل في فقه القضاء أو عمل المحاكم .

إن مجموع الحريات لا يمكن أن تكون مطلقة ، فلو كانت كذلك لأدت إلى فوضى من كل نوع . ومن هنا تبرز فكرة “النظام العام” .

إن وظيفة النظام تنحصر في ثلاثة أمور: كأداة تحديد الحريات هذه هي وظيفتها ، وكمعيار لأهلية السلطات للتدخل ، وكوسيلة لرقابة المجلس الدستوري .

والأمثلة على ذلك من قرارات المجلس الدستوري الفرنسي عديدة ، ومنها قرارات المجلس الدستوري في 25 / 1 / 1985م بصلاحية البرلمان في إعلان حالة الطوارئ في جزر  “نوفل كالدوني” ، وهى حالة ليست منصوصة في الدستور ، مع أنها تحد من الحريات الفردية ، وبرر المجلس ذلك بالمحافظة على النظام العام .

ومحكمة حقوق الإنسان الأوربي أيدت قرار السلطات التركية الذي يحظر حزب الرفاه الإسلامي ، وذكرت في حيثياتها أنه يدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ، وذلك مالا يتفق ومنظومة القيم الأوربية ، وبمعنى آخر “النظام العام الغربي” .

وقد أشرنا إلى قرار المحكمة بتأييد حظر الفيلم المسيء إلى المسيح عليه السلام.  

والمحكمة في كلتا الحالتين تحترم منظومة القيم الغربية التي تعتبر المسيح u مقدسًا ، وبالتالي فإن التضييق على حرية التعبير مشروع إذا كان يمس بتلك
القدسية ، انطلاقًا من مبدأ النظام العام ، بينما تعتبر شريعة الإسلام غير مقدسة طبقًا لنفس القيم الغربية ، فيجب تضييق نطاق حرية التعبير على من يطالبه بها.

وما موقف كثير من قادة الرأي في الغرب من الرسوم السيئة السمعة ببعيد.   

ذلك هو منطق النظام العام الغربي ، ولا يعنينا هنا أن نناقش الغربيين أو نبرز تناقض موقفهم نتيجة التعصب والاستعلاء ، بل نعتبر أن موقفهم ينسجم مع نظرتهم الخاصة ؛ ولكن عليهم أن يحترموا الآخر. وإذا كانوا قد مارسوا حقهم في التعامل مع مبدأ نظامهم العام فلا أقل من أن يعترفوا لغيرهم بحقه في ممارسة نفس المبدأ ، وأن يعترفوا في النهاية بالنسبية في مبدأ النظام العام ، فلكل أمة نظامها العام ومنظومتها القيمية ، وهكذا فإن مادة ( 27 ) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عندما تنص على تقييد الحريات المنصوص عليها في الإعلان عندما تتعارض مع “النظام العام” وهو يختلف من بيئة إلى بيئة وثقافة إلى ثقافة ، فقد يعتبر ذلك اعترافًا ضمنيًّا بتأثير التنوع الثقافي في حقوق الإنسان.

وعليهم أن يحترموا الآخر المسلم ونظرته إلى الكون والحياة ونظامه العام ومقدساته.

وهناك اختلافات في قوانين الأسرة وفي البيوع والمعاملات وتجريم بعض السلوكيات ترجع إلى اختلاف القيم.

تلك أمثلة عن بعض أوجه الاختلاف القيمي فما ظنك بالاختلاف الناشئ عن العنصرية المبطنة والحقد والكراهية فيما أصبح يعرف بالإسلاموفوبيا وتلك الناشئة عن المصالح بين دول الغرب وبين العالم الإسلامي في استغلال الموارد والاستثمار والتجارة.

إن الاعتراف بالاختلاف يمثل أهم منطلق لحل الخلاف ولعلنا نحتم بهذه الفقرات لفيلسوف غربي: فأفضل ما يعبر عن النسبية واعتماد القيم على البيئة هذه الفقرات لوايتهيد في كتابه مغامرات الأفكار حيث يقول: وتفاصيل هذه المقاييس الخلقية تتعلق بالظروف الاجتماعية الخاصة بالمحيط المرافق للحياة في زمن معين على الجانب الخصب من الصحراء العربية، والحياة على المنحدرات السفلى من جبال الهملايا، والحياة في سهول الصين أو سهول الهند، والحياة في دلتا أي نهر عظيم.

كما أن معني المقاييس متغير وغامض، فهناك مثلاً مفاهيم الملكية والعائلة والزواج والعقل، والله سبحانه وتعالى، فالسلوك الذي ينتج في محيط ما وفي مرحلة ما مقياسه المناسب من الإشباع المتوافق قد يكون في محيط آخر وفي مرحلة أخرى منحطًا انحطاطًا مدمرًا، ولكل مجتمع نمطه الخاص من الكمال وهو يحتمل صعوبات معينة حتمية في مرحلته.

وهكذا فإن المفهوم القائل بوجود مفاهيم تنظيمية معينة مضبوطة ضبطًا كافيًا لإيضاح تفاصيل السلوك لكل الكائنات العاقلة على الأرض، وفي كل كوكب آخر، وفي كل مجموعة شمسية، هو مفهوم يستحق الإهمال، فذلك هو مفهوم نمط واحد من الكمال يهدف إليه الكون كله”. ()

إلا أن هذه النسبية تقابلها قيم مطلقة وذلك هو المعلم الثاني: الذي يقابل الأول وهو البحث عن المشترك ليشكل أرضية للتفاهم    

فما هي القيم؟

إذا راجعنا ما يمكن أن يرادف هذه الكلمة في اللغات الغربية لوجدنا كلمة ETHIQUES التي تدل على مجموعة قواعد السلوك، كما نجد كلمة VALEUR باللغة الفرنسية، ومن معانيها ما يعتبر حقًا وجميلاً وخيرًا طبقًا لمعايير شخصية أو اجتماعية ويوظف كمعيار ومرجع لمبدأ خلقي.

أما ما تشير إليه الكلمة وتوحي به ظلالها في اللغة العربية، فالقيم جمع قيمة، وهي ما يكون به الشيء ذا ثمن أو فائدة، يقول المثل العربي: قيمة كل امرئ ما يحسنه”.

وتشير القيمة إلى الخصلة الحميدة والخلة الشريفة التي تحض الإنسان على الاتصاف بها كحرصه على اقتناء الأشياء ذات القيمة الثمينة والاحتفاظ بها، والقيمة ثمن الشيء الذي يقوم مقامه.

وترد القيم مفردًا مصدرًا، ومنه: ]دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ[ [إبراهيم:161]، في قراءة جماعة من القراء، وكذلك ورد في قوله تعالى: ]وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَمًا[[النساء:5]، في قراءة نافع، أي بها تقوم أموركم.

والشيء القيّم الذي له قيمة عظيمة مبالغة، وأصله قويم على رأي الفراء، وفيعل شاذ على رأي سيبويه، وقرأت طائفة ]دِينًا قِيَّمًا[ أي مستقيمًا أو كافيًا لمصالح العباد يقوم عليها.

وهي عند بعض الفلاسفة حكم يصدره الإنسان على الأشياء وينبع  منه الاعتراض والاحتجاج على الوجود كما هو قائم ومفروض لتحويل هذا الوجود وفق ما ينبغي أن يكون.

تبعًا لهذا الأصل اللغوي فإن القيم هي تلك المبادئ الخلقية التي تمتدح وتستحسن وتذم مخالفتها وتستهجن، ولعلنا لا نتوقف طويلاً عند وصف هذه المبادئ بأنها خلقية؛ لأن الأخلاق تحتاج إلى تعريف، وباختصار فهي تلك السجايا الكامنة في النفس، وهي أيضًا المظهر الخارجي لتلك السجايا.

وقد رأي بعضهم :أن الخلق هو صفة نفسية لا شيء خارجي، والمظهر الخارجي هو سلوك أو معاملة” ().

وإذا كان الأمر كذلك فلا يسمى قيمة إلا ما كان مستحسنًا على أن يحظى باستحسان عام ومستمر، فما يحبه شخص من طعام لا يمكن أن يُسمي قيمة، لكن هذا الاستحسان العام قد يكون قاصرًا على مجتمع معين أو يكون عامًا للبشرية كلها.

إن القيم الخاصة بالمجتمعات المعينة والتي مردها إلى العرف والعادة أو الدين أمر لا شك فيه، ولكن القيم العامة المشتركة أمر له أهميته.

إن تحرير محل النزاع كما يقول أهل الأصول هو: ما هو مركز القيمة؟ وهل للخير الذي هو أساس القيم وجود موضوعي مطلق؟ وهل هناك خير بالمعني العام؟ أو هو دائمًا نسبي تبعًا لرضا فرد معين أو فئة معينة؟

لقد اختلف الفلاسفة في هذه المسألة الأساسية اختلافًا شديدًا وذهبوا فيها مذاهب، فكانوا طرائق قددًا من اقتصاديين واجتماعيين ونفعيين ومثاليين، أعفيكم من ذلك بل أُجمل الكلام في موقفين هما موقف من يقول بالنسبية، أي أن القيمة هي نسبية وقد قدمنا بعضه ولا توجد قيم عامة بغض النظر عن العنوان الذي يوضع ذلك تحته، ومن يقول بعموم القيم بغض النظر عن دوافعه، ثم أعرج على موقف الإسلام من ذلك.

عبر عن المذهب المطلق خير تعبير هنترميد بقوله: يمكن التعبير عن موقف المذهب المطلق باختصار بأنه يري أنه لا يوجد إلا معيار واحد أو في حالة الأخلاق قانون واحد هو الصحيح منذ الأزل، وهو الذي يسري على البشر أجمعين، هذا المعيار لا يسري على نحو عالمي شامل فحسب، بل إنه أيضًا مستقل عن العصر، وعن الموقع الجغرافي، والتقاليد الاجتماعية المألوفة، والعرف القانوني وكل شيء آخر، والأمر الذي يشكل التزامًا لي في هذا المكان والزمان هو بالمثل التزام للصيني أو الأسباني أو البولندي.

وهو فضلاً عن ذلك قد كان التزامًا لليوناني القديم والأوروبي في القرون الوسطي سواء أكان يعلم ذلك أم لم يكن، وهو سيكون التزامًا بالنسبة إلى جميع الأجناس والمدنيات التي ستعقب مدنيتنا، فما هو خير الآن كان خيرًا عندئذٍ وسيكون خيرًا في المستقبل البعيد، وما كان شرًا في الماضي ما زال شرًا وسيظل كذلك أبد الدهر، وليس هناك قانون أخلاقي للماضي وآخر للحاضر، ولا معيار للشرقي وآخر للغربي، وإنما الخير والحق شامل يسري على كل زمان ومكان”().

إن نظرية المبدأ المطلق تجد سندها في الديانات السماوية وخصوصًا تلك التي تؤمن بالشمولية، ويعترف هنتر ميد بذلك لأن الحضارة الغربية أصلها مسيحي، قائلا: وحين نقول المسيحي فإننا نعني بالنسبة للفلسفة “التوحيدي”، فالإيمان بإله واحد يحكم الكون الذي خلقه أساس للتفكير الديني للغرب.. وهذه الأوامر أوامر الإله شاملة تنطبق على الناس جميعًا في كل مكان”.

وهذا الإيمان مشترك وقد نبه بعض رجال الدين المنصفين إلى هذا الاشتراك في الإيمان وهو هانس كيونج عندما يقول : بالنسبة لليهود والمسيحين والمسلمين فإن الإيمان يعنى أن الإنسان هنا مع كل ما أوتي من قوة ومن فكر ملتزم بدون قيد أو شرط بالتسليم والثقة بالله وكلماته .( بنقل جاك نيرنيك في حواره مع طارق “هل يمكن أن نعيش مع الإسلام ص14)

المصدر المنطقي: ربما كان “كانت” أشهر العقلانيين في ميدان الأخلاق، فقد كان “كانت” يعتقد أن التحليل يستطيع على الدوام أن يثبت أن خرق القانون الأخلاقي هو أيضًا خرق لقانون المنطق. فاللاأخلاقية تنطوي دائمًا على تناقض، ولنقتبس أشهر الأمثلة التي ضربها “كانت” في هذا الصدد.

فعندما نعطي وعدًا دون أن يكون في نيتنا الوفاء به فإن سلوكنا يكون شرًا؛ لأننا نتصرف على أساس مبدأين متناقضين في آنٍ واحد أول هذين المبدأين هو أن الناس ينبغي أن يؤمنوا بالوعد ولكني أخلفت وعدي، فمعني ذلك أن لكل شخص الحق في أن يخلف وعوده ما دام القانون الأخلاقي ينبغي أن يكون شاملاً، ولو أخلف كل شخص وعوده لما عاد أحد يؤمن بالوعود ولكان لنا مبدأ آخر هو أن من الصحيح أن أحدًا لا ينبغي أن يؤمن بالوعد، وهو مبدأ يتناقض مع الأول”.()

أما نحن المسلمين فكل تصوراتنا الفكرية تشير إلى أساس مشترك للقيم بين الإنسانية على الأسس التالية:

1- قرر الإسلام مبدأ المساواة المطلقة بين الناس وردهم إلى أصل واحد، لأن رّبهم واحد وأباهم واحد، قال الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا[[الحجرات:13].

وقال عليه الصلاة والسلام: يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كُلّكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا أبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى.()

ورسالة النبي الخاتم سيدنا محمد r هي للناس كافة، قال تعالى: ]قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[[الأعراف:158].

2- قرر الإسلام أن النزعة إلى الخير والإيمان والحق فطرة لكل الناس. قال تعالى: ]فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ[[الروم:30]. 

3- قرر الإسلام أن للحواس دورًا بجانب العقل المركّب في الإنسان قال تعالى: ]وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[[النحل:78].

فليس السمع والبصر وحده، وإنما بالإضافة للفؤاد وهو محل للعقل، يقول السيد قطب في “ظلال القرآن” في تفسير هذه الآية: والقرآن يعبر بالقلب ويعّبر بالفؤاد عن مجموع مدارك الإنسان الواعية، وهي تشمل ما اصطلح على أنه العقل، وتشمل كذلك قوى الإلهام الكامنة المجهولة الكُنه والعمل”.

وقال صاحب التحرير والتنوير: والأفئدة، أي العقل مقر الإدراك كله فهو الذي تنقل إليه الحواس مدركاتها، وهي العلم بالتصورات المفردة، وللعقل إدراك آخر وهو إدراك اقتران أحد المعلومين بالآخر، وهو التصديقات المنقسمة إلى البديهيات وإلى النظريات وتُسمي الكسبيات، وهذا ما غاب عن الفلاسفة حين انقسموا إلى حسيين وعقليين، فالحس مصدر من مصادر الإدراك، والعقل مركزها وهو المحمول ومصنع توظيف مدركات الحواس”.

4-اعتني العلماء المسلمون بمسألة التحسين والتقبيح العقلين، وهي أهم إشكالية في أساس قانون القيم، فذهب المعتزلة إلى أن الحسن والقبح هما الأساس والمرجع للحكم على الشيء من الناحية الأخلاقية، وهما أيضًا أساس الأمر والنهي الشرعيين، فجعلوا الشريعة تابعة ونابعة عن موقف العقل ومؤكدة له، وليس هذا إنكارًا للوحي، بل يعني أن الوحي هو من عند الله تعالى والعقل هبة الله فلا يمكن أن يجيء الأول بما يخالف الثاني، وهذه قريبة من عبارة ابن رشد الحفيد.

وقد قال القاضي عبد الجبار المعتزلي: إن قبح القبيح وحسن الحسن من العلوم الضرورية التي يخلقها الله في الإنسان”.

وقد قال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن الأفعال حسنة في نفسها أو قبيحة، وأن العقل يدرك هذا الحسن والقبح في بعضها دون الآخر.

فقد قال ابن القيم في مدارج السالكين: إن قوله تعالى: ]يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ[[الأعراف:157]. يؤكد أن هذا الدين الذي جاء به يأمر بما تشهد العقول الصحيحة بحسنه وينهي عما تشهد بقبحه، وإلا فلو كان كونه معروفًا ومنكرًا وخبيثًا وطيبًا إنما هو لتعلق الأمر والنهي به لكان بمنزلة أن يقول: يأمرهم بما يأمرهم به وينهاهم عما ينهاهم عنه، وأي فائدة من هذا ؟

وقال: إن قبح الفواحش يدركه العقل إلا أن الشرع هو الذي يحدد العقاب”. ()

أما الأشاعرة فجعلوا التحسين والتقبيح بالشرع فقط، فما نهي عنه الشرع العزيز فهو قبيح، وما أمر به فهو حسن.

وفي رأيي أن الأشاعرة لا ينفون الحسن والقبح العقليين، إلا أنه لا يبنون عليهما حكمًا، وهم يعترفون بالملاءمة في الحسن والمنافاة في القبح، وأن الحسن صفة كمال والقبح صفة نقص.

ولعل عبارة ابن القيم في مدارج السالكين تكون توفيقية في قضية الحسن والقبح عندما يقول: إن قبح الفواحش يدركه العقل إلا أن الشرع هو الذي يحدد العقاب”.

وقد نشأ عن الاختلاف حول التحسين والتقبيح الخلاف بين المالكية وغيرهم حول مفهوم الطيب والخبيث في قوله تعالى: ]وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ[[الأعراف:157].

فذهب المالكية إلى الرجوع إلى النصوص الأخرى لتعين الطيب والخبيث، فكل ما لم يحرمه الشرع فهو طيب، فأجاز أكل الحيّات إذا أمن سُمها، وخشاش الأرض والأوزاغ ونحوها، وحرم الشافعي ذلك قائلاً:إن الخبث هنا هو خبث طبعي أي ما استخبثة الإنسان”.

واختار القول بالحسن والقبح العقليين الأحناف، وهو مروي عن أبي حنيفة نفسه، واختاره أبو الخطاب الكلوذاني وأبو الحسن التميمي من الحنابلة، ومن الشافعية أبو علي بن أبي هريرة وأبو بكر القفال الشاشي الكبير.

واختار إمام الحرمين القول بالتحسين والتقبيح العقلين في أفعال العباد دون أفعال الله تعالى، وتبعه الغزالي، ويتداخل في نظرة المسلمين إلى حد كبير الحسن والخير.

وبالجملة: فإن من يقول بالتحسين والتقبيح العقليين يجعل أساس القيم العقل، وهو أمر مشترك بين الإنسانية جمعاء، فالعدل حسن والجور قبيح إلى آخر قائمة القيم، فكما قال ديكارت: إن العقل هو أحسن الأشياء توزعًا بالتساوي بين البشر كلهم”.

إنه مهما استغرق المرء في مجادلات فكرية حول المبدأ المطلق والنسبي، وتلوت به النظريات الفلسفية في معارج منعرجات لا نهاية لها، فإن من البديهي أنه توجد قيم مشتركة وأن اللغة خير برهان على ذلك.

ففي كل لغة كلمة “العدل” كلمة نبيلة حبيبة على النفوس، وكلمة “الصدق”، وكلمة “الحرية”، “التسامح”، “الوفاء” وغيرها من الألفاظ المحمودة عند كل الأقوام.

وفيها نقيض تلك الألفاظ وهو مذموم لا يقبله أحد مثل “الجور”، “الظلم”، فلو قلت لأشد الناس جورًا إنه جائر لسخط من ذلك وأحب أن يوصف بالعدل “الكذب” حتى الكذّاب لا يريد أن يوصف بذلك، “التعصب”، “الخيانة”، “الغدر”، إنها صفات مذمومة كريهة إلى النفوس ممقوتة من جميع الأقوام، الفطرة والعقل يمجّانها. أليس ذلك دليلاً عمليًا وبرهانًا ساطعًا على وجود قيم مشتركة؟

وأود أن أشير هنا إلى أن لغة العبادة للخالق قيمة مشتركة متأصلة في كل المجتمعات، أو بعبارة أدق التهيؤ للعبادة، ففي كل اللغات توجد كلمة العبادة للخالق، أما في الأديان التي أصلها التوحيد كاليهودية والنصرانية فإن اللغة المشتركة بين المسلمين وبينهم لا تقتصر على العبادة بل تصل إلى التفاصيل: كالصلاة والصيام والحج والصدقة وإن كانت التفريعات مختلفة.

ولعل ذلك مما يسهل التفاهم مع الغرب لو جلينا تلك الأصول التي ترجع إلى ]فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا[[الروم:30].

إنه قد تختلف درجة التمسك بهذه القيم والإلحاح عليها بين مجتمع وآخر فيُلح مجتمع ما علي الحرية، ويُلحّ آخر على العدل نظرًا لاهتمامات كل مجتمع أو الأولويات التي تفرضها ظروفه وضروراته، فقد شاع في الستينات في الأنظمة شبه الاشتراكية في العالم العربي “لا حرية لجائع”.

وقد أشار ديكارت إلى ذلك عندما قال: إن العقل هو أحسن الأشياء توزعاً بين الناس بالتساوي. ويجيب على التساؤل: كيف اختلف الناس في المعرفة النظرية وتفاوتوا مع أن منطلقهم واحد؟ فأجاب: إن هذا ينشأ من أننا نوجّه أفكارنا في طرق مختلفة ولا ينظر كل منا في نفس ما ينظر إليه الآخر”.

نعم إن البيئة والفطرة والحواس والعقل وقبل ذلك الوحي، كل تلك هي أصول القيم ومغرس الفضائل، يقول أبو حيان التوحيدي في كتابه “الإمتاع والمؤانسة”: ولما وُهب الإنسان الفطرة، وأُعين بالفكر، ورفد بالعقل؛ جمع هذه الخصال”.


 

المعلم الثالث: تحديد أهداف التواصل والحوار

إذ أن ضبط وربط التواصل والحوار بأهداف وغايات يضبط المسيرة ويوضح الدرب حتى ولو التوت السبل وتعرجت المسالك وبالعكس فإن الحوار الهائم العائم الذي ليس له هدف ولا غاية هو حوار من أجل الحوار قد يكون مقبولاً في بدايات الطريق لاستكشاف ساحات التواصل واستيضاح مناحى المشاكل ولكنه لا يجوز أن يكون أبدياً وهذا ما حدا بالإتحاد العالمي لعلماء المسلمين أن يطلب إلغاء اجتماع مع إحدى المنظمات الغربية الناشطة في الحوار بعد عقد دورات معها كانت تنظم بدون جدول أعمال وبدون بيان مشترك وأحياناً في مكان قصي ينأي عن الصحافة والإعلام وقد أشعرناهم باستعدادنا للحوار في ظروف أفضل.

ولهذا فإن هذا الضابط يعتبر مركزياً في عملية التواصل والتبادل التي تسود على الساحة العالمية.

المعلم الرابع: لغة التواصل لها أهميتها

 أسلوب الخطاب ، ترتيب الحجاج ، إن أهم شيء هو العقلانية في الحوار. ولهذا فيجب أن يكون كل من المتحاورين على اطلاع على ثقافة الآخر ومنطلقاته العقدية والفكرية.

وهنا أشير من واقع التجربة إلى أن الطرف الإسلامي غالباً ما يفتقر إلى الكفاءة في القضايا الفلسفية والقانونية لإيصال رؤيته إلى الطرف الآخر. وكذلك فإن الاطلاع على الأسس الدينية من مصادرها لدى الآخر قد يكون مفيداً في جولات الحوار الديني.     

الفصل الثاني: وسائل وآليات للتواصل

إن التواصل ككل عمل بشري إرادي يحتاج إلى وسائل وآليات لتحقيقه في الميدان العملي وهذه الوسائل.

من أهمها: الحوار الهادف الواعي بذاته وبغاياته ولهذا فإن التواصل قد يكون رديفاً للحوار لأنه وسيلته الأولى وأداته المفضلة ولهذا اعتمده القرآن الكريم في تبليغ الدعوة وإيصال الحجة ﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن﴾ لأنه بالحوار كما يقول أفلاطون يطلع الناس بعضهم بعضاً على البدائل المتاحة عن الصراع فهو قيمة حضارة.

إلا أن مدلول التواصل قد يشمل وسائل أخرى كإنشاء الجامعات والمراكز وعقد الدورات المتخصصة لدراسة أي موضوع فكري قانوني أو فلسفي أو ديني للوصول إلى نتائج معينة.

ومن ناحية عملية يمكن أن نسرد قائمة من الوسائل الرائجة للتواصل :

1- عقد الندوات المشتركة بين فريق أو فرقاء ينتمون إلى خلفيات ثقافية قد تكون مختلفة أو يفترض فيها أن تكون كذلك.

من المستحب أن تبدأ هذه الندوات مصغرة وأن تقدم فيها بحوث متبادلة من الطرفين في موضوعات محددة.

وقد كانت لنا ندوة في الفاتكان من هذا النوع حول “العلمانية والدين”.

2- عقد مؤتمرات تقدم فيها بحوث وتدور فيها منقشات.

3- إنشاء لجان مشتركة تتبادل المعلومات وتتشاور حول قضايا الحضارة والفكر والتواصل وتعد للندوات والمؤتمرات.

4- إنشاء مراكز في مناطق معينة من العالم للقيام بعملية التواصل.

5- إنشاء مكاتب ارتباط لدى لعض الجهات كالبرلمان الأوربي مثلا.

6- كما أن التواصل قد يتم عن طريق الصحافة المكتوبة والمسموعة والمرئية.           

7- يمكن للسفارات والبعثات الدبلوماسية أن توظف علاقة دولها في تسهيل التواصل.

 

 

خاتمـة:           

خلاصة القول:

إن عملية التواصل أصبحت ضرورة لإنقاذ البشرية من التردي في هوة سحقية من الاضطراب والفوضى يدحرجها إليها تجار الحروب ودعاة الشر الذين أطاعوا طغوى النفوس وطغيان المطامع العاجلة فضاقت مساحات عقولهم وانكمشت آفاق بصائرهم.

 وأخيراً فإن من أهم أدوات التواصل الحوار الذي يعني تخاطباً بين متقابلين للوصول إلى أرضية مشتركة قد تؤسس على قناعة بالرأي المقابل أو على مصالح متبادلة والحوار قد لا يؤدي إلى اتفاق إلا أنه يمكن أن يقدم البدائل عن الصدام والصراع ويجعل الآخر يفهمك وإن يتفق معك.

وهذا التواصل يجب أن يقوم على دعائم قوية:

أولاً: الاعتراف بالاختلاف للوصول إلى التعارف والائتلاف ذكرنا أمثلة غير حاصرة ولا حاشرة ولا جامعة مانعة وإنما هي أمثلة توجيهية تسعف عملية الحوار بمادة مناسبة تستحق لفت انتباه المتحاورين كاختلاف المصدر واختلاف مفهوم النظام العام وهو المعروف أو العرف الذي يتلقى الرضا العام أو النكير المطلق في أي مجتمع.

إن الاعتراف بالاختلاف يشعر الفرقاء بجدية الحوار وأنه ليس استحواذاً ينكر فيه الآخر على مقابله حقه الطبيعي في الاختلاف ويطلب منه أن يتماهى معه وكأنه يشترط ذلك مسبقاً لقبول التواصل معه.

إن شعار التواصل هو أن يقبل الفرقاء كل واحد منهما الآخر كما هو لا كما يتمناه.

 ثانياً: إبراز المشترك بين الطرفين الذي قد يكون خافياً أو خافتاً أو قد يكون إطلاع الطرفين بعضهم بعضاً عليه يسهل عملية التواصل ﴿ وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد﴾

ولهذا يجب توظيف المشترك في ثلاث دوائر :

دائرة القيم الإنسانية: فكل الناس يبحثون عن العدل والسلام ويبغضون الجور والطغيان فما لا يرضاه لنفسه لا يرضاه لغيره إن الضمير الإنساني بتقديم القيم التي يؤمن بها الناس كل الناس من أهم أسس التواصل.

والوثيقة الدولية لحقوق تمثل أهم محاولة لتوظيف المشترك الإنساني. 

دائرة القيم الدينية: مع أصحاب الرسالات السماوية ﴿ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم﴾ كعلاقة المقدس بالدنيوي وتراجع القيم الدينية لصالح العلمانية مثلاً.

دائرة المصالح المتبادلة: كقضايا التجارة في المواد الأولية والمصنعة والطاقة إلى آخر القائمة.

المرتكز الثالث: تقرير غايات للتواصل تشده إلى الأمام وتهون في سبيل الوصول إليه الصعاب وتذلل العقبات.

المرتكز الرابع: أهمية إيجاد لغة مشتركة للتواصل تستوعب الخلفيات الثقافية كالفلسفة والدراسات المقارنة للأديان

وفي الفصل الأخير: استعرضنا زمرة من أدوات التواصل التي يمكن تصنيف بعضها في خانات الوسائط كاعتبار الإعلام واسطة والصحيفة والتلفزة وسيلة مثلاً وهذه الوسائل ليست حصرية وإنما هي أمثلة.      

 

ولعلي أختم بنظرة أبي حيان التوحيدي إلى الإنسان، فقد نظر إلى الإنسان كإنسان، إلى ما يعتريه وما يجري عليه من أعراض اختيارية أو اضطرارية محمودة أو مذمومة ما كان منها من قبيل القيم والأخلاق وما لم يكن كذلك، فعرض منها قائمة طويلة ما كان منها بالفطرة أو ما يكون ناشئًا عن الفكرة فيقول: وقد تقرر بالحكمة الباحثة عن الإنسان وطرائق ما به وفيه أن أحواله مختلفة، أعني أن كل ما يدور عليه ويحور إليه مقابل بالضد أو شبيهٍ بالضد كالحياة والموت، والنوم واليقظة، والحسن والقبيح، والصواب والخطأ، والخير والشر…… ولعل هذه الصفات بلا آخر ولا انقطاع”.

هذا هو الإنسان في كل مكان وفي كل زمان بنقائصه ومزاياه، فهل لنا أن نأمل في تنمية جوانب الخير والقيم الإنسانية الخيرة المشتركة، إن سلوكنا الفاضل، وتسامحنا، وسخاءنا، وصدقنا، ووفاءنا، وأمانتنا من شأنه أن يقنع الآخر، وهو الإنسان الذي حمل نفس الإعجاب بتلك القيم أن يعاملنا بنفس المعاملة النبيلة، فالخير يدعو للخير، والسخاء يستدعي السخاء.

إن إقناعنا للغير بسلوك سبيل الخير أهم قضية إنسانية. ونقتبس من أفلاطون قوله:إن خُلُق العالم هو تعبير عن غلبة الإقناع على القوة.

وتتألف قيمة البشر من قابليتهم للإقناع، فهم يستطيعون أن يقنعوا ويقتنعوا بإظهارهم على مختلف الوسائل التي يمكن أن يُستعاض بإحداها عن الأخرى، فمنها الأحسن ومنها الأسوأ، والحضارة هي الحفاظ على النظام الاجتماعي بواسطة الإقناع الفطري الذي يتجسد باختيار الأفضل.

أما استخدام القوة مهما يكن ذلك حتميًا فإنه يكشف عن فشل الحضارة سواءً كان ذلك بالنسبة للمجتمع العام أم بالنسبة للأفراد”.

فلنبذل جهدًا لإقناع الآخرين بالعدل والمحبة والإخاء والمساواة والوفاء والمسالمة، فإذا شاعت تلك القيم بين الأفراد والمجتمعات والدول عند ذلك نطمع في نظام عالمي ينصف الشعوب الضعيفة والأمم المظلومة، يكون الحوار وسيلته، وصالح البشرية غايته، بدلاً من نظام عالمي يقوم على المصالح الأنانية للأمم القوية، والتمييز العنصري والديني المقنع أحياناً والسافر أحياناً أخرى، ويوم يأتي ذلك النظام الذي يرتكز على القيم الإنسانية المشتركة، قيم العدل والمساواة والحق ينزل الفرج ويسود السلام.

]وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ[[الروم:5].

 

   


autre MondialisationL الصادر في فبراير 2004م  

([2]) سورة الحجرات : 13 .

([3]) سورة الإسراء : 70 .

([4]) سورة البقرة : 228 .

([5]) سورة البقرة : 179 .

([6]) أخرجه البخاري .

([7]) مغامرات الأفكار: وايتهيد، ترجمة أنيس زكي حسن، ص439.

أحمد أمين       الأخلاق   ص63  

([9]) هنتر ميد: الفلسفة أنواعها ومشاكلها، ص 264 ترجمة فؤاد زكريا.

([10]) هنتر ميد: المرجع نفسه، ص267.

– أخرجه الترمذي.

– مدارج السالكين: 1/234-2350. 

تحالف القيم الجزء الأول

سماحة الإمام عبد الله بن بيه ،يتناول بالدرس والتحليل موضوع “تحالف القيم بين الشعوب”، انطلاقا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم “لقد شهدت بدار عبد الله بن جدعان حلفا، لو دعيت به في الإسلام لأجبت”. وقد كانت المحاضرة ضمن الدروس الحسنية – 2007

تحالف القيم الجزء الثاني

سماحة الإمام عبد الله بن بيه ،يتناول بالدرس والتحليل موضوع “تحالف القيم بين الشعوب”، انطلاقا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم “لقد شهدت بدار عبد الله بن جدعان حلفا، لو دعيت به في الإسلام لأجبت”. وقد كانت المحاضرة ضمن الدروس الحسنية – 2007 المملكة المغربيه

الثقافة العربية والمستقبل

 

الثقافة العربية والمستقبل 

      

  

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه 

 

عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيـّـه  

وزير المصادر البشرية ووزير العدل والشئون الإسلامية والتعليم بموريتانيا 

والأمين الدائم لحزب الشعب – سابقاً- 

أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز – جدة 

نائب رئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين 

عضو المجلس الأوربي للإفتاء بدبلن – خبير بالمجمع الفقهي العالمي 

  


إنه موضوع من أهم المواضيع الفكرية التي تطرح على الأمة وبخاصة على المثقفين أسئلتها، وهو موضوع واسع الأرجاء مترامي الأطراف، جلي وغامض واضح ومشكل، حيث أن الصورة العامة لهذه الثقافة مدركة بالحس، وإن كانت معطيات هذه الصورة بعيدة الأغوار مظلمة الجوانب، ولهذا سيكون تعريف بعض المفردات خطوة أولى في تشرفنا لاكتناه حقيقة. 

إن الثقافة بالمعني الحديث الذي يترجم كلمة culture     فإنه مصطلح قد عرف كما يقول ((كوبر وكلايكون)) بمائة وخمسين تعريفًا لعل أبرزها: 

تعريف لاروس الفرنسي حيث يقول: 

((إن الثقافة هي مجموع النظم الاجتماعية والمظاهر الفنية والدينية والفكرية التي تتميز بها وتحدد بها مجموعة أو مجتمع بالنسبة للآخر)). 

تعريف موسوعة دار الشروق حيث جاء فيه: 

((إن مفهوم الثقافة يشير إلى كل ما يصدر عن الإنسان من إبداع أو إنجاز فكري أو أدبي أو فيني أو علمي)). 

تعريف الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري في كتابه ((التنيمة الثقافية من منظور إسلامي)) حيث قال: 

((إنها مجمل النشاط الإنساني في حقول الإبداع الفكري والأدبي والفني)). 

ويري البعض: 

((أنها حصيلة النشاط الاجتماعي في مجتمع وأساليب الحياة والسلوك وأنماط القيم السائدة فيه)). 

لكن التعريف الانثروبولوجي الواسع الباحث عن المعتقدات واللغة والمؤسسات العوائد التقاليد لكل مجتمع، وعلاقات الكائنات البشرية بعضها ببضع هو التعريف الأولى في نظري. إلاّ أن المهم هنا أن نعرف أن مصطلح الثقافة مصطلح مراوغ أو يزعم الاستئثار بمدلوله، إلا أنه من المؤكد دخول الدين، والتقاليد، واللغة في أفراد هذه المصطلح. 

وسأبدأ بافتراض مسلّمات: 

الأولى: افتراض أن الدين الإسلامي، واللغة العربي، والتقاليد العربية، والعادات، هي الثقافة العربية. فهذا الثلاثي هو الذي يشكل المتخيل العربي وخلفية السلوك ومعيار القيم لدي العربي. 

هنا اتفق مع اليوت عندما يقول: 

((إن الثقافة نتيجة الدين، والدين نتيجة الثقافة حسب الزاوية التي ينظر منها الناظر)). 

أتفق مع الفقرة الأولى وأعدّل الفقرة الثانية لتكون ((التدين نتيجة الثقافة)). 

وإذا كان هذا الدين هو الدين الإسلامي، وهذه الثقافة هي الثقافة العربية، فهما صنوان متلازمان ملازمة اللازم للملزوم والعرض للجرم. 

 

فإلاّ يكنها أو تكنه فإنه 
 
 

      

أخو أرضعته  أمّه بلبانها
 
 

 

فالإسلام إذن كان ولا يزال هو الآمر الناهي في حياة العربي بوعي أو بدون وعي. 

المسلّمة الثانية: أنه توجد سمات مشتركة بين جميع العرب من معتقدات، وشعائر دينية، ولغة تواصل، وعادات وتقاليد، وحاضر مشترك، وطموح إلى نوع مشترك من المستقبل، وهي سمات تسمح بالحكم بوجود ثقافة عربية واحدة، بالرغم من تفاوت العلاقة بالموروث قربًا وبعدًا، واختلاف شيات وأطياف التفكير والممارسة بين مكونات الأمة، هذا فيما يتعلق بالجزء الأول من العنوان. 

أما الجزء الثاني من العنوان وهو المتعلق بمستقبل الثقافة العربي، فإن المستقبل وإن كان ما يجري فيه مجهولاً لا يعمله إلا من لا يجري عليه الزمان جّل شأنه، وهو يجري الزمان، ويمكن للإنسان أن يتعامل معه طبقًا للسنن الجارية التي تجعل الحاضر مقدمة للمستقبل؛ ذلك أن حاضر هو نتيجة ماضينا، كما يقول الكاتب وليام فولكنر من جنوب أمريكا. 

إن الحاضر بدأ منذ عشرة آلاف سنة، فإن حاضر ثقافتنا بدا منذ حوالي أربعة آلاف سنة، منذ أن رفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ومنذ تزوّج إسماعيل من قبيلة جرهم القحطانية وتكلّم العربية، حيث أصبح للعرب بيت عبادة محجوًج استوجب احترام الأمم أخرى وأثر في بعض الأحيان غيرتها، فجالت في جزيرتهم وصالت، التي لا يحسن اجتياب مفاوزها واصطياد مهاها وظبائها سواهم، فأنشأوا الحواضر في أطرافها جيرانًا لأمم الفرس والروم، واحتفظوا بأرومتهم البدوية في قلبها حيث صقلهم شظف العيش وخشونة الصحراء، فامتطوا صهوات الجياد وذللوا النجائب وناحوا على الرسول والأطلال: 

 

ما بكاء الكبير بالأطلال 
 
 

      

وسؤالي وما ترد سؤالي 
 

 

فأنشدوا أجمل القصائد، وحبروا أبدع الخطب في عكاظ ومجنة وذي المجاز.

لكن خصائص العروبة قد تأكدت، وقيادتها وريادتها قد تأدبت وتأيدت، حينانتشر الضياء من جبال فاران من مكة المكرمة، من الأرض عربة على الدنيا بمبعث سيدنا محمد  بالرسالة الخاتمة من الباري جلّ شأنه إلى الناس كافة، حيث حمل القرآن إلى العالم قيم الخير ومبادئ العدل والإحسان وأحسن عادات قيس وعبس وذبيان وتغلب وشيبان، فتفتقت لغة الضاد بأروع بيان، فاهتز وجدان الأمة وتشكل كيانها، ومدت أجنحتها على الشرق والغرب في صحوة دينية وخلقية وفكرية وإنسانية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً، فقطفوا ثمار علوم من سبقهم من الأمم من غير خجل ولا وهن، فحققوا ونقدوا واستوعبوا وأضافوا وشادوا وأفادوا، وبذلوا خلاصة ما توصلت إليه الإنسانية في أدق العلوم من فلك ورياضيات وصناعات إلى الإنسانية جمعاء، فأخذ الغرب منها سجلاً كان أساس علومه وتقنياته عن طريق معابر البحر الأبيض المتوسط والأندلس.

وبعد قرون عدة تحولت الحركة إلى رتابة والإبداع إلى تقليد وابتاع، فامتدت يد الزمان إليها، فاستطال الأعداء عليها؛ فأظلم صبحها وفزع سرحها؛ لأسباب معروفة قد يطول شرحها. ذلك هو ماضينا نحمله على كواهلنا بانتصاراته وهزائمه، بأعراس ومآتمه، بكل تراكماته في حاضرنا.

 


وإن اختيار هذا العنوان ((الثقافة العربية والمستقبل)) لندوتنا هذه، ولمهرجان الجنادرية هذه السنة يشير إلى الاهتمام الكبير بهذه القضية التي تعتبر أساسًا للتنمية الاقتصادية، والتطور الاجتماعي، والعلاقات الإنسانية.

وإنه لقلق وإشفاق في محله، وإن الأمر ليس حركًا علينا، فهذه فرنسا يرفع رئيسها عقيرته جاهرًا بالشكوى أمام مؤتمر هانوي الفرنكفوني قائلاً:

((يجب ألاّ يستسقي من نبع ثقافي وحيد، وينبغي أن تحترم الخصائص الثقافية لكل أمة)).

وحتى إن البعض يتخوف من الغزو الثقافي الإسلامي، فيكتب البرتو في جريدة ((بريد المساء)) الإيطالية قبل أشهر ليقول: ((ماذا لو أصبح نصف إيطاليا فقط مسيحًا والنصف الآخر مسلمًا؟)).

إلا أن قلقنا على مستقبل ثقافتنا مبرر بأكثر من سبب، فهناك عوامل داخلية، أي من داخل ثقافتنا، وعوامل خارجية ترجع إلى تأثير ثقافة الغير في ثقافتنا، لعل أبرز هذه الأسباب:

أولاً: وجود ثقافة عالمية عاتية عيل صبرها من رؤية التعدد الثقافي والحضاري تحاول تجاوز المراحل، واختزال الزمان والمكان؛ لتجعل من العالم قبيلة واحدة تتكلم لغة واحدة، تحاول أن تصهر القيم والأعراف في بوتقة واحدة، يكون القدح المعلي فيها لآندي صوتًا والأكثر عدة وعتادًا وعددًا. إنها عالمية تملك الإدارة والتخطيط والوسائل، وتتقمص الشرعية الإنسانية، ومن يراوده أدنى شك فليراجع وثائق مؤتمر السكان في القاهرة، ومؤتمر المرأة في بكين، وهي عولمة حملت المجلة الفرنسية revue litturair الصادرة في نوفمبر على المطالبة بضرورة تضافر الجهود بين فرنسا وألمانيا لتثبيت الثقافة الأوربية في مواجهة العولمة.

ثانيًا: العجز عن اقتراح مشروع ثقافي حضاري شامل يتسلم زمام المبادرة التارخية، يجوز إجماع العرب ويوحد قواهم أمام تحديات القرن القادم، وهذا لا يعني عدم وجود مشروعات حضارية أصيلة وواعدة لدي جهات سوية راشدة من هذه الأمة.

ثالثًا: ردود فعل متباينة ومتضاربة عبّر عنها جسم الأمة تجاه الحالتين السابقين العالمية من خارج الأمة العجز المحلي، ونعني بجسم الأمة تلك الفعاليات المنتجة للمادة الثقافية أو المعيدة لإنتاجها، وهذه الردود قد تكون دوافعها حسنة، هدفها خارجة عن نطاق السيطرة، إذ نزع فيها مقود الحافلة وقفز الركاب جميعًا إلى مقعد السائق كل واحد يريد أن يكون  هو قائد الحافلة، فكانت النتيجة أن انقلبت الحافلة..، كما يقول مانسفلد واصفًا الديمقراطية في الدول النامية في صورتها النمطية والظواهر المتزامنة مع التحول، لقد غابت روح التسامح وأعلنت حرب داحس والغبراء في بعض الفضاءات العربي.

رابعًا: عقم الجامعات والمراكز العلمية: فلا إنتاج ولا إسهام في اختراع، كما تؤكده دراسة أعدها بعض الخبراء، يقول فيها:

((إنه في كل سنة يعد حوالي مليوني بحث علمي، وتُطبع مائة ألف مطبوعة علمية، نسبة إسهام المسلمين جميعًا فيها 3%، فكم ستكون نسبة إسهام العرب في تلك النسبة؟)).

خامسًا: ضحالة الإنتاج الفكري في مجال الفلسفة والعلوم الإنسانية، وهي ضحالة لم تستشن الآداب شعرًا ونثرًا والفنون والعمارة.

سادسًا: قصور واضح في الدراسات الإسلامية لاستجلاء الشريعة نصًا وروحًا، وتقدم المنهج الوسطي الذي يحتوي على ثقافة الوئام وإفشاء السلام على من عرفت ومن تعرف، وعن تكوني جبل قوي يفهم أمور دينه ودنياه، مما نتج عنه انفصام بين التعليمين الديني والدنيوي.

سابعًا: انكماش الاجتهاد الفقهي، مما نتج عنه عجز الفقهاء عن مواكبة مستجدات العصر في المعاملات وحتى في العبادات.

ثامنًا: فقر مدقع في أكثر البلاد العربية في وسائل الثقافة.

تاسعًا: أضف إلى ذلك التخلف التنموي الذي يجر موكب الفقر والبطالة وانسداد الأفق بالنسبة لملايين الشباب.

وقد نشأت عن هذه السمات أنساق اجتماعية واقتصادية وتربوية غير قادرة على إشباع حاجات الإنسان العربي وإحلال الأمة بمجموعها في مكانتها لتشكل فضاء محترمًا له مميزاته وخصائصه، منفتحًا ومتواصلاً مع الفضاءات الثقافية الأخرى، مما يشير إلى وجود خللٍ ما في التمثل السلوكي للتراث في الظرف الراهن في التواصل مع مزيج القيم الذي تقترحه المعاصرة على الذات القابلة.

وهو خلل يشترك فيه عاملان: داخلي وخارجي، تداخل فيه الأثر والتأثر والفعل والانفعال مع ما يعنيه من شطط وغلو واستنجاد بشتى السلبيات، إنه خلل في العوالم الثلاثة كما سماها مالك بن نبي: عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء وفي علاقة هذه العوالم فيما بينها.

إن ثقافة هذا حاضرها وذلك ماضيها ماذا سيكون مستقبلها؟ إن الحديث عن مستقبلها إما أن يكون على أساس استشراف المستقبل من خلال مؤشرات الحاضر وتفاعلات العناصر المؤثرة إيجابًا وسلبًا، وإما يكون تمنيًا واقتراحًا على المستقبل، وهذا ما أثرناه في هذه المداخلة بحثًا عن الحل للأزمة الثقافية.

فما هو الحل؟ وما هي معالمة وخطابة وأسسه ووسائله؟

لقد سمعنا عن وصفات كثير للحل، ولسان حال المستهدفين بها يقول:

 

بكلٍ تداوينا فلم يشفِ ما بنا
 

 

على أنَّ قرب الدار خير من البعد
 

على أنّ قرب الدار ليس بنافعٍ
 

 

إذا كان من تهواه ليس بذي وُدِ
 

 

لقد افترضت أكثر الحلول راديكالية وجذرية وتطرفًا، فمن داع إلى القطعية مع التراث وما تصرف من مادة ((ورث)) ولسان حالةً يقول مع امرؤ القيس:

 

أبيني لنا إن الصريمة راحة
 

 

من الشك ذي المخلوجة المتلبس 
 

 

فأدار ظهره للتاريخ وقلب له ظهر المجن وانبهر بكل حديث، ولم ير في الثقافة الأصلية إلاّ عيوب التخلف الاقتصادي والظلم الاجتماعي، فغني وشدا بديمقراطية الغرب وتقدمه التكنولوجي وضمانه الاجتماعي.. إلخ. لقد جرّبت ذلك إحدى الأمم فلم تكن تجربتها قمة في النجاح.

ومن داعٍ إلى التمسك بالماضي القريب وذكرياته، ولم ير أصحاب هذا الحل في الغرب إلاّ الانحلال الخلقي والتفكك الأسري وملاجئ الكبار والمسنين آباء وأجدادًا، والتبرّم بالحياة الذي يصل إلى حد محاولة الهروب منها بالقتل، فقد أّكدت الإحصائيات في فرنسا أنه في كل سنة تسجل 165 ألف محاولة انتحار تصل منها اثنتا عشر ألف إلى انتهاء الحياة.

إن في كلا الموقفين شططًا وغلوًا، إن القطعية مع التراث خطيئة والتقوقع فيه خطأ. إن الذي أقترحه هو مقاربة للحل أو تذرع للحل وليس وهو الحل النهائي الأبدي كما يحلو للكثيرين منا أن يصفوا حلولهم لمثل هذه القضايا، وإن الحل الذي أقترحه يرفع شعارًا واحدًا هو شعار التجدد.

ومصطلح التجديد ليس غربيًا على ثقافتنا، فقد ورد في الحديث:

((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها))([1]).

وقد يكون هذا المجدد عالمًا مجتهدًا، كالشافعي مخترع علم أصول الفقه وآليات التعامل مع نصوص الشريعة، وقد يكون ملكًا عادلاً كعمر بن عبد العزيز، وهذا بنص العلماء الأوائل.

وإن مصطلح التجديد كان معروفًا للجاهلية. قال زهير بن أبي سلمي:

 

هم جدوا أحكام كل مضلة
 

 

من العقم لا يلفي لأمثالها فصل 
 

 

قال الأعلم الشنتمري: يريد بالتجديد أنهم بينوا أمور الحرب، فتجديد تقاليد الحرب والشجاعة هو تجديد الجاهلية.

ومعالم هذا التجديد تتمثل في معادلة: التراث والمعاصرة:

فما هي معالمة إذن؟

إنه تعامل جديد مع التراث بالتعمق فيه، والاستنجاد بإيجابياته، وتحريره وتأصيله، والتنقيب في أعماقه، وتجليته بكل إمكانيات الإشراق حتى يصبح حيًا، فإن الثقافية الميتة لا يمكن أن تكون إيجابية، ولا يمكن أن تتعامل مع الثقافات الأخرى إلاّ بخنوع وتبعية.

إنه تعامل جديد كذلك مع التراث يهدف إلى استكشاف فضاءات الالتقاء الالتقاء ومجالات التماس والتقاطع، وتوسيع قنوات التواصل والاندفاع بقوة إلى المعاصرة فكرًا وعلمًا بندية وكفاءة، وذلك باحتكام إلى ثلاث قيم أساسية: ((العقلانية –العلم- التسامح)).

بناءً على هذه الجدلية بين ثقافة أصيلة حية وثقافة عالمية دينامية فإن النتيجة ستكون تنسيب المواقف من بعض القيم، ومن بعض الأشياء، ومن بعض الأفكار، وتجسير العلاقة بين الأفكار والأشخاص، فبدلاً من واقع قيم تهاجم وقيم تقاوم، سيكون التعاون والتعاضد والتآزر، ولهذا فإن التجديد لن يكون هدمًا للتراث الأصيل بل سيكون عملاً من خلاله، ولن يكون ترميمًا وتلفيقًا بل سيكون دمجًا وأخذًا وعطاءً، فالنهر يتجه إلى مصبّه ويظل أمينًا لمنبعه، كما يقول فيلسوف غربي.

إنه إحياء لثقافتنا عبر منطلقات جديدة بآليات العصر ووسائله، إن التراث سيكون إطار المرجعية، وإن التجديد هو توسيع وعاء الثوابت لتستوعب الحديث، وقولبة الحديث ليستوعب، إنه انطلاق من عقال الحيرة، وتزحزح عن مفترق الطرق، لسلوك الجادة ولوج الفضاء الرحب في انسجام بين الضمير الجمعي ومتطلبات العصر، إنه مزج الأصالة في أجلي الضمير الجمعي ومتطلبات العصر، إنه مزج الأصالة في أجلي صورها بالمعاصرة في أنجح وسائلها وصيغتها. إن الخيار لاستراتيجي للتجديد هو التحرك من خلال التراث إلى المعاصرة ليكون التفاعل بين الاثنين أساس الصيرورة الثقافية.

خطاب التجديد:

خطاب التجديد موجّه إلى الجميع، إلى كل من يبحث عن صالح هذه الأمة انطلاقًا من قناعة أن مستقبل الأمة هو ما سيصنعه الجميع.

خطاب التجديد خطاب متأنٍ مُتّئد حينما يتعلق الأمر بالمقولات والمفاهيم الإنسانية والاجتماعية التي تقترحها المعاصرة، بل إنه يتعامل بشيء من البطء والتروي إلى حد الانتفاء في الوقت الذي يبذل فيه كل جهد لاستيعاب الجانب العلمي والتكنولوجي بأكبر قدر من السرعة المحكمة، مندفعًا للمنافسة في هذا الجانب بكل قوة.

خطاب التجديد خطاب حضاري واعٍ لا يوجهّ اللوم إلى أحد، إذ يعتبر الجميع بفضائلهم ونقائصهم ومزاياهم ورزاياهم ثمرة ثقافة هذه الحقبة التي نعيشها.

إنه دعوة إلى بناء إنسان جديد فخور بأصالته، متفاعل مع عصره، وهو يهدف إلى تنشئة جيل عربي فاعل وليس مفعولاً به، يستطيع بكفاءته الروحية والخلقية والنفسية والعلمية المنافسة في ميدان الحياة ومواجهة القرن القادم بتحدياته ومجهولاته.

خطاب التجديد يوجّه تحذيرًا واحدًا: هو أن الإشاحة بوجوهنا، الإشاحة بوجوهنا، الصدوف والعزوف عن التجديد من منطلق استنطاق ثقافتنا ومنطق اليأس منها، وكذلك الانكفاء على الذات ومنطق اليأس من خير المعاصرة سيخلفان ويخلدان المتمزق والضياع.

وبالعكس فإن أي خطوة جادة نحو فكر التجديد وممارسته ستنعكس إيجابيًا على الإنسانية ومردود الإدارة والإنتاج وقيمة الوقت والعلاقات الإنسانية والأمن البشري، وسيكون المردود إيجابيًا على العالم كله حيث سنوفر معبرًا إلى رحاب التنوع الثقافي لما لعالمنا من صلات تاريخية بنفس التواصل، ولما لموقعنا الجغرافي بين العالم الأصفر والأبيض وتشابك علاقتنا الثقافية مع هذه العوالم.

فما هي أسس التجديد في مكونات الثقافية الثلاث في تعاملها مع بعد المعاصرة؟

إنه ستكون في الشريعة تجلية قيمها وفضائلها، قيم التسامح والعدل والشورى والتعايش والتواصل والروحانية والوحدة والتعدد في إطار الثوابتن وهو تعدد تجلية مرونة الفقه وسمعة أفقه وتنوع دلالته وتوسع نطاق أدلته الإجمالية في ضوء الزمان؛ لتحقيق مقولة هي بالتأكيد حق: إن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان؛ وذلك بتسلط الاجتهاد على الربط المتواصل بين الزمان وبين الشريعة نصوصًا ومقاصد وأصولاً وقواعد، انطلاقًا من مبدأين: العقل المصلحة. وترجمة لثلاثة مقاصد: الضروري الحاجي- والتحسيني وتطبيقًا لخمس قواعد:


 


([1]) رواه أبو داود، والبيهقي، والحاكم.

 


1-   
إلغاء الشك لليقين.

2-   تحكيم أعراف الزمان.

3-   إزالة الضرر وضرورة الإنسان.

4-   رفع المشقات وإحلال اليسر في التكليف محل العسر.

5-   الجريان في التكليف على المقاصد لا على الصور.

بالإضافة إلى الأدلة التي تستند إلى معقول الشرع كالقياس والاستحسان وسد الذرائع والمصالح المرسلة، أضف إلى ذلك التعامل مع سلم الضرورات والحاجات العامة التي تغير مقتضي الأوامر والنواهي في الشريعة طبقًا لما يسمي بالرخص بأنواعها.

في اللغة: في إحيائها وتعميمها وتفجير معين قواعدها الذي لا ينضب، وغرس شجرتها التي لا تذوي، انطلاقًا من غناها وثرائها في غناها وثرائها في المفرادات والتغير والاشتقاق والأوزان الجموع. فلنا في لغتنا العربية ثلاثون جمعًا يقابلها جمعان في اللغة العبرية التي تعلمت نحوها وضاعت نفسها وأحدثت الشكل والنقط اقتباسًا من العربية في القرن الثامن الميلادي بالأندلس. فهل يغلب جمعان ثلاثين جمعًا؟

في الآداب: بإحيائها نثرًا وشعرًا بمختلف بحوره في أجمل صورة وفي شتي مقاصده، يجب أن تصدح النوادي والبيوت بجماله وفنونه، وتشدو طير الخمائل من جديد على أزهارها المونقة في رياضة المورقة بأنغامه ولحونه.

في العادات والتقاليد: بإحياء الصناعات والتقليد والفنون الجميلة، وباتخاذ كل الطرق التربوية لاستمرار التماسك الأسري، وحب الأدنى، وبر الوالدين، والشهامة والكرم، وإسعاف الآخرين، والوفاء، والبر، والسماحة، كما قال امرؤ القيس:

 

وتعرف فيه من أبيه شمائلاً
 

 

من خاله ومن يزيد ومن حجر 
 

سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا
 

 

ونائل ذا إذا ((بدا وإذا حضر))
 

 

يجب أن نقدم هذه العادات والتقاليد في مقابل الإنسان الأخير، وهو صورة لإنسان الغرب المستقبلي عند فوكوياما اقتباسًا من الفيلسوف نيتشه، حيث يري أن إنسان الديمقراطية الليبرالية سيكون حرًا بأخلاق العبيد، نذلاً لا قيم له ولا خلق ولا غيرة أناني لا يهتم إلاّ بمصلحته الشخصية وشهوته المنحطة، سيخلع إنسانيته! إنه ((الهلباحة))([1]).

إننا بهذه التقاليد النبيلة التي هي قيم ديننا وتراثنا سنسهم في تقديم أنموذج بشري سوي. إن هذه المكونات الثلاث متجددة في نفسها، باحثة في أعماقها، ستعيد صياغة ذاتها متفاعلة مع بعد المعاصرة في حيويته ومقولاته الإنسانية وبخاصة في علومه وتقنياته التي تقترح آفاقًا جديدة يجب أن تغزي، وتكشف أغوارًا عميقة يجب أن تسبر.

وسائل هذا التجديد: حيث إن خطاب التجديد مسالم، بل متعاطف مع كل فعاليات الأمة، فعلي الجميع حكومات وأفرادًا وجمعيات أن تجد الوسائل الكفيلة بتنفيذه، فالصيغ التنظيمة لا قيمة لها في حد ذاتها إلاّ بقدر ما تؤديه من وظيفة نافعة، إلاّ أن العملاء والمفكرين يتحملون عُظم مسؤوليته، فهم الذين سيقع عليهم عبء ترجمته من سماء النظريات والرؤى الفكرية إلى أرضية التطبيق ليصبح برنامجًا عليمًا يصلح للتنفيذ في ظروف الأمة الزمانية والمكانية، وفي ظروف كل جزء منها على حده.

لهذا فإن الكليات التي أشرنا إليها في الشريعة لملامسة جوانب اسعة من جهة، وضبط المسار بثوابت شرعية ليست وظيفتها رفع الحرج عن ضمير الفرد والجماعة حتى يصبح أكثر انسجامًا مع ما تتطلبه مقتضيات العصر فحسب، ولكن ليكون العمل أكثر إيجابية ولصوقًا بالواقع، يصبح وضع الخطط العلمية ضرورة لقيام ورشة أو ورشات عمل لدراسة تلك المبادئ والأصول والقوعد والكليات في ضوء مقترحات المعاصرة، وعلى خلفية تطوير الأنساق الاجتماعية والاقتصادية والتربوية، ولا يكتفي أن نستنبط من هذه المبادئ بل علينا تكوين عقليات اجتهادية جبارة كأبي حنيفة وأضرابه، وهذه الخطوة وسيلتها المجامع الفقيهة والجامعات والمراكز الحكومية والخاصة، كما يجوز لأي كان أن يسهم في وضع مفرادتها وتفصيلاتها.

كما أن دارسة التاريخ والسير لن تسمح بتجلية العبقريات فقط، ولكن بمحاولة الإفادة من كيفية تعامل هذه العبقريات السياسية والقيادية مع ظروفها التاريخية.

كما أنه يجب إدماج الدراسات الإنسانية بالدراسات الإسلامية، بخاصة علم النفس الحديث؛ لتكوين الشباب المؤهل نفسيًا لمواجهة التجديد.

وفي اللغة ستكون المجامع للغوية خير وسيلة، وكذلك النوادي، وكل الهيئات والجماعات ذات الصلة.

وإن الصحافة والجامعات والمراكز العلمية يجب أن تكون أكثر نشاطًا وحيوية، ويجب التركيز على البحوث العلمية المتكيفة مع البيئة المحلية.

أيها الإخوة:

إنني في النهاية لست متشائمًا، فإن مستقبل ثقافتنا هو ما سنكون، ومستقبلنا هو ما ستكون، وهو ما نريد جميعًا –بإذن الله- إذا تم الاتفاق وإذا اتفقت حكوماتنا على خطوط محددة في بناء الجسور الثقافية وتحديد معالم استراتيجية ثقافية، ووضع خطط زمنية لتنفيذ مراحلها، طال الزمن أم قصر، فإن من شأن ذلك أن يشكل منعطفًا تاريخيًا في غاية الأهمية، وقد تكون أهمية مساوية لأهمية اتفاق السوق الاقتصادية الذي برزت تباشيره بإعفاء جزئي لبعض السلع، وإنشاء بعض المناطق الحرة للتبادل التجاري.

إن الثقافة العربية قوية البناء الداخلي، راسخة الجذور، خبرت أزمات التاريخ فحولت جبابرة المغول والأتراك إلى أتباع وخدام أوفياء. إن أحزمة أمنها منتشرة في العالم الإسلامية.

وفي الختام:

فإن التجديد الذي نريده سيكون انطلاقًا من القوى المعنوية والتاريخية عبر معادلات ومرتكزات جديدة تنشئ فكرًا خلاقًا مستوعبًا ومضيفًا متجاوزًا الاستجابة والتكيف إلى الاحتراق والإبداع، والأخذ والعطاء، والشراكة الحضارية والندية.

إنه تطور نابع من عبقرية الأمة وحاجتها، شامل لكل ميدان على مستوى التحديد التاريخي، مبلورًا المشروع الحضاري الواعد الواعي، مدمجًا القيم والتاريخ في بوتقة الحاضر والمستقبل، وفي تناغم وتناسق، في خطاب قديم في مضامينه، جديد في طروحاته، أصيل في مقارباته، ولهذا فهو الجديد بالنوع، القديم بالجنس الذي يجعل من التراث حافزًا، ولا يقيم منه حاجزًا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

والله ولي التوفيق.


 


([1]) تراجع مقدمة فوكويا، نهاية التاريخ، الترجمة الفرنسية.

 

 

 

تحالف القيم الجزء الثالث

سماحة الإمام عبد الله بن بيه ،يتناول بالدرس والتحليل موضوع “تحالف القيم بين الشعوب”، انطلاقا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم “لقد شهدت بدار عبد الله بن جدعان حلفا، لو دعيت به في الإسلام لأجبت”. وقد كانت المحاضرة ضمن الدروس الحسنية – 2007 المملكة المغربية

تحالف القيم الجزء الرابع

سماحة الإمام عبد الله بن بيه ،يتناول بالدرس والتحليل موضوع “تحالف القيم بين الشعوب”، وقد كانت المحاضرة ضمن الدروس الحسنية – 2007

القيم المشتركة

 

             بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه

 

القيم المشتركة 

نشكر للجهات التي دعتنا لنفكر معاً حول القيم لتكون أساسًا للتفاهم والتقارب والوئام، إذا بحثنا عن الأسس المشتركة، وفتشنا عن أصعدة الالتقاء في مجهود لإبراز كوامنها وتنمية دوافعها وحوافزها؟ ذلك ما انتهيت إليه لأبرّر لنفسي تقديم ورقة في هذا الموضوع.

ولهذا فلا تنتظروا أطروحة فلسفية تفك الاشتباك بين المدارس الفلسفية؛ سأتحدث حديثًا مختصرًا بعد تعريف القيم عن إشكالية وجود قيم مشتركة على ضوء الفلسفة، وعلى ضوء ما يستنتج من نصوص الشرع وأقوال العلماء.

دعونا أولاً نقول ما هي القيم. 

فما هي القيم ؟

إذا راجعنا ما يمكن أن يرادف هذه الكلمة في اللغات الغربية لوجدنا كلمة ETHIQUES     التي تدل على مجموعة قواعد السلوك، كما نجد كلمة VALEURS  باللغة الفرنسية، ومن معانيها ما يعتبر حقًا وجميلاً وخيرًا طبقًا لمعايير شخصية أو اجتماعية ويوظف كمعيار ومرجع لمبدأ خلقي.

أما ما تشير إليه الكلمة وتوحي به ظلالها في اللغة العربية، فالقيم جمع قيمة، وهي ما يكون به الشيء ذا ثمن أو فائدة، يقول المثل العربي: قيمة كل امرئ ما يحسنه”.

وتشير القيمة إلى الخصلة الحميدة والخلة الشريفة التي تحض الإنسان على الاتصاف بها كحرصه على اقتناء الأشياء ذات القيمة الثمينة والاحتفاظ بها، والقيمة ثمن الشيء الذي يقوم مقامه.

وترد القيم مفردًا مصدرًا، ومنه: دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ [إبراهيم:161]، في قراءة جماعة من القراء، وكذلك ورد في قوله تعالى: وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا[النساء:5]، في قراءة نافع، أي بها تقوم أموركم.

والشيء القيّم الذي له قيمة عظيمة مبالغة، وأصله قويم على رأي الفراء، وفيعل شاذ على رأي سيبويه، وقرأت طائفة دِينًا قِيَمًا أي مستقيمًا أو كافيًا لمصالح العباد يقوم عليها.

وهي عند بعض الفلاسفة حكم يصدره الإنسان على الأشياء وينبع  منه الاعتراض والاحتجاج على الوجود كما هو قائم ومفروض لتحويل هذا الوجود وفق ما ينبغي أن يكون.

تبعًا لهذا الأصل اللغوي فإن القيم هي تلك المبادئ الخلقية التي تمتدح وتستحسن وتذم مخالفتها وتستهجن، ولعلنا لا نتوقف طويلاً عند وصف هذه المبادئ بأنها خلقية؛ لأن الأخلاق تحتاج إلى تعريف، وباختصار فهي تلك السجايا الكامنة في النفس، وهي أيضًا المظهر الخارجي لتلك السجايا.

وقد رأي بعضهم :أن الخلق هو صفة نفسية لا شيء خارجي، والمظهر الخارجي هو سلوك أو معاملة” ([1]).

وإذا كان الأمر كذلك فلا يسمى قيمة إلا ما كان مستحسنًا على أن يحظى باستحسان عام ومستمر، فما يحبه شخص من طعام لا يمكن أن يُسمي قيمة، لكن هذا الاستحسان العام قد يكون قاصرًا على مجتمع معين أو يكون عامًا للبشرية كلها.

لا أضيف لكم علماً إذا قلت إن الفلاسفة لم يكونوا متفقين على وجود قيم مشتركة واسمحوا لي بتقديم استشهادين لوجهتي نظر يوضحانها.

إن القيم الخاصة بالمجتمعات المعينة والتي مردها إلى العرف والعادة أو الدين أمر لا شك فيه، ولكن القيم العامة المشتركة هي أمر تردد فيه الفلاسفة.

إن تحرير محل النزاع كما يقول أهل الأصول هو: ما هو مركز القيمة؟ وهل للخير الذي هو أساس القيم وجود موضوعي مطلق؟ وهل هناك خير بالمعني العام؟ أو هو دائمًا نسبي تبعًا لرضا فرد معين أو فئة معينة؟

لقد اختلف الفلاسفة في هذه المسألة الأساسية اختلافًا شديدًا وذهبوا فيها مذاهب، فكانوا طرائق قددًا من اقتصاديين واجتماعيين ونفعيين ومثاليين، أعفيكم من ذلك بل أُجمل الكلام في موقفين هما موقف من يقول بالنسبية، أي أن القيمة هي نسبية ولا توجد قيم عامة بغض النظر عن العنوان الذي يوضع ذلك تحته، ومن يقول بعموم القيم بغض النظر عن دوافعه، ثم أعرج على موقف الإسلام من ذلك، ثم أنتهي إلى مقولة لغوية.

إن أفضل ما يعبر عن النسبية واعتماد القيم على البيئة هذه الفقرات لوايتهيد في كتابه مغامرات الأفكار حيث يقول:وتفاصيل هذه المقاييس الخلقية تتعلق بالظروف الاجتماعية الخاصة بالمحيط المرافق للحياة في زمن معين على الجانب الخصب من الصحراء العربية، والحياة على المنحدرات السفلى من جبال الهملايا، والحياة في سهول الصين أو سهول الهند، والحياة في دلتا أي نهر عظيم.

كما أن معني المقاييس متغير وغامض، فهناك مثلاً مفاهيم الملكية والعائلة والزواج والعقل، والله سبحانه وتعالى، فالسلوك الذي ينتج في محيط ما وفي مرحلة ما مقياسه المناسب من الإشباع المتوافق قد يكون في محيط آخر وفي مرحلة أخرى منحطًا انحطاطًا مدمرًا، ولكل مجتمع نمطه الخاص من الكمال وهو يحتمل صعوبات معينة حتمية في مرحلته.

وهكذا فإن المفهوم القائل بوجود مفاهيم تنظيمية معينة مضبوطة ضبطًا كافيًا لإيضاح تفاصيل السلوك لكل الكائنات العاقلة على الأرض، وفي كل كوكب آخر، وفي كل مجموعة شمسية، وهو مفهوم يستحق الإهمال، فذلك هو مفهوم نمط واحد من الكمال يهدف إليه الكون كله” ([2])، وهذا هو مذهب النسبية.

وإلى جانبه المذهب المطلق، وعبّر عنه خير تعبير هنترميد بقوله: يمكن التعبير عن موقف المذهب المطلق باختصار بأنه يري أنه لا يوجد إلا معيار واحد أو في حالة الأخلاق قانون واحد هو الصحيح منذ الأزل، وهو الذي يسري على البشر أجمعين، هذا المعيار لا يسري على نحو عالمي شامل فحسب، بل إنه أيضًا مستقل عن العصر، وعن الموقع الجغرافي، والتقاليد الاجتماعية المألوفة، والعرف القانوني وكل شيء آخر، والأمر الذي يشكل التزامًا لي في هذا المكان والزمان هو بالمثل التزام للصيني أو الأسباني أو البولندي.

وهو فضلاً عن ذلك قد كان التزامًا لليوناني القديم والأوروبي في القرون الوسطي سواء أكان يعلم ذلك أم لم يكن، وهو سيكون التزامًا بالنسبة إلى جميع الأجناس والمدنيات التي ستعقب مدنيتنا، فما هو خير الآن كان خيرًا عندئذٍ وسيكون خيرًا في المستقبل البعيد، وما كان شرًا في الماضي ما زال شرًا وسيظل كذلك أبد الدهر، وليس هناك قانون أخلاقي للماضي وآخر للحاضر، ولا معيار للشرقي وآخر للغربي، وإنما الخير والحق شامل يسري على كل زمان ومكان”([3]).

إن نظرية المبدأ المطلق تجد سندها في الديانات السماوية وخصوصًا تلك التي تؤمن بالشمولية، ويعترف هنتر ميد بذلك أن الحضارة الغربية أصلها مسيحي، قائلا: وحين نقول المسيحي فإننا نعني بالنسبة للفلسفة “التوحيدي”، فالإيمان بإله واحد يحكم الكون الذي خلقه أساس للتفكير الديني للغرب.. وهذه الأوامر أوامر الإله شاملة تنطبق على الناس جميعًا في كل مكان”.

المصدر المنطقي: ربما كان “كانت” أشهر العقلانيين في ميدان الأخلاق، فقد كان “كانت” يعتقد أن التحليل يستطيع على الدوام أن يثبت أن خرق القانون الأخلاقي هو أيضًا خرق لقانون المنطق. فاللاأخلاقية تنطوي دائمًا على تناقض، ولنقتبس أشهر الأمثلة التي ضربها “كانت” في هذا الصدد.

فعندما نعطي وعدًا دون أن يكون في نيتنا الوفاء به فإن سلوكنا يكون شرًا؛ لأننا نتصرف على أساس مبدأين متناقضين في آنٍ واحد أول هذين المبدأين هو أن الناس ينبغي أن يؤمنوا بالوعد ولكني أخلفت وعدي، فمعني ذلك أن لكل شخص الحق في أن يخلف وعوده ما دام القانون الأخلاقي ينبغي أن يكون شاملاً، ولو أخلف كل شخص وعوده لما عاد أحد يؤمن بالوعود ولكان لنا مبدأ آخر هو أن من الصحيح أن أحدًا لا ينبغي أن يؤمن بالوعد، وهو مبدأ يتناقض مع الأول”.([4])

أما نحن المسلمين فكل تصوراتنا الفكرية تشير إلى أساس مشترك للقيم بين الإنسان على الأسس التالية:

1- قرر الإسلام مبدأ المساواة المطلقة بين الناس وردهم إلى أصل واحد، لأن رّبهم واحد وأباهم واحد، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا[الحجرات:13].

وقال عليه الصلاة والسلام: يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كُلّكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا أبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى.([5])

لهذا فأنا مع وجهة النظر التي تؤمن بوجود قيم مشتركة واعتقد أن العولمة في العالم الحالي ووسائلها والمواصلات والتواصل ألغت الحاجز المادي الذي تحدث عنه الفيسلوف وايتهد إلا أن الحاجز النفسي لا يزال قائماً.

ورسالة النبي الخاتم سيدنا محمد  هي للناس كافة، قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[الأعراف:158].

قرر الإسلام أن النزعة إلى الخير والإيمان والحق فطرة لكل الناس. قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ[الروم:30].

إنه مهما استغرق المرء في مجادلات فكرية حول المبدأ المطلق والنسبي، وتلوت به النظريات الفلسفية في معارج منعرجات لا نهاية لها، فإن من البديهي أنه توجد قيم مشتركة وأن العقل الذي هو أحسن الأشياء توزيعاً بين الناس كما يقول ديكارت واللغة هما خير برهان على ذلك.

فكل عقل وكل لغة يعتبر فيها “العدل” كلمة نبيلة حبيبة على النفوس، وكلمة “الصدق”، وكلمة “الحرية”، “التسامح”، “الوفاء” وغيرها من الألفاظ المحمودة عند كل الأقوام.

وفيها نقيض تلك الألفاظ وهو مذموم لا يقبله أحد مثل “الجور”، “الظلم”، فلو قلت لأشد الناس جورًا إنه جائر لسخط من ذلك وأحب أن يوصف بالعدل “الكذب” حتى الكذّاب لا يريد أن يوصف بذلك، “التعصب”، “الخيانة”، “الغدر”، إنها صفات مذمومة كريهة إلى النفوس ممقوتة من جميع الأقوام، الفطرة والعقل يمجّانها. أليس ذلك دليلاً عمليًا وبرهانًا ساطعًا على وجود قيم مشتركة؟

إنه بتفعيل قيم الأخلاق الكريمة وليس فقط حقوق الإنسان التي تمثل الحد الأدنى الذي لا غنى عنه لتعايش البشرية : كالرأفة والرحمة والإيثار والتضامن ومساعدة المحتاج من الفقراء والعاجزين دون التفات إلى عرقهم أو دينهم أو أصولهم الجغرافية من شأن ذلك أن يقدم مفهوماً جديداً للإنسانية يتجاوز المبدأ المحايد لحقوق الإنسان المتمثل في المساواة وعدم الاكتراث بالاختلاف إلى الإيجابية في التعامل التي تشعر الآخر بدفء المحبة والأخوة.

وهو يوافق الحكمة العربية المأثورة: عامل الناس بما تحب أن تعامل به. والحديث النبوي يشير إلى معان أعمق عندما يقول: لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”.

إنه يضيف قيمة “الحب” وقيمة “الأخوة الإنسانية” التي تشعر بوشيجة القربى. ليس ذلك التفسير من قبلي للمناسبة. فالعلماء قبل قرون من الزمن كابن رجب الحنبلي في شرحه للأربعين والشبراخيتي قالوا إن الأخوة في الحديث هي الأخوة الإنسانية.

إن الحب قيمة جميلة لأن كل إنسان يحب أن يكون محبوباً بل قل أن تجد إنساناً يود أن يبغضه الآخرون ومن المفارقات أن بعضهم يحارب الآخرين بدعوى أنهم لا يحبونه إنه يخطئ الوسيلة كما قال صاحبنا الموريتاني.

فإذا تحقق الحب من الجانبين انتفى العدوان إن الحب عواطف وسلوك وعنوان وإعلان ولهذا جاء في الحديث: ” إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه بذلك”.

لماذا هو قيمة لأن كل الناس يعجبون به حتى من لم يسلك طريقه وذلك هو معيار القيمة لا يرضى أي شخص إلا أن يتصف بها فلا يرضى أحد إلا أن يكون عادلاً إلا أن يكون متسامحاً.

إلا أن هذه القيم قد تذبل إذا لم تتعهد وتنمى بالتربية ولهذا يقول الشاعر: 

     هي الأخلاق تنبت كالنبات       إذا ُسقِيَت بماء المكرُمات

إن أهم قيمة يمكن أن تكون مفتاحاً لحل مشاكل العالم هي احترام الاختلاف بل حب الاختلاف بحيث ينظر إليه كإثراء كجمال كأساس لتكوين المركب الإنساني.

إنه بحسن إدارتنا للاختلاف وترقية الفضيلة –قانون الفضيلة- إلى جانب قانون حقوق الإنسان يمكن أن نضع أساساً لتفعيل القيم المشتركة ليكون الاختلاف انسجاماً والعداوة محبة طبقاً للآية أدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم  إنه قانون أخلاقي يثبته القرآن “الإحسان” يورث الإحسان والحب يعطي الحب.

فهل لنا أن نأمل في تنمية جوانب الخير والقيم الإنسانية الخيرة المشتركة، إن سلوكنا الفاضل، وتسامحنا، وسخاءنا، وصدقنا، ووفاءنا، وأمانتنا من شأنه أن يقنع الآخر، وهو الإنسان الذي حمل نفس الإعجاب بتلك القيم أن يعاملنا بنفس المعاملة النبيلة، فالخير يدعو للخير، والسخاء يستدعي السخاء. إن إقناعنا للغير بسلوك سبيل الخير أهم قضية إنسانية. ونقتبس من أفلاطون قوله:إن خُلُق العالم هو تعبير عن غلبة الإقناع على القوة.

وتتألف قيمة البشر من قابليتهم للإقناع، فهم يستطيعون أن يقنعوا ويقتنعوا بإظهارهم على مختلف الوسائل التي يمكن أن يُستعاض بإحداها عن الأخرى، فمنها الأحسن ومنها الأسوأ، والحضارة هي الحفاظ على النظام الاجتماعي بواسطة الإقناع الفطري الذي يتجسد باختيار الأفضل.

أما استخدام القوة مهما يكن ذلك حتميًا فإنه يكشف عن فشل الحضارة سواءً كان ذلك بالنسبة للمجتمع العام أم بالنسبة للأفراد”.

 وكذلك فإن هذا الانسجام لن يكون مقتصراً على المجتمعات المختلفة الثقافة بل إننا بحاجة إلى إيجاد هذا الانسجام في حياة كل فرد والذي قد ينتمي إلى ثقافات مختلفة وبالتالي قد ينشأ في نفسه نوع من صراع القيم الذي يجب أن يتحول إلى انسجام وإلى إثراء لشخصيته فهو مثلاً آسيوي بأصوله مسلم بالديانة بريطاني المولد والمنشأ.

وهكذا كنا ندرسه في تراجم العلماء الأقدمين فهو ثراء وليس تناقضاً أو يمكن أن يكون كذلك

كذلك فلنجرب فلنبدأ حتى يكون رجاؤنا مبنياً على أساس وإلا فإنه ليس برجاء إنما هو غرور فلا يمكن أن تتصور إذا كنت لم تقدم أي وسيلة للحب أن تصل إليه إنما هو غرور كما يقول أبوحامد الغزالي إنه كحال من لم يزرع ولم يبذر الزرع وهو ينتظر الحصاد أو من لم يتزوج وهو ينتظر الأولاد .

 

وأيضا فإن هناك مشكلة اتساع الخلف بين القول والعمل. كما يقول الطغرائي إنه النفاق.

فهناك اختلاف كبير بين سياسات الساسة وبين القيم وهو اختلاف لو انكمش لأمكن تجنب كثير من التضحيات الحمقاء إنها تعمى الأبصار .

توجيه النظر إلى زاوية قيم التسامح بدلاً من الكراهية والعنف وصرف طاقات الشباب وشجاعتهم في قنوات الإبداع والمصالح العامة بدلاً من إكراههم على الحروب في الجيوش أو تطوعهم للموت في الفرق الانتحارية وتقديم بدائل للوصول إلى المصالح بدون حروب مطلقاً أو بعمليات عسكرية واستخبارية أقل كلفة وأقل عدوانية.

إن صحوة ضمير عالمي ضرورة لإعادة كتابة دستور للفضيلة وللتذكير بحقوق الإنسان من جديد وإنها لكل إنسان ؛ ولكن عندما نسمع السجال بين الديمقراطيين والجمهوريين في أكبر قوة عالمية تدرك أن هذه الصحوة مازالت بعيدة المنال إذ كل الجدال حول الوسائل وليس حول الأهداف ولا المبادئ ، إنه أمر مزعج يدل على أن ساعة الانتظار مازالت طويلة وأن فك الاشتباك لا يتوقع قريباً.

وأخيراً : فإنه اختلاف في القيم الأساسية الكبرى كالحق في الحياة والكرامة والحرية ، ولكن لعل الاختلاف في التفاصيل المتمثلة فيمن يستحق الحياة ومن يستحق الحرية.

إن احترام الاختلاف وترسيخ أهميته ومد جسور الوحدة وغيره هو وحده الذي يعيدنا إلى قيمة الإنسان وهو أننا جميعاً نستحق هذه القيم.    

وفي الختام : فإنه لترسيخ هذه القيم وتحجيم القيم المضادة يجب أن يكون رجال الدين جزءاً من الحل وليس جزءاً من المشكلة كما شاهدناه من انزلاق بعضهم على الضفتين ومن مختلف الديانات في إثارة نعرات الخلاف ومحاولة إرضاء جمهوره بما يعود سلباً على قيم التضامن الإنساني وحسن التفاهم.

كما أن وسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والجامعات ومراكز البحث مدعوة لأن تلعب دوراً إيجابياً في تنمية القيم كما أن القادة السياسيين مدعوون للانخراط في جهد جاد لتخفيف وطأة الظلم والفقر حيثما وجدا لإيجاد حلول للقضايا المزمنة ولو نصف حلول أو نصف عدالة لأن الحل بالوسائل العسكرية غير أخلاقي وأيضا غير ممكن تلك إحدى الحقائق.         

إننا هنا لا نملك أكثر من الوعظ الذي يحاول أن يركز على ثلاثة أهداف أساسية:

أولاهم: تقديم دروس قيم مقنعة لأهل أوربا وبخاصة لشباب المسلمين تردعهم وإلى الأبد عن ارتكاب حماقات الإرهاب والجريمة.

ثانياً: دعوة الجهات المعنية في الغرب بمنحهم حقوقهم وبخاصة الحقوق الثقافية ليكونوا عنصراً فعالاً له خصائصه التي لا تتناقض مع المجتمع الأوربي في الخطوط الأساسية.

ثالثاً: دعوة الغربيين إلى إعادة النظر في العلاقة بالعالم الإسلامي على ضوء القيم لإيجاد تعايش أكثر إسعاداً للجميع لأنه أكثر أخلاقية وأكثر ذكاء وسخاء.             

 


 


[1] أحمد أمين       الأخلاق   ص63  

([2]) مغامرات الأفكار: وايتهيد، ترجمة أنيس زكي حسن، ص439.

([3]) هنتر ميد: الفلسفة أنواعها ومشاكلها، ص 264 ترجمة فؤاد زكريا.

([4]) هنتر ميد: المرجع نفسه، ص267.

[5]– أخرجه الترمذي.

الموسيقى مع النشيد &المولد النبوي

فتوى لمعالي العلامة ابن بيه في حكم الإحتفال بالمولد النبوي الشريف وكذالك فتوى حول السماع للموسيقى مع النشيد

الحضانة في الشرع

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه 

  

الحضانة في الشرع 

 الحضانة من المؤسسات الشرعية التي لا يوجد لها نظير في النظم الوضعية على الرغم من التطورات الحديثة فيما يتعلق بحقوق الطفل التي ظلت أكثرها توصيات غير محددة المعالم لا من حيث طابع عدم الإلزام بل أيضا من حيث الجهات المكلفة بها. ففي هذه المواثيق تسرد حقوق بدون جهات تجب عليها. 

وقد كفلت الشريعة حقوق الأفراد والجماعات البشرية بل وكل الكائنات في هذا الكون

(وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل)     [1]

 


وبخاصة المخلوقات الضعيفة التي تحتاج في المحافظة على وجودها إلى حماية ورعاية ولم تكتف بوصايا ونصائح يطبقها من شاء ويذرها من شاء بل قننتها في نصوص ملزمة يرعاها المجتمع تطبيقاً للأوامر الربانية وصيانة للكينونة الإنسانية.


ومن هذه الفئات التي رعتها الشريعة حق الرعاية المرأة والطفل وسنت لذلك قواعد عامة وأحكاماً جزئية تفصيلية ترجع إلى مقاصد: العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى. 

الناظمة في مجملها للحقوق والواجبات ومحاسن الأخلاق والمعاملات والعادات.


والمقصد العام في الحضانة هو صيانة الطفل والمقصد الخاص هو تكليف المرأة بالحضانة لما جبلت عليه من الشفقة والرأفة. 

فالحضانة كما يقول القرافي تفتقر إلى وفور الصبر على الأطفال في كثرة البكاء والتضجر وغيرهما من الهيئات العارضة لهم وإلى مزيد الشفقة والرقة الباعثة على الرفق بهم ولذا فرضت على النساء غالباً لأن علو همة الرجال تمنعهم الانسلاك في أطوار الصبيان في المعاملات وملامسة الأقذار وتحمل الدناءة”.


قلت: ولعل غلظة الرجل هي السبب وليس علو الهمة والمرأة وهي تقوم بواجب الحضانة لا تمارس دناءة وإنما تؤدي واجباً وتنشر رحمة. فرحم الله القرافي فلعله لا يقصد بذلك تشهيراً بالمرأة ولا حطاً من مكانتها.  

والحضانة ولاية ولهذا يشترط في الحاضن أن يكون أهلاً لذلك ذا كفاية لرعاية المحضون وصيانته.


وأجمل الشروط التي يجب توفرها في الحاضن الشيخ خليل المالكي في النص التالي:” وشرط الحاضن العقل والكفاية لا كمسنة وحرز المكان في البنت يخاف عليها والأمانة واثبتها وعدم كجذام مضر ورشد لا إسلام وضمت إن خيف لمسلمين وإن مجوسية أسلم زوجها وللذكر من يحضن وللأنثى الخلو عن زوج دخل”. إلى قوله: وأن لا يسافر ولي.


وهذه الشروط في جملتها موجودة في المذاهب الأربعة مع تفصيل في بعضها واختلاف في بعضها. 

فلم يشترط المالكية الإسلام وكذلك الأحناف واشترطوا الرشد بالإضافة إلى الشافعية خلافاً لغيرهم.    

  

التعريف: 

الحضانة لغة: مصدر حضن ومنه حضن الطائر بيضه إذا ضمه إلى نفسه تحت جناحيه وحضنت المرأة صبيها إذا جعلته في حضنها أو ربته والحاضن والحاضنة الموكلان بالصبي يحفظانه ويربيانه وحضن الصبي يحضنه حضناً: رباه.    [2] 

وهي بفتح الحاء أشهر من كسرها مأخوذ من الحضن ما تحت الإبط للكشح. وهي كما في اللباب الحفظ والصيانة كما في الزرقاني. 

والذي في القاموس وشرحه التاج إنها بالكسر فقط. 

والحضانة شرعاً: هي حفظ من لا يستقل بأموره وترتبيته بما يصلحه. 

وعرفها بعضهم بأنها: صيانة العاجز والقيام بمصالحه.    [3] 

وعرفها ابن عرفة: بأنها حفظ الولد في مبيته ومؤنة طعامه ولباسه ومضجعه وتنظيف جسمه. 

مقتضى الحضانة: حفظ المحضون وإمساكه عما يؤذيه وتربيته لينمو وذلك بعمل ما يصلحه وتعهده بطعامه وشرابه وغسله وغسل ثيابه ودهنه وتعهد نومه ويقظنه.


الحكم التكليفي: الحضانة واجبة شرعاً لأن المحضون قد يهلك أو يتضرر بترك الحفظ فيجب حفظه عن الهلاك فحكمها الوجوب العيني إذا لم يوجد إلا الحاضن أو وجد ولكن لم يقبل الصبي غيره والوجوب الكفائي عند تعدد الحاضن.    [4] 

أو إذا كان الولد لقيطاً فإنه تجب كفائياً على جماعة المسلمين حضانته إذ يقول خليل في مختصره:” ووجب لقط طفل نبذ كفاية وحضانته ونفقته إن لم يعط من الفيء”. 

وتبع خليل ابن الحاجب وابن شاس والغزالي في أن اللقط فرض كفاية إلا أنه إن وجد بيت مال تعين حفظه على الناظر فيه كما يراه ابن عرفة.      


صفة المحضون: تثبت الحضانة على الصغير باتفاق الفقهاء وكذلك الحكم عند الجمهور-الحنفية والشافعية والحنابلة وفي قول عند المالكية-بالنسبة للبالغ المجنون والمعتوه.


والمشهور عند المالكية أن الحضانة تنقطع في الذكور بالبلوغ ولو كان زمناً أو مجنوناً.    [5]


المستحقون للحضانة وترتيبهم: الحضانة تكون للنساء والرجال من المستحقين لهم إلا أن النساء على الرجال لأنهن أشفق وأرفق وبها أليق وأهدى إلى تربية الصغار ثم تصرف إلى الرجال لأنهم على الحماية والصيانة وإقامة مصالح الصغار أقدر.    [6] 

وحضانة الطفل تكون للأبوين إذا كان النكاح قائماً بينهما فإن افترقا فالحضانة لأم الطفل باتفاق لما ورد أن امرأة أتت رسول الله     r     فقالت يارسول الله: إن ابني هذا كان بطني له وعاء وحجري له حواء وثديي له سقاء وزعم أبوه أنه ينزعه مني فقال: أنت أحق به ما لم تنكحي”.    [7]


ولكل أهل مذهب طريقة خاصة في ترتيب مستحقي الحضانة بعد الأم ومن يقدم عند الاستواء في الاستحقاق. مع مراعاة أن الحضانة لا تنتقل من المستحق إلى من بعده من المستحقين إلا إذا أسقط المستحق حقه في الحضانة أو سقطت لمانع.


ما يشترط فيمن يستحق الحضانة: الحضانة من الولايات والغرض منها صيانة المحضون ورعايته وهذا لا يتأتي إلا إذا كان الحاضن أهلاً لذلك ولهذا لا يشترط الفقهاء شروطاً خاصة لا تثبت الحضانة إلا لمن توفرت فيه وهي أنواع ثلاثة: شروط عامة في النساء والرجال وشروط خاصة بالرجال.


أما الشروط العامة فهي:

1- الإسلام وذلك إذا كان المحضون مسلماً إذ لا ولاية للكافر على المسلم وللخشية على المحضون من الفتنة في دينه وهذا شرط عند الشافعية والحنابلة وبعض فقهاء المالكية ومثله مذهب الحنفية بالنسبة للحاضن الذكر.. أما عند المالكية في المشهور عندهم وعند الحنفية بالنسبة للحاضنة الأنثى فلا يشترط الإسلام إلا أن تكون المرأة مرتدة لأنها تحبس وتضرب –كما يقول الأحناف- فلا تتفرغ للحضانة.


أما غير المسلمة –كتابية كانت أو مجوسية- فهي كالمسلمة في ثبوت حق الحضانة قال الحنفية: ما لم يعقل المحضون الدين أو يخشى أن يألف الكفر فإنه حينئذ ينزع منها ويضم إلى أناس من المسلمين لكن عند المالكية إن خيف عليه فلا ينزع منها وإنما تضم الحاضنة لجيران مسلمين ليكونوا رقباء عليها.    [8]


2- البلوغ والعقل فلا تثبت الحضانة لطفل ولا لمجنون أو معتوه لأن هؤلاء عاجزون عن إدارة أمورهم وفي حاجة لمن يحضنهم فلا توكل إليهم حضانة غيرهم وهذا باتفاق في الجملة حيث أن للمالكية تفصيلاً في شرط البلوغ.    [9]


3- الأمانة في الدين فلا حضانة لفاسق لأن الفاسق لا يؤتمن والمراد: الفسق الذي يضيع المحضون به كالاشهار بالشرب والسرقة والزنى واللهو المحرم أما مستور الحال فتثبت له الحضانة. قال ابن عابدين: الحاصل أن الحاضنة إن كانت فاسقة فسقاً يلزم منه ضياع الولد عندها سقط حقها وإلا فهي أحق به إلى أن يعقل الولد فجور أمه فينزع منها وقال الرملي: يكفي مستورها أي مستور العدالة. قال الدسوقي: والحاضن محمول على الأمانة حتى يثبت عدمها.    [10]


4- القدرة على القيام بشأن المحضون فلا حضانة لمن كان عاجزاً عن ذلك لكبر سن أو مرض يعوق عن ذلك أو عاهة كالعمى والخرس والصمم أو كانت الحاضنة تخرج كثيراً لعمل أو غيره وتترك الولد ضائعاً فكل هؤلاء لا حضانة لهم إلا إذا كان لديهم من يعني بالمحضون ويقوم على شئونه فحينئذ لا تسقط حضانتهم.    [11]


5- ألا يكون بالحاضن مرض معد أو منفر يتعدى ضرره إلى المحضون كالجذام والبرص وشبه ذلك من كل ما يتعدى ضرره إلى المحضون.    [12]


6- الرشد: وهو شرط عند المالكية والشافعية فلا حضانة لسفيه مبذر لئلا يتلف مال المحضون.    [13]


7- أمن المكان بالنسبة للمحضون الذي بلغ سناً يخشى عليه فيه فساد أو ضياع ماله فلا حضانة لمن يعيش في مكان مخوف يطرقه المفسدون والعابثون. وقد صرح بهذا الشرط المالكية.    [14]


8- عدم السفر الحاضن أو الولي سفر نقلة على التفصيل المذكور في مكان الحضانة.


مكان الحضانة وحكم انتقال الحاضن أو الولي:مكان الحضانة هو المسكن الذي يقيم فيه والد المحضون إذا كانت الحاضنة أمه وهي في زوجية أبيه أو في عدته من طلاق رجعي أو بائن. ذلك أن الزوجة ملزمة بمتابعة زوجها والإقامة معه حيث يقيم والمعتدة البقاء في مسكن الزوجية حتى تنقضي العدة سواء مع الوالد أو بدونه لقوله تعالى  (يا أََيهَا النَّبىُّ إِذَا طلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتهِنَّ وَ أَحْصوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكمْ لا تخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَ لا يخْرُجْنَ إِلا أَن يَأْتِينَ بِفَحِشة مُّبَيِّنَة وَ تِلْك حُدُودُ اللَّهِ وَ مَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظلَمَ نَفْسهُ لا تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يحْدِث بَعْدَ ذَلِك أَمْراً) [15]     

 وإذا انقضت عدة الأم فمكان الحضانة هو البلد الذي يقيم فيه والد المحضون أو وليه وكذلك إذا كانت الحاضنة غير الأم لأن للأب حق رؤية المحضون والإشراف على تربيته وذلك لا يتأتى إلا إذا كان الحاضن يقيم في بلد الأب أو الولي. 

هذا قدر مشترك بين المذاهب وهو ما صرح به الحنفية وتدل عليه عبارات المذاهب الأخرى.    [16] 

أجرة الحاضنة: ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الحاضنة لها الحق في طلب أجرة على الحضانة سواء أكانت الحاضنة أماً أم غيرها لأن الحضانة غير واجبة على الأم ولو امتنعت من الحضانة لم تجبر عليها في الجملة. ومؤنة الحضانة تكون من مال المحضون فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته لأنها من أسباب الكفاية كالنفقة. والأجرة على الحضانة للأم هي أجرة المثل قال الحنابلة: ولو مع وجود متبرعة بالحضانة لكن الشافعية قيدوا ذلك بما إذا لم توجد متبرعة ولا من ترضى بأقل من أجرة المثل فإن وجدت متبرعة أو وجدت من ترضى بأقل من أجرة المثل سقطت حضانة الأم وقيل: إن حضانة الأم لا تسقط وتكون أحق بالحضانة إذا طلبت أجرة المثل وإن تبرعت بها أجنبية أو رضيت بأقل من أجرة المثل وهذا على ما بحثه أبو زرعة.    [17] 

أجرة مسكن الحضانة: قال ابن عابدين – بعد نقله لهذه الأقوال-: والحاصل أن الأوجه لزوم أجرة المسكن على من لزمه نفقة المحضون فإن المسكن من النفقة لكن هذا إذا لم يكن لها مسكن أما لو كان لها مسكن يمكنها أن تحضن فيه الولد ويسكن تبعاً لها فلا تجب الأجرة لعدم احتياجه إليه. قال ابن عابدين: فينبغي أن يكون هذا توفيقاً بين القولين ولا يخفى أن هذا هو الأرفق للجانبين فليكن عليه العمل. 

سقوط الحضانة وعودها: تسقط الحضانة بوجود مانع منها أو زوال شرط من شروط استحقاقها كأن تتزوج الحاضنة بأجنبي عن المحضون وكأن يصاب الحاضن بآفة كالجنون والعته أو يلحقه مرض يضر بالمحضون كالجذام وغير ذلك مما سبق بيانه أو بسبب سفر الولي أو الحاضن حسب ما هو مبين في مكانه. 

وقد تسقط الحضانة بسبب إسقاط المستحق لها. 

انتهاء الحضانة: من المقرر أن النساء أحق بالحضانة من الرجال في الجملة وأن الحضانة على الصغار تبدأ منذ الولادة لكن انتهاء حضانة النساء على الصغار حال افتراق الزوجين مختلف فيه بين المذاهب وبيان ذلك فيما يلي: 

ذهب الحنفية إلى أن حضانة النساء على الذكر تظل حتى يستغني عن رعاية النساء له فيأكل وحده ويشرب وحده ويلبس وحده وقدر ذلك بسبع سنين – وبه يفتى- لأن الغالب الاستغناء عن الحضانة في هذه السن وقيل تسع سنين. 

وتظل الحضانة على الأنثى قائمة حتى تبلغ بالحيض أو الاحتلام أو السن وهذا كما في ظاهر الرواية إن كانت الحاضنة الأم أو الجدة أما غير الأم والجدة فإنهن أحق بالصغيرة حتى تشتهى وقدر بتسع سنين وبه يفتى. 

وعن محمد أن الحكم في الأم والجدة كالحكم في غيرهما فتنتهي حضانة النساء مطلقاً – أماً أو غيرها- على الصغيرة عند بلوغها حد الاشتهاء الذي قدر بتسع سنين والفتوى على رواية محمد لكثرة الفساد. 

فإذا انقضت حضانة النساء فلا يخير المحضون ذكراً كان أو أنثى بل يضم إلى الأب لأنه لقصور عقله يختار من عنده اللعب ولم ينقل أن الصحابة رضي الله عنهم خيروا وتظل ولاية الأب على الصغير والصغيرة إلى البلوغ فإذا بلغ الغلام مستغنياً برأيه مأموناً عليه فيخير حينئذ بين المقام مع وليه أو مع حاضنته أو الانفراد بنفسه وكذلك الأنثى إن كانت ثيباً أو كانت بكراً طاعنة في السن ولها رأي فإنها تخير كما يخير الغلام. 

وإن كان الغلام أو الثيب أو البكر الطاعنة في السن غير مأمون عليهم لو انفردوا بأنفسهم بقيت ولاية الأب عليهم كما تبقى الولاية على البكر إذا كانت حديثة السن وكذلك الحكم بالنسبة للمعتوه تبقى ولاية الأب عليه إلى أن يعقل.    [18]


وذهب المالكية إلى أن حضانة النساء على الذكر تستمر إلى بلوغه وتنقطع حضانته بالبلوغ ولو مريضاً أو مجنوناً على المشهور. 

أما الحضانة بالنسبة للأنثى فتستمر إلى زواجها ودخول الزوج بها.    [19]


وقال ابن شعبان من المالكية: أمد الحضانة على الذكر حتى يبلغ عاقلاً غير زمن. وعند الشافعية تستمر الحضانة على المحضون حتى التمييز ذكراً كان المحضون أو أنثى فإذا بلغ حد التمييز- وقدر بسبع أو ثمان غالباً- فإنه يخير بين أبيه وأمه فإن اختار أحدهما دفع إليه وإذا عاد واختار الثاني نقل إليه وهكذا كلما تغير اختياره لأنه قد يتغير حال الحاضن أو يتغير رأي المحضون فيه بعد الاختيار إلا إن كثر ذلك منه بحيث يظن أن سببه قلة تمييزه فإنه يجعل عند الأم ويلغى اختياره.


وإن امتنع المحضون عن الاختيار فالأم أولى لأنها أشفق واستصحاباً لما كان وقيل: يقرع بينهما وإن اختارهما معاً أقرع بينهما وإن امتنع المختار من كفالته كفله الآخر فإن رجع الممتنع منهما أعيد التخيير وإن امتنعا وبعدهما مستحقان للحضانة كجد وجدة خير بينهما وإلا أجبر عليها من تلزمه نفقته وتظل الولاية عليه لمن بقي عنده إلى البلوغ. فإن بلغ فإن كان غلاماً وبلغ رشيدا ولي أمر نفسه لاستغنائه عمن يكفله فلا يجبر على الإقامة عند أحد أبويه والأولى أن لا يفارقهما ليبرهما. قال الماوردي: وعند الأب أولى للمجانسة نعم إن كان أمرد أو خيف من انفراده ففي كتاب العدة لابن الصباغ أنه لا يمنع من مفارقة الأبوين. 

ولو بلغ عاقلاً غير رشيد فأطلق مطلقون أنه كالصبي وقال ابن كجّ: إن كان لعدم إصلاح ماله فكذلك وإن كان لدينه فقيل: تدام حضانته إلى ارتفاع الحجر والمذهب أنه يسكن حيث شاء.


وإن كان أنثى فإن بلغت رشيدة فالأولى أن تكون عند أحدهما حتى تتزوج إن كانا مفترقين وبينهما إن كانا مجتمعين لأنه أبعد عن التهمة ولها أن تسكن حيث شاءت ولو بأجرة هذا إذا لم تكن ريبة فإن كانت هناك ريبة فللأم إسكانها معها وكذلك للولي من العصبة إسكانها معه إذا كان محرماً لها فيسكنها في موضع لائق بها ويلاحظها دفعاً لعار النسب. 

وإن بلغت غير رشيدة ففيها التفصيل الذي قيل في الغلام. 

أما المجنون والمعتوه فلا يخير وتظل الحضانة عليه لأمه إلى الإفاقة.    [20]


والحكم عند الحنابلة في الغلام أنه يكون عند حاضنته حتى يبلغ سن السابعة فإن اتفق أبواه بعد ذلك أن يكون عند أحدهما جاز لأن الحق في حضانته إليهما وإن تنازعا خيره الحاكم بينهما فكان مع من اختار منهما قضى بذلك عمر رضي الله عنه ورواه سعيد وعلي وروى أبوهريرة قال: جاءت امرأة إلى النبي     r     فقالت: إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة وقد نفعني فقال النبي     r    : هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت فأخذ بيد أمه فانطلقت به”    [21]    .


ولأنه إذا مال إلى أحد أبويه دل على أنه أرفق به وأشفق وقيد بالسبع لأنها أول حال أمر الشرع فيها بمخاطبته بالصلاة بخلاف الأم فإنها قدمت في حال الصغر لحاجته ومباشرة خدمته لأنها أعرف بذلك قال ابن عقيل: التخيير إنما يكون مع السلامة من فساد فإن علم أنه يختار أحدهما ليمكنه من فساد ويكره الآخر للتأديب لم يعمل بمقتضى شهوته لأن ذلك إضاعة له.

ويكون الغلام عند من يختار فإن عاد فاختار الآخر نقل إليه وإن عاد فاختار الأول رد إليه هكذا أبداً لأن هذا اختيار تشه وقد يشتهي أحدهما في وقت دون آخر فأتبع بما يشتهيه فإن لم يختر أحدهما أو اختارهما معاً أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر ثم إن اختار غير من قدم بالقرعة رد إليه ولا يخير إذا كان أحد أبويه ليس من أهل الحضانة لأن من ليس أهلا للحضانة وجوده كعدمه. وإن اختار أباه ثم زال عقله رد إلى الأم لحاجته إلى من يتعهد كالصغير وبطل اختياره لأنه لا حكم لكلامه.


أما الأنثى فإنها إذا بلغت سبع سنين فلا تخير وإنما تكون عند الأب وجوباً إلى البلوغ وبعد البلوغ تكون عنده أيضا إلى الزفاف وجوباً ولو تبرعت الأم بحضانتها لأن الغرض من الحضانة الحفظ والأب أحفظ لها وإنما تخطب منه فوجب أن تكون تحت نظره ليؤمن عليها من دخول الفساد لكونها معرضة للآفات لا يؤمن عليها للانخداع لغرتها. 

والمعتوه ولو أنثى يكون عند أمه ولو بعد البلوغ لحاجته إلى من يخدمه ويقوم بأمره والنساء أعرف بذلك.    [22]

                                           

رؤية المحضون: لكل من أبوي المحضون إذا افترقا حق رؤيته وزيارته وهذا أمر متفق عليه بين الفقهاء لكنهم يختلفون في بعض التفاصيل.  


إن كان أنثى فإنها تكون عند حاضنها – أما أو أبا- ليلاً ونهاراً لأن تأديبها وتعليمها يكون داخل البيت ولا حاجة بها إلى الإخراج ولا يمنع.


خلاصة القول: 

إن الحصانة لها أهمية كبرى في رعاية الطفل وحماية الأسرة وتنمية روح المودة والرحمة التي يجب أن تؤسس عليها البيوت ليكون المجتمع أكثر تماسكاً والمجموعة أكثر تضامناً.


تلك هي الحكم والمقاصد لنظام الحضانة في الإسلام إلا أن وضع المسلمين في ديار الغرب حيث تختلف المعايير المؤسسة للمجتمع وتغلب النزعة الفردية وتسود روح المماكسة والكسب المادي في التعامل فيبتعد الإنسان رويداً رويداً عن روح التسامح والسماحة بالإضافة إلى انصراف المرأة عن دفء البيت إلى ورشة العمل وعن سكينة المسكن إلى نزق الشوارع وهيعات الأسواق مما أوجد حالات جديدة ومتغيرة في وظائف أطراف العقد العائلي.


ولهذا فإن الحضانة التي هي من خصائص النساء قد تتأثر كثيراً بهذا الوضع مما يدعو إلى اجتهاد في مسألة المرأة العاملة إذا كانت منفصلة عن والد الطفل حتى ولو كانت غير متزوجة إذ أن المتزوجة بغير والد الطفل تسقط حضانتها لانشغالها بحقوق الزوج وكذلك العاملة ينبغي دراسة وضعها.


كما أن مفهوم الحضانة لم يكن يشمل التعليم والتربية غير البدنية لأن هذا من واجب الأب فالتلازم اليوم بين الحالتين مدعاة لإعادة النظر. 

وأيضا فإن المسافة في سفر الولي التي تسقط حق الحاضنة في الحضانة في ظل تطور وسائل المواصلات يجب أن تكون موضوع دراسة. 

وإذا كانت الحضانة للوالدين مجتمعين في فترة بقاء العصمة فإن فترة الانفصال البدني فترة التلوم التي تسبق الطلاق يمكن أن تكون محل اجتهاد حتى لا يضيع الطفل.


وأخيراً: فإن دور المساجد والمراكز الإسلامية يجب أن يحدد في الفصل في قضايا الحضانة التي قد تفصل فيها المحاكم وعلى الأئمة والجمعيات أن تنير السبيل للمسملين وتسدى النصح في هذه القضية الحساسة وعلى الجمعيات أن توجد محاضن للأطفال وبخاصة أولئك الذين يهجرهم الوالدان أو يكونون لقطاء في حارات المسلمين. 

هذه إنارات أردتها أن تكون أساساً لمناقشة لمجلسنا تنتج إنارات ومقترحات وقرارات بناء على التأصيل الشرعي المذكور في الورقة. 

والله ولي التوفيق.             

        قرار 5/15 أحكام الحضانة


استعرض المجلس موضوع “الحضانة” والأبحاث التي تناولته، وبعد     المداولة والنظر قرر ما يلي    : 

أولاً: الحضانة، هي: حفظ الولد في بيته ذهابه ومجيئه والقيام  بمصالحه، أي في طعامه ولباسه وتنظيفه.

ثانياً: حكم الحضانة.

الحضانة فرض عين في حق أحد الوالدين أو أقربائهم ضمن أولويات ذكرها الفقهاء تفصيلاً، فإن لم يوجد من تجب عليه الحضانة أو وجد ولكنه امتنع لأي سبب، فإن الحضانة تصبح فرض عين على المسلمين. وتحقيقاً لهذا الواجب فإن على المراكز الإسلامية القيام به بإعداد المحاضن المناسبة.


ثالثاً: الأصل في أحكام الحضانة رعاية الأصلح للمحضون، وعليه فكل أمر يعود بالفساد على المحضون في دينه وعرضه وبدنه ونفسه وغير ذلك، ينبغي أن يمنع؛ لأنه مخالف لمقاصد الشريعة عامة، ولمقصد أحكام الحضانة خاصة.


رابعاً: الأصل في الحضانة أنها للنساء، فقد فطرن على نوع من الحنان والشفقة لا يوجد في الرجال، وهن أرفق وأهدى وأصبر على القيام بما يعود بالمصلحة على المحضون، وعليه كانت الحضانة للأم ما لم تتزوج، لقوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي طالبت بحضانة ولدها: “أنت أحق به ما لم تنكحي“.


خامساً: الحضانة حق مشترك بين الأم والولد، فلها أن تتنازل عن حقها بشرط عدم ضياعه، ولا تجبر عليها إلا إذا ترتب على تركها ضياع مصلحة المحضون.


سادساً: شروط الحضانة:

ذكر الفقهاء – رحمهم الله – شروطاً كثيرة يجب توافرها فيمن تثبت له الحضانة، وكلها تدور على مقصد واحد، وهو توفير البيئة الصالحة لرعاية المحضون. والذي يراه المجلس وجوب اعتماد الشرطين التاليين:

1.    استقامة السلوك.

فلا حضانة في حال الانحراف السلوكي الظاهر المؤثر في رعاية المحضون. أما اختلاف الدين بين الوالدين فليس مؤثراً على القول الصحيح.

2.      القدرة على أداء مهام الحضانة.

فإذا كان اشتغال الحاضن خارج البيت بعمل ونحوه مضيعاً للمحضون، فهذا سبب كاف لإسقاط حق الحضانة عنه.


سابعاً: زواج الأم الحاضنة.

ذهب جمهور العلماء إلى أن زواج الأم الحاضنة يسقط حقها في الحضانة، للحديث السابق ذكره، مع مراعاة القيود الآتية:

1.    قدرة الأب أو من تنتقل له الحضانة بعد الأم على القيام بشئون المحضون.

2.    أن لا يترتب على ذلك نقل المحضون عن بلد أمه؛ لأن في ذلك تفريقاً بينها وبين ولدها.

3.    عدم سكوت الأب عن المطالبة بحقه بإسقاط الحضانة عن الأم المتزوجة لمدة معينة تُظهر رضاه بذلك.

4.    أن يتم الدخول بالأم الحاضنة، ولا يسقط حقها بمجرد عقد الزواج.

ثامناً: رؤية المحضون.


يؤكد المجلس على حرمة منع أحد الوالدين في حال الطلاق أو التفريق من رؤية الأولاد، ويوصي لمنع ذلك بالآتي:

1.      على الأب أو الأم الاتفاق ابتداءً – في إطار الأحكام الشرعية – على تنظيم العلاقة في حال الحضانة إذ هو الضمان الوحيد لكل الحقوق، ولا سيما أن القضاة في المحاكم المدنية يحبذون الاتفاق بين الأبوين على كل ما يعود على المحضون بالمصلحة والحفظ.

2.      إذا كان المحضون صغيراً دون سن التعليم القانونية ولا يستطيع البقاء مع أبيه، أو كان الأب عاجزاً عن القيام بشؤون طعامه وشرابه وتنظيفه، فعلى الحاضن تهيئة الظروف المناسبة لرؤية المحضون.

3.      إذا كان المحضون في سن التعليم فعلى الأب أن يأخذه للتعليم والتأديب بشرط أن يبيت في بيت الحاضنة، وأن يكون ذلك بالاتفاق بينهما.

4.      على الأب أن يراعي آداب الزيارة للمحضون، كعدم حدوث خلوة بين الأبوين المفترقين بعد العدة، وعدم إطالة المكث، واختيار الوقت المناسب منعاً للشُّبه، واستئذان صاحب البيت للدخول، فإن لم يُؤذن له أُخرِج الولد إليه ليستطيع رؤيته.

5.      تكون الرؤية على ما جرت به العادة كيومي عطلة الأسبوع أو أكثر وكل ذلك بحسب الاتفاق بين الأبوين.

6.      التنبيه على حرمة تلقين المحضون قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، والتحذير من منع المحضون من زيارة أرحامه وأقاربه سواء من جهة الأب أو جهة الأم.

7.      التعاون الكامل بين الأبوين على كل ما يحافظ على دين المحضون وأخلاقه في هذه الديار، وذلك كالتردد على المساجد والمراكز الإسلامية وحضور الجمع والجماعات وحلقات تحفيظ القرآن.

تاسعاً: وهناك موضوعات أخرى متصلة بالحضانة أرجئ البت فيها لمزيد من الدراسة والتطبيقات العملية في الغرب.

 


 


[1] – سورة الحجر         الآية 85

[2] – لسان العرب والمصباح المنير مادة “حضن”

[3] – مغني المحتاج 3/452 وكشاف القناع 5/495- 496 والمغني 7/613 والقوانين الفقهية 224 وابن عابدين 2/641

[4] – الفواكه الدواني 2/102 والمغني 7/612

[5] – ابن عابدين 2/641 والفواكه الدواني 2/101 والقوانين الفقهية 224 ونهاية المحتاج 7/214 والمغني 7/614 وكشاف القناع 5/496

[6] – البدائع 4/41

[7] – حديث: ” أنت أحق به ما لم تنكح …..” أخرجه أحمد 2/182والحاكم 2/207 من حديث عبد الله بن عمر وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.  

[8] – ابن عابدين 2/633- 639 والدسوقي 2/529 وجواهر الإكليل 1/409 ومغني المحتاج 3/455 وكشاف القناع 5/498

[9] – ابن عابدين 2/633 والدسوقي 2/528 ومغني المحتاج 3/454- 456 وكشاف القناع 5/498

[10] – ابن عابدين 2/633 – 634 والدسوقي 2/529 ونهاية المحتاج 7/218 ومغني المحتاج 3/455 وكشاف القناع 5/498

[11] – ابن عابدين 2/ 634 والدسوقي 2/528 ومغني المحتاج 3/456 وأسنى المطالب 3/448 وكشاف القناع 5/499

[12] – الدسوقي 2/528 ومغني المحتاج 3/456 وكشاف القناع 5/499 

[13] – جواهر الإكليل 1/409- 500 ومغني المحتاج 3/456 – 458 

[14] – الدسوقي 2/528- وجواهر الإكليل 1/409

[15] – سورة الطلاق      الآية 1

[16] – البدائع 4/44 والمواق بهامش الخطاب 4/215- 217 والدسوقي 2/527 ومغني المحتاج 3/458 وكشاف القناع 5/500 والمغني 7/ 618- 619

[17] – مغني المحتاج 2/338، 345 و3/ 452 وحاشية الشرواني 8/359 والجمل على شرح المنهج 4/520 وحاشية الرشيدي على نهاية المحتاج 7/219 وكشاف القناع 5/496 – 498 ونيل المآرب 2/307 

[18] – ابن عابدين 2/641 -642 والبدائع 4/42- 43

[19] – الدسوقي  2/526

[20] – معغني المحتاج 3/356- 457- 459- 460 ونهاية المحتاج 7/220- 222 وأسنى المطالب 3/449- 451

[21] – حديث: ” هذا أبوك وهذه أمك …….” أخرجه أبوداود 2/708 والحاكم 4/97 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.   

[22] – كشاف القناع 5/501- 502 – 503 والمغني 7/614- 616

 

الفرق بين الضرورة والحاجة تطبيقا على بعض أحوال الأقليات المسلمة.

 

الفرق بين الضرورة والحاجة تطبيقا على بعض أحوال الأقليات المسلمة.

 

 

 

 

فضيلة الشيخ

عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه

استاذ بجامعة الملك عبد العزيز

 

 

 

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه..

 

مقدمــة :

إن إعمال الحاجة في الأحكام أصبح من المشتبهات التي لا يعلمها كثير من الناس ، أضف إلى ذلك أن أكثر القضايا الفقهية المعاصرة سواءً تلك التي وقع البت فيها من طرف المجامع أو تلك التي لا تزال منشورة أمامها ترجع إلى إشكالية تقدير الحاجة وتقدير الحكم الذي ينشأ عنها : هل تلحق بالضرورة فتعطي حكمها أو لا تلحق بها ؟

 

سواءً كانت قضايا طبية تتعلق بعلاج العقم مثلاً أو الإجهاض ، أو قضايا اقتصادية تتعلق بالعقود الجديدة من إيجار ينتهي بالتمليك أو تأمين بأنواعه ، أو أحكام الشركات والأسهم وعقود التوريد والشروط الجزائية الحافزة على الوفاء بمقتضى العقد . مما يعني أن تحديد علاقة الحاجة بالضرورة أصبح مفتاحاً لأقفال معضلة المعاملات الفقهية في العصر الحديث .

 

وسأحاول الآن – عوداً على بدء – أن أنثر كنانة هذا الموضوع لأعجم عيدانها وأغور في أغوارها وأصعد في قنانها (وكم بالقنان من محل ومحرم) .  وذلك حسب الخطة التالية :

 

تعريف الضرورة :

لغة واصطلاحاً : من نصوص اللغويين ونصوص الأصوليين والفقهاء .

أصل مشروعية الضرورة .

تعريف الحاجة :

لغة واصطلاحاً : من نصوص اللغويين ونصوص الأصوليين والفقهاء مع أمثلة فقهية تبرز الفرق بينها وبين الضرورة .

أصل مشروعية الحاجة .

نتيجة التعريفين : التشابك اللغوي والتداخل الفقهي والأصولي ، منشأه الاشتراك أو التشكيك .

المصطلحات ذات العلاقة بموضوع الضرورة والحاجة .

إجمال الفروق بين الضرورة والحاجة بناءً على ما ذكرناه من الفقهاء والأصوليين واللغويين .

وأخيراً تطبيقات معاصرة من قرارات المجلس الأوربي للإفتاء ومجمع الفقه الإسلامي بجدة مع التعليق على هذه القرارات .

خاتمة تتضمن نتائج البحث .

تعريف الضرورة لغةً واصطلاحاً :

 

الضرورة في الاصطلاح لها ثلاثة معانٍ : المعنى الفقهي الخاص الذي يبيح المحرم والمعنى الاستعمالي الموسع وهو يشمل الحاجة ، والمعنى الأصولي .

 

الضرورة لغة : قال مجد الدين الفيروز أبادي في القاموس ممزوجاً بشرحه : (والاضطرار الاحتياج إلى الشيء) وقد (اضطر إليه) أمر ( أحوجه وألجأه فاضطُر . بضم الطاء) بناؤه افتعل جعلت التاء طاء لأن التاء لم يحسن لفظه مع الضاد (والاسم الضرة) بالفتح . قال دريد بن الصمة :

 

وتخرج منه ضرة القوم مصدقاً              وطول السرى دري عضب مهند

 

أي تلألؤ عضب، وفي حديث علي رضي الله عنه رفعه أنه نهى عن بيع المضطر. قال ابن الأثير:  وهذا يكون من وجهين أحدهما أن يضطر إلى العقد من طريق الإكراه عليه ، قال : ” وهذا بيع فاسد لا ينعقد ، والثاني أن يضطر إلى البيع لدين ركبه أو مؤنة ترهقه فيبيع ما في يده بالوكس للضرورة ، وهذا سبيله في حق الدين والمروءة أن لا يبايع على هذا الوجه ولكن يُعان ويُقرض إلى الميسرة أو تُشترى سلعته بقيمتها فإن عقد البيع مع الضرورة على هذا الوجه صح ولم يفسخ مع كراهة أهل العلم له ” . ومعنى البيع هذا الشراء أو المبايعة أو قبول البيع .

 

 وقوله عزَّ وجلَّ :{فمن اضطُرَّ غير باغٍ ولا عادٍ}  أي فمن أُلجيء إلى أكل الميتة وما حرم وضيّق عليه الأمر بالجوع وأصله من الضرر وهو الضيق .

 

( والضرورة الحاجة ) ويجمع على الضرورات ( كالضارورة والضارور والضاروراء) الأخيران نقلهما الصاغاتي وأنشد في اللسان على الضارورة :

 

أثيبي أخا ضارورة أصفق العدى                     عليه وقلت في الصديق أواصره

 

وقال الليث : الضرورة اسم لمصدر الاضطرار ، تقول حملتني الضرورة على كذا وكذا .

 

قلت : فعلى هذا الضرورة والضرة كلاهما اسمان فكان الأولى أن يقول المصنف كالضرة والضرورة ثم يقول وهي أيضاً الحاجة الخ كما لا يخفى .

 

وفي حديث سمرة يجزيء من الضارورة صبوح أو غبوق . أي إنما يحل للمضطر من الميتة أن يأكل منها ما يسد الرمق من غداء أو عشاء وليس له أن يجمع بينهما.(والضرر) محركة (الضيق) يقال مكان ذو ضرر أي ذو ضيق . (تاج العروس : 3/349) .

 

وإنما ذكرت هذا النص على طوله ليستبين القارىء الشيات اللغوية التي كانت – وبدون شك – عاملاً من عوامل تفاوت أقوال الفقهاء في معنى الضرورة. وقد يكون من المطلوب أن ينبّه إلى بعض الألفاظ التي وردت في هذا النص لتعريف الضرورة وهي الاحتياج والحاجة والإلجاء والضيق وما يكون حافزاً لها من دين يركب المضطر أو مؤنة ترهقه أو إكراه يجبره أو جوع يلجؤه أو أعداء يصفقون عليه كل هذه المعاني التي أشار إليها أهل اللغة وهي معانٍ تشير إلى الشدة والحرج وهي التي دندن حولها الفقهاء كما سترى .

 

الضرورة اصطلاحاً :

 

والضرورة في الاصطلاح فقهية وتطلق إطلاقين أحدهما : ضرورة قصوى تبيح المحرّم سوى ما استُثني . والثانية : ضرورة دون ذلك وهي المعبّر عنها بالحاجة إلاّ أنهم يطلقون عليها الضرورة في الاستعمال توسعاً .

 

وغير الفقهية وتُسمى ضرورة أصولية وهي : الضرورة العامة بالجنس ، ولعل إمام الحرمين من أول من انتبه إلى ذلك حيث قال في البرهان : ” إن الضرورة على أقسام ، فقد لا تبيح الضرورة نوعاً يتناهى قبحه كما ذكرناه . وقد تبيح الضرورة الشيء ولكن لا تثبت حكماً كليّاً في الجنس ، بل يعتبر تحققها في كل شخص كأكل الميتة وطعام الغير (وهذه هي الضرورة التي تعني بالضرورة الفقهية بالمعنى الأخص) . والقسم الثالث ما يرتبط في أصله بالضرورة ولكن لا ينظر الشرع في الآحاد والأشخاص وهذا كالبيع وما في معناه(البرهان: ص942).

 

ولنبدأ في تعريف أقسام الضرورة :

 

1 – الضرورة الفقهية بالمعنى الأخص :

 

عرّفها السيوطي بقوله : (فالضرورة بلوغه حدّاً إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب وهذا يبيح تناول الحرام) (الأشباه والنظائر : ص61). وهذه هي الضرورة التي قال عنها إمام الحرمين أنها لا تثبت حكماً كلياً في الجنس بل يعتبر تحقيقها في كل شخص كأكل الميتة وطعام الغير كما أسلفنا .

 

قال في مغني المحتاج وهو ” شافعي ” : (من خاف من عدم الأكل على نفسه موتاً أو مرضاً مخوفاً أو زيادته أو طول مدته أو انقطاعه عن رفقته أو خزف ضعف مشي أو ركوب ولم يجد حلالاً يأكله ووجد حراماً لزمه أكله). الرملي :

 

الدردير في الشرح الصغير ” مالكي” : (الضرورة هي حفظ النفوس من الهلاك أو شدة الضرر) – (الدردير : 2/183) .

 

وفسّر الزرقاني في شرحه الضرورة قائلاً : (وهي خوف الهلاك على النفس علماً أو ظناً) إلاّ أنه بعد ذلك نقل عن التتائي على الرسالة قوله :”وهل حد الاضطرار خوف الهلاك أو خوف المرض ، قولان لمالك والشافعي”. (الزرقاني: 3/8).

 

عرّفها الجصاص (حنفي) : “هي خوف الضرر أو الهلاك على النفس أو بعض الأعضاء بترك الأكل” (أحكام القرآن : 1/195) .

 

قال القرطبي : الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو يجوع من مخمصة والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو من صيره العدم والغرث وهو الجوع إلى ذلك ، وقيل معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرّمات . (القرطبي : 2/225) .

 

2- الضرورة بالمعنى الاستعمالي الفقهي الموسع والتي تعني الحاجة :

 

قال خليل : ” وصح قبله (أي بدو الصلاح) مع أصله أو ألحق به أو على شرط قطعه إن نفع واضطر ” أي احتيج كما في التوضيح عن اللخمي لا بلوغ الحد الذي ينتفي معه الاختيار ” . (الزرقاني : 5/187) .

 

ومن استعمال الضرورة ويُراد بها الحاجة قول المازري في شروط اغتفار الغرر اليسير : قال ابن عرفة : ” زاد المازري كون متعلق اليسير غير مقصود وضرورة ارتكابه ، وقرره بقوله منه بيع الأجنة وجواز بيع الجبة المجهول قدر حشوها الممنوع بيعه وحده وجواز الكراء لشهر مع احتمال نقصه وتمامه وجواز دخول الحمام مع قدر ماء الناس ولبثهم فيه والشرب من الساقي إجماعاً ، في الجميع دليل على إلغاء ما هو يسير دعت الضرورة للغوه ” . ابن عبد السلام في زيادة المازري إشكال ورد هذا ” الإشكال ” ابن عرفة (الموّاق في التاج والإكليل بهامش الحطاب 4/365) . بينما عبّر خليل بالحاجة في هذه المسألة حيث قال : ” واغتفر غرر يسير للحاجة لم يقصد ” – (نفس المرجع والصفحة) .

 

وقد نبَّه البناني في حاشيته على عبارة المازري قائلاً : “ولذا عبّر المازري عن قيد الحاجة بالضرورة وهي أخص من الحاجة لكن الخطاب سهل ” (حاشية البناني على الزرقاني : 5/80) .

 

وممن استعملـها بمعنى الحاجة من الشافعية صاحب نهاية المحتاج قائلاً : ” نعم الأولى بيعه ما زاد عليها ما فضل عن كفايته ومؤنة سنة ” ويجبر من عنده زائد على ذلك في زمن الضرورة . وعلم مما تقرر اختصاص تحريم الاحتكار بالأقوات ” (2/47) .

 

فالضرورة هنا الحاجة ، لأن الاضطرار إذا تحقق لم يبق للمالك كفاية سنة حسب عبارة أبي الضياء الشبراملسي في الحاشية على نفس الصفحة .

 

3- المعنى الأصولي للضرورة :

 

للضرورة معنى ثالث هو المعنى الأصولي ونبَّه عليه إمام الحرمين في البرهان في القسم الثالث ، وقد ذكرناه . وقد زاد الأمر وضوحاً عندما قال : “وهو يعتبر البيع من الضروري ويلتحق به (الضروري) تصحيح البيع فإن الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم لجرّ ذلك ضرورة ظاهرة فمستند البيع إذا آل إلى الضرورة الراجعة إلى النوع والجملة ثم قد تمهد في الشريعة أن الأصول إذا ثبتت قواعدها فلا نظر إلى طلب تحقيقها في آحاد النوع . (ص 923 وما بعدها) .

 

وقد أوضح الشاطبي بأنها إحدى الكليات الثلاث التي ترجع إليها مقاصد الشريعة حيث يقول : ” فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين ” وتكلم الشاطبي عن مراعاة الضرورة من جانب الوجود ومراعاتها من جانب العدم ومثَّل لذلك بأصول العبادات والمعاملات ( فليراجع : 2/8-9) .

 

وهذا هو الكلي المعبّر عنه بالضروري لأنه من ضرورات سياسة العالم وبقائه وانتظام أحواله حسب عبارة الطوفي (3/209) .

 

ويعبّر عنها بالضرورة بالنظر إلى المصلحة الواقعة في محلها ، فمن ذلك قول الغزالي متحدثاً عن المصلحة المرسلة : ” وإن وقعت في موقع الضرورة جاز أن يؤدى إليها اجتهاد مجتهد بشرط أن تكون قطعية كلية ” (الطوفي:3/211) .   ومثله قول الشوكاني : ” أنها إن كانت تلك المصلحة ضرورية قطعية كلية كانت معتبرة فإن فقد أحد هذه الثلاثة لم تعتبر ، والمراد بالضرورية أن تكون من الضروريات الخمس وبالكلية أن تعم جميع المسلمين ، لا لو كانت لبعض الناس دون بعض أو في حالة مخصوصة دون حالة “. (الشوكاني: إرشاد الفحول: ص242) .

 

وقال الشاطبي : ” مجموع الضروريات خمس وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل ” (الموافقات: 3/10) .

 

وأما لماذا سُميت بالضرورة ؟ إما لأنها ضرورة لانتظام حياة الناس كما تقدم ، أو لأن اعتبارها (التفات إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة للشرع لا بدليل واحد بل بأدلة خارجة عن الحصر – (إرشاد الفحول: ص242) .

 

وقد تحدث أكثر الأصوليين عن الضرورة والضروري في المعرض المناسب المرسل لإثبات حكم بالمصلحة المستندة إليه من غير اعتبار القياس بشروطه ، والأحكام التي تثبت عند القائل بها ، كمالك ، أحكام مستمرة وهي لا يتأتى العمل بها إلاّ عند غيبة النص .

 

وقد تكون استثناء من عموم كما يدل عليه الاستشهاد التالي :

 

قال الباجي : ” واختلف قول مالك في الرجل يأتي دار السكة فيدفع إليهم فضة وزناً ويأخذ منهم وزناً دراهم ويعطيهم أجرة العمل . فقال مرة : أرجو أن يكون خفيفاً . وذكره ابن المواز ورواه عيسى عن ابن القاسم ومنع ذلك عيسى بن دينار وحكاه ابن حبيب عن جماعة من أصحاب مالك ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي .

 

وجه رواية الجواز على الكراهية ما احتج به من ضرورة الناس إلى الدراهم وتعذر الصرف إلاّ في ذلك الموضع مع حاجة الناس إلى الاستعجال وانحفاز المسافر للمرور مع أصحابه وخوفه على نفسه في الانفراد ويخاف إن غاب عنه ذهبه أن لا يعطاه ويمطل به والضرورة العامة تبيح المحظور .

 

أما اليوم فقد صار الضرب بكل بلد واتسع الأمر فلا يجوز ووجه رواية المنع أنه لا يخلو أن يكون بيعاً أو إجارة ، فإن كان بيعاً ففيه التفاضل في الذهب ، وإن كان إجارة فهو إجارة وسلف وذلك غير جائز في الوجهين (المنتقى: 4/259) .

 

قلت: وضرورة الناس المذكورة هنا وكذلك الضرورة العامة إنما هي بمعنى الحاجة العامة ولكن يفهم من كلام أبي الوليد أن ما كان هذا سبيله من إثبات الأحكام من أجل الضرورة العامة بالاجتهاد يزول بزوال الوضع الذي أدى إليه وليس كتلك الثابتة بنص الشارع .

 

وعن استعمال الضرورة في معنى الحاجة بالمعنى الأصولي قول مالك في مسألة الرد على الدرهم (من مسائل الصرف) ؛ قال مالك : كنا نمنعه ويخالفنا أهل العراق ثم أجزناه لضرورة الناس ولأنهم لا يقصدون به صرفاً .

 

فكان سيدي ابن سراج رحمه الله يقول : رجع مالك في الرد على الدرهم لقول غيره من أجل الضرورة . (الموّاق: 4/301) .

 

وبعد التعريف بالضرورة لغة وبالضرورة في اصطلاح الفقهاء والأصوليين نلاحظ أن الضرورة أمر يورث ضيقاً ومشقة إلاّ أن هذا الضيق يتفاوت في شدته فالضرورة من باب الكلي المشكك عند المناطقة وهو كما قال الأخضري في شرحه لنظمه (السلم) في المنطق وإن اختلف فيها بالشدة والضعف سمي كلياً مشككاً كالبياض فإنَّ معناه في الورق أقوى من معناه في القميص مثلاً . وهذا بخلاف المتواطيء وهو الذي اتحد معناه في أفراده كالإنسان . (يُراجع شرح السلم عند قوله) :

 

ونسبة الألفـاظ للمعاني             خمسة أقسام بلا نقصـان

تواطؤ تشاكك تخالـف              والاشتراك عكسه الترادف

وأرى أن التنبيه على الضرورة والمشقة والحاجة ثلاثتهن من باب الكلي المشكك قد يكون مفتاحاً لفهم اختلاف عبارات اللغويين والفقهاء ، فالضرورة يمكن أن تُطلق في حال الشدة القصوى كما يمكن أن تُطلق في حالات دون ذلك وبالتالي تترتب أحكام مختلفة على ذلك كما رأيت .

 

أصل مشروعية حكم الضرورة :

 

في قول الله تعالى : } وقد فصَّل لكم ما حُرِّم عليكم إلاَّ ما اضطُررتم إليه{  ]سورة الأنعام:6:119 [

 

قال الجصاص : ذكر الله تعالى الضرورة في هذه الآيات وأطلق الإباحة في بعضها لوجود الضرورة من غير شرط ولا صفة وهو قوله تعالى : } وقد فصَّل لكم ما حُرِّم عليكم إلاَّ ما اضطُررتم إليه{  ]سورة الأنعام:6:119 [فاقتضى ذلك وجود الإباحة بوجود الضرورة في كل حال وُجدت فيها . (أحكام القرآن للجصاص : 1/147) .

 

وقال تعالى: } فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه{  ]البقرة:173[. قال ابن عطية : ” ومعنى اضطر عدم ” وغرث ، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء والفقهاء . وقيل : معناه أكره وغلب على أكل هذه المحرمات : ” (المحرر الوجيز لابن عطية: 2/71). والنصوص كثيرة بهذا المعنى .

 

وبالوقوف عند قوله تعالى: } وقد فصَّل لكم ما حُرِّم عليكم إلاَّ ما اضطُررتم إليه{ ، يفهم المرء معنيين : المعنى الذي ذكره الجصاص وهو وجود الإباحة حيثما وجدت الضرورة . ومعنى آخر وهو إنما فصّل من المحرمات لا تبيحه إلاّ الضرورة . وهذا ما يشير إليه الحصر في استثناء عموم من عموم يمكن أن يفهم منه بسهولة أن الحاجة إنما تدخل المجملات ولا تدخل في المفصلات والله أعلم .

 

تعريف الحاجة :

 

فقد قال الفيروز أبادي ممزوجاً بشارحه :

 

(والحاجة) المأربة (م) أي معروفة ، وقوله تعالى : } ولتبلغوا عليها حاجةً في صدوركم { ]غافر:80[. قال ثعلب : يعني الأسفار . وعن شيخنا : وقيل أن الحاجة تُطلق على نفس الافتقار وعلى الشيء الذي يفتقر إليه ، وقال الشيخ أبو هلال العسكري في فروقه : الحاجة القصور عن المبلغ المطلوب ، يُقال الثوب يحتاج إلى خرقة والفقر خلاف الغنى والفرق بين النقص والحاجة أن النقص سببها والمحتاج يحتاج إلى نقصه والنقص أعم منها لاستعماله في المحتاج وغيره ، ثم قال : قلت وغيره فرق بأن الحاجة أعم من الفقر وبعض بالعموم والخصوص الوجهي وبه تبين أن عطف الحاجة على الفقر هو تفسيري أو عطف الأعم أو الأخص أو غير ذلك فتأمل . قلت : صريح كلام شيخنا أن الحاجة معطوف على الفقر وليس كذلك بل قوله والحاجة كلام مستقل مبتدأ وخبره قوله معروف كما هو ظاهر فلا يحتاج إلى ما ذكره من الوجوه (كالحوجاء) بالفتح والمد (و) قد (تحوج) إذا (طلبها) أي الحاجة بعد الحاجة وخرج يتحوج يتطلب ما يحتاجه من معيشته ، وفي اللسان تحوج إلى الشيء احتاج إليه وأراده (ج حاج) قال الشاعر :

 

وأرضع حاجة بلبان أخرى                     كذاك الحاج ترضع باللبان

 

أما الحاجة في الاصطلاح فعلى ضربين : حاجة عامة قد تنزل منزلة الضرورة وهذه هي الحاجة الأصولية وقد سمّاها بعضهم بالضرورة العامة كما أسلفنا ، وحاجة فقهية خاصة حكمها مؤقت تعتبر توسيعاً لمعنى الضرورة .

 

أولاً : الحاجة العامة (الأصولية):

 

قال إمام الحرمين في المعنى الأول : ” والضرب الثاني ما يتعلق بالحاجة العامة ولا ينتهي إلى حد الضرورة ، ومثل هذا تصحيح الإجارة فإنها مبنية على الحاجة إلى المساكن ، مع القصور عن تملكها ، وضنة ملاكها بها على سبيل العارية فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة مبلغ الضرورة المفروضة في البيع وغيره ولكن حاجة الجنس قد تبلغ مبلغ الضرورة الشخص الواحد من حيث إن الكافة لو منعوا عما تظهر الحاجة فيه الجنس لنال آحاد الجنس ضرار لا محالة تبلغ مبلغ الضرورة في حق الواحد ، وقد يزيد أثر ذلك في الضرر الراجع إلى الجنس على ما ينال الآحاد بالنسبة إلى الجنس ، وهذا ما يتعلق بأحكام الإيالة والذي ذكرناه مقدار غرضنا الآن ” . (البرهان:924) .

 

وقال أيضاً : ” ونحن نرى أن ننبّه قبل تبيين القول فيه على أمر وهو أن الإجارة جازت خارجة عن الأقيسة التي سميناها جزئية في القسم الأول فإن مقابلة العوض الموجود بالعوض المعدوم خارج عن القياس المرعي في المعاوضات فإن قياسها أن لا يتقابل إلاّ موجودان ولكن احتمل ذلك في الإجارة لمكان الحاجة وقد ذكرنا أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الأشخاص ” . (البرهان:931) .

 

وسلك تلميذه أبو حامد الغزالي مسلكه في كتابه ” شفاء العليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل ” حيث قال في معرض كلامه عن الضرورة التي سنعود إليه في محله من هذا البحث : ” والحاجة العامة في حق كافة الخلق تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق الشخص الواحد ” (ص 246) .

 

وإلى جانب هذا الكلام نرى الغزالي نفسه عندما يتحدث عن المصلحة يقول  ” إنها وإن وقعت في موضوع الحاجة أو التتمة لم تعتبر وإن وقعت في موضع الضرورة جاز أن يؤدي إليها اجتهاد مجتهد بشرط أن تكون قطعية كلية كما أسلفنا” .

 

وقفى على أثره تلميذه أبو بكر بن العربي المالكي حيث قال في كتابه القبس (القاعدة السابعة) :”اعتبار الحاجة في تجويز الممنوع كاعتبار الضرورة في تحليل المحرّم ” وبعد أن ضرب مثلاً لذلك باستثناء القرض الذي يضرب له أجل عند مالك من بيع الذهب بالذهب إلى أجل ، أضاف : ” ومن ذلك حديث العرايا وبيع التمر فيها على رؤوس النخيل بالتمر الموضوع على الأرض وفيه من الربا ثلاثة أوجه : بيع الرطب باليابس والعمل بالحرز والتخمين في تقدير المالين الربويين وتأخير القابض إن قلنا أنه يعطيها له إذا حضر جذاذ النخل ” (القبس : 2/790-791) .

 

إلاّ أن بعض الفقهاء كابن نجيم والسيوطي نقلوا الحاجة من مفهومها الأصولي إلى القواعد الفقهية دون تقديم ضوابط مما أوهم بعض الباحثين المعاصرين أنه كلما لاحت لوائح مشقة أو عرضت حاجة يعلن الإباحة وكأنه يستند إلى قاعدة قطعية تدل على الحكم بلا واسطة شأن الضرورة الفقهية بمعناها الأخص لا فرق بينهما . ولهذا فسنعرض نص القاعدة عند السيوطي لتكون مدخلاً لإبداء الفروق الكثيرة بين الضرورة والحاجة .

 

قال السيوطي (القاعدة الخامسة) :

 

الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة . (من الأولى) مشروعية الإجارة والجعالة والحوالة ونحوها جوزت على خلاف القياس لما في الأولى من ورود العقد على منافع معدومة ، وفي الثانية من الجهالة وفي الثالثة من بيع الدين بالدين لعموم الحاجة إلى ذلك . والحاجة إذا عمّت كانت كالضرورة ومنها ضمان الدرك جوز على خلاف القياس إذ البائع إذا باع ملك نفسه ليس ما أخـذه من الثمن ديناً عليه حتى يضمـن لكـن لاحـتياج الناس إلى معاملـة من لا يعرفون ولا يؤمن خروج المبيع مستحقاً ، ومنها مصلحة الصلح وإباحة النظر للمعاملة ونحوها وغير ذلك . من الثانية تضبيب الإناء بالفضة ويجوز للحاجة ولا يعتبر العجز عن غير الفضة لأنه يبيح أصل الإناء من النقدين قطعاً بل المراد الأغراض المتعلقة بالتضبيب سواء التزيين كإصلاح موضع الكسر والشد الوثيق ومنها الأكل من الغنيمة في دار الحرب جائز للحاجة ولا يشترط للأكل أن يكون معه غيره . (الأشباه والنظائر: ص 62-63) .

 

فائدة : كان القياس من السيوطي أن يزيد قد التقليلية في هذه القاعدة وكأنه لكثرة ما دخلت فيه لم يزدها ولكن الأحسن إثباتها فليتأمل .

 

وعبارة الزركشي رحمه الله تعالى الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الناس ، ثم قال : الحاجة الخاصة تبيح المحظورات . انتهى.

 

وما ذكرته أقرب إلى استعمالهم الأكثر ، أن الحاجة لا تقوم مقام الضرورة فتأمله.  (الجرهزي بهامش الأشباه والنظائر : ص 121-122) .

 

وهذه الحاجة التي ذكرها السيوطي وابن نجيم هي حاجة أصولية بدليل بقاء حكمها واستمراره بدون حاجة لتحققها في آحاد أفرادها وهي الحاجيات عند الأصوليين التي تعني على حد قول الشاطبي الحاجيات : ما يفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب وإذا لم تراع دخل على المكلفين – على الجملة – الحرج والمشقة ولكنه لا يبلغ الفساد المتوقع في المصالح العامة وهي جارية في العبادات والعادات والعاملات والجنايات (الموافقات: 2/10-11) .

 

مناقشة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة :

 

قلت أن الحاجة لا يمكن اعتبارها قائمة مقام الضرورة بصفة مطلقة في إباحة المحرّم ، بل إن الأصل أن الضرورة وحدها تبيح المحرّم وأن هذا الحكم لا ينسحب على الحاجة كما قال الشافعي : ” وليس يحل بالحاجة محرّم إلاّ في الضرورات ” (الأم: 3/28) . وقال الشافعي : ” الحاجة لا تحق لأحد أن يأخذ مال غيره ” (نفس المرجع : ص77) .

 

والسيوطي نفسه صرّح بذلك : “أكل اميتة في حالة الضرورة يقدم على أخذ مال الغير ” (الأشباه والنظائر:ص62) .

 

ذلك أن أكل الميتة فيه حق الله تعالى فقط وأخذ مال الغير ومنه الربا فيه حق الله تعالى وحق الآدمي . قال القرافي : ” وقد يوجد حق الله تعالى وهو ماليس للعبد إسقاطه ويكون معه حق العبد كتحريمه تعالى لعقود الربا والغرر والجهالات. (الفروق: 1/140-141) .

 

فهذه العقود محرّمة لحق الله وحق العباد فكيف يمكن تنزيل الحاجة فيها منزلة الضرورة بإطلاق .

 

وأكثر العلماء رأوا أن المصلحة الحاجية لا يترتب عليها حكم . قال الطوفي في شرحه لمختصر الروضة : ” لا يجوز للمجتهد أنه كلما له مصلحة تحسينية أو حاجية اعتبرها ورتّب عليه الأحكام حتى يجد لاعتبارها شاهداً من جنسها ” (الطوفي : 3/207) .

 

وقال ابن قدامة في الروضة في سياق حديثه عن المصالح المرسلة التي لم يشهد لها الشرع بإبطال ولا باعتبار معين ، وهذا على ثلاثة ضروب : أحدها مايقع في مرتبة الحاجات (وضرب له أمثلة) . الضرب الثاني ما يقع في موقع التحسين (وذكر له أمثلة) ثم قال : ” فهذان الضربان لا نعلم خلافاً في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل فإنه لو جاز ذلك كان وضعاً للشرع بالرأي ولما احتجنا إلى بعثة الرسل” (روضة الناظر:1/413 وما بعدها).

 

ومن قال بتأثير المصلحة في محل الحاجي شرط أن تكون جارية على أصول الشرع وقواعده متفقة مع مبادئه ومقاصده بحيث لا تنافي أصلاً من أصوله ولا دليلاً من أدلته . (الشاطبي “الاعتصام” : 2/129).

 

لأن الحنيفية السمحة إنما أتى فيها بالسماح مقيداً بما هو جار على أصولها، وليس تتبعاً للرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها . (الموافقات للشاطبي:4/145) .

 

أما ما ليست قطعية كلية ولا في موضع الضرورات فإنها من نوع المصالح التي قال عنها الغزالي أيضاً : “فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من  الكتاب والسنّة والإجماع وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشارع فهي باطلة ومطروحة ومن صار إليها فقد شرع ” أي حرام تبيحه الحاجة على القول بها إن مراتب الأحكام متفاوتة وأعلاها النهي ومراتب النهي عديدة وأعلاها الحرام والحرام مراتب .

 

ولإيضاح ما نريده نورد كلمات القرافي الآتية في فروقه : (الفرق الحادي والثلاثون بين الانتقال من الحرمة إلى الإباحة يشترط فيها أعلى الرتب وبين قاعدة من الإباحة إلى الحرمة يكفي لها أيسر الأسباب) . (الفروق للقرافي: 3/273)

 

وضرب أمثلة من المحرمات  التي لا تباح إلاّ بأشد الشروط وأعلى الرتب ، والحاجة ليست من أعلى الرتب ، ومعلوم أن المنهي عنه يجب اجتنابه بنص الكتاب والسنّة ، ويرد للتحريم في أغلب الأحيان ومقتضى التحريم يغلب على مقتضى التحليل غالباً وهذه قواعد معروفة .

 

 إلاّ أن المحرم أنواع ، فمنه المحرم لوصفه كالميتة والدم ولحم الخنزير ، ومنه الحرام لكسبه : كالمأخوذ غصباً أو عقد فاسد وهذا التقسيم لابن تيمية . (الفتاوى: 29/320).

 

والمحرم لكسبه متفاوت ؛ فمنه محرم تحريم المقاصد ؛ ومنه المحرم تحريم الوسائل والذرائع . فالأول أشد من الثاني .

 

والربا أشد محرمات العقود ، وحرم الربا لأنه متضمن للظلم ، فإنه أخذ فضل بلا مقابل ، وتحريم الربا أشد من تحريم الميسر (ابن تيمية)، وقال أيضاً : ” إن تحريم الربا أشد من تحريم القمار لأنه ظلم محقق ” .

 

والربا متفاوت : فربا الفضل لا يساوي ربا النساء ، فإن تحريم هذا من تحريم المقاصد ، وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع ، ولهذا لم يبح شيء من ربا النسيئة . (ابن القيم “أعلام الموقعين” : 2/107) .

 

ولتوضيح ما ذكره ابن القيم نذكر قول القرافي: “الأحكام على قسمين : مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها ، ووسائل : وهي الطرق المفضية إليها وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد ” (الفروق: 2/33) .

 

من ذلك ندرك تفاوت مراتب النهي وأن الحاجة لا تدخل في نهي من مرتبة عليا .. بالإضافة إلى أن ما قاله ابن القيم يمكن أن يقيّد بقيد آخر غير التفريق بين المقاصد والوسائل بل إن الحاجة لا تؤثر حيث يوجد نص بخلافها كما قال ابن نجيم : ” المشقة أو الحرج إنما يعتبر في موضع لا نص فيه وأما مع النص بخلافه فلا يجوز التخفيف بالمشقة ، ولذا قال أبو حنيفة ومحمد – رحمهما الله – بحرمة رعي حشيش الحرم المكي وقطعه إلاّ الأذخر”.(الأشباه والنظائر:1/117). ومفاد كلامه أن النص لا يعارض إلاّ بالضرورة لأنه من باب الرخص وذلك فرق آخر بين الحاجة العامة والضرورة .

 

إن الحاجة العامة لا تدخل في المفهوم الخاص للرخصة لأن أثرها مستمر وإن كانت تدخل معها في الاستثناء من أصل كلي فالرخصة هي ما شرع لعذر مع قياس الدليل المحرّم لولا العذر .

 

وقد نبه الشاطبي على ذلك في بحثه في الرخصة إذ قال :” وأما الرخصة فما شرع لعذر شاق ، استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه ” .

 

وفسّر الفقرة الأخيرة بقوله : ” وكونه مقتصراً به على موضع الحاجة خاصة من خواص الرخص أيضاً لا بد منه وهو الفاصل بين ما شرع من الحاجيات الكليّة وما شرع من الرخص فإن شرعية الرخص جزئية يقتصر فيها على موضع الحاجة. فإن المصلّي إذا انقطع سفره وجب عليه الرجوع إلى الأصل من إتمام الصلاة وإلزام الصوم . والمريض إذا قدر على القيام في الصلاة لم يصلِّ قاعداً وإذا قدر على مس الماء لم يتيمم .

 

وكذلك سائر الرخص بخلاف القرض والقراض والمساقاة،ونحو ذلك مما هو يشبه الرخصة فإنه ليس برخصة في حقيقة الاصطلاح لأنه مشروع أيضاً وإن زال العذر.

 

فيجوز للإنسان أن يقترض وإن لم يكن به حاجة إلى الاقتراض وأن يساقي حائطه وإن كان قادراً على عمله بنفسه أو بالاستئجار عليه وأن يقارض بماله وإن كان قادراً على التجارة فيه بنفسه أو بالاستئجار وكذلك ما شبهه . والحاصل أن العزيمة راجعة إلى أصل كلي ابتدائي . والرخصة راجعة إلى جزئي مستعصي عن ذلك الأصل الكلي . (الموافقات للشاطبي :1/300-303) .

 

 وإذا كان كلام إمام الحرمين وتلاميذه يرمي إلى تعليل نصوص شرعية- غير اجتهادية – بالحاجة فإن المالكية توسعوا في بناء الفروع الاجتهادية على الحاجي الكلي .

 

قال المواق – بعد أن ذكر أنواعاً من عقود الإجارة التي لايجيزها مالك- : “وكان سيدي ابن سراج رحمه الله فيما هو جار على هذا لا يفتي بفعله ابتداء ، ولا يشنع على مرتكبه فقصارى أمر مرتكبه أنه تارك للورع. وما الخلاف فيه شهير لا حسبة فيه ولا سيما إن دعت لذلك حاجة . ومن أصول مالك أنه يراعي الحاجيات كما يراعي الضروريات فأجاز الرد على الدرهم مع كونه يجعل مد عجوة من باب الربا وأجاز تأخير النقد في الكراء المضمون .

 

إلى أن قال : ويُباح الغرر اليسير بخلاف باب الربا . وذكر من أجوبة لأصبغ بن محمد : قيل وكذلك ما يضطر إليه الرجل يستأجر الأجير يجري له الزرع وله بعضه ، قال ينظر إلى أمر إذا اضطروا إليه فيما لا بد لهم منه ولا يجدون العمل إلاّ به فأرجو ألاّ يكون به بأس إذا عم ما بين ذلك مما يرجع فيه إلى أعمال الناس ولا يجدون عنه بدّاً مثل كراء السفن في حمل الطعام .

 

وسُئل سيدي ابن سراج رحمه الله : هل تجوز المشاركة في العلوفة أن يكون الورق على واحد وعلى الآخر الخدمة وتكون الزريعة بينهما على نسبة الحظ المتفق عليه ؟ فأجاب : قد أجاز ما ذكر بعض العلماء ، فمن عمل بذلك على الوجه المذكور للضرورة وتعذّر الوجه الآخر فيرجى أن يجوز إن شاء الله . ورأيت له فتيا أخرى قال فيها : ” ويجري ذلك على مقتضى قول مالك في إجازة الأمر الكلي الحاجي ” .

 

 وسئل عن الجباح(1) لمن يخدمها بجزء من غلتها ، قال هي إجارة مجهولة وكذلك في الأفران والرحى. وإنما يجوز ذلك على من يستبيح القياس على المساقاة والقراض وحكى هذا عن ابن سيرين وجماعة ، وعليه يخرج اليوم عمل الناس من أجرة الدلال لحاجة الناس إليه وعليه الضمان لقلة الأمانة وكثرة الخيانة كما اعتذر مالك بمثل هذا في إباحة تأخير الأجرة في الكراء المضمون في طريق الحج لأن الأكرياء ربما لا يوفون ، فعند مالك هذا ضرورة إباحة الدين بالدين فالناس مضطرون لهذا والله المخلص (الموّاق: 5/390) .

 

وقريب من هذا المنحى ما ذهب إليه بعض الأحناف في مسائل الإجارة حيث قالوا : ” وجاز إجارة القناة والنهر مع الماء ، به نفتي لعموم البلوى مضمرات ” (الدر المختار) . علّق ابن عابدين بقوله : قوله (مع الماء) أي تبعاً قال في كتاب الشرب من البزارية لم تصح إجارة الشرب لوقوع الإجارة على استهلاك العين مقصود إلاّ إذا أجر أو باع مع الأرض فحينئذٍ يجوز تبعاً “.

 

 وأضاف ابن عابدين (تتمة) قال في التاتر خانية وفي الدلال والسمسار يجب أجر المثل وما تواضعوا عليه أن في كل عشرة دنانير كذا فذاك الحرام . وفي الحاوي سئل محمد ابن مسلمة عن أجرة السمسار فقال أرجو أنه لا بأس به وإن كان في الأصل فاسداً لكثرة التعامل وكثير من هذا غير جائز فجوزه للحاجة لحاجة الناس إليه كدخول الحمام .

 

وعنه قال : رأيت ابن الشجـاع يقاطـع نساجاً ينسج له كل سنة.(الحاشية: 5/38) . وفي الدر المختار : ( ويفتي اليوم بصحتها ” الإجارة ” لتعليم القرآن والفقه والإمامة والأذان ويجبر المستأجر على دفع ما قبل ) .

 

علّق ابن عابدين بقوله : ” قال في الهداية : وبعض مشايخنا رحمهم الله تعالى استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن اليوم لظهور التواني في الأمور الدينية ففي الامتناع تضييع حفظ القرآن وعليه الفتوى ” .

 

وذكر مجموع ما أفتى به المتأخرون من مشايخنا وهم البلخيون على خلاف في بعضه مخالفين ما ذهب إليه الإمام وصاحباه (حاشية ابن عابدين:5/34-35).

 

وهكذا نرى المتأخرين من أتباع الإمامين مالك وابن حنيفة يتوسعون في التعامل مع الحاجي أحياناً مع مخالفة منصوص الإمام بناءً على ما فهموه من قواعد الإمامين .

 

وقد احتج الشيخ تقي الدين بن تيمية لابن عقيل في مسألة إجارة الأرض والشجر بقوله : ” فإن قيل إن ابن عقيل جوز إجارة الأرض والشجر جميعاً لأجل الحاجة وأنه سلك مسلك مالك لكن مالكاً اعتبر القلة في الشجر وابن عقيل عمم فإن الحاجة داعية إلى إجارة الأرض البيضاء التي فيها شجر وإفرادها عنها بالإجارة متعذر أو متعسر لما فيه من الضرر فجوز دخولها في الإجارة كما جوز الشافعي دخول الأرض مع الشجر تبعاً في المساقاة (الفتاوى : 30/231) .

 

وفي مذهب الشافعي ما حكى صاحب التلخيص عن نص الشافعي رحمه الله أن الأرزاق التي يخرجها السلطان للناس يجوز بيعها قبل قبضها . وبعد ذكره للخلاف في هذه المسألة ، قال النووي : ” ودليل ما قاله الأول وهو الأصح أن هذا القدر من المخالفة للقاعدة احتمل للمصلحة والرفق بالجند لمسيس الحاجة ” (المجموع: 9/268) .

 

وقد أصل أبو إسحاق الشاطبي هذا المفهوم الحاجي واضعاً إياه في إطاره الأصولي قائلاً : ” ومما ينبني على هذا الأصل قاعدة الاستحسان ” .

 

وهو في مذهب مالك الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي . ومقتضاه الرجوع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس ، فإن من استحسن لم يرجع إلى مجرد ذوقه وتشهيه ، وإنما رجع إلى ما علم من قصد الشارع في الجملة في أمثال تلك الأشياء المفروضة كالمسائل التي يقتضي القياس فيها أمراً إلاّ أنّ ذلك الأمر يؤدي إلى فوات المصلحة من جهة أخرى أو جلب مفسدة كذلك .

 

وكثيراً مات يتفق هذا في الأصل الضروري مع الحاجي . والحاجي مع التكميلي فيكون إجراء القياس مطلقاً في الضروري يؤدي إلى حرج ومشقة في بعض موارده فيستثنى موضع الحرج وكذلك في الحاجي مع التكميلي ، أو الضروري مع التكميلي وهو ظاهر .

 

وله في الشرع أمثلة كثيرة كالقرض مثلاً فإنه ربا في الأصل لأنه الدرهم بالدرهم إلى أجل ، ولكنه أبيح لما فيه من الرفق والتوسعة على المحتاجين ، بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيق على المكلفين .

 

ومثله بيع العرية بخرصها تمراً فإنه بيع الرطب باليابس ، لكته أبيح لما فيه من الرفق ورفع الحرج بالنسبة إلى المعرِي والمُعَرى ولو امتنع مطلقاً لكن وسيلة لمنع الإعراء ، كما أن ربا النسيئة لو امتنع في القرض لامتنع أصل الرفق من هذا الوجه ومثله الجمع بين المغرب والعشاء للمطر وجمع المسافر ، وقصر الصلاة ، والفطر في السفر الطويل ، وصلاة الخوف ، وسائر الترخصات التي على هذا السبيل ، فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد على الخصوص ، حيث كان الدليل العام يقتضي منع ذلك لأنا لو بقينا مع أصل هذا الدليل العام لأدى إلى رفع ما اقتضاه ذلك الدليل من المصلحة ، فكان من الواجب رعي ذلك المآل إلى أقصاه ومثله الاطلاع على العورات في التداوي والقرض والمساقاة وإن كان الدليل العام يقتضي المنع وأشياء من هذا القبيل كثيرة .

 

هذا نمط من الأدلة الدالة على صحة القول بهذه القاعدة وعليها بنى مالك وأصحابه .

 

وقد قال ابن العربي في تفسير الاستحسان بأنه إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخيص ، لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته .

 

ثم جعله أقساماً : فمنه ترك الدليل للعرف كرد الأيمان إلى العرف وتركه إلى المصلحة كتضمين الأجير المشترك أو تركه للإجماع كإيجاب الغرم على من قطع ذنب بغلة القاضي وتركه في اليسير لتفاهته لرفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق كإجازة التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة وإجازة بيع وصرف في اليسير.

 

وقال في أحكام القرآن : الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين فالعموم إذا استمر والقياس إذا أطرد فإن مالكاً وأبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى .

 

ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ، ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس ، ويريان معاً تخصيص القياس ونقص العلة .

 

ولا يرى الشافعي لعلة الشرع إذا ثبتت تخصيصاً . وهذا الذي قالا هو نظر في مآلات الأحكام من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام والقياس العام . (الموافقات للشاطبي: 4/205-209) .

 

ونتيجة لما تقدم من كلام الشاطبي فقد تدخل الحاجة في تخصيص عموم وفي الغالب يكون عموماً ضعيفاً .

 

ومعنى الضعف أن تكون الجزئية الوارد عليها التخصيص من نوادر الصور ويختلف في دخولها في حكم العام . قال في مراقي السعود :

 

هل نادر في ذي العموم يدخل                      ومطلق أو لا خلاف ينقل

 

ويعني بالنادر ما لا يخطر غالباً ببال المتكلم لندرة وقوعه ولذا قال بعضهم: لا تجوز المسابقة على الفيل وجوزها بعضهم . والأصل في ذلك لا سبق إلاّ في خف ..

 

قال زكريا : وجه عمومه أنه نكرة واقعة في الإثبات وأنه في حيز الشرط معنى إذ التقدير إلاّ إن كان في خف. والنكرة في سياق الشرط تعم . (راجع نشر البنود: 1/208 وما بعدها) .

 

وأجاز مالك تلاوة الحائض للقرآن حتى لا تنسى وهو مخصص لعام منع التلاوة للجنب.

 

وإذا قلت كيف تخصص الحاجة وهي ليست من المخصصات اللفظية من نصوص وظواهر الكتاب والسنّة وغيرها كالإجماع والمفهوم بنوعيه والقياس ؟

 

 قلت : إنما يعزى التخصيص للاستصلاح أو الاستحسان الذي يعتمد على الحاجة وذلك أمر معروف في المذهبين الحنفي والمالكي كما تقدم عن الشاطبي .

 

وإن الذي ينبغي التنبيه عليه أن هذه المسائل التي أجازها من أجازها للحاجة فإنها وإن كانت تخصيصاً من العموم في النهي عن قراءة الجنب للقرآن والنهي عن قرض يجر نفعاً والنهي عن بيع قبل القبض ، فإنه عموم ضعيف في المسائل المخصوصة لأن حديث الجنب جاء في معرض جنابة غير الحائض وهو حديث علي ، فكان الحيض بمنزلة الصورة النادرة بالنسبة لراوي الحديث .

 

وكذلك فإن استثناء السفتجة وهي منفعة لا تشتمل على زيادة من الصور النادرة بالنسبة للمتكلم فإنه عندما يتحدث عن جر النفع فإنه يعني بالأصالة الزيادة أو الهدية أو نحو ذلك وعلى هذا نبّه ابن قدامة من طرف خفي عندما قال إنه لا نص في تحريمها أي بخصوصها .

 

وقل مثل ذلك في مسألة الأرزاق ومعلوم أن نوادر الصور مختلف في دخولها في العموم كما أسلفنا .

 

ثانيا – الحاجة الفقهية : الملحقة بالضرورة الفقهية وهي من باب التوسع في معنى الضرورة والاضطرار ، إذ الضرورة لفظ مشكك ، وهو كلي يكون معناه أشد في بعض أفراده من بعض ، فمن توسع أطلق على الحد الوسيط (الحاجة) ومن لم يتوسع اقتصر على الحد الأعلى : الضرورة . وليس هذا من باب القياس وإنما هو من باب الأدلة اللفظية .

 

وهذه الحاجة الفقهية لا تحدث أثراً مستمراً ولا حكماً دائماً بل هي كالضرورة تقدّر بقدرها وقد ذكرنا مثالاً لذلك نعيده باختصار هو مسألة بيع الثمرة قبل بدو صلاحها وشروط الاستثناء من المنع ، حيث قال خليل (وصح قبله) أي بدو صلاحه مع أصله أو ألحق به أو على قطعه واضطر أي احتيج كما في التوضيح (له) من المتبايعين أو أحدهما كما يعطيه ترك تقيده مع بنائه للمجهول (الزرقاني) .

 

وهذه حاجة فقهية لأنها تثبت حكماً فقط في محل الاحتياج وهي شخصية بمعنى أنها لا تجوز لغير المحتاج ولا تتجاوز محلها . وهذا ما يفرق الحاجة الفقهية عن الحاجة الأصولية التي تثبت حكماً مستمراً ولا يطلب تحققها في آحاد أفرادها . فالسلم يجوز للمحتاج وغير المحتاج كما قدمنا ، وكذلك قول خليل في مسألة تلقي السلع : ” وجاز لمن على ستة أميال أحذ محتاج إليه “.

 

ومعناه أن من كان بعيداً عن المدينة يجوز له اشتراء مايحتاج إليه من السلع قبل وصوله السوق. قال الحطاب عن ابن رشد : ” وأما إن مرت به السلع على قرية على أميال من الحاضرة فيجوز له أن يشتري ما يحتاج إليه لا لتجارة ، لمشقة النهوض عليه إلى الحاضرة . (الحطاب: 4/380) .

 

هذه هي الحاجة الفقهية وتعتبر توسعاً في معنى الضرورة فتقدّر بقدرها وهي حاجة شخصية .

 

هذا هو الفرق بين الحاجة الأصولية العامة التي تثبت بها الأحكام بالنص أو الاستحسان والاستصلاح وبين الحاجة الفقهية الخاصة التي تعتبر توسعاً في الضرورة ؛ مهم جداً في تصنيف الحاجة وترتيب الأحكام عليها.

 

وبذلك ندرك وجود نوعين من الحاجة أحدهما حاجة عامة والأخرى حاجة خاصة شخصية .

 

وحيث إن الحاجة الفقهية ملحقة بالضرورة فقد يُختلف في بعض الفروع هل تشترط فيها الضرورة القصوى أو الحاجة ؟

 

ففي مسألة إيجاب بيع الأقوات على من هي عنده وقت الغلاء يختلف في الضرورة التي توجب ذلك . فعند القرطبي إنما يجب البيع إن خيف بحبسه إتلاف المهج (أي الضرورة) فإن مست الحاجة ولم يكن الخوف المذكور بل دونه وجب عند ابن رشد (الزرقاني: 5/4) .

 

فابن رشد ألحق الحاجة هنا بالضرورة إلاّ أن الضرورة التي لا تعني الحاجة قد يصرح معها بما ينفي ذلك كما في رواية ابن القاسم في فسخ الدين في منافع يتأخر قبضها من الغريم . قال فيه إلاّ عند الضرورة التي تحل أكل الميتة مثل أن يكون في صحراء بحيث لا يجد كراء ويخشى على نفسه الهلاك إن لم يأخذ منه دابة يبلغ عليها ، وأشهب يجيز أن يأخذ منه دابة لما بقي له وإن لم تكن له ضرورة (الحطاب: 4/368) .

 

المصطلحات ذات العلاقة :

 

المصلحة :

 

مصدر ميمي من صلح يصلح بفتح عين الفعل وضمّها في الماضي والمضارع ، وهي ضد المفسدة والصلاح ضد الفساد وأصلها جلب منفعة أو دفع مضرة . قال الشوكاني : ” قال الخوارزمي : والمراد بالمصلحة المحافظة على مقصود  الشرع بدفع المفاسد عن الخلق ” (إرشاد الفحول : ص 242) .

 

وبين المصلحة والحاجة عموم وجهي ، فقد تُطلق المصلحة على الحاجة وغيرها ، وكذلك الحاجة قد تكون في محل المصالح واستعملت المصلحة بمعنى الحاجةالعامة في قول العز بن عبد السلام ( لأن المصلحة العامة كالضرورة الخاصة) ( قواعد الأحكام : ص 326) .

 

وقول ابن قدامة في السفتجة بعد أن ذكر الخلاف فيها حيث قال : ” وقد نصّ أحمد على أن من شرط أن يكتب بها سفتجة لم يجز ومعناه اشتراط القضاء في بلد آخر . وروى عنه جوازها كونها مصلحة لهما جميعاً ” وبعد أن ذكر أقوال المجيزين والمانعين قال : ” والصحيح جوازه لأنه مصلحة لهما من غير ضرر لواحد منهما . والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرّة فيها بل بمشروعيتها ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه ولا في معنى المنصوص فوجب إبقاؤه على الإباحة (المغني : 6/436-437) .

 

عموم البلوى :

 

وهو الحالة أو الحادثة التي تشمل كثيراً من الناس ويتعذّر الاحتراز منها (ابن عابدين : الحاشية 1/310) .

 

أو ما تمس الحاجة إليه في عموم الأحوال (كشف الأسرار: 3/16) كنجاسة النعل والخف تطهر بالدلك وإن كان رطباً على قول أبي يوسف وهو الأصح المفتى به لعموم البلوى (ابن عابدين : 1/309-310) .

 

وعموم البلوى كالحاجة لا يرفع نصاً . قال ابن نجيم : لا اعتبار عند أبي حنيفة بالبلوى في موضع النص كما في بول الآدمي فإن البلوى فيه أعم (الأشباه والنظائر ص 84) .

 

الغلبة :

 

الغلبة تنزل منزلة الضرورة وفي إفادة الإباحة . ألا ترى أن أسواق المسلمين لا تخلو عن المحرّم . (البدائع : 6/30)

 

 عسر الاحتراز :

 

ومعناها صعوبة التحفظ عن أمر وهي في العبادات وغيرها. قال الكاساني: كل فضل مشروط في البيع ربا سواء كان الفضل من حيث الذات أو من حيث الأوصاف إلاّ ما يمكن التحرز عنه دفعاً للحرج ( بدائع الصنائع: 5/187) .

 

وعبّر عنه القرافي بالتعذر حيث قال : ” المتعذر يسقط اعتباره والممكن يستصحب فيه التكليف ” (الفروق: 3/198) .

 

وأما خليل فقد قال : ” لا إن عسر الاحتراز منه ” (الزرقاني: 1/17) .

 

وعفى عما يعسر كحدث مستنكح (أي عما يعسر الانفكاك عنه بعد وجود سببه وهو المشقة) (الزرقاني وبحاشيته البناني :1/41) .

 

كل ما لا يمكن الاحتراز منه معفو عنه (ابن تيمية الفتاوى:1/592) وعسر الاحتراز هو عبارة عن المشقة اللاحقة في العبادة أو المعاملة .

 

المشقة :

 

التي تكون بمعنى الحاجة هي الواقعة في مرتبة متوسطة . ولإيضاح ذلك ننقل كلام القرافي في الفروق على أقسام المشقة حيث يقول ممزوجاً بابن الشاط باختصار محمد بن علي بن حسين المالكي في تهذيب الفروق ما يلي : (الفرق الرابع عشر بين قاعدتي المشقة المسقطة للعبادة والمشقة التي لا تسقطها) :

 

 (اعلم أن التكليف إلزام الكلفة على المخاطب يمنعه من الاسترسال مع دواعي نفسه هو أمر نسبي موجود في جميع أحكامه حتى الإباحة. ثم يختص غير الإباحة بمشاق بدنية بعضها أعظم من بعض . فالتكليف به إن وقع ما يلزمه من المشاق عادة أو في الغالب أو في النادر كالوضوء والغسل في البرد والصوم في النهار الطويل والمخاطرة بالنفس في الجهاد ونحو ذلك، لم يؤثر ما يلزمه في العبادة لا بإسقاط ولا بتخفيف لأن في ذلك نقص التكليف إن لم يقع التكليف بما يلزمه من المشاق كان التكليف على ثلاثة أقسام :

 

الأول: متفق على اعتباره في الإسقاط أو التخفيف كالخوف على النفوس أو الأعضاء والمنافع لأن حفظ هذه الأمور هو سبب مصالح الدنيا والآخرة فلو حصلنا هذه العبادة مع الخوف على ما ذكر لثوابها لأدى لذهاب أمثالها.

 

الثاني:  متفق على عدم اعتباره في ذلك كأدنى وجع في أصبع لأن تحصيل هذه العبادة أولى من درء هذه المشقة لشرف العبادة وخفة المشقة .

 

الثالث:  مختلف فيه فبعضهم يعتبر في التخفيف ما اشتدت مشقته وإن بسبب التكرار لا ما خفت مشقته وهو الظاهر من مذهب مالك . فيسقط التطهير من الخبث في الصلاة عن ثوب المرضع كل ما يعسر التحرز منه كدم البراغيث ويسقط الوضوء فيها بالتيمم لكثرة عدم الماء والحاجة إليه والعجز عن استعماله . وبعضهم يعتبر في التخفيف شديدة المشقة وخفيفها.

 

هذه الأقسام الثلاثة تطرد في جميع أبواب الفقه فكما وجدت المشاق الثلاثة في الوضوء ، كذلك نجدها في العمرة والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوقان الجائع والطعام عند حضور الصلاة والتأذي بالرياح الباردة في الليلة الظلماء والمشي في الوحل وغضب الحكام وجوعهم المانعين من استيفاء الفكر وغير ذلك . وكذلك الغرر في البيع ثلاثة أقسام وهكذا في كل أبواب الفقه (1/131-132).

 

وبين أن لكل عبادة مرتبة . قلت : وكذلك منهيات المعاملات لكل منها مرتبة .

 

مجالات تدخل فيها الحاجة :

 

الحاجة والغرر :

 

من أهم المجالات التي تدخلها الحاجة عقود الغرر وتقدمت بعض النصوص التي تدل على اغتفار يسير الغرر للحاجة .

 

ونريد أن نذكر الآن ما هو الغرر ؟ وأصل النهي عنه ومدى تأثير الحاجة في إلغاء حكمه .

 

والغرر عرّفه القرافي بأنه : الشيء الذي لا يدري هل يحصل أو لا . وعرّف الجهالة بأنها : ما عُلم وجوده وجهُلت صفته .

 

 وعرّف الجرجاني الغرر بأنه : ما يكون مجهول العاقبة لا يدري أيكون أو لا (التعريفات).

 

وقيل: ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول. قال الأزهري: ويدخل في بيع الغرر البيوع المجهولة التي لا يحيط بكنهها المتبايعان (التاج: 3/443) .

 

وبيع الغرر ممنوع شرعاً بعموم الكتاب لقوله تعالى :} ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل { ]البقرة2/88[ .

 

ومحرّم بنصوص السنّة . ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلّى اله عليه وسلّم نهى عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر (شرح مسلم للنووي : 11/156). وأخرجه مالك في الموطأ مرسلاً عن أبي حازم بن دينار عن سعيد بن المسيب أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن بيع الغرر(المنتقى للباجي:5/41).

 

علّق الباجي بقوله ” نهيه صلّى اله عليه وسلّم عن بيع الغرر يقتضي فساده ومعنى بيع الغرر – واله أعلم – ما كثر فيه الغرر وغلب عليه حتى صار البيع يوصف ببيع الغرر فهذا الذي لا خلاف في المنع منه ” .

 

وأما يسير الغرر فإنه لا يؤثر في فساد عقد بيع فإنه لا يكاد يخلو منه عقد. وإنما يختلف العلماء في فساد أعيان العقود لاختلافهم فيما فيها من الغرر هل هو من حيز الكثير الذي يمنع الصحة أو من حيز القليل الذي لا يمنعها ، فالغرر يتعلق بالمبيع من ثلاثة أوجه : من جهة العقد ، والعوض ، والأجل (المنتقى:5/41).     قلت : وجه ما ذكره الباجي وغيره أن مجرد وجود الغرر ليس مبطلاً للعقد حتى يكون غالباً ناشئاً عن كون إضافة البيع إلى الغرر هي من إضافة الموصوف إلى الصفة . ووصف ابن مالك – في التسهيل – هذا النوع من الإضافة بأنه من شبه المحضة ومثل له بمسجد الجامع لأن المسجد هو الجامع وذلك صفته ومعنى هذا أن النهي وارد على بيع غرر وليس عن بيع فيه غرر والفرق يدركه البصير بموارد الألفاظ .

 

وقال القرافي : ” قاعدة : الغرر ثلاثة أقسام : متفق على منعه في البيع كالطير في الهواء ومتفق على جوازه كأساس الدار ومختلف فيه هل يلحق بالقسم الأول لعظمه أو بالقسم الثاني لخفته أو للضرورة إليه كبيع الغائب على الصفة والبرنامج ونحوهما ؟

 

فعلى هاتين القاعدتين يتخرج الخلاف في البراءة . فـ (ح) يرى إن كان المبيع معلوم الأوصاف حق للعبد فيجوز له التصرف فيه وإسقاطه بالشرط ، وغيره يراه حق الله تعالى وأنه حجر على عباده في المعاوضة على المجهول . و (ح) يرى أن غرر العيوب في شرط البراءة من الغرر المغتفر لضرورة البائع لدفع الخصومة عن نفسه وغيره يراه من الغرر الممنوع لأنه قد يأتي على أكثر صفات المبيع ، فتأمل هذه المدارك فهي مجال الاجتهاد وانظر أيها أقرب لمقصود الشرع وقواعده فاعتمد عليه والله هو الهادي إلى سبيل الرشاد (الذخيرة للقرافي : 5/93) .

 

ويقول النووي : ” (فرع) الأصل أن بيع الغرر باطل لهذا الحديث والمراد ما كان فيه غرر ظاهر يمكن الاحتراز منه ( فأما ) ما تدعو إليه الحاجة ولا يمكن الاحتراز عنه كأساس الدار وشراء الحامل مع احتمال أن الحمل واحد أو أكثر وذكر أو أنثى وكامل الأعضاء أو ناقصها  وكشراء الشاة في ضرعها لبن ونحو ذلك  فهذا يصح بيعه بالإجماع .

 

ونقل العلماء الإجماع أيضاً في أشياء غررها حقير (منها) أن الأمّة أجمعت على صحة بيع الجبة المحشوة وإن لم ير حشوها ولو باع حشوها منفرداً لم يصح ، وأجمعوا على جواز إجارة الدار وغيرها شهراً مع أنه قد يكون ثلاثين يوماً وقد يكون تسعة وعشرين ، وأجمعوا على جواز دخول الحمام بأجرة وعلى جواز الشرب من ماء السقاء بعوض مع اختلاف أحوال الناس في استعمال الماء أو مكثهم في الحمام .

 

قال العلماء مدار البطلان بسبب الغرر والصحة مع وجوده على ما ذكرناه وهو أنه إذا دعت الحاجة إلى ارتكاب الغرر ولا يمكن الاحتراز عنه إلاّ بمشقة أو كان الغرر حقيراً جاز البيع وإلاّ فلا .

 

وقد يختلف العلماء في بعض المسائل كبيع العين الغائبة وبيع الحنطة في سنبلها ويكون اختلافهم مبنياً على هذه القاعدة ، فبعضهم يرى الغرر يسيراً لا يؤثر ، وبعضهم يراه مؤثراً والله سبحانه وتعالى أعلم (المجموع للنووي: 9/258) .

 

أما الشيخ تقي الدين بن تيمية فإنه قيّد الحاجة بالشدّة عندما قال في حديثه عن الجوائح : ” والحاجة الشديدة يندفع بها الغرر اليسير والشريعة مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها مصلحة راجحة أبيح المحرّم فكيف إذا كانت المفسدة منتفية ” (الفتاوى) .

 

الغرر المضاف :

 

واعتبر المالكية أن الغرر إذا كان مضافاً لأصل جائز يغتفر للحاجة بخلاف ما لو كان الغرر أصلاً في العقد فيبطل العقد . قال المواق: ” ومن المدونة من باع أمة وله رضيع حر وشرط عليهم رضاعته ونفقته سنة فذلك جائز إذا كان إن مات الصبي أرضعوا له آخر .. (ابن يونس) والفرق بين هذا وبين الظئر لا يجوز أن يشترط إن مات الطفل أن يؤتى بغيره ، أن مسألة الأمة الغرر فيها تبع لأنه انضاف إلى أصل جائز .

 

كقول مالك في بيع لبن شاة جزافاً شهراً أنه لا يجوز وأجاز كراء ناقة شهراً واشترط حلابها ، أصله جواز اشتراط المبتاع ثمراً لو يؤبر – انظر بعد هذا عند قوله – وخلفه الفصيل .

 

وقال أشهب إلا أنه على قوله يعطي الموجود حكم المعدوم كالغرر والجهالة في العقود إذا قال وعسر الاحتراز عنهما نحو أساس الدار وقطن الجبة ورداءة باطن الفواكه ودم البراغيث ونجاسة ثوب المرضع .

 

وانظر بالنسبة للربا لا يجوز منه قليل ولا كثير لا لتبعية في بيع الحلي- من ابن يونس – ( المواق حاشية على مواهب الجليل : 4/365) .

 

وهذا الكلام واضح في أمرين أحدهما أن الغرر قد يجوز تبعاً للحاجة ويجوز منه اليسير وأن الربا لا يجوز منه قليل ولا كثير .

 

وهذه نصوص تبين حدود تأثير الحاجة في المنهيات وذلك بحسب مرتبة النهي فما كان في مرتبة وسطى كالغرر تؤثر فيه بشروط وما كان في مرتبة عليا لا يتأثر بها.

 

ومن هذا القبيل تأثير الحاجة معتمدة على اشتمال العقد على معنى الرفق والمعروف فقد يكون العقد في أصله حراماً ولكنه يباح للحاجة بناءً على ما علم من التفات الشارع للمعروف والرفق .

 

ومن ذلك أنهم أجازوا إجارة لا تعرف فيها طبيعة المنافع المستأجر عليها ولا الذات المستأجرة وذلك في صيغة عرفت عند المالكية بـ”أعني بغلامك لأعينك بغلامي”.

 

 وتصور هذه المسألة من مختصر خليل ممزوجاً بشارحه الزرقاني : ” وجاز أعني بغلامك على حرثي ونحوه لأعينك بغلامي . أراد أو نفسي على حرثك أو غيره . ولذا حذف متعلق حال كون ذلك ، إجارة لا عارية  ، لأنها بغير عوض وهذا بعوض ، تحدث المنفعة أم لا ، تساوى زمنها أو اختلف ، تماثل المعان به للآخر أم لا ، كحرث وبناء وغلام وثور فلا يشترط اتحاد المنفعة ولا عين المستعمل) . وهذه إجارة ، ومعلوم أن الإجارة كالبيع .

 

أركانها ، والركن الثاني – الأجر- هو كالثمن يطلب كونه معروفاً قدراً وصفة ” هذا كلام ابن عرفة (المواق:5/389).

 

وهذه الصيغة التي اعتبرت تشتمل على جهل قدر الأجرة وصفتها ؛ لأنها قد تكون ثوراً في مقابل غلام ، وقد تكون حرثاً في مقابل البناء لأن الإعانة معروف حسب عبارة الزرقاني (نفس المرجع) .

 

 قال ابن شاس لو قال أعني بغلامك يوماً وأعينك بغلامي يوماً فليس بعارية بل ترجع إلى حكم الإجارة لكن أجازه ابن القاسم ورآه من الرفق (المواق:5/269) .

 

وسمع القرينان لا بأس أن يقول الرجل العامل لمثله أعني خمسة أيام وأعينك خمسة أيام في حصاد زرعك ودرسه وعمله (ابن رشد) .

 

لأنه من الرفق فكان ذلك ضرورة تبيح ذلك وإنما يجوز ذلك فيما قل وقرب من الأيام وإن اختلفت الأعمال (المواق: 4/418) .

 

قلت : قوله فكان ذلك ضرورة إلى آخره معناها هنا الحاجة كما قدمنا . وكذلك نصّوا على أن (قولهم الصفقة تفسد إذا جمعت حلالاً وحراماً مخصوص بالمعاوضات المالية بالبيع والشراء) (في الزرقاني: 7/79) .

 

قاله في معرض التعليق على بعض عقود الوقف التي تجمع حلالاً وحراماً ومفهومه أن التبرعات لا تبطل بالجمع بين الحلال والحرام بل يبطل فقط الجزء الذي تعلقت به الحرمة ويصحح غيره وذلك لأن عقود المعروف والرفق يتسامح فيها نظراً لقصد الشارع العام في إيقاعها ما لا يتسامح في غيرها ويغتفر فيها من الخلل الذي تدعو إليه الحاجة ما لا يغتفر في عقود المكايسة المحضة .

 

ومن هذا القبيل ما ذكر ابن يونس في جامعه وهو يعلل بعض عقود الصرف:” انظر هل العلة أنهم إذا قصدوا الإقالة جاز لأنها معروف ، وإذا قصدوا التبايع لم يجز لأنها مكايسة .

 

فيجب على هذا إذا ابتاع حنطة بوازن فأعطاه ناقصاً ورد عليه من الحنطة ، إن قصدوا التبايع لم يجز ولو قصدوا الإقالة فقال المشتري وقد وجد ديناره ينقص سدساً أقلني بهذا النقص من سدس الطعام وخذ الدينار الناقص لجاز ” (كتاب الصرف من ابن يونس) .

 

في هذه المجالات برز إعمال الحاجة لتصحيح خلل مضاف للعقد وليس متبوعاً في تصحيح خلل يتعلق بعقد إرفاق ومعروف .

 

الحاجة ترجح المختلف فيه بين العلماء :

 

وقد نصَّ المالكية على جواز العمل بالضعيف بثلاثة شروط : أن تلجيء إليه الضرورة ، وأن لا يكون ضعفه شديداً جداً ، وأن تثبت نسبته إلى قائل يُقتدى به علماً وورعاً . ذكره البناني في حاشيته على الزرقاني عن المسناوي(5/124).

 

ونظمه سيدي عبدالله في مراقي السعود حيث قال :

 

وذكر ما ضعف ليس للعمل      إذ ذاك عن وفاقهم قد انحظل

بل للترقي في مدارج السنا        وليحفظ المدرك من له اعتنى

ولمراعاة الخلاف  المشتهر      أو المراعـاة لكل ما سطـر

وكونه يلجي إليه الضـرر         إن كان لم يشتد فيه الخـور

ثبت العـزو وقد تحــققا             ضراً من الضـر به تعلقـا

 أصل مشروعية الحاجة رفع الحرج والتيسير فهي تشترك مع الضرورة في مسألة رفع الحرج وهي مبنية على التسهيل والتيسير والتوسع .

 

قال الشاطبي (المسألة السادسة) : فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه والدليل على ذلك أمور :

 

أحدها : النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى :} ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم { ]الأعراف : 157[ . وقوله :}  ربّنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا { ]البقرة: 286/2 [ . وفي الحديث : ” قال الله تعالى قد فعلت ” (حديث رقم 180 أخرجه مسلم عن ابن عباس – باب الإيمان). وقد جاء : } لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها { ]البقرة 286 [. و  } يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر { ]البقرة: 185 [ . و } وما جعل عليكم في الدين من حرج { ]الحج : 78 [ . و } يريد الله أن يخفف عنكم وخُلق الإنسان ضعيفا { ]النساء : 28 [ . و } ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليُطهركم { ]المائدة : 6 [ .

 

وفي الحديث : ” بُعِثتُ بالحنيفية السمحة ” (الحديث أخرجه الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه ، حديث رقم 21260 باقي مسند الأنصار) ، وحديث : ” ما خُيِّرَ رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ” (الحديث أخرجه الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها ، حديث رقم 23702 باقي مسند الأنصار) . وإنما قال : ” ما لم يكن إثماً ” لأن ترك الإثم لا مشقّة فيه من حيث كان مجرد ترك إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى . ولو كان قاصداً للمشقة لما كان مريداً لليسر ولا التخفيف ولكان مريداً للحرج والعسر وذلك باطل .

 

والثاني : ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومما علم من دين الأمة ضرورة كرخص القصر والفطر والجمع وتناول المحرمات في الاضطرار ، فإن هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقّة ، وكذلك ماجاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال . ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكلف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف . (الموافقات:2/121-122) .

 

فالنصوص السالفة الذكر عامة في المشقّة بنوعيها الشديد والمتوسط ، وإذا فرضنا أن رفع الحرج مفقود فيه صيغة عموم فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء والصلاة قاعداً عند مشقة طلب القيام ، والقصر والفطر في السفر ، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر ، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل .

 

وأطال النفس (إلى جزئيات كثيرة جداً يحصل من مجموعها قصد لرفع الحرج فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها عملاً بالاستقراء) . (الموافقات: 2/299)

 

إجمال الفروق بين الضرورة والحاجة :

 

بعد هذا العرض يتبين أن الفرق بين الضرورة والحاجة يرجع إلى :

 

التعريف في أن الضرورة في معناها الفقهي الأخص شدة وضيق في المرتبة القصوى تبيح المحرّم ، وفي معناها الأصولي كلي ينتظم الأحكام التي بها قوام الأديان والأبدان .

 والحاجة مشقة في مرتبة وسطى في معناها الفقهي تلحق بالضرورة   لفقهية في إباحة منهي ضعف دليله وتدنت مرتبته في سلم المنهيات وفي معناه الأصولي كلي أورث عدم اعتباره مشقة وحرجاً للعامة وأدى اعتباره إلى سهولة ويسر فكان أصلاً لعقود منصوصة حادت عن قياس أو خرجت عن قاعدة كلية أو أدى إليها اجتهاد مجتهد استصلاحاً أو استحساناً .

 

أصل المشروعية في أن النصوص المتعلقة بالضرورة نصوص واضحة محددة تتعلق برفع حرج وشدة من نوع خاص .

 والنصوص التي ترجع مشروعية الحاجة إليها تتعلق برفع الحرج بصفة عامة أعم من تلك التي قبلها وأقل تحديداً .

 

وهذان الفرقان بين الضرورة وبين الحاجة ثابتان في الضرورة بالمعنى الأصولي (الضروري) ومتعلقها مستمر ، أي أن الحكم الملحق من أجلها على خلاف القياس مستمر بناء على دليل الاستحسان أو المصلحة المرسلة وفي الضرورة بالمعنى الفقهي ومتعلقها موقت من باب الرخصة بالمعنى الأخص وهي تغيير حكم لعذر مع علة الحكم الأصلي .

 

وفي الحاجة بمعنى الحاجي وهو المعنى الأصولي ومتعلقها مستمر أي أن الحكم ثابت بها مستمر سواء كان منصوصاً معللاً بها كالسلم والإجارة… إلى آخره ، أو منسوباً إليها استحساناً كالاستصناع للحاجة والتعامل أو استصلاحاً كجواز تلاوة الحائض عند مالك.

 

والحاجة بمعنى الحاجي يشترط فيها أن تكون عامة وأما الحاجة الفقهية وهي كالضرورة الفقهية لأنها ملحقة بها وتوسيع لمعناها وهذه ترفع الحرج مؤقتاً بخلاف الضرورة بمعناها الفقهي فإنها تبيح مع قياس النص المانع صريحاً فيما توجد فيه فترفعه مؤقتاً وتشاركها الحاجة الفقهية في التوقيت لكنها تختلف معها في مرتبة دليل الحكم الذي ترفقه ، فالأولى ترفع حكماً دليله قطعي كالنص بدليله الظاهر والاقتضاء والإشارة والمفهوم والقياس .

 

أما الثانية فإنها ترفع حكماً دليله ظني كحال العام وبخاصة العام الضعيف في نوادر الصور كما أسلفنا وهذا الاختلاف في طبيعة الدليل الذي تواجهه كل منهما ناشيء عن اختلاف المشقتين  فالمشقّة في محل الضرورة هي مشقّة كبرى بينما المشقّة في محل الحاجة هي مشقّة وسطى .

 

أما الضرورة بمعنى الضروري عند الأصوليين فإنها تكون تأصيلاً لأحكام منصوصة من الشارع أو مجتهد فيها عن طريق المصلحة المرسلة .

 

يكمن الفرق بين الضروري والحاجي في أن ما كان من قبيل الضروريات فهو أرفع مرتبة مما كان من قبيل الحاجيات تأصيلاً وتعليلاً ، فما كان من الضروريات من حفظ نفس ودين ونسل ومال وعقل يقع في المرتبة العليا من المصالح الشرعية ولهذا فإنه معتبر في غيبة الشاهد الخاص عند من يعمل بالمصالح المرسلة وهو مالك رحمه الله تعالى ولم يستبعده من لا يعمل بها كالغزالي في المستصفى بشروط وابن قدامة في الروضة  .

 

أما الحاجيات فلتدني مرتبتها  فإن الاستصلاح في محلها نفاه كثير من العلماء كالغزالي في المستصفى وابن قدامة في الروضة .

 

وكل هذه الفروق تدعو إلى التأمل في هذه القاعدة وإعادة النظر في موقعها والذي نراه أنها قاعدة أصولية وليست فقهية وأن العقود والفروع التي تثبت عليها مقررة بالنص فذكرها إذاً من باب التعليل والتأصيل وليست مطردة ولهذا عبّر بعضهم بقد التقليلية وأن الأولى أن تذكر مع الضرورة الأصولية لأنها تثبت حكماً دائماً وهي من الكلي الذي لا يتوقف على تحققه في كل فرد من أفراده بل يكتفى بتحقيقه بالجملة في الجنس .

 

وأعتقد أن هذا المنحى هو الذي انتحاه إمام الحرمين حيث تحدث عن الضرورة الأصولية في القسم الثالث وجعل منها البيع ثم تحدث عن إلحاق الحاجة بها في المرتبة التي تليها ووضع بها الإجارة وتلاه تلاميذه .

 

وهذا في رأي هو القول الفصل وإن وضعها قاعدة فقهية أحدث ارتباكاً عند كثير من الباحثين حيث أباحوا بالحاجة دون استفصال ودون النظر في شروط الاستصلاح والاستحسان .

 

ولم ينتبهوا إلى أن الحاجة لا تؤثر فيما ثبت النهي عنه بأدلة قوية بحيث تعتبر في مرتبة قوية من مراتب النهي فلا تؤثر في تحريم الخمر والميتة والدم.

 

بل إنما تؤثر في عموم ضعيف كثرت أفراده وتناوله التخصيص وإنما تؤثر في مرتبة المنهيات لا توصف بأنها في أعلى درجات المنهيات فمن المعلوم أن محرّمات المقاصد ليست كمحرّمات الوسائل والذرائع وهذه فروق دقيقة توزن بميزان دقيق .

 

فالأولى لا تبيحها إلاّ الضرورة الخاصة بينما تتأثر الأخيرة بالحاجة منزلة منزلة الضرورة وتؤثر الحاجة في بعض العمومات وبعض المنهيات الأقل قوة بحيث يلاحظ الفقيه أن الشارع لم يشدد فيها فليست حرمة الربا كحرمة القمار والميسر والغرر فالربا أشد من هذه كما يقول ابن تيمية .

 

ثم إن الحاجة لا يمكن أن تفني العام بمعنى أنه لا يمكن تحت ضغوط الحاجة أن نقر أن الغرر كله أصبح جائزاً أو أن بيع ما ليس عندك أصبح جائزاً ، بل إن الحاجة تتعامل مع جزئيات فقط من هذه العمومات لأن العام نص فيما يصدق عليه أقله فإلغاؤه يصبح إلغاء للنص .

 

وإذا كانت العبادات ليست على وزان واحد كما يقول الشاطبي فكذلك المعاملات ليست على وزان واحد .

 

وباختصار فإن الفرق بين الضرورة وبين الحاجة يتجلى في ثلاث مراتب: مرتبة المشقّة ومرتبة النهي ومرتبة الدليل .

 

فإن الضرورة في المرتبة القصوى من المشقّة أو من الأهمية والحاجة في مرتبة متوسطة .

 

والنهي الذي تختص الضرورة برفعه هو نهي قوي يقع في أعلى درجات النهي لأن مفسدته قوية أو لأنه يتضمن المفسدة فهو نهي المقاصد بينما تواجه الحاجة نهياً أدنى مرتبة من ذلك لأنه قد يكون نهي الوسائل .

 

أما مرتبة الدليل فإن الدليل الذي ترفع حكمه الضرورة قد يكون نصاً صريحاً من كتاب أو سنّة أو سواهما . أما الدليل الذي تتطرق إليه الحاجة فهو في الغالب عموم ضعيف يخصص ، أو قياس لا يطرد في محل الحاجة ، أو قاعدة يستثنى منها .

 

من خلال التعامل مع هذه المراتب الثلاث يتبين فقه الفقهاء وفطنة الأذكياء في التمييز بين الضرورة بمعنييها الفقهي والأصولي والحاجة بمعنييها الأصولي والفقهي .

 

وعلى ضوء هذا يكون إعمال الحاجة في العقود المتجددة يقتضي أن لا يكون العقد كله مبنياً على الفساد بل يكون الفساد لاحقاً ببعض أوجه العقد كما قالوا في بيع الوفاء .

 

 فالفساد يلحق ببعض أوجهه دون بعض، وذلك إنما يعتبر في عقد منفرد ولا يعتبر في عدة عقود أو معاملات بعضها فاسد وبعضها صحيح ، فلا يمكن تصحيح الفاسد بناء على صحة الصحيح.

 

وهذا مع الأسف ما خفي على بعض الفضلاء فطبقوا حالة الفساد اللاحق بجزء من العقد والذي يمكن جبره إذا كان غرراً يسيراً مثلاً مضافاً إلى أصل جائز ، طبقوا ذلك الحكم على عقود متعددة بعضها مستقل عن بعض وبعضها ممنوع وبعضها جائز بدعوى العين المنغمرة.

 

وهذا كما هو واضح غير صحيح ، ولا يمكن قبوله من خلال مبدأ الحاجة بحال من الأحوال.

 

تطبيقات معاصرة

 

فيما يلي بعض التطبيقات المعاصرة لمبدأ الحاجة :

 

1 – فتوى المجلس الأوروبي بشأن شراء بيوت السكنى في ديار غير المسلمين:

 

نبدأ هذه التطبيقات بفتوى أثارت جدلاً في الساحة الفقهية وهي فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث المتعلقة بقرار إباحة شراء بيوت السكنى في ديار غير المسلمين ترجيحاً لمذهب أبي حنيفة ومن قال بقوله انطلاقاً من مبدأ الحاجة .

 

نظر المجلس في القضية التي عمت بها البلوى في أوروبا وفي بلاد الغرب كلها ، وهي قضية المنازل التي تشترى بقرض ربوي بواسطة البنوك التقليدية .

 

وقد قدمت إلى المجلس عدة أوراق في الموضوع ما بين مؤيد ومعارض قُرئت على المجلس ، ثم ناقشها جميع الأعضاء مناقشة مستفيضة ، انتهى بعدها بأغلبية أعضائه إلى ما يلي :

 

يؤكد المجلس على ما أجمعت عليه الأمة من حرمة الربا وأنه من السبع الموبقات ، ومن الكبائر التي تؤذن بحرب من الله ورسوله ، ويؤكد ما قررته المجامع الفقهية الإسلامية من أن فوائد البنوك هي الربا الحرام .

يناشد المجلس أبناء المسلمين في الغرب أن يجتهدوا في إيجاد البدائل الشرعية التي لا شبهة فيها ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً مثل (بيع المرابحة) الذي تستخدمه البنوك الإسلامية ، ومثل تأسيس شركات إسلامية تنشيء مثل هذه البيوت بشروط ميسرة مقدورة لجمهور المسلمين ، وغير ذلك .

كما يدعو التجمعات الإسـلامية في أوروبا أن تفاوض البنوك الأوروبية التقليدية لتحويل هذه المعاملة إلى صيغة مقبولة شرعاً ، مثل (بيع التقسيط) الذي يزاد فيه الثمن مقابل الزيادة في الأجل ، فإن هذا سيجلب لهم عدداً كبيراً من المسلمين يتعامل معهم على أساس هذه الطريقة ، وهو ما يجري به العمل في بعض الأقطار الأوروبية ، وقد رأينا عدداً من البنوك الغربية الكبرى تفتح فروعها لها في بلادنا العربية تتعامل وفق الشريعة الإسلامية ، كما في البحرين وغيرها . ويمكن للمجلس أن يساعد في ذلك بإرسال نداء إلى هذه البنوك لتعديل سلوكها مع المسلمين .

وإذا لم يكن هذا ولا ذاك ميسراً في الوقت الحاضر ، فإن المجلس في ضوء الأدلة والقواعد والاعتبارات الشرعية ، لا يرى بأساً من اللجوء إلى هذه الوسيلة وهي القرض الربوي لشراء بيت يحتاج إليه المسلم لسكناه هو وأسرته ، بشرط ألا يكون لديه بيت آخر يغنيه ، وأن يكون هو مسكنه الأساسي ، وألا يكون عنده من فائض المال ما يمكنه من شرائه بغير هذه الوسيلة ، وقد اعتمد للمجلس في فتواه على مرتكزين أساسيين :

المرتكز الأول :

 

قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) وهي قاعدة متفق عليها مأخوذة من نصوص القرآن في خمسة مواضع ، منها قوله تعالى في سورة الأنعام :} وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم إلاّ ما اضطررتم إليه { ]الآية: 119[ . ومنها قوله تعالى في نفس السورة بعد ذكر محرّمات الأطعمة :} فمن اضطُرَّ غير باغٍ ولا عادٍ فإن ربَّك غفور رحيم { ]الآية:145[ . ومما قرره الفقهاء هن أن الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة ، خاصة كانت أو عامة .

 

والحاجة هي التي إذا لم تتحقق يكون المسلم في حرج وإن كان يستطيع أن يعيش بخلاف الضرورة التي لا يستطيع أن يعيش بدونها ، والله تعالى رفع الحرج عن هذه الأمة بنصوص القرآن كما في قوله تعالى في سورة الحج :} وما جعل عليكم في الدين من حرج { ]الآية:78[ ، وفي سورة المائدة :} ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج { ]الآية:6[ . والمسكن الذي يدفع عن المسلم الحرج هو المسكن المناسب له في موقعه وفي سعته وفي مرافقه بحيث يكون سكناً حقاً .

 

وإذا كان المجلس قد اعتمد على قاعدة الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة ، فإنه لم ينس القاعدة الأخرى الضابطة والمكملة لها ، وهي أن ما أبيح للضرورة يقدّر بقدرها ، فلم يجز تملّك البيوت للتجارة ونحوها .

 

والمسكن ولا شك ضرورة للفرد المسلم وللأسرة المسلمة ، وقد امتن الله بذلك على عباده حين قال :}  والله جعل لكم من بيوتكم سكناً { ]النحل: 80[ ، وجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم المسكن الواسع عنصراً من عناصر السعادة الأربعة أو الثلاثة والمسكن المستأجر لا يلبي كل حاجة المسلم ، ولا يشعره بالأمان ، وإن كان يكلف المسلم كثيراً بما يدفعه لغير المسلم ويظل سنوات يدفع أجرته ولا يملك منه حجراً واحداً ، ومع هذا يظل المسلم عرضة للطرد من هذا المسكن إذا كثر عياله أو كثر ضيوفه ، كما أنه إذا كبرت سنه أو قلّ دخله أو انقطع عرضة لأن يُرمى به في الطريق .

 

وتملك السكن يكفي المسلم هذا الهم ، كما أنه يمكنه أن يختار المسكن قريباً من المسجد والمركز الإسلامي والمدرسة الإسلامية ، ويهيىء فرصة للمجموعة المسلمة أن تتقارب في مساكنها عسى أن تنشيء لها مجتمعاً إسلامياً صغيراً داخل المجتمع الكبير ، فيتعارف فيه أبناؤهم ، وتقوى روابطهم ، ويتعاونون على العيش في ظل مفاهيم الإسلام وقيمه العليا .

 

كما أن هذا يمكن المسلم من إعداد بيته وترتيبه بما يلبي حاجته الدينية والاجتماعية مادام مملوكاً له .

 

وهناك إلى جانب هذه الحاجة الفردية لكل مسلم الحاجة العامة لجماعة المسلمين الذين يعيشون أقلية خارج دار الإسلام ، وهي تتمثل في تحسين أحوالهم المعيشية ، حتى يرتفع مستواهم ، ويكونوا أهلاً للانتماء إلى خير أمة أُخرجت للناس ، ويغدوا صورة مشرقة للإسلام أمام غير المسلمين ، كما تتمثل في أن يتحرروا من الضغوط الاقتصادية عليهم ، ليقوموا بواجب الدعوة ويساهموا في بناء المجتمع العام ، وهذا يقتضي ألاّ يظل المسلم يكد طول عمره من أجل دفع قيمة إيجار بيته ونفقات عيشه ، ولا يجد فرصة لخدمة مجتمعه أو نشر دعوته .

 

المرتكز الثاني : (وهو مكمل للمرتكز الأول الأساسي)

 

هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني  – وهو المفتى به في المذهب الحنفي – وكذلك سفيان الثوري وإبراهيم النخعي ، وهو رواية عن أحمد بن حنبل ، ورجحها ابن تيمية – فيما ذكره بعض الحنابلة – من جواز التعامل بالربا – وغيره من العقود الفاسدة – بين المسلمين وغيرهم في غير دار الإسلام .

 

ويرجح الأخذ بهذا المذهب هنا عدة اعتبارات ، منها :

 

أن المسلم غير مكلف شرعاً أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لا يؤمن بالإسلام ، لأن هذا ليس في وسعه ، ولا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها ، وتحريم الربا هو من هذه الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع وفلسفة الدولة واتجاهها الاجتماعي والاقتصادي . وإنما يطالب المسلم بإقامة الأحكام التي تخصه فرداً مثل أحكام العبادات وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات وما يتعلق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والميراث وغيرها من الأحوال الشخصية ، بحيث لو ضيق عليه في هذه الأمور ولم يستطع بحال إقامة دينه فيها لوجب عليه أن يهاجر إلى أرض الله الواسعة ما وجد إلى ذلك سبيلاً .

أن المسلم إذا لم يتعامل بهذه العقود الفاسدة – ومنها عقد الربا – في دار القوم، سيؤدي ذلك بالمسلم إلى أن يكون التزامه بالإسلام سبباً لضعفه اقتصادياً وخسارته مالياً ، والمفروض أن الإسلام يقوّي المسلم ولا يضعفه ، ويزيده ولا ينقصه ، وينفعه ولا يضرّه ، وقد احتج بعض علماء السلف على جواز توريث المسلم من غير المسلم بحديث : ” الإسلام يزيد ولا ينقص ” أي يزيد المسلم ولا ينقصه ، ومثله : ” الإسلام يعلو لا يعلى ” ، وهو إذا لم يتعامل بهذه العقود التي يتراضونها بينهم سيضطر إلى أن يعطي ما يطلب منه ولا يأخذ مقابله ، فهو ينفذ هذه القوانين والعقود فيما يكون عليه من مغارم ولا ينفذها فيما يكون له من مغانم ، فعليه الغرم دائماً وليس له الغنم ، وبهذا يظل المسلم أبداً مظلوماً مالياً بسبب التزامه بالإسلام ، والإسلام لا يقصد أبداً إلى أن يظلم المسلم بالتزامه به ، وأن يتركه – في غير دار الإسلام – لغير المسلم يمتصه ويستفيد منه ، في حين يحرم على المسلم أن ينتفع من معاملة غير المسلم في المقابل في ضوء العقود السائدة والمعترف بها عندهم .

 وما يُقال من أن مذهب الحنفية إنما يجيز التعامل بالربا في حالة الأخذ لا الإعطاء  لأنه لا فائدة للمسلم في الإعطاء وهم لا يجيزون التعامل بالعقود الفاسدة إلاّ بشرطين الأول : أن يكون فيها منفعة للمسلم ، والثاني : ألا يكون فيها غدر ولا خيانة لغير المسلم ، وهنا لم تتحقق المنفعة للمسلم .

 

فالجواب : أن هذا غير مسلَّم ، كما يدل عليه قول محمد بن الحسن الشيباني في السير الكبير ، وإطلاق المتقدمين من علماء المذهب ، كما أن المسلم وإن كان يعطي الفائدة هنا فهو المستفيد إذ به يتملك المنزل في النهاية.

 

وقد أكّد المسلمون الذي يعيشون في هذه الديار بالسماع المباشر منهم وبالمراسلة : أن الأقساط التي يدفعونها للبنك بقدر الأجرة التي يدفعونها للمالك ، بل أحياناً تكون أقل ، ومعنى هذا أننا إذا حرّمنا التعامل هنا بالفائدة مع البنك حرمنا المسلم من امتلاك مسكن له ولأسرته ، وهو من الحاجات الأصلية للإنسان كما يعبّر الفقهاء ، وربما يظل عشرين سنة أو أكثر يدفع إيجاراً شهرياً أو سنوياً ولا يملك شيئاً على حين كان يمكنه في خلال عشرين سنة – وربما أقل – أن يملك البيت .

 

فلو لم يكن هذا التعامل جائزاً على مذهب أبي حنيفة ومن وافقه لكان جائزاً عند الجميع للحاجة التي تنزل أحياناً منزلة الضرورة في إباحة المحظور بها .

 

ولا سيما أن المسلم هنا إنما يؤكل الربا ولا يأكله ، أي هو يعطي الفائدة ولا يأخذها والأصل في التحريم منصب على (أكل الربا) كما نطقت به آيات القرآن ، وإنما حرم الإيكال سداً للذريعة كما حرمت الكتابة له والشهادة عليه فهو من باب تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد .

 

ومن المعلوم أن أكل الربا المحرّم لا يجوز بحال ، أما إيكاله – بمعنى إعطاء الفائدة – فيجوز للحاجة ، وقد نصّ على ذلك الفقهاء وأجازوا الاستقراض بالربا للحاجة إذا سدت في وجهه أبواب الحلال .

 

ومن القواعـد الشـهيرة هنا : أن ما حـرم لذاته لا يباح إلاّ للضرورة ، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة ، والله الموفق .

 

وتعليقنا على هذا القرار : نقول عنه باختصار إنه لا يبيح التعامل بإطلاق بالربا في ديار غير المسلمين كما هو مقتضى مذهب أبي حنيفة ومن قال بقوله لكنه يبيحه في حالة الحاجة الشخصية التي لا تتجاوز محلها فهو ترجيح مقيد بالحاجة طبقاً لشروط الترجيح بالحاجة التي نقلناها عن مالك .

 

وإن كنت لا اتفق مع صياغة بعض الفقرات وبخاصة فيما يتعلق بالقول أن الحاجة وحدها تكفي في إباحة هذا التعامل .

 

والحقيقة أن الحاجة لا تكفي في إباحة الربا وإنما تعتمد الفتوى على قول العلماء القائلين بهذا مرجحاً بأصل عام شهد الشرع باعتباره وهو الحاجة والتيسير .

 

 2 – قرار مجمع الفقه الإسلامي : 63(1/7) بشأن شراء أسهم في شركات تتعامل أحياناً بالربا :

 

 فيما يلي بعض البنود التي وردت بقرار مجمع الفقه الإسلامي فيما يختص بهذا الموضوع :

 

إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 – 12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9-14 مايو 1992م .

 

بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع “الأسواق المالية” الأسهم ، الاختيارات ، السلع ، بطاقة الائتمان ، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله ، قرر ما يلي :

 

أولاً ـ الأسهم :

 

1- الإسهام في الشركات :

 

أ)     بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز .

 

ب)   لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرّم ،  كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرّمات أو المتاجرة بها .

 

ج)   الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرّمات كالربا ونحوه بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة .

 

2 – تحديد مسؤولية الشركات المساهمة المحدودة :

 

لا مانع شرعاً من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محدودة برأس مالها، لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة .

 

ثانياً ـ التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الأسواق المنظمة :

 

السـلع : يتم التعامل بالسلع في الأسواق المنظمة بإحدى أربع طرق هي :

الطريقة الأولى :

 

أن يتضمن العقد حق تسليم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع وجود السلع أو إيصالات ممثلة لها في ملك البائع وقبضه . وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة .

 

الطريقة الثانية :

 

أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع إمكانهما بضمان هيئة السوق .

 

وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة .

 

الطريقة الثالثة :

 

أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد أجل ودفع الثمن عند التسليم وأن يتضمن شرطاً يقتضي أن ينتهي فعلاً بالتسليم والتسلم ، وهذا العقد غير جائز لتأجيل البدلين ، ويمكن أن يعدّل ليستوفي شروط السلم المعروفة ، فإذا استوفى شروط السلم جاز . وكذلك لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها.

 

الطريقة الرابعة :

 

أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمّة في موعد أجل ودفع الثمن عند التسليم دون أن يتضمن العقد شرطاً يقتضي أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعليين ، بل يمكن تصفيته بعقد معاكس . وهذا هو النوع الأكثر شيوعاً في أسواق السلع ، وهذا العقد غير جائز أصلاً .

 

وتعليقنا على هذا القرار المتعلق بالأسواق المالية نرى أن المجمع تارة لم يعتبر الحاجة لما عارضها من الدليل الذي يجعل اعتبارها ملغي وتارة اعتبرها . فعلى سبيل المثال :

 

1- الفقرة (ج) : الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرّمات كالربا ونحوه بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة .

 

           وبهذا يرى المجمع أن الربا لا تبيحه الحاجة ولا عبرة بقلته بالنسبة لأعمال الشركة وأنشطتها باعتبار ذلك وصفاً طردياً والمجمع في ذلك كان مصيباً كل الإصابة لأن الربا كما أسلفنا في مرتبة من النهي لا تبيحها إلاّ الضرورة .

 

          وكان بودي أن تُحذف كلمة (الأصل) التي أصبح البعض يتذرّع بها لإباحة الاشتراك في هذه الشركات بدعوى التطهير ، وقد بيّنا خطأ ذلك في بحث آخر.

 

2-   قرر المجمع أن لا مانع شرعاً من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محددة برأس مالها .

 

      والمجمع تجاوز عن مشكلة الديون التي على الشركة فإن أصحابها وإن كانوا يعلمون أنها مرتبطة برأس مال الشركة فإنهم مع ذلك إنما تعاقدوا مع أرباب الشركة وهذا القرار فرع عن الاعتراف بالشخصية المعنوية والأصل في الشريعة اعتبار الذمّة الشخصية والمجمع قرر ذلك للحاجة .

 

3-   في الفقرة الأخيرة من الطريقة الثالثة قرر المجمع أنه ( لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها ) ولم يعتبر الحاجة مع أن مذهب مالك والأوزاعي جواز ذلك ما لم تكن السلعة طعاماً .

 

 هذه القرارات تدل على تعامل حذر مع مبدأ الحاجة ، ولعل بحثنا هذا يسهم في إيضاح معايير التعامل مع الحاجة.

 

بالإضافة إلى ما تقدم فقد منع المجمع عقود التوريد في قرارات سابقة وأكّد هذا المنع في دورته الأخيرة بالرياض بتاريخ 25 جمادى الثانية 1421هـ ، ماعدا ما يتعلق منها بالاستصناع بناءً على تأجيل العوضين .

 

والذي يظهر لي: أن عقود التوريد من المجالات التي تدخل فيها الحاجة لعدم وجود نص فيها وقد أجاز مالك تأجيل العوضين في السلم بشرط لثلاثة وإلى غاية أجل المسلم بلا شرط النقد وأجازه في الاستجرار في الشراء من دائم العمل كالخباز .

 

وأجازه في أكرياء الحج وهو كراء مضمون تأجل فيه العوضان بحاجة الناس إلى ذلك وقد نقلنا كلام ابن سراج عن المواق وفيه أن مالك ( أجاز تأخير النقد في الكراء المضمون).(التاج والإكليل:5/390) .

 

قال خليل 🙁 أو في مضمونه لم يشرع فيها إلاّ كراء حج فاليسير) وكان مالك يرى أن لا بد أن ينتقد ثلثي الكراء في المضمونة إلى أجل ، ثم رجع وقال :” قد اقتطع الأكرياء أموال الناس فلا بأس أن يؤخروهم بالنقد ويعربونهم الدينار وشبهه ” (التاج والإكليل: 5/3939) .

 

قلت : قوله (ويعربونهم) أي : يعطونهم عربوناً .

 

كما أجيز الاستصناع للحاجة وقد أقر المجمع جوازه مع أن جواز تأجيل العوضين مذهب ابن المسيب رضي الله عنه .

 

وأنا أرى إعمال الحاجة في مثل هذه العقود مما لم يرد فيه نص إذا ثبتت الحاجة المعتبرة التي يؤدي عدم ارتكابها إلى مشقة وحرج يلحق العامة بغض النظر عن تحقق ذلك في آحاد صورها وقد شرحنا رأينا في تأجيل البدلين في بحثنا في البورصات المقدم إلى المجلس الأوروبي للإفتاء .

 

 

 

نتائج البحث

في هذا البحث الوسيط عرفنا الضرورة لغة بأنها الضيق والشدة والحاجة وأنها اصطلاحاً ” أمر إذا لم يرتكبه المضطر هلك أو قارب الهلاك ” في معناها الأخص وأنها تطلق على الحاجة .

 

وأنها أصولياً الكلي الذي ينتظم المحافظة على ضرورات الحياة الخمس من جهة الوجود ومن جهة العدم . وبيّنا أصل مشروعية الضرورة .

 

 وعرّفنا الحاجة لغة بأنها الافتقار إلى الشيء وذلك هو المأربة والمأربة هي الحاجة.  وعرّفناها اصطلاحاً بأنها ما نزل عن الضرورة بحيث يؤدي فقده إلى مشقة وقلق وحصوله إلى سعة وتبسط .

 

ثم إن الحاجة منها ما هو حاجة عامة بشرية وهذه تحدث حكماً مستمراً وهي من باب الكلي الذي لا يجب تحققه في آحاد صورة فتكون أساساً للاستحسان والاستصلاح .

 

وحاجة خاصة فقهية تعتبر توسيعاً للضرورة تعطي حكمها وتقدر بقدرها وأنها رخصة بالمعنى الأخص ، وذكرنا أمثلة لذلك وناقشنا وضع قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة في القواعد الفقهية وأخرجنا أصلها الأصولي مسلسلاً من الجويني إلى تلاميذه .

 

كما أوضحنا أن قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة ليست على إطلاقها وإن الحاجي لا يمكن أن يكون نداً للضرورة الفقهية وأن الأمثلة التي ذكروها منها – وهو أغلبها – منصوصة في الشرع فما معنى كون الحاجة تنزل منزلة الضرورة فيه إلاّ أنه استثناء من أصل يفيد التحريم كما الضرورة استثناء من نصوص تقضي بالتحريم .

 

وما عدا هذه المقارنة الجزئية فلا يبدو تنزيلها منزلة الضرورة مطرداً حتى يكون قاعدة فقهية قد بيّنا أنه لا تبيح ما كان النهي فيه قوياً كمحرمات المقاصد فلم تنزل منزلة الضرورة فيها .

 

 وأشرنا إلى تفاوت درجة النهي في المنهيات وبيّنا أنها لا تواجه نصاً بالرفع ولا ترفع عامّاً في كل مدلوله بل ترفع جزئية من جزئياته وهي في الغالب جزئية تنتمي إلى العام بضعف وتلك نكتة لم يطلع عليها الباحثون وقد أيدناها بالاستقراء .

 

كما أبدينا أوجهاً أخرى تدخل فيها الحاجة حيث لا يكون الخلل في العقد مقصوداً أو حيث يكون الغرض من العقد معروفاً أو فيه شائبة المعروف والارتفاق أو يكون الخلل تابعاً وليس متبوعاً ، أو تتوخى الحاجة مواقع الخلاف لتكون مرجحاً لقول مرجوح عرف قائله وثبت عزوه .

 

وأجملنا الفروق الجوهرية في المراتب الثلاث : مرتبة المشقّة ، ومرتبة النهي ، ومرتبة الدليل .

 

وهكذا اتضحت الخطوط الدقيقة للفرق بين الضرورة والحاجة التي فصلناها في القائمة الملحقة .

 

وذكرنا بعض التطبيقات من قرارات مجمع الفقه الإسلامي بجدة تراوحت بين الإقدام والإحجام طبقاً لتقدير النهي والحاجة والتفاتاً في الغالب إلى وجود نقل يستأنس به أو أصل يعتمد عليه .

 

بعد أن ذكرنا قراراً واحداً للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ، وعلقنا على هذه القرارات تعليقاً موجزاً دون مناقشة قد تطول وتخرجنا عن سياق المطلوب في هذا البحث وأبدينا وجهة نظرنا الخاصة التي توافق قرارات المجمعين أو تخالف وتباين القرارات وبخاصة في مسألة تأجيل البدلين .

 

كل ذلك باختصار تارة بالعبارة الصريحة أو بالإشارة السريعة التي يفهمها أهل الاختصاص .

 

الفروق :

 

من حيث التعريف : الضرورة شدة وضيق ومشقّة تبيح المحرّم كالميتة والدم ولحم الخنزير ومال الغير ، والحاجة : افتقار ونقص فهي أعم من الضرورة .

الضرورة : أدلتها نصوص واضحة ، والحاجة : أدلتها عمومات .

الضرورة الفقهية : لا تحتاج إلى نص في كل حالة تنزل فيها بل إن الإذن بها عام سوى ما استثنى لأدلة أخرى وقرائن . والحاجة : تفتقر إلى نص لإثبات اعتبارها وأكثر الأمثلة المذكورة كالإجارة والقراض والمساقاة منصوصة .

الضرورة : ترفع النص وغيره ، والحاجة مجالها هو تخصيص العموم عند من يراها وبخاصة ماكان تناوله بالعموم ضعيفاً ، وقد تخالف قياساً وتستثنى من قاعدة .

الضرورة : أثرها مؤقت محدود بها والحاجة العامة أثرها مستمر .

الضرورة شخصية لا ينتفع بها غير المضطر والحاجة لا يشترط فيها تحقق الاحتياج في آحاد أفرادها .

الضرورة رخصة بالمعنى الأخص والحاجة العامة ليست رخصة بالمعنى الأخص .

الضرورة ترفع نهياً في مرتبة عليا من سلم المنهيات كما ترفع غيره . والحاجة لا ترفع نهياً في مرتبة عليا من مراتب النهي بل تتوخى محرّمات الوسائل دون محرمات المقاصد .

الضرورة تبيح العقود التي يكون الخلل فيها أصلياً أو تابعاً والحاجة تبيح العقد الذي يكون فيه الخلل تابعاً ومضافاً .

الضرورة تبيح الكثير واليسير والحاجة تبيح اليسير لا الكثير .

الضرورة تبيح الخلل المقصود وغيره ، والحاجة تبيح غالباً الخلل غير المقصود في العقد .

الضرورة لا تختص بعقد دون آخر ، والحاجة تبيح الممنوع أحياناً في سياق إرفاق ومعروف دون قصد المكايسة .

الضرورة لا تفتقر إلى خلاف ، والحاجة ترجح الضعيف في محل الاختلاف بشروط .

      وأخيراً لعلنا بهذه الفروق التي تسجل لأول مرة بهذه الطريقة أسهمنا في تجلية هذه المسألة أو على الأقل بيّنا الوجهة الصحيحة التي يجب على الباحثين أن يأموها والمسالك التي ينبغي للدارسين أن يسلكوها . وناقشنا مناقشة غير مسبوقة قاعدة تنزيل الحاجة منزلة الضرورة في القواعد الفقهية مع أننا لا ندعي الاستيعاب حيث إن العادة جرت في ميدان البحوث المنشورة أن تكون مختصرة غير منتشرة .

 

والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق وهو الهادي بمنه إلى سواء السبيل…

 

مراجع البحث:

 

ابن تيمية ، أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم ، ت 728هـ ، مجموع الفتاوى ، دار المعرفة للطباعة والنشر ، بيروت 1397هـ ـ 1978هـ .

ابن رشد ، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد القرطبي، ت 595هـ ، البيان والتحصيل ، إدارة إحياء التراث الإسلامي ، قطر .

ابن عبد السلام ، عز الدين عبد العزيز ، قواعد الأحكام ، دار الجيل ، بيروت 1400هـ .

ابن عابدين ، محمد أمين ، ت 1258هـ ، حاشية رد المختار على الدر المختار ، مصطفى البابي ، القاهرة 1386هـ .

ابن العربي ، أبو بكر محمد بن عبد الله المعافري الأندلسي ، ت 542هـ ، القبس ، شركة عيسى الحلبي ، القاهرة 1376هـ .

ابن عطية ، أبو محمد عبد الحق المحاربي الغرناطي ، ت 541هـ ، البحر الوجيز ، مؤسسة دار العلوم ، القاهرة .

ابن قدامة ، موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد ، ت 620هـ ، المغني ، مكتبة القاهرة ، القاهرة 1389هـ .

ابن قيم الجوزية ، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، ت 751هـ ، إعلام الموقعين عن رب العالمين، مكتبة الكليات الأزهرية،القاهرة 1388هـ .

إمام الحرمين ، أبو المعالي عبد الملك بن أبي عبد الله الجويني ، البرهان ، دار الأنصار ، القاهرة 1400هـ .

الباجي ، أبو الوليد بن سليمان بن خلف ، ت 494هـ ، المنتقى شرح موطأ الإمام مالك ، دار الكتاب العربي ، بيروت 1332هـ .

الحطاب ، أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الرعيني المغربي ، ت 954هـ ، مواهب الجليل على مختصر خليل ، دار الفكر ، بيروت .

الدردير ، أبو البركات أحمد بن محمد بن أحمد ، ت 1201هـ ، الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، مطبعة المعاهد الأزهرية، القاهرة 1386هـ .

الرملي ، شمس الدين محمد بن أبي العباس أحمد بن حمزة ، ت 1004هـ ، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ، مصطفى البابي الحلبي، القاهرة 1386هـ.

الزرقاني، عبد الباقي ، شرح على المختصر ، دار الفكر ، بيروت 1398هـ.

السيوطي، جلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر، ت911هـ ، الأشباه والنظائر في قواعد وفروع فقه الشافعية ، مصطفى البابي الحلبي ، القاهرة 1378هـ.

الشاطبي ، أبو إسحاق إبراهيم ، الموافقات ، دار المعرفة ، بيروت .

الشاطبي ،أبوإسحاق إبراهيم ،الاعتصام ،دار الكتب العلمية ، بيروت 1988م.

الشوكاني ، محمد بن علي بن محمد ، ت 1250هـ ، إرشاد الفحول ، دار الكتاب العربي ، بيروت 1419هـ .

الطوفي ، نجم الدين ، شرح مختصر الروضة ، مؤسسة الرسالة ، القاهرة .

العلوي ، سيدي عبد الله ، نشر البنود على مراقي السعود، صندوق إحياء التراث ، القاهرة .

الغزالي ، أبو حامد محمد بن أحمد ، ت 505هـ ، شفاء العليل ، تحقيق: حمد الكبيسي ، مطبعة الإرشاد ، بغداد 1316هـ .

القرافي ، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس ، ت 684هـ ، الذخيرة ، دار الغرب الإسلامي ، بيروت .

القرافي ، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس ، ت 684هـ ، الفروق ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة 1344هـ .

القرطبي ، أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري ،ت 671هـ، الجامع لأحكام القرآن ، دار القلم ، القاهرة 1386هـ .

الكاساني ، علاء الدين أبو بكر بن مسعود ، ت 587 هـ ، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ، دار الكتاب العربي ، القاهرة .

المواق ، أبو عبد الله محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري ، ت 897هـ ، التاج والإكليل حاشية على الحطاب ، دار الفكر ، بيروت 1992م .

النووي ، أبو زكريا محي الدين بن شرف الشافعي ، ت 676هـ ، المجموع شرح المهذب ، دار الفكر ، بيروت

(1) الجباح : خلايا النحل – قال في اللسان : هي مواضع النحل في الجبل وفيها تعسل (المحرر) .

قيام جماعة المسلمين مقام القاضي

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه

 

 

 

 


ورقة عن : قيام جماعة المسلمين مقام القاضي 


 

 

إن هذا المصطلح مصطلح حديث لم يكن معروفاً في الماضي،  وقد نشأ في القرن الماضي وتأكد في مطلع القرن الخامس عشر الهجري مع قيام الهيئات الإسلامية المهتمة بأوضاع الجاليات المسلمة والمجتمعات المسلمة في بلاد الغرب وفي مقدمة هذه الهيئات رابطة العالم الإسلامي وبعدها منظمة المؤتمر الإسلامي حيث استعملت كلمة الأقلية وهي ترجمة لكلمة minorite     التي تعنى مجموعة بشرية ذات خصوصيات تقع ضمن مجموعة بشرية متجانسة أكثر منها عدداً وأندى منها صوتاً تملك السلطان أو معظمه.

 

أن أوضاع الأقلية المسلمة في ديار غير المسلمين يمكن أن توصف بأنها أوضاع ضرورة بالمعنى العام للضرورة الذي يشمل الحاجة والضرورة بالمعنى الخاص.

 

فقه الأقليات كسائر فروع الفقه يرجع إلى مصدري الشريعة : الكتاب والسنة إلا أنه عند التفصيل يرجع أولاً: إلى كليات الشريعة القاضية برفع الحرج وتنزيل أحكام الحاجات على أحكام الضرورات واعتبار عموم البلوى في العبادات والمعاملات وتنزيل حكم تغير المكان على حكم تغير الزمان ودرء المفاسد وارتكاب أخف الضرين وأضعف الشرين مما يسميه البعض فقه الموازنات والمصالح المعتبرة والمرسلة دون الملغاة.

 

فسيكون الاجتهاد هنا على ثلاثة أضرب: اجتهاد جديد لإحداث قول في قضية جديدة قياسا على المنصوص في الأصلين الكتاب والسنة.

واجتهاد في تحقيق المناط وهو اجتهاد لا ينقطع أبدا كما يقول الشاطبي؛ لأنه تطبيق القاعدة المتفق عليها على واقع جديد تنطبق عليه هذه القاعدة وليس كالاجتهاد الأول الذي يختص به المجتهدون، بل يستوي فيه المجتهد والمقلد.

أما النوع الثالث فهو اجتهاد ترجيحي وهو اختيار قول قد يكون مرجوحاً في وقت من الأوقات إما لضعف المستند – وليس لانعدامه- فيختاره العلماء لمصلحة اقتضت ذلك.

وهذا ما يسمى عند المالكية جريان العمل.

فلهذا فتسليط الأنواع الثلاثة للاجتهاد يكون في ضوء العناصر الثلاثة التي تحكم الفتوى وهي واقع الأقلية والأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية.

من كل ذلك تنشأ الفتوى في جدلية وتداخل وتكامل وتفاعل ينتج منه توازن بين الدليل والواقع يضبط به الفقيه طبيعة الفتوى ويرى به الحكم من خلال مرتبة الحاجة ومرتبة الدليل ومرتبة الحكم وكذلك من خلال التعامل بين الكلي والجزئي وهو تعامل دقيق لا يجوز فيه إهمال أي منهما، بل يعطى كل منهما قدر ما يستحق من الحكم ولهذا أصل المالكية لما سموه بالقاعدة البينية وهي إعطاء قضية واحدة ذات وجهين حكمين مختلفين باعتبار وجود دليلين.

 

كل ذلك يحتاج إلى فقه نفس يوازن بين الدليل وبين الواقع مع ورع لا تشوبه وسوسة وجسارة لا ينغصها تهتك ولا جرأة.      

 

أحدها: النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى:     وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَْغْلَـٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ [1] وقوله رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا[2] وفي الحديث:”قال الله تعالى قد فعلت”[3] وقد جاء: لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا[4]  يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ[5] و  وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [6] ويُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ ٱلإِنسَـٰنُ ضَعِيفاً[7] و مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [8] وفي الحديث:” بُعِثتُ بالحَنِيفية السمحة”[9] وحديث:”ما خُيِّرَ رسولُ الله  بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُما أَيْسَرُ من الآخَرِ إلاّ اخْتَار أَيْسَرَهُما مَا لَمْ يُكنْ إِثْماً فَإنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ”[10].

وإنما قال:” ما لم يكن إثماً ” لأن ترك الإثم لا مشقّة فيه من حيث كان مجرد ترك إلى أشباه ذلك مما في هذا المعنى. ولو كان قاصداً للمشقة لما كان مريداً لليسر ولا التخفيف ولكان مريداً للحرج والعسر وذلك باطل.

والثاني: ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومما علم من دين الأمة ضرورة كرخص القصر والفطر والجمع وتناول المحرمات في الاضطرار، فإن هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقّة ، وكذلك ماجاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال.

ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكلف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف[11].

فالنصوص سالفة الذكر عامة في المشقّة بنوعيها الشديد والمتوسط ، وإذا فرضنا أن رفع الحرج مفقود فيه صيغة عموم فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء والصلاة قاعداً عند مشقة طلب القيام ، والقصر والفطر في السفر ، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر ، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل.

وأطال النفس قائلاً: إلى جزئيات كثيرة جداً يحصل من مجموعها قصد لرفع الحرج فإنا نحكم بمطلق رفع الحرج في الأبواب كلها عملاً بالاستقراء[12].

وقد عبر العلماء بعبارات مختلفة عن أسباب رفع الحرج وسنشرحها في مبحث الحاجة.

ومما يندرج في قاعدة التيسير العذر باختلاف العلماء                                                            في عدم الإنكار في مسائل الاختلاف ومسائل الاجتهاد يقول ابن القيم: إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع  وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل فيها مجتهداً أو مقلداً[13].

ويقول العز بن عبد السلام: من أتى شيئا مختلفا في تحريمه إن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفاً[14].                                                        

 قال إمام الحرمين: ثم ليس للمجتهد أن يعترض بالردع والزجر على مجتهد آخر في موقع الخلاف، إذ كل مجتهد في الفروع  مصيب عندنا ومن قال إن المصيب واحد فهو غير متعين عنده فيمتنع  زجر أحد المجتهدين الآخر على المذهبين[15].

 

 

حصل الأقوال الثلاثة ابن عرفة في الصرف الفاسد. وقال ابن بشير الخلاف في ذلك مبني على أصل وهو من فعل فعلا لو رفع إلى الحاكم لم يزد عليه هل يكون فعله بمنزلة حكم الحاكم قولان”.

 

قال الطوفي في الترجيح عند تعارض الدليلين:  

الثاني : يأخذ بأشد القولين؛ لأن ” الحق ثقيل مري والباطل خفيف وبي”. كما يروى في الأثر وفي الحكمة: إذا ترددت بين أمرين فاجتنب أقربهما من هواك .

وروى الترمذي من حديث عائشة قالت : قال رسول الله : مَا خُيِّرَ عَمَّارُ بَيْنَ أَمْرَيْنَ إلا اخْتَارَ أَشَدَّهُما. وفي لفظ :” أَرْشَدَهُما”.

 

كان لعمل أمير المؤمنين عمر نصيب كبير في تأصيل هذه القاعدة فمن ذلك أن عمر لم يعط المؤلفة قلوبهم مع وروده في القرآن ورأى أن عز الإسلام موجب لحرمانهم.

وكذلك إلغاؤه للنفي في حد الزاني البكر خوفاً من فتنة المحدود والتحاقه بدار الكفر؛ لأن إيمان الناس يضعف مع الزمن.   

وأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يأمر بالتقاط ضالة الإبل وبيعها وحفظ ثمنها لصاحبها كما رواه مالك رحمه الله تعالى عن ابن شهاب الزهري مع نهيه  عن التقاط ضالة الإبل وذلك لما رأى من فساد الأخلاق وخراب الذمم وورث تماضر الكلبية لمّا طلقها عبد الرحمن في مرض موته. 

 

 

خامساً:قاعدة النظر في المئالات:

ومما يصب في جداول المصلحة ويسير في دربها قاعدة النظر في المئالات في الأقوال والأفعال، وقد نص الشاطبي على أن المفتى عليه أن ينظر في مئال فتواه.

وقد كان الإمام الشاطبي من أوفى من شرح هذا المدلول الاصطلاحي كما يقول الدكتور عبد المجيد النجار ونص الشاطبي: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدّى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعة ربما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوى أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغبّ جار على مقاصد الشريعة[16].

وأصل ذلك قوله تعالى( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)  

وقوله: لولا قومك حديث عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم”.

وقوله في تعليل انصرافه عن قتل المنافقين: دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه”[17].

وهكذا فإن الصحابة فهموا مقصد الشارع والمقاصد هي المعاني التي تعتبر حكما وغايات التشريع فتصرفوا طبقا لذلك فهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يترك تغريب الزانى البكر مع وروده في الحديث حيث قضى عليه الصلاة والسلام بجلده مائة وتغريب سنة، وذلك لما شاهد من كون التغريب قد يؤدي إلى مفسدة أكبر وهى اللحاق بأرض العدو وقال لا أغرب مسلما.

 وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: كفى بالنفي فتنة.

وأيضا فإن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لمّا تولى الملك أجل تطبيق بعض أحكام الشريعة فلمّا استعجله ابنه في ذلك أجابه بقوله: أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعونه جملة ويكون من ذا فتنة[18].

وقد فهم ذلك العلماء فرتبوا عليه أولويات الأمر والنهي فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية حينما مر بقوم من التتار يشربون الخمر فنهاهم صاحبه عن هذا المنكر فأنكر عليه ذلك قائلا: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذّرية وأخذ الأموال فدعهم[19].

وقد قال الشاطبي أنه ينبغي على المجتهد: النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت وحال دون حال وشخص دون شخص، إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزّان واحد … فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف[20].

وسد ذرائع الحرج والمشقة، وقد يسميه البعض بفتح الذرائع؛ لأنه ترك لبعض فضائل الأعمال خوفاً من إعنات المكلفين كما ترك عليه الصلاة والسلام تأخير صلاة العشاء قائلاً: هذا وقتها لولا أن أشق على أمتي”.

وصار الأفضل مفضولاً خوفاً من المشقة.

وكذلك ترك الأمر بالسواك عند كل صلاة وكذلك الجمع بين الصلاتين من غير عذر فقال ابن عباس: لئلا يحرج أمته.

وترك بناء البيت على قواعد إبراهيم لحدثان عهد القوم بالكفر فيفتنون.

وترك قتل أهل النفاق المشهود عليهم بالكفر لما في ذلك من تشويه صورة الدين وتنفير الناس منه.

وترك بعض الصحابة لذبح الأضحية يوم العيد وترك عثمان رضي الله عنه للقصر في الحج خوفا من أن يقول جهلة الناس: إن الصلاة أصبحت ركعتين.

وترك عمر رضي الله عنه لإصدار بيان على الناس يشرح فيه قضية الشورى واختيار الحكام بناء على نصيحة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حتى لا يساء فهمه ويطير الناس إلى أقطارهم بتصورات خاطئة.

وعلى هذا ينبني كثير من قرارات المجلس الأوربي حيث يمنع أئمة المساجد من عقد النكاح قبل أن يعقد عقداً مدنياً أمام السلطة لأن من شأن تلك العقود وإن كانت مستوفية الشروط أن تؤل إلى خصومات وربما حرمان المرأة من حقوقها وحرمان الأولاد من نسبهم لعدم توثيق العقد، وهذا من باب النظر في المئالات.  

وقاعدة ارتكاب أخف الضررين وجلب المصالح ودرء المفاسد فكما يقول ابن تيمية: إن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وعلى هذا تعطل أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما ويرتكب أخف الشرين والضرين لتفويت أقصاهما.

ويقول الشاطبي: وقد يرتكب النهي الحتم إذا كانت له مصلحة راجحة ومثل بمسألة تقرير الزاني وفيها النطق بالكلمة التي ينهى عنها في غير هذا المقام[21].

وبناء عليه فقد وضع المالكية قاعدة جريان العمل وهي قاعدة من خلالها يرجح قول كان في الماضي مرجوحاً ليصبح القول الضعيف راجحاً فيترك مشهور المذهب وراجحه ويعمل بهذا القول لكنهم ضبطوا ذلك بضوابط.

قال الشيخ المسناوي: وإذا جرى العمل ممن يقتدي به بمخالف المشهور لمصلحة وسبب فالواقع في كلامهم أنه يعمل بما جرى به العمل وإن كان مخالفاً للمشهور، وهذا ظاهر إذا تحقق استمرار تلك المصلحة وذلك السبب، وإلا فالواجب الرجوع  إلى المشهور هذا هو الظاهر[22].

ومن المهم أن نعرف لماذا عدل العلماء عن المشهور والراجح إلى القول الضعيف؟

والجواب كما يقول السجلماسي في شرحه: إن أصل العمل بالشاذ وترك المشهور الاستناد لاختيارات شيوخ المذهب المتأخرين لبعض الروايات والأقوال لموجب ذلك كما بسطه ابن الناظم في شرح تحفة والده: ومن الموجبات تبدل العرف أو عروض جلب المصلحة أو درء المفسدة فيرتبط العمل بالموجب وجوداً وعدماً ولأجل ذلك يختلف باختلاف البلدان ويتبدل في البلد الواحد بتبدل الأزمان[23].

وقد قدمنا أن شروط العمل بالضعيف ثلاثة: أن لا يكون القول المعمول به ضعيفاً جداً وأن تثبت نسبته إلى قائل يُقتدى به علماً وورعاً وأن تكون الضرورة محققة ومعناها الحاجة.

وهذا طريق لاحب للفقهاء لا يمترى فيه من عرف مقاصد الشريعة وذاق طعم حكمها ووزن الأحكام بميزانها الذي لا يحيف.              

وقد يعتبر البعض أن هذا من باب التساهل في الفتوى المنهي عنه وليس الأمر كذلك فمعنى التساهل عند ابن الصلاح: هو أن لا يتثبت “الفقيه” ويُسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة والإبطاء عجز ومنطقة وذلك جهل. ولأن يُبطئ ولا يخطئ أكمل به من أن يعجل فيضل ويُضل، وقد يكون تساهله وانحلاله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحظورة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلباً للترخيص على من يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضره ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينه[24].

قاعدة النظر في المئالات إنما هي في حقيقتها قاعدة الموازنة بين مصلحة أولى بالاعتبار أوبين مصلحة ومفسدة ، إلا أنها في الغالب تعنى أن المصلحة أو المفسدة المرجحة متوقعة.

وهذا التوازن أساس من أسس الفتوى والاجتهاد لا يجوز للفقيه أن يغفل عنه أو يتغافل فالمصالح ليست على وزان واحد كما أن المفاسد ليست على وزان واحد وبالتالي درجة الحكم بحسب درجة المصلحة اكادة في الواجبات أو درجة المفسدة فقد يترك الواجب للمحافظة على الواجب الآكد وإرتكاب المفسدة الصغرى لتفادي المفسدة الكبرى.

 

 

تصرفات المراكز الإسلامية في قضايا الأقلية المسلمة الشرعية ومستندها شرعا. ونحن نفصل الكلام فيه على ما يأتي:

إن الشريعة الإسلامية رتبت شئون الناس بناء على حكمة بالغة ومصالح قائمة وفي نفس السياق حددت المسئوليات و إناطتها بجهات معينة مكلفة بما اصطلح على تسميته”بالخطط الشرعية”.

ومن هذه الخطط القضاء ويتولاه قضاة يعينهم ولي الأمر بمواصفات معروفة في كتب الفقه أولها العلم والديانة. وحيث أنه لا يوجد في المهجر قضاة شرعيون فإن المراكز الإسلامية يمكن أن تمنح صفة شرعية لفض بعض النزاعات وحسم بعض الخلافات بين المسلمين طبقا لما سماه الفقهاء تارة بجماعة المسلمين ومرة بالعدول الذين يقومون مقام القاضي وذلك أن الإمام في الأصل نائب عن الجماعة فلا يستبعد أن تنوب الجماعة إذا تعذر وجوده لما ورد في الأثر موقوفاً على ابن مسعود “ما رءاه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن” وقد صرح العلماء بأن جماعة المسلمين تقوم مقام القاضي عند عدمه وفي حالات نادرة في وجوده كما سنقف عليه.     

وقد نص المالكية في باب أحكام زوجة المفقود على أن جماعة المسلمين تقوم مقام القاضي قال خليل في مختصره: “فصل ولزوجة المفقود الرفع للقاضي والوالي ووالي الماء و إلا فلجماعة المسلمين”.

قال الحطّاب وأما جماعة المسلمين فلا يصح ضربهم الأجل أي لزوجة المفقود إلا عند فقد من ذكر: القاضي -الوالي- ووالي الماء[25]

وفى شرح المواق: وقال القابسي وغيره من القرويين لو كانت المرأة في موضع لا سلطان فيه لرفعت أمرها إلى صالحي جيرانها ليكشفوا عن خبر زوجها ويضربوا لها أربعة أعوام ثم عدة الوفاة وتحل للأزواج لأن فعل الجماعة في عدم الإمام كحكم الإمام[26]

وقال الزرقاني عند قوله: “فلجماعة المسلمين” من صالحي جيرانها وغيرهم العدول من معظم البلد لأنهم كالإمام الواحد كاف[27].

علق عليه البنّاني قائلا: “وإلا فلجماعة المسلمين… الخ. هكذا عبارة الأئمة وعبر بعضهم بقوله بصالحى جيرانها فقول “ز” تبعا لعج الواحد كاف لم أر من ذكره ولا أظنه يصح[28].

وقال الدردير في الشرح الصغير على أقرب المسالك : “أو لجماعة المسلمين عند عدمه” ولو حكماً كما في زمننا بمصر، إذ لا حاكم فيها شرعي ويكفي الواحد من جماعة المسلمين إن كان عدلا عارفا شأنه أن يرجع إليه في مهمات الأمور بين الناس لا مطلق واحد وهو مجمل كلام العلامة الأجهوري وهو ظاهر لا خفاء به والاعتراض عليه تعسف[29].

والدردير في آخر كلامه يرد اعتراض البنّاني على قيام الواحد مقام القاضي وأصل كلام البنّاني للشيخ المسناوي.

وفي حاشية الحطّاب عند قول خليل في باب النفقة “ثم طلق وإن غائبا” فرع: فإذا لم يكن حاكم فإنها ترفع للعدول قال المشذالي في أول كتاب الصلح في خروج أحد الغريمين لاقتضاء دين لهما وأعذر إليه في الخروج وأشهد أنه يكفي الإشهاد ما نصه: جعل هنا جماعة العدول تقوم مقام السلطان ولو كان هناك سلطان. ومثله في أواخر النذور فيمن حلف ليقضين إلى أجل كذا. ومثله في الرواحل في هروب الجمال. ومثله لأبن مغيث في المرأة يغيب عنها زوجها أنها تثبت عند العدول ما تثبت عند القاضي فتطلق نفسها.

وذكر أبو عمران وابن مغيث تعذر تناول السلطان. المشذالي: هكذا وقع هذا كما رأيت والذي حكاه الشيخ أبو الحسن هو أن قال ما ذكره ابن مغيث في مسألة الزوجة وما ذكره أبو عمران من أن جماعة العدول تقوم مقام الإمام في المحارب وفي القصاص إنما ذلك حيث يتعذر تناول السلطان.

المشذالي: وهو كلام واضح يوضح الكلام الأول. انتهى

ومثله فسخ البيع الفاسد، انظر شرح ابن جماعة ، وكلام أبي الحسن الذي أشار إليه هو في كتاب المكاتب ونصه – بعد أن ذكر عن أبي عمران أن المكاتب إذا بعث لسيده بكتابته فلم يقبلها لا يخرج عن الرق حتى يقضي عليه القاضي بذلك إلا أن يكون ببلد لا حَكم فيه فليشهد ويكون ذلك كالحكم.

الشيخ: انظر جعل أبي عمران هذا الإشهاد مقام الحكم، وكذلك في المحارب وكذلك في الهبات. وإذا ترك بنتاً وعصبة فاختلفا ولا إمام.

وذكر ابن يونس في كتاب الحمالة أن: جماعة العدول تقوم مقام الإمام.انتهى

وقال البرزلي في أثناء مسائل الأقضية: سئل السيوري عمن غاب إلى مصر وله زوجة لم يخلف لها نفقة إلا ما لا يفي بصداقها وليس في البلد قاض وربما كان فيه أمير من قبله فحلف بالمشي إلى مكة أنه لا يحكم فيه ولا ينظر في طلاق وربما كان بين البلد والأمير نحو ثمانية أميال والخوف بينهم عام وربما انجلى الخوف وفي بعض الأوقات فهل تقوم الجماعة مقام القاضي في هذه النازلة وغيرها أو يجب على أمينه أن يحنث نفسه ويحكم أم لا ؟

جوابها: إذا تحرج الناس لعدم القضاة أو لكونهم غير عدول فجماعتهم كافية في الحكم في جميع ما وصفته وفي جميع الأشياء فيجتمع أهل الدين والفضل فيقومون مقام القاضي في ضرب الآجال والطلاق وغير ذلك. قال البرزلي قلت: تقدم أن الجماعة تقوم مقام القاضي مع فقده إلا في مسائل تقدم شيء منها.

وانظر مسائل السلم من البرزلي والجهاد من المشذالي، وقد ذكر بعض كلامه في الوصايا وفي الأقضية شيء من ذلك. والله أعلم[30].

وإذا كانت بعض الظواهر تفيد اعتبار الحاكم فقط دون العدول “جماعة المسلمين” كقول خليل:”وفي إرسالها القول قولها إن رفعت من يومئذ لحاكم لا لعدول وجيران” فإنما ذلك مع وجود السلطان حيث يختلف العلماء في اعتبار العدول مع وجود السلطان كما يشير إليه النقل في هذه المسألة، إذ يقول المواق عند النص المتقدم: وأما إن رفعت أمرها إلى عدول بلدها والثقات من جيرانها ولم ترفع أمرها إلى السلطان فإحدى الروايتين أن ذلك ليس بشيء وعلى هذه الرواية العمل وبها الفتيا وصوب الشيخ أبو الحسن الرواية الأخرى وأن رفعها إلى الجيران كرفعها إلى السلطان وكثير من النساء لا ترضى الرفع إلى السلطان وتراه معرة وفسادا مع زوجها إن قدم.   

ابن عرفة الذي استمر عليه قضاة بلدنا أن الرفع إلى العدول كالرفع إلى السلطان.

ويقول ابن فرحون في كتابه “التبصرة” : تنعقد ولاية القضاء بإجماع ذوي الرأي وأهل العلم والمعرفة والعدالة لرجل منهم كملت فيه شروط القضاء، وهذا حيث لا يمكنهم مطالعة الإمام في ذلك[31].

وفي المعيار للونشريسي ما نصه: “إذا لم يكن بالبلد قاض زوج صالحوا البلد من أراد التزويج”.

وسئل أبو جعفر احمد بن نصر الداودي عن امرأة أرادت التزويج وهي ثيب ولا حاكم بالبلد وأولياؤها غيب ترفع أمرها إلى فقهاء البلد فيؤمر من يزوجها وكيف إذا لم يكن بالبلد عالم ولا قاض أترفع أمرها إلى عدول البلد في البكر والثيب ؟

فأجاب: إذا لم يكن بالبلد قاض فيجتمع صالحوا البلد ويأمرون بتزويجها.

” كل بلد لا سلطان فيه فعدول البلد وأهل العلم يقومون مقامه في إقامة الأحكام”

وسئل أيضا عن بلاد المصامدة ربما لم يكن عندهم سلطان وتجب الحدود على السراق وشربة الخمر وغيرهم من أهل الفساد هل لعدول ذلك الموضع وفقهائه أن يقيموا الحدود إذا لم يكن سلطان وينظرون في أموال اليتامى والغيب والسفهاء ؟

فأجاب بأن قال: ذلك لهم وكل بلد لا سلطان فيه أو فيه سلطان يضيع الحدود أو سلطان غير عدل فعدول الموضع وأهل العلم يقومون في جميع ذلك مقام السلطان.

وسئل أيضا عن بلد لا قاضي فيه ولا سلطان أيجوز فعل عدوله في بيوعهم واشريتهم ونكاحهم؟

فأجاب: بأن العدول يقومون مقام القاضي والوالي في المكان الذي لا إمام فيه ولا قاضي.

قال أبو عمران الفاسي: أحكام الجماعة الذين تستند إليهم الأمور عند عدم السلطان نافذ منها كل ما جرى على الصواب والسداد في كل ما يجوز فيه حكم السلطان وكذلك كل ما حكم فيه عمال المنازل من الصواب ينفذ[32].      

وفي “الدر النثير” لابن هلال في باب الغصب أن جماعة العدول في البلاد السائبة تنوب عن السلطان حيث يتعذر الإنهاء إليه في كل حكم وكذلك إن كان سلطان غير عدل أو يضيع الحدود.

وفي كتاب “شكر النعمة بنشر الرحمة” للعلامة محمد مولود بن احمد فال اليعقوبي عند كلامه على شروط تزويج اليتيمة: وفي شرط إثبات موجبات نكاحها عند قاض قولان ثم استطرد قائلا “تنبيه” إن فقد القاضي فالجماعة تقوم مقامه في كل شيء”.

وفي مجموع النوازل الموريتانية نوازل نصوا فيها على أن جماعة المسلمين تقوم مقام القاضي ومنها تطليق الناشز يقول ابن حمى الله الشنقيطي في نظمه للنوازل:

     ولا يَحِلُ تَركُ نَاشِزِ عَلى         عِصْيَانِهَا والزُّوجُ حَتْماً قَبِلا

     فـِدَاءَها بِمَا أَحَبَ مُمْكِنا         إلا يُطَلِقْـها عَلَيـهِ الأُمـَنا

وقاعدة قيام الجماعة مقام الحاكم والقاضي معروفة في المذهب المالكي على اختلاف في دخولها في بعض النوازل. 

وفي المذاهب الفقهية الأخرى إشارات نلتقط بعضها باختصار فمن ذلك قول العلامة أبي يعلى الفراء الحنبلي في الأحكام السلطانية: ولو أن بلدا خلا من قاض اجمعوا على أن قلدوا عليهم قاضيا نظرت فإن كان الإمام موجودا بطل التقليد وإن كان مفقودا صح ونفذت أحكامه[33].

ويقول ابن عابدين في الحاشية: وفي بلاد عليها ولاة كفار فيجوز للمسلمين إقامة الجمع والأعياد ويصير القاضي قاضيا بتراضي المسلمين[34].   

وقال قبل ذلك: ويتفرع على كونها دار حرب أن الحدود والقود لا يجري فيها.

فيفهم من كلامه أن من تراضى عليه المسلمون يمكن أن يحكم بينهم فيما سوى الحدود والدماء.

 تطليق القاضي غير المسلم المرأة المسلمة:

إن هذه المسألة في كتب الفروع محسومة فغير المسلم ليس أهلا للحكم في شئون المسلمين لا قاضياً ولا حكماً لقوله تعالى وَلَن يَجْعَلَ ٱللَّهُ لِلْكَـٰفِرِينَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً والآية وردت بصورة الخبر ويراد به الأمر كما يقول الشاطبي وسلب أهلية القضاء والحكم عن غير المسلم أمر لا خلاف فيه فيما أعلم.

ومع ذلك فإن أوضاع المسلمين في ديار غير المسلمين حيث لا يسمح بإنشاء محاكم إسلامية يتحاكمون أمامها وتخضع منازعاتهم بالكلية لقوانين قضاة البلد الذي يقيمون فيه تجعل حالهم مندرجا ضمن الضرورات التي لها أحكامها والتي تتخذ من المصالح معيارا للحكم والإمكان والاستطاعة أساسا للتكليف لقوله تعالى( فاتقوا الله ما استطعتم)

ولهذا رأى المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء أن أحكام المحاكم غير المسلمة ينفذ بالطلاق لما يترتب على عدم ذلك من وجود حالة من التعليق يكون الرجل متمسكا بعصمة زوجته وتكون فيها المرأة مرسلة خارج بيت الزوجية مستندة إلى الحكم الصادر من المحكمة وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى وجعلوا في حيثيات القرار الذي استند إلى تقرير فضيلة الشيخ الفقيه فيصل مولوي أن الزوج بعقده للنكاح في ظل قوانين هذا البلد التي تسمح للقاضي غير المسلم بإيقاع الطلاق كأنه وَكَلَ القاضي غير المسلم بحل العصمة بدلا منه وهي وكالة ممتدة طيلة بقاء النكاح بين الزوجين.

وفي هذا التخريج من البعد ما لا يخفى “فالأعم كما يقول العلماء لا أشعار له بأخصّ معين” فعقد النكاح في تلك البلاد قد يكون صاحبه ذاهلا وغافلا عن مسألة الطلاق فضلا عن أن يكون عاقدا توكيلا – فكل ما احتاج إلى إذن فإنه يحتاج إلى صريحه كما تقول القاعدة – أخذا من الحديث: الثيب تعرب.

ومع ما تقدم فإن القول بإنفاذ الطلاق لا يبعد وذلك بإيجاب طلاق الزوجة على الزوج وعلى جماعة المسلمين أن يحكموا بهذا الطلاق حتى لا تظل الزوجة على معصية كما قدمنا عن المالكية في الزوجة الناشز درء للمفسدة وتوسيعا لمفهوم إنفاذ أحكام قضاة الجور المسلمين المولّين من طرف الكفار ليشمل القضاة الكفار درء للمفسدة التي أشار إليها العز بن عبد السلام في الحالة الأولى حيث قال: ولو استولى الكفار على إقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة فالذي يظهر إنفاذ ذلك كله جلبا للمصالح العامة ودفعا للمفاسد الشاملة، إذ يبعد عن رحمة الشارع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة وتحمل المفاسد الشاملة لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها ممن هو أهل لها وفي ذلك احتمال بعيد[35].

وحيث يقول أيضا في الشهادة وهي صنو القضاء: بل لو تعذرت العدالة في جميع الناس لما جاز تعطيل المصالح المذكورة، بل قدمنا أمثل الفسقة فأمثلهم وأصلحهم للقيام بذلك فأصلحهم بناء على أنا إذا أمرنا بأمر أتينا منه بما قدرنا عليه ويسقط عنا ما عجزنا عنه ولا شك أن حفظ البعض أولى من تضييع الكل، وقد قال شعيب عليه السلام (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) وقال الله تعالى فَـﭑتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ  فعلق تحصيل مصالح التقوى على الاستطاعة فكذلك المصالح كلها[36].

وقال سيدي عبد الله الشنقيطي في ” طرد الضوال والهمل عن الكروع في حياض العمل”: (فرع) شهادة اللفيف حيث وجد المستورون أما إذا كان أهل البلد كلهم فساقا فقد نقل القرافي في الذخيرة عن ابن أبي زيد: إن لم يوجد في جهة إلا غير العدول أقيم أصلحهم وأقلهم فجوراً للشهادة عليهم ويلزم مثل ذلك في القضاة وغيرهم؛ لكيلا تضيع المصالح. قال: وما أظن أنه يخالف أحد في هذا فإن التكليف مشروط بالإمكان. وفي المذهب لابن رشد أن الموضع إذا لم يكن فيه عدل قبلت شهادة أفضلهم ومثل هذا عن احمد بن نصر[37].

بل تجوز شهادة الكفار قال خليل المالكي في باب الخيار: وقبل للتعذر غير عدول وإن مشركين”.

والكافر يشهد عند أبي حنيفة على مثله ويشهد في الوصية عند أحمد على المسلم بناء على قوله تعالى: ( أو ءاخران من غيركم)         

 وسبق كلام ابن عابدين في أن القاضي في دار الحرب يكون قاضيا بالتراضى بين المسلمين وأضاف: وعلى المسلمين أن يطلبوا منهم أن يعينوا لهم قاضيا. 

والمسألة ترجع إلى قاعدة ارتكاب أخف الضررين وتعارض المصلحة والمفسدة وفي هذا يقول ابن القيم: قال ابن القيم: ومن أصول الشريعة أنه إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم أرجحهما والغرر إنما نُهِي عنه لما فيه من الضرر بهما أو بأحدهما وفي المنع مما يحتاجون إليه من البيع ضررٌ أعظم من ضرر المخاطرة فلا يزيل أدنى الضررين بأعلاهما بل قاعدة الشريعة ضد ذلك وهو دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما ولهذا لما نهاهم عن المُزابنة لما فيها من ربا أو مخاطرة أباحها لهم في العرايا للحاجة لأن ضرر المنع من ذلك أشد من ضرر المُزابنة ولما حرم عليهم الميتة لما فيها من خُبث التغذية أباحها لهم للضرورة ولما حرم عليهم النظر إلى الأجنبية أباح منه ما تدعُو إليه الحاجة للخاطب والمعامل والشاهد والطبيب”[38].

وفي الختام: فقد القينا نظرة عجلى على وضع المسلمين في ديار غير المسلمين حيث تبين أن أوضاعهم أوضاع ضرورة بالمعنى العام لهذه الكلمة مما يقتضي اجتهاداً فقهياً بمعنى من معاني الاجتهاد الثلاثة المشار إليها وهو اجتهاد يستنفر النصوص والمقاصد والفروع والقواعد، وقد رشحنا جملة من القواعد من خلالها يتعامل الفقيه مع قضايا فقه الأقليات، وهي قواعد أساسها التيسير ورفع الحرج بضوابطه وشروطه، وركزنا على الصق هذه القواعد بموضوع النازلة وهي قاعدة : إقامة جماعة المسلمين مقام القاضي.    

باعتباره مستند تخويل المراكز الإسلامية صلاحية البت في قضايا التنازع بين الزوجين وبخاصة في دعوى الضرر وإيقاع الطلاق والخلع.

وواصلنا حديثنا بكلمة عن أحكام التطليق والتفريق الصادر من قضاة غير المسلمين حيث اعتبرناها غير شرعية تصحح بأثر رجعي من طرف جماعة المسلمين تجنبا للحرج الديني وابتعادا عن المفاسد بحسب الإمكان.

ولما تقدم فإنه يجوز للمراكز الإسلامية وما في حكمها مما يعتبر مرجعا لجماعة المسلمين أن تقرر تطليق المرأة التي قد صدر لها حكم من محكمة غير إسلامية أو لم يصدر لها حكم ورفع الزوجان أمرهما إليها.

إلا أن عليها في كل الأحوال أن تراجع كل حالة لإثبات المقتضي وعدم المانع شرعا وأن تحاول الصلح ما وجدت إليه سبيلاً وأن تستعين ببعض الفقهاء ما أمكن وأن تسأل العلماء حتى تطمئن إلى سلامة إجراءاتها.

 وعلى المسلمين أن يلجئوا إلى التحكيم ليقوم الحكم فرداً أو اثنين بالفض في مسائل الطلاق طبقاً للآية الكريمة ( فأبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا اصلاحاً يوفق الله بينهما)

وفي بريطانيا تجربة مفيدة وكذلك في كندا أيضا.

ولهذا فإن على لجان الفتوى التي تشكلت في بعض الحواضر الغربية أن تنظم دورات لمسئولي المراكز وأئمة المساجد.     

 

عبدالله الشيخ المحفوظ بن بيــّه


 


[1] سورة الأعراف       الآية 157

[2]– سورة البقرة         الآية 286

[3]–  أخرجه مسلم عن ابن عباس  باب الإيمان حديث رقم180

[4]– سورة البقرة       الآية 286

[5]– سورة البقرة        الآية 185

[6]– سورة الحج        الآية 78  

[7]– سورة النساء       الآية 28

[8]– سورة المائدة       الآية 6

[9]– الحديث أخرجه الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه حديث رقم 21260 باقي مسند الأنصار.

[10]– الحديث أخرجه مسلم عن عائشة رضي الله عنها كتاب الفضائل رقم 6047

[11]– الشاطبي      الموافقات      2/121- 122

[12]– نفس المرجع    2/ 299

[13]– ابن القيم      إعلام الموقعين          3/365  

[14]– ابن عبد السلام      قواعد الأحكام       1/109

[15]– إمام الحرمين        الإرشاد             ص312

[16]– الشاطبي        الموافقات    5/177-178

[17]– أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما  

[18]– الشاطبي         الموافقات             2/148

[19]– ابن القيم        إعلام الموقعين       3/13

[20]– الشاطبي        الموافقات            5/55

[21]– الشاطبي           الموافقات    3/331

[22]– البناني            حاشية على الزرقاني   7/124

[23]– السجلماسي        شرح نظم العمل المطلق 1/7 “مخطوط”

[24]– ابن الصلاح      أدب الفتوى وشروط المفتي   ص65

[25]– الحطاب      مواهب الجليل        4/155

[26]– المواق       التاج والأكليل         4/156

[27]– الزرقاني      شرح المختصر       4/211

[28]– البناني        حاشية على الزرقاني   4/211

[29]– الدردير        الشرح الصغير        3/694

[30]– الحطاب      مواهب الجليل       4/199

[31]– بحاشية نوازل عليش 1/201

[32]– الونشريسي         المعيار   10/102-103 

[33]– أبو يعلى          الأحكام السلطانية     ص73

[34]– ابن عابدين         رد المحتار على الدر المختار      3/253

[35]– العز بن عبد السلام          قواعد الأحكام  1/66

[36]– نفس المرجع     2/219

[37] – سيدي عبدالله          طرد الضوال والهمل  ص25

[38] – ابن قيم الجوزية        إعلام الموقعين      2/6

 

 

علاقة الدين بالدولة: وجهة نظر إسلامية

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه  

 

علاقة الدين بالدولة: وجهة نظر إسلامية  

الأستاذ/ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه  

     

((ولقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ))

الدين: -هنا- مجموعةُ العقائد والقواعد والأعمال المتلقاة للرسول من الله الخالق يَعدُ العاملين بها بالنعيم المقيم والمعرضين عنها بالعقاب.

وقد يُطلقُ على الشريعة -وهي سلسلةٌ محكمةٌ من القواعد والضوابط- المبادئ والأحكام التفصيلية، مغطيةً العقائدَ والأخلاق والسلوك والمعاملات في كل أبعادها، منظمةً علاقةَ الإنسان بربّه، وعلاقته بأبناء جنسه “البشر”، فكانت إيمانًا وعبادات مقرونةً بالعمل الصالح، مما جعل القيم أساسًا لقوانين المعاملات، إنَّه تسلسلٌ مترابطٌ نسيجُ وحده بين الإيمان والعمل والمعاملة ، يحقق العدالةَ والسعادة في حياة البشر، ويجنّبهم الظلمَ والطغيان والشقاء.

الدولة-هنا- سلطاتٌ عامةٌ تمارس الحكمَ على شعبٍ وعلى أرضٍ.

وللحديث عن العلاقة بين الدين والدولة لعلي أستعين بهذا العنوان المثير لمستشار فيدرالي في الإتحاد السويسري هو موريتيس …

لمحاضرة ألقاها في جامعة لوزان في 2 فبراير 2005م كالتالي: هل الإله ضرورة للدولة ؟             

وقد بنى عليه العديدَ من الأسئلة التي تواجه الفيدرالية السويسرية التي تُعتبر من الدول النادرة في أوربا التي ينص دستورها على أنها دولةٌ دينيةٌ وكنيستها هي كنيسة دولة مع ما يترتب على ذلك من إلتزامات الدولة تجاه المؤسسة الدينية.

ولعلَّ سبب طرح السؤال هو الوجودُ الحديث لأديانٍ غير المسيحية في سويسرا والتي أصبح الموقف منها قبولاً ورداً وتسامحاً واعتراضاً يدفع إلى الواجهة تساؤلات أهمها: ما مدى ضرورة انحياز الدولة لدينها الرسمي؛ لتمنع ذبح الأعياد والحجاب بالنسبة للمسلمين وحياديتها للتسامح مع الديانات، أو يضعها على قدم المساواة مع الكنيسة فتقدم لها الدعم المادي والمعنوي لتبني دور العبادة وتدفع الرواتب للأئمة.

لكنْ لنتجاوز دوافع السؤال التي هي سويسرية وربما أوروبية أيضا في العلاقة بين الدين والسلطات.

ودعونا نصوغ السؤالَ بطريقة أخرى ليكون أقرب إلى مفهوم المسلمين وهو: هل الدولة ضرورة للدين ؟

  لهذا آثرنا عبارة :  (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وقد تلاحظون أنَّ السؤالَ قد لا يُمثل حرفياً قلباً للقضية التي طرحها لكنه يمكن أنْ يمثله بالقوة إذ أننا معشر المسلمين لا يمكن أنْ نعتبر شيئاً ضرورة للإله وذاك بالتأكيد هو موقف المسيحيين؛ لأنَّ الإله يفتقر إليه كل شيء ولا يفتقر إلى شيء: هل الدولة ضرورة للدين ؟

هناك موقفان من هذه القضية:

الموقف الأول: وهو موقف قلة من الأولين وثلة من المحدثين يرى أنه لا دولةَ في الدين. فالجواب إذا بالنفي.

فمن الأولين بعضُ المعتزلة كعبدالرحمن بن كيسان الأصم الذي قال بأنَّ الدينَ لا يوجب نصب الحكام وأنَّ الناسَ يمكن أنْ يتركوا على حالة الطبيعة أو أخيافاً. حسب عبارة إمام الحرمين في “الغياثي”.

ومن المحدثين عليّ عبد الرزاق ولا بأس من سوق بعض نصوصهم التي تعترف بمضمون دولة ما دون الاعتراف بدولة في الدين الإسلامي فعلى سبيل المثال يقول برهان غليون: أما الإسلامُ فقد انطلق من موقف مشابه للموقف المسيحي الإنساني والعالمي، فجعل من الهداية إلى طريق الله والدعوة لدينه والشهادة في سبيله رسالته الجوهرية.

: قل لابن أخيك أنْ يترك هذا الدين، وإنْ أراد مالاً جمعنا له من أموالنا حتى يكون أكثرنا مالاً، وإنْ كان يطلب به الشرف فينا فنحن نسوده علينا، وإنْ كان يريد به ملكاً ملكناه علينا، وإنْ كان هذا الذي يأتيه رئياً تراه قد غلب عليه بذلنا له أموالنا في طلب الطب حتى نبرئه منه أو نعذر فيه. عن عزمه، قالت لأبي طالب عم الرسولوعند ما حاولت قريش أنْ تثني الرسولَ

 قولته المشهورة: والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أنْ أترك هذا الأمرَ ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه.فقال الرسول

 يدعو المسلمين كذلك إلى الاستعداد لليوم الآخر، وكان يطلب منهم تجنيد أنفسهم في سبيل الله لنشر دعوته والموت من أجلها وليس لبناء سلطة لهم باسمه، إنَّ ما جعل من الإسلام خاتم الرسالات وأكملها معاً هو جمعه بين رسالة السيد المسيح التي هي التبشير والبشارة بالخلاص عن طريق الإيمان بالله الواحد، ورسالة موسى التي لا تكتفي بالتبشير الروحي ولكنها تدعو المؤمنين إلى القتال والشهادة في سبيل نشر الدين الحق. لكن هذا القتال لا يغير من هدف الرسالة وغايتها؛ إنه ليس قتالاً في سبيل الملك ولا في سبيل الدولة ولكن في سبيل الله.وكان محمد 

وكذلك فإنه كان يدعو ملوك الأرض إلى الدين ولا يطلب منهم التنازل عن ملكهم فمن قبل بالدين أُمر بالصلاة والزكاة ليوزعها على فقراء بلده فمنهم من أسلم كالنجاشي وبقي ملكاً على شعب مسيحي.

وكذلك لم يُعين أحداً ليخلفه في الحكم وإنما عينه ليخلفه في إمامة الصلاة لكن أصحابه هم الذين انتخبوا الحاكم”.

أما الفئة الكاثرة من مختلف المذاهب الإسلامية فلا تتردد في أنَّ الدولةَ جزء من الدين بمعنى أن إيجاد سلطة حاكمة مطلبٌ ديني.

فالجواب بنعم: الدولة ضرورة للدين بناء على مجموعة من الأدلة:  

أولاً: الأصل في ذلك أنه عليه الصلاة والسلام مارس تصرفات تعتبر من باب الحاكمية لكونه حاكماً لجماعة المسلمين أو رئيساً للدولة، ولقد ظهر في فقه الصحابة ما يدلُ على أنَّ هذه التصرفات ترتبط بالمصلحة الراجحة العامة، وليس لها حكم الدوام والاستمرار.

 بوصف القضاء يقتضي ذلك، وهذه هي الفروق بين هذه القواعد الثلاث؛ ولأن السبب الذي لأجله تصرف فيه بوصف القضاء لا يجوز لأحد أن يقدم عليه إلا بحكم حاكم اقتداء به  أو فعله على سبيل التبليغ كان ذلك حكماً عاماً على الثقلين إلى يوم القيامة فإنْ كان مأموراً به أقدم عليه كل أحد بنفسه وكذلك المباح، وإنْ كان منهياً عنه اجتنبه كل أحد بنفسه، وكل ما تصرف فيه عليه السلام بوصف الإمامة لا يجوز لأحد أنْ يقدم عليه إلا بإذن الإمام اقتداء به عليه السلام؛ ولأنَّ سبب تصرفه فيه بوصف الإمامة دون التبليغ يقتضي ذلك، وما تصرف فيه  بهذه الأوصاف تختلفُ آثارها في الشريعة فكل ما قاله  منها ما يكون بالتبليغ والفتوى إجماعاً، ومنها ما يجمع الناسُ على أنه قضاءٌ، ومنها ما يجمع الناسُ على أنَّه بالإمامة، ومنها ما يختلف العلماءُ فيه لتردده بين رتبتين فصاعداً فمنهم من يغلب عليه رتبة ومنهم من يغلب عليه أخرى، ثم تصرفاته  بالتبليغ؛ لأنَّ وصفَ الرسالة غالبٌ عليه ثم تقع تصرفاته  إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته وهو أعظم من كل من تولى منصباً منها في ذلك المنصب إلى يوم القيامة فما من منصب دينيِّ إلا وهو متصف به في أعلى رتبة غير أن غالب تصرفه  هو الإمامُ الأعظم والقاضي الأحكم والمفتي الأعلم فهو  بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ وبين قاعدة تصرفه بالإمامة” قال القرافي: اعلم أنَّ رسولَ الله وقد أصل لذلك الإمام شهاب الدين القرافي في كتابه “الفروق” في الفرق السادس والثلاثين بين قاعدة تصرفه [1].

 كانت ذات أبعادٍ مختلفةٍ منها البلاغُ للوحي، ومنها أنَّ يتصرف كرئيس للدولة يوقعُ المعاهداتِ، وكقاض يفصلُ الخصوماتِ. مقتضى هذا أنَّ ممارسةَ النبي 

ومن هذه التصرفات نُدرك اندماج الدولةِ في الدِّين من حيث المبدإ لا من حيث التفاصيل حسب رأي القرافي وحسب رأي بعض الكتاب المحدثين.

ثم إنَّ الصحابةَ انتخبوا حاكماً بعده فكان إجماعاً على حاجةِ الدِّين للدولةِ، ولهذا تنتفي بشكل أو بآخر مقولةَ من يقول: إنَّ الإسلامَ دين فرديُّ وليس دولةً؛ لأنَّ الفرديَّ ليس دائماً منافياً للجماعيِّ بل إنَّه أصلُه.

وتصرفُ الصحابةِ في نصب الحاكم وفي نظام الحكم يدلُ على أهمية الدولة في الإسلام. 

 إلى الرفيق الأعلى بعد أنْ أسلم أهلُ الجزيرة العربية أو سالموا في وقت كان الكثيرُ من الصحابة لا يتوقعون ذلك الرحيل ومن هؤلاء عمر الذي كان يهدد من يقول ذلك. أما البعض الثاني الذين فهموا مغزى خطبة التخيير -والتي أخبر فيها عليه الصلاة والسلام أنَّ عبداً خيرَ بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله- قبل وفاته بأيام فقد توقعوا ذلك وذرفت دموعهم عندما سمعوه على المنبر يعلن ذلك دون أن يصرح به حتى لا تهيج المشاعر.فما أنْ انتقل النبي 

بعد الانتقال تولى الصديق البيعة الذي انتخب في سقيفة بني ساعدة حتى تمايز حقلان من التشريع حقل العقائد: الإيمان بالله الواحد الأحد وبالأنبياء جميعاً وبكتب الله كلها وبالبعث الأخير وأن البشر كلهم إلههم واحد وأبوهم واحد فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعبادات كالصلاة والصوم والزكاة والحج.

فهذه لا يجوز تغيير شيء منها ولا تبديله ولا تأويله تأويلاً مجحفاً.

أما الحقل الثاني فهو التشريعُ المتعلق بأنظمة الحكم؛ سواء كانت سياسة كنظام الدولة واختيار رأس الدولة وطريقة الاختيار ونظام الجيوش والعلاقات الدولية والحروب والمعاهدات وكذلك المعاملات المالية من بيوع وإجارات وغيرهما من أنواع العقود فقد تناولها التأويلُ والاجتهادُ الذي يرجع إلى المعاني من المصالح والمفاسد. وهذا هو الدليل الثاني. 

إما الدليل الثالث فإنَّ القرآن الكريم وجه نوعين من الخطاب؛ خطاب للأفراد وخطاب للجماعة وهذا ما عرف عند علماء الأصول بفرض العين بالنسبة للخطاب الأول كالصلاة والصيام والحج.

وأما خطاب الجماعة وهذا ما يعرف بفرض الكفاية؛ بمعنى أنه ليس موجهاً إلى شخص بعينه وإنما هو موجه إلى الأمة كلها، كإقامة العدل بين الناس وإيصال الحقوق إلى أهلها وإنصاف المظلوم من الظالم، وهذا النوع من الفروض لا يمكن أنْ تقوم به إلا سلطةُ الدولة.

 فقد كان يمتدح الشورى ويمارسها في الشؤون الحياتية، وكان أصحابه يعرفون ذلك، فربما بدأوه بعرض آرائهم بعد جملة التحفظ الاعتيادية: “هل هو الرأي” ، وفي كثير من الحالات يتغير الموقف فيتنازل عن رأيه.ولهذا أقام الصحابةُ حكماً على أساس نظام الشورى والبيعة الذي فهموه من النبي

، وهكذا تمت البيعة الأولى، بيعةُ أهل الحل والعقد.، حيث إنه لم يوص بالخلافة إلى أحد؛ بل أناب فقط صراحة في إمامة الصلاة تاركًا أمر تعين الخليفة –رئيس الدولة- لاختيار الأُمة، فكانوا حزبين: حزب الأنصار سكان المدينة الأصليين، وحزب المهاجرين من أهل مكة، فعقدوا اجتمعًا في بيت زعيم الأنصار تبادلوا فيه الخطب، وقدموا فيه الحجج المعتمدة على المصالح العامة، وهكذا تمت البيعة لأبي بكر الصديق الذي كان معروفًا بإخلاصه الشديد وتفانيه في الدعوة، ولم يكن من بيت النبي لكن القرآن ترك للأُمة أمرَ تفصيل هذا المبدأ الكلي وتحديد معالمه طبقًا لمصالحهم المتجددة وحاجتهم المتطورة، فكان أولُ اختبار لوعي الأمة وقدرتها على تطبيق مبدأ الشورى بعد وفاة النبي 

وكانت البيعة الثانية وهي بيعة الجمهور في المسجد وفي المواطن التي وصلها الإسلام كمكة، وقال العلماء صراحة حيث بويع له فلا بد من هذه البيعة.

يدّعي محمد أسد –وهو مسلم نمساوي- أنَّ هذه أول تجربة ديمقراطية.

وعندي أنها قد لا تكون كذلك، إلا أنها على كل حال تجربة إنسانية عظيمة، أن يجتمع أولئك القوم نصف البدو وهم من المقاتلين الأشداء أن يجتمعوا بدون سلاح ليتناقشوا، وأن لا تستعمل أي كلمة جارحة أو أي تهديد، ثم يتفقون على واحد منهم ليقول في أول خطاب علني بعد تولي رئاسة الدولة: إني وُليتُ عليكم، ولست بخيركم، أطيعوني ما أطعتُ الله، وإن عصيت فلا طاعة لي عليكم”.

إنَّ نظام الشورى يصب في جدول واحد هو “العدالة” في الإسلام والتي بإمكانها أنْ توفر للإنسان ما نقدر ونظن أنَّ الديمقراطيةَ تبحث عنه من إسعاد الإنسان، وما نظن أنها لم تصل إليه بَعدُ باعتبار الديمقراطية كالشورى وسيلة وليست غاية، والديمقراطية محطة من محطات الإبداع الإنسان وليست نهاية التاريخ، فالبحث عن إسعاد الإنسان إذن هو هدف مشترك للديمقراطية والشورى معًا.

لعلكم تسألون كيف مورست الشورى وكيف تمارس؟

إنه سؤال مشروع، وإنني قدمت لكم مرجعية هذا البحث؛ فإنَّ الإسلامَ هو مثالٌ تجب محاولة الوصول إليه، وبقدر ما نقترب منه يكون وضع العدالة أفضل، ويكون الإنسان أسعد.

وهذا النظام ليس جامدًا ومتصلبًا بل قابل للتطور والتطوير، وقابل للإفادة من التجارب الإنسانية التي تحترم الثوابت والمرجعية وتقدر الأولويات والضرورات الاجتماعية والأمنية.

 وكل إنسان هو خليفة وليس الحاكم وحده.(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فهو سبحانه وتعالى في عليائه إذ هو “العلي” وهو “الأعلى” تلك أوصافه وأسماؤه في الإسلام، ولكنه مع ذلك قريب من خلقه، أقرب إليهم من حبل الوريد، والإنسان مستخلف في الأرض ( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَأولاً: مرجعية الشورى: إن مرجعية الشورى هي ربّانية بتطبيقات إنسانية، وهذا يعني أنَّ الإنسانَ وهو يتولى سيادة اختيار الحاكم عن طريق البيعة والشورى له أنْ يضع الأنظمة الكفيلة بنجاح العملية، وهي أنظمة تتأثر بالزمان والمكان، والمصلحة التي هي أساس الشريعة على حد تعبير ابن القيم، ولكن مع ذلك فإنَّ خاصيةَ النظام الإسلامي هي أنَّ كل شيء هو لله، فهو الذي له الخلق، فهو خالق الكون ولكنه لم يخلقهم ويتركهم بل أمرهم ونهاهم. وهذه العلاقة بين الخلق والنظام التي توضحها الآية الكريمة:

إنَّ “الثنائية” بين السيادة المطلقة للخالق في الأمر: وهو أصول التشريع وثوابته وتحديد الحق والباطل، وفي نفس الوقت بين الإمكانية المتاحة للإنسان؛ وليس فقط الإمكانية ولكن التكليف للإنسان بإعمال عقله وفكره ليصل إلى الصلاح العام. 

هذه “الثنائية” هي التي ربما تجعل البعضَ يُحجم عن وصف النظام الإسلامي بصفة الديمقراطية أو تيوقراطية أو أرستقراطية؛ لأن أيًا منها لا ينطبق عليه.

، فعمر يريد أنْ يتحمل خطأ رأيه وصوابه دون أنْ ينسب لله شيئًا.إنَّ الانسجامَ بين هذه الثنائية يمثل حجرَ الزاوية في النظام الإسلامي، وهذا ما يجعله بعيدًا من الثوقراطية التي هي تفويض إلهي للحاكم، ويُفسر بُعدَه عنه قولُ الخليفة الثاني عمر لمّا كتب كاتبه في رسالة كان يكتبها بأمره: هذا ما أري الله عمر. فزجره قائلاً: اكتب: هذا ما رأي عمر؛ لأنَّ هذه الصفةَ مختصةٌ بالنبي 

 [ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَـكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ]ولهذا فإنَّ الرقابةَ ثلاثيةٌ لحسن تطبيق خلافة الإنسان في الأرض 

قال إمام الحرمين: في معنى الإمامة ووجوب نصب الأئمة وقادة الأمة:

الإمامةُ رياسةٌ تامة، وزعامةٌ عامّة، تتعلق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين والدنيا. مهمتها حفظُ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامةُ الدعوة بالحجة والسيف، وكفُّ الخيف والحيف، والانتصافُ للمظلومين من الظالمين، واستيفاءُ الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين[2].

-العلاقة يمكن أن تتصور على ست مستويات:  

المستوى الأول: اندماجٌ كاملٌ بمعنى أنَّ نظامَ الدولة يعتمد على النصوص الدينية، وتمارسه سلطةٌ مفوضة من الإله، معصومة، هذا هو مفهوم الثيوقراسية.

المستوى الثاني: نظامٌ يقوم على نصوص دينية يمارسُ السلطةَ فيه علماءُ دينٍ لكنهم ليس لهم تفويض إلهي، فهم لا يمارسون أعمالهم باسم الإله ولا نيابة عنه، ولكنهم يسعون ليكونوا أقرب ما يمكن لروح التعليمات الإلهية.

المستوى الثالث: أنْ يكون التشريعُ مستمداً من النصوص الدينية، ولكن الذين يمارسون السلطةَ فيه ليسوا علماء دين، ولا رجال دين، بل مدنيون ملوك أو قادة جيوش، تارة باسم النسب والعصبية ، وتارة عن طريق القوة والغلبة.

ملاحظة مهمة: إنهم يستمدون شرعيتهم من الدين، ويفسحون المجال لفقهاء الدين لممارسة القضاء والفتوى والتوجيه، وبالتالي تنشأ طبقة الفقهاء موازية لطبقة السلطان.

المستوى الرابع: نظام لا يكون التشريع فيه مستمداً من نصوص الدين؛ لكنه يعترف بمرجعية دينية للشعب أو للدولة، قد يستمد بعض قوانينه من الشريعة كالأحوال الشخصية مثلاً ، وفي نفس الوقت يمارس وصاية على المؤسسات الدينية كالمدارس الدينية ودور العبادة، وفي مقابل ذلك فإنه يتحمل التكاليف المادية اللازمة لتشغيل المؤسسات، ونتيجة لذلك قد يضمن ولاءَ مجموعة من رجال الدين، وقد يَسنُّ قوانين تهتم بالأخلاق أو بالشعائر ويكسب بذلك شيئاً من الشعبية إنْ لم نقل شيئاً من الشرعية مثال المحافظين الجدد وبعض الدول الإسلامية.

المستوى الخامس: دولةٌ تطبق نظاماً مدنياً كاملاً، وتجعل الدين شأناً خاصاً لا علاقة له بالمجال العام ولكنها لا تعارضه: “دولة علمانية”.

المستوى السادس: دولةٌ لا دينية وتناصب الدين العداء؛ بحيث تتدخل في الشئون الدينية تحجيماً وتقليصاً، وقد كان لهذا دعاةٌ في أوربا في وقت من الأوقات ومثاله الدول الشيوعية وتركيا الكمالية.

هذه هي المستويات في التعامل والتفاعل التاريخي بين الدين والدولة، وهو أمرٌ لا يزال له نوع من الوجود في العالم المعاصر، ولا يزال موضوع نقاش في كثير من الأوساط الثقافية في العالم الإسلامي وخارجه في الجانبين العملي والنظري مع بروز التيارات الإحيائية إلى جانب التيارات العلمانية المغالية.

يمكن أنْ نقول إنَّ الدولةَ في الإسلام ليست دولة دينية بالمعنى التيوكراسية المفهومة في الغرب وبخاصة بعد انتقاله عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى، أما في زمن النبي الخاتم فلقد كان يمكن وصفها بذلك؛ لأنه ناطق بالوحي متصرف بإذن الله تعالى مهما يكن من تفسير لتصرفاته.

وإنْ كان البعضُ يراها دولةً مدنيةً أو دولةَ مواطنين فإني شخصياً لا أتصور دولةً مدنيةً بالمعنى الغربي يُديرها نبيُّ مرسلٌ ، إنها دولةٌ دينيةٌ.

 آمراً لجنده: وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا “.أما بعد زمنه فليست كذلك بل إنها دولة يحكمها علماء دين في زمن الخلفاء وهذا هو المستوى الثاني الذي أشرنا إليه في العلاقة بين الدين والدولة، فهم ليسوا ناطقين باسم الإله ولا نواباً عنه يفسر ذلك قوله 

وقول الخليفة الأول: أقول في ميراث الجد برأيي فإن كان صواباً فمن الله ورسوله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان.

وقول عمر لكاتبه: “هذا ما رأى عمر” رداً على كاتبه الذي كتب: هذا ما أرى الله تعالى عمر.

لهذا يمكن أن نقول بدون تردد أن نظام الحكم ليس تيوقراطياً بالمعنى المتداول، وإنْ كان قد ورد في كلام بعض الملوك ما يدل على ذلك، فقد روي عن أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي أنه بعد أنْ استولى العباسيون على زمام الملك وأصبح الأمر بأيديهم بعد سقوط دولة بني أمية قال في خطبة له بمكة: ” أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله أعمل فيه بمشيئته وإرادته وأعطيه بإذنه فقد جعلني الله عليه قفلاً إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم وإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني فارغبوا إلى الله أيها الناس[3].

وكذلك تجربة الثورة الإيرانية المعاصرة حيث يقوم على الحكم فيها رجال الدين هناك وعلى رأسهم رجل الدين الأكبر آية الله الخميني ثم خليفته، مما يعطي انطباعاً لأول وهلة أنَّ الحكم ديني بحت؛ لأنه يعتمد نظريةَ ولاية الفقيه، والشيعة الأمامية لهم وجهة نظر في هذا.

وكذلك فإن بعض الشعراء يعبرون عن ذلك. وكان بعض الشعراء في مدائحهم للخلفاء يقولون لهم ما يحبون    

كقول الفرزدق : خَليفَةُ اللَهِ مِنهُم في رَعِيَّتِهِ       يَهدي بِهِ اللَهُ بَعدَ الفِتنَةِ البَشَرا

وكقول آخر: خليفةَ اللهِ إن اللهُ أَهَّلكم       للأمرِ والنهيِ تحيا سنةُ السَّلَفِ

 وبدرجة أقل لصحابته، على الرغم من حاجته السياسية المستمرة للشرعية الدينية.أما بعد الخلفاء الراشدين فلعلي اتفق مع الكاتب المغربي عبدالإله بلقزيز في هذه الفقرة حيث يقول: ويمكننا أن نضيف –هنا- أن تنمية حالة الانفصال بين السياسي والديني جرت بوتائر أسرع حينما انتقلت الخلافة إلى “ملك عضوض”، وبات الخليفة بعيداً عن أنْ يدعي الدور الديني الذي كان للنبي

لقد حصلت تحولات هائلة في نظام المجال السياسي وسلطة الدولة، وفي أنماط الحكم وتقنيات التولية واختيار الحاكم منذ انصرمت حقبة الخلافة الراشدة.

ومع ذلك، لم تتعرض ثوابت النسق السياسي الإسلامي لتغيير جوهري، بل حوفظ عليها وجرت إعادة إنتاجها، وخاصة ما يتعلق منها بالمضمون الزمني للسلطة والنظام السياسي[4].

ولهذا فإنه في فترة طويلة من التاريخ يمكن أنْ نعتبر أنَّ المستوى الثالث أصبح سائداً في دول الخلافة، وكان الفقهاء في أوقات كثيرة حزبان حزب مع السلطة وحزب ضدها.

ففي مرحلة من الدولة العباسية كان المعتزلة بطانة السلطان في عهد المأمون والمعتصم والواثق فحكموا العقل وقالوا بخلق القرآن واضطهدوا أهل الحديث بين القرن الثاني والثالث للهجرة القرن الثامن والتاسع الميلادي، ولكن بموت الواثق 233هـ أصبح أهل السنة -مع المتوكل ومن بعده- في صدور المجالس، وأعلن الخليفة القادر الوثيقةَ القادرية التي يتبنى فيها اعتقاد أهل السنة ويحظر فكر المعتزلة وآرائهم ويجرمها.

وكانت المراجعات الفقهية تتجاذب الدول وتتنازع سلطان الفكر؛ إلا أنَّ الحكومات ظلت تستمدُ شرعيتَها من الدِّين بتطبيق أحكام الشريعة.

ولم يبق هذا الأنموذج إلا في مناطق قليلة لم يمتد إليها الاستعمار وهي بلاد الحرمين لأسباب تاريخية ودينية معروفة.

وفى العصر الحديث وبعد دخول الاستعمار الغربي لديار العالم الإسلامي وانجلاءه عنها ترك ازدواجية قانونية بين الشريعة والقوانين الوضعية التي هي في الحقيقة قوانين أوروبية منتجة هناك مع بعض التعديلات غير الجوهرية وأصبحت المؤسسة الدينية الرسمية تقوم بدورها في الشعائر الدينية والدعوة إلى الأخلاق دون إلزام وهي تشبه إلى حدما دور الكنيسة في اتفاقية الكونكوردات النابليونية في العلاقة بين الكنيسة والدولة.

ولم تلغ أي دولة من الدول الإسلامية إلى الآن دور الدين ولو شكلياً حتى إنَّ المؤسسة الأتاتوركية العلمانية بالمعنى المناهض للدين ظلت تحتفظ بمؤسسة دينية لتنظيم الشعائر.

وفي الحقيقة فإن أياً من المحطات أو المسارات للإصلاح الديني التي وقعت في أوربا وبخاصة في القرن السادس عشر لا تنطبق على التطور التاريخي للعالم الإسلامي.

وفي الواقع فإنَّ العلاقة بين الدين والدولة وفي الحقيقة بين السلطة والدين لا تزال مشكلة من مشكلات العصر في العالم الذي يشهد عمليات تحديث ودعوات للديمقراطية ورياح تهب من وراء المحيطات تؤثر تارة بحرها الساخن وتارة ببرد القارس على جسم شعوب المنطقة التي لم تحسم خيارها بعد.

خلاصة القول: إنَّ الدولةَ هي آلة من آليات الدين، وليست دولة تيوكراسية ولا دولة مدنية بالكامل، لكنها بالتأكيد ليست دولة علمانية، إنها دولة يكون للدين فيها مكانه ومكانته في مزاوجة مع المصالح واتساع من التأويل لا يقوم عليها رجال دين ولكن رجال مدنيون بمختلف الطرق التي يصل بها الحكام إلى الحكم قد تكون بعض الطرق مفضلة بقدر ما تحقق من المصلحة والسلم الاجتماعي والاقتراب من روح الشرع ونصوصه.

إنَّ الأصلَ في النظام الإسلامي أنه يقوم على البيعة والشورى وبتفسير هذين المفهومين نجد أنهما لا يبتعدان في نتائجهما كثيراً عما وصلت إليه الأنظمة العقلانية مع التحفظ على الممارسات التي تتم باسم الدين وذلك أمر مفهوم، فإنَّ الديمقراطيةَ التي يرى البعضُ أنها نهاية المطاف أو نهاية التاريخ قد تمارس بطريقة غير ديمقراطية حتى ولو احترمت الشكلَ فإنَّ المضمونَ قد يكون مُختلاً وفي بعض الأحيان مأساوياً فإنَّ أدولف هتلر وصل إلى الحكم بطرق ديمقراطية والنتائج معروفة.

لكنَّ موقف أكثر علماء المسلمين على أنه لا تلازم بين الحاكم والفقيه وإن كان يوجد نظرياً من يُلزم الحاكم بأن يكون مجتهداً، ولكن سرعان ما وقع فصل تام بين الاثنين منذ الدولة الأموية بعد الخلافة الراشدة فانفصلت طبقة الفقهاء عن طبقة الحكام؛ إلا أنَّ الفقهاء ظلوا يمارسون السلطة القضائية وسلطة الإفتاء والتعليم.

وقد يقع احتكاك بين الفقيه وبين الحاكم حيث شهد التاريخ إشكالات من هذا النوع بين الفقيه أحمد بن حنبل مع الخليفة العباسي المأمون في مسألة القول بخلق القرآن حيث عذب العلماء الذين لم يقولوا بقول الخليفة بل قالوا إن القرآن كلمة الله.

ووقع ذلك لمالك في مسألة أيمان البيعة ولأبي حنيفة في مسألة القضاء، لكن يذكر التاريخ أنَّ فقهاء آخرين كأبي يوسف نعموا بالجاه الكبير في ظل السلطان حيث يكرم السلاطينُ من العلماء من لم يخالفهم في الرأي ولم يؤلب عليهم العامة، وهذا بصفة عامة؛ فإن الفقهاء كانوا بين ملتزم للحياد في مسألة الحكم أو متعامل مع السلطان دون ممالاة وبين ثائر مطالب بالحكم منتقداً سلوك السلطان كما فعلت طائفة الخوارج وبين طائفة أخرى جلست في الزوايا واهتمت بالروحانيات وتصفية النفوس وهم من الصوفية الذين اعتزلوا الجميع ورأوا أن البعد من السلطان ومن الدنيا هو النجاة ووجد منهم من كان مباركاً للسلطان كما وقع في مرحلة معينة من الدولة العثمانية.         

والإشكال في العلاقة بين الدين والدولة ظل قائماً ليمنح شرعية لقول هيجل: لا يكفي أنْ يقول لنا الدين: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله. لأنه يبقى علينا بعد ذلك أنْ نعلم على وجه الدقة ما هي الأشياء التي لقيصر.

وإذا كان هناك إشكال بالنسبة لعصر العولمة بالنسبة للعلاقة بين الدين والدولة فإنَّ الإشكال لن يكون حله – حسب رأينا- بالدفع إلى القطيعة والحلول الحادة والرؤية الآحادية، وإنما بالبحث عن إبداع الحلول الذكية التي تحافظ على الصلات النافعة، وتقيم الموازنة السعيدة بين مستلزمات المعاصرة ومنتجاتها الفكرية والمادية، وطموحها إلى تذويب البنى وتحويل السلوك وتجاوز الديانة والخصوصيات، وبين القيم الروحية وميراث النبوات والأخلاق الفاضلة والتوفيق البارع بين المتناقضات التي تتجاذب حياتنا……..

 


 

[1] – القرافي          الفروق               1/205- 206 

[2] – إمام الحرمين       الغياثي       ص22        

[3] – تاريخ الطبري وتاريخ دمشق وغيرهما من كتب التاريخ

[4] –  بلقزيز عبدالإله         الإسلام والسياسة           ص45