ارشيف ل February, 2009
ورقة حول الإرهاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيـّـه
وزير المصادر البشرية ووزير العدل والشئون الإسلامية والتعليم بموريتانيا
والأمين الدائم لحزب الشعب – سابقاً-
أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز – جدة
عضو المجلس الأوربي للإفتاء بدبلن – خبير بالمجمع الفقهي العالمي
– ففي هذه الأيام وفي هذه الحقبة المميزة من تاريخ البشرية – أترك لكم وصف التميز- اضطربت المفاهيم وتضاربت الآراء واختلطت المصطلحات وعميت على القوم الأنباء ولبس القول – كما يقول العرب – أعمى من حندس الظلماء .
إنها الفتنة بكل تداعياتها من هذه المصطلحات التي تبرر كل شيء وتبيح كل شيء وتدخل كل بيت في جو تطرفت فيه فئات تائهة فغلت وأوغلت في الجريمة فأفسدت في الأرض بتفجيرات لا تخدم هدفاً ولا تحقق غاية سوى قتل الأبرياء وتدمير المنشئات وتشويه صورة الإسلام وإشاعة الفوضى في ديار الإسلام الآمنة.
وتطرفت فيه طائفة من أهل الغرب فجعلت من الإرهاب حصان طروادة وقميص عثمان فامتطت صهوة الإرهاب الذي صار مفهوماً فضفاضاً يتسع جلبابه ويجر ذيوله على مجالات وميادين بعيدة عن الإرهاب كل البعد ومنافية له كل المنافاة فاتهمت الزكوات والصدقات ووصمت به الحجاب والمحجبات .
بله دفاع المدافعين عن الحقوق والحرمات فصار الإرهاب صفة لازمة لمناطق جغرافية واسعة إن لم نقل لحضارة عالمية عريقة وديانة سماوية عظيمة .
في هذا الوضع وفي هذا العمى والعمه الفكري والثقافي والسياسي تتوجب عدة أمور منها :
أولا : تعريف الإرهاب تعريفا على ضوء المبادئ العقلية والمنطقية والشرعية لوضع الأمور في نصابها وجلاء سحب ضبابها.
ثانياً: أن نصدر إدانة قوية للإرهاب الذي يعتبر إفساداً في الأرض أفكاراً ونتائج لأن الإسلام براء من الإرهاب والإرهاب لا دين له .
ثالثاً : أن ندعو الغرب إلى كلمة سواء لمعالجة هذا الداء وذيوله وتداعياته لتقديم المشروع الإسلامي لمكافحة الإرهاب الذي ينزع عن الإرهاب صفة الجهاد.
فتكون كلمتنا عن هذه النقاط الثلاث فلنبدأ بتعريف جريمة الإرهاب وما يقابلها في الشريعة وسنذكر تعريف الإرهاب مستقى من نبعه الأصلي ومقتطفاً من منبته الغربي فيعرفه معجم روبير الصغير الفرنسي بأنه ” تيار يتخذ الإجراءات الاستثنائية العنيفة بانتظام للوصول إلى أهداف سياسية وهو أيضا مجموعة الأعمال العنيفة : الاعتداء – التدمير إلى آخرة التي ينفذها تنظيم سياسي لتخويف الناس وخلق جو من الرعب والإرهابي هو كل عضو في منظمة من هذا النوع “.
ويعرفه لاروس الفرنسي بأنه عبارة عن جملة أعمال العنف التي ترتكبها منظمة من أجل خلق جو من الرعب أو من أجل قلب نظام الحكم .
إن تعريف لاروس على اختصاره يشتمل على عناصر تكوين الجريمة:
1- قيام بأعمال عنيفة فعلا
2- أن يكون القائم بها منظمة
3- وفيما يتعلق بالهدف فهو أحد أمرين إما أن يكون لخلق جو من الرعب ونشر الذعربين الناس أو أن يكون الهدف قلب نظام الحكم .
فبينما لا يشترط لاروس أن تكون المنظمة سياسية فإن روبير يشترط ذلك ويتحدث عن أهداف سياسية وليس بالضرورة ( قلب نظام الحكم ) الذي تحدث عنه لاروس وقلب نظام الحكم الذي سماه الفقهاء ( خلع الإمام).
ولعل الأفكار المتداولة في أروقة مؤتمرات وزراء الداخلية والعدل العرب تجاوزت اشتراط الصبغة السياسية للتنظيم أو هدف العمل التخريبي وركزت على العمل نفسه لتجعله أساسا لتكييف الجرم لعل ذلك على الأقل ما يوحي به تصريح الأمين عام مجلس وزراء الداخلية العرب بالقاهرة حيث عرف الإرهاب بأنه : كل أعمال العنف المنظمة التي تسبب الرعب والفزع للأبرياء والمدنيين وتستهدف تدمير المنشآت واختطاف الطائرات .
والإرهابي هو المتورط بارتكاب هذه الأفعال والإرهاب لا وطن ولا دين له .
إن هذا التطور يجعل الإرهاب حرابة وبخاصة على مذهب مالك الذي لا يشترط أن تكون الحرابة مغالبة لأخذ مال فقطع الطريق وتعطيل قدرة الناس على الخروج إلى معايشهم هو حرابة لكن لا يمكن إغفال النية السياسية لبعض قضايا الإرهاب فيكون بذلك جريمة بغي وبخاصة عند مالك الذي لا يشترط لجريمة البغي أن يكون الباغي جماعة بل الواحد يكون باغياً إذا اعتمد طريق العنف في مواجهة ولي الأمر … السلطة الشرعية .
ولهذا فإن التعريف سيكون من فصلين أحدهما يتعلق بالأعمال بغض الطرف عن نية فاعلها والآخر يتعلق بالأعمال ذات الهدف السياسي .
فلا بد إذا من كلمة عن هذه الجرائم في الشريعة وهي الجرائم الموازية أو المرادفة ويمكن بإعادة صياغتها أن تكون مرادفة لجريمة الإرهاب لأنها تغطى مجال هذه الجريمة .
وهي جريمة الحرابة وجريمة البغي وجريمة الإفساد في الأرض:
1- الحرابة : هي قطع الطريق على الناس بترويعهم وأخذ مالهم وعرفها الحنابلة بأن : المحاربين هم الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء فيغتصبونهم المال مجاهرة”. هكذا عرفها أبو القاسم الخرقي وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة أما الشافعية فقد أضافوا عنصراً آخر وهو أن المحارب هو من يفعل ما تقدم من غصب أموال الناس وإشهار السلاح ولكنهم لم يشترطوا أن يكون ذلك في صحراء بل لو فعله في مصر لكان محارباً أيضا.
أما المالكية فقد عرفوه بأنه قاطع الطريق الذي يمنع الناس من سلوكها هذا العنصر يكفي لاعتباره محارباً يقول خليل ” المحارب قاطع طريق لمنع سلوك”.
الوصف الثاني : المحارب هو الذي يأخذ مال مسلم أو غير مسلم “معاهد” على وجه يتعذر معه الغوث كما يقول خليل أيضا.
وصف ثالث : من يقدم المسكرات أو المخدرات للناس ليأخذ ما معهم من الأموال.
وصف رابع : من يخادع الصبيان أو غيرهم لأخذ ما معهم .
وصف خامس : من يهاجم الناس في ليل أو نهار في الشوارع الضيقة أو في منازلهم ويقاتلهم لأخذ مالهم .
وصف سادس : من يعتدي على الأبضاع : الفروج بالقوة بشكل من الأشكال السابقة فهو محارب .
هذه الأوصاف الستة كل واحد منها يكفي لوصف الجريمة بأنها جريمة حرابة والقتل غيلة يعتبر حرابة هذا مذهب مالك .
عناصرها الأساسية هي : إخافة الطرق ترويع الآمنيين الاعتداء عليهم في ظروف غير عادية في بيوتهم أو في الشوارع الضيقة أو المهجورة أو الاغتصاب أو سقي المسكر وتقديم المخدر سواء قطع طريقا أو لم يقطعها.
2- جريمة البغي أو البغاة أو الباغية : فالأول مصدر لبغى يبغى إذا طغى وظلم واعتدى قال تعالى ( وإن كثيراً من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض) .
قال الشاعر:
وإن الذي يبغى على الناس ظالما تصبه على رغم عواقب ما صنع
وبغى سعى بالفساد أيضا واسم الفاعل باغ وجمعه بغاة وإذا كان وصفا لمؤنث كفئة قلت فئة باغية تلك التصاريف اللغوية هي أصل اصطلاح الفقهاء فقد عرفه الفقهاء بأنه الخروج على الإمام الحق بغير حق .
وعرفه ابن قدامة في المغنى بأنهم ” قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام ويرومون خلعه لتأول سائغ وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش فهؤلاء هم البغاة “.
وجمهور العلماء على أن البغي هو الخروج على طاعة الإمام الحق بتأويل ممن له شوكة وكذلك الامتناع من أداء حق واجب يطلبه الإمام .
عناصر هذا التعريف هو خروج على الطاعة وأنها طاعة الإمام الحق وأن يكون الخارج متأولا وأن يكون الخارج جماعة لهم شوكة .
ولكن كيف يتجسد الخروج على الإمام ؟ هل لا بد أن يقوموا بفعل مخل بالأمن كالتعرض لحرمة أهل العدل أو يتظاهروا على خلع الإمام الذي انعقدت له البيعة كما يفيده الماوردي أو يكفي أن يخرجوا فقط مع إظهار الغلبة وإن لم يوجد إخلال فعلي بالأمن وهذا ما يراه الرملي الشافعي قائلا : إن بقاءهم تتولد منه مفاسد قد لا تدرك ما داموا قد خرجوا عن قبضة الإمام وتهيئوا للقتال “.
وهذا ما استظهره بعض المالكية كما يفيده الزرقاني قائلا : والمراد بالغلبة إظهار القهر وإن لم يقاتل كما استظهره بعض”.
من هو الإمام الحق ؟
هو من انعقدت له البيعة كما يفيد الماوردي لكن ابن قدامة يوضح بأنه من ثبتت إمامته ببيعة أو عهد من إمام قبله أو تغلب”.
أن يكون الخروج بتأويل وإلا كان محارباً كما يقول ابن قدامة وغيره وسنرى موقف المالكية من هذا الشرط والذي بعده كما أنه يجب أن يكون الخارج جماعة ذات شوكة فإن كانت فئة قليلة كالواحد والاثنين إلى العشرة فهؤلاء أيضا قطاع طريق.
إلا أننا مرة أخرى سنتوقف مع تعريف المالكية الذين توسعوا في مفهوم البغي فوسعوا جيوبه وسحبوا ذيوله على عناصر ليست مشمولة بمفهوم البغي عند الجمهور فقد عرفه خليل المالكي بقوله “الباغية فرقة خالفت الإمام لمنع حق أو لخلعه”. يقول شروحه : لا مفهوم لفرقة فالواحد إذا خرج يعتبر باغياً.
والإمام ولو كان جائراً لا يجوز الخروج عليه قال عياض جمهور أهل السنة من الحديث والفقه والكلام أنه لا يخلع السلطان بالظلم والفسق وتعطيل الحقوق ولا يجب الخروج عليه بل يجب وعظه .
ولا فرق بين ولي أمر المسلمين ونائبه عند المالكية كما يفيده ابن عبد السلام المالكي .
قلت : قد ينطبق تعريف الإمام على من يصلون إلى الحكم عن طريق الانقلاب العسكري لأنهم في حكم المتغلب بشروط أن يستتب الأمن على أيديهم فإذا لم يستتب الأمن فلا يعتبر إماماً كما يفيده التغلب .
الشرط الثاني : أن لا يكفر كفراً بواحاً بتصريح بكلمة الكفر وهو أمر في غاية الصعوبة إثباته فيحكم له بحكم الإسلام فيما عدا ذلك .
كما أن المالكية لا يشترطون أن يكون الخارج متأولا بل كل من يخرج عن طاعة الإمام فهو باغ فاتضح من مذهب مالك رحمه الله تعالى توسعه في مفهوم البغي فكل خروج عن طاعة الإمام أو نائبه بمغالبة ولو كان الإمام جائراً أو فاسقاً سواء كان الخارج جماعة أو فرداً وسواء كان متأولا أو غير متأول فهو بغي فهي تماماً جريمة في المصطلح الحديث عقوبة البغي هي القتال والقتل مع منح الإمام صلاحيات واسعة لتقدير الظروف وتدبر الأمور وعلى ضوء المصلحة ينزل العقوبة الملائمة . عبر بعض بوجوب قتال البغاة كقول ابن قدامة : فمن خرج على من ثبتت إمامته بأحد هذه الوجوه: البيعة – ولاية العهد – التغلب وجب قتاله”.
3- جريمة الفساد في الأرض : وهذه جريمة تفرد المالكية بها بدون أن يذكروا لها حداً جامعاً مانعاً فإن أمثلتها تشير إلى أن كل ما يثير الفتن ويؤدي إلى المحن يمكن اعتباره جريمة فساد في الأرض توقع عليها أشد العقوبات باجتهاد ولي أمر المسلمين .
المثال الأول : من يستبيح دماء الناس وأموالهم ويكفر العموم ولو لم يقم بأي عمل مخل بالأمن يعتبر مجرماً جريمة فساد في الأرض .
كذلك فإن الجاسوس الذي يتجسس لفائدة العدو ولو كان مسلماً تعتبر جريمته فساداً في الأرض فيحكم بقتله .( ابن فرحون تبصرة الحكام 2/302)
وخالفه الأئمة الثلاثة في ذلك فلم يجيزوا قتله ففي كشاف القناع ” وإن تجسس لم يقتل”.
إن الإشكال الذي كان ولا يزال يواجه المسلمين والعرب هو : كيف نميز بين جريمة الإرهاب وأعمال المقاومة الوطنية المشروعة ضد البغي والاحتلال أو الدفاع المشروع كذلك الجاري في فلسطين ضد القرصان الإسرائيلي الكبير إن ذلك يقتضى منا أن نلح على أهمية الدوافع في ميزان العدالة الذي لا يسمح بإعطاء الجلاد صفة الضحية والظالم وضع المظلوم.
وانطلاقاً مما تقدم فإني أقترح تغيير مصطلح هذه الجريمة فإن الإرهاب في اللغة كما يقول الزبيدي : الإزعاج والإخافة ولكنه قد يكون من أمر بسيط كما يكون من أمر عظيم ثم إنه ليس وصفيا بمعنى أنه لا يصف الأعمال الناشئ عنها الخوف والانزعاج .
كما اقترح صياغة تعريف الجريمة وتوصيفها على ضوء جريمتي الحرابة والبغي والتطور في الفكر القانوني الناشئ عن الممارسة ودمج بعض الجرائم المنظمة الأخرى كترويج المخدرات التي تعتبر حرابة عند الإمام مالك ليكون مصطلح الفسادأي الأعمال العنيفة التي ترمي إلى التدمير والإفساد وترويع الآمنيين بقتل الأبرياء وتدمير المنشآت وترويج المخدرات وكذلك الأعمال العنيفة التي تقوم بها العصابات ضد السلطة الشرعية لخلق جو عام من العصيان يشل النشاط العام ويخوف المدنيين أو لقلب النظام الشرعي القائم .
إن هذا التعريف في رأيي يستجيب للهموم التي يشعر بها المتعاطي مع قضية الأمن وينطلق من أرضية الفقه والتراث والبيئة العقدية للأمة كما أن مصطلح “الإفساد” هو مصطلح واضح يفهمه المثقف والعامي على السواء .
وهذه الشريعة المباركة تتسع لوصف كل جرم وتطبيق العقوبة الملائمة وهي بعموماتها وتفاصيلها وتفريعاتها محكماتها ومؤولاتها بالإضافة إلى آراء مختلف المذاهب التي تشكل ثراء وتكاملا وكمالا تشكل مصدراً فقهياً لا يفنى ومعيناً لا ينضب ولا يذوي من قبل عزائمها بذلت له رخصها ومن آمن بوعيدها قدمت له وعدها في ظلال الأمن والأمان ذلك ما يجب أن يعيه أبناؤها ليعودوا إلى أحضانها الحانية ويقتطفوا من قطوفها الدانية .
2- يجب إصدار إدانة قوية للإرهاب الذي هو ظاهرة كما يقول مراد هوفمان :
تحكمها عوامل مختلفة منها المحليُّ والسياسي لكن الإسلام بريء من الإرهاب لا يقرّه ولا يدعو إليه فالعكس هو الصحيح ..
غاية الأمر أن تزن بين ذلك وبين استعداد الآخرين للعنف ظناً منهم أيضا بوجوب اليأس من المسيحية التي خيبت ظنهم وإلى هؤلاء ينتمي أتباع “جماعة التحرير الديني لجنوب أمريكا”. وحروب العصابات في مدن شمال إيرلندا وأعضاء “جناح الجيش الأحمر”الألماني والإرهابيون الفرنسيون في حزب”التعامل مباشرة : اكتسيون ديركت والإرهابيون الإيطاليون في الهيئات الحمراء : بريجاته روسّي ومع ذلك فإن ظاهرة وجود تيار داخلي إسلامي مستعد للعنف أمر معروف يجب أن نتخذ موقفاً منه”.
3- دعوة الغرب إلى كلمة سواء لمعالجة ظاهرة الإرهاب والفساد في الأرض إن العالم الإسلامي – وهو يدين الإرهاب بشدة وقوة- مدعو لتقديم مشروع متماسك ولإقناع الغربيين به حتى لا يكون ضحية المشروع الغربي وحتى يحد – على الأقل- من خسائر معركة لا تلوح في الأفق نهايتها .
1- يجب أن يحدد المشروع الإسلامي مفهوم الإرهاب فما هو الإرهاب الإجرامي؟ وما هو السلوك الإرهابي ؟ على ضوء ما ذكرنا .
فالدفاع المشروع في فلسطين يجب أن يعرف بأنه ليس إرهابا إجراميا في المشروع الإسلامي يجيز بل يلزم في أحيان كثيرة المسلم أن يدافع عن نفسه ودينه وأرضه وهذا هو الوضع في فلسطين الذي يجب التأكيد عليه.
كما أن الدعوة إلى الإسلام والتعليم الديني وممارسة الشعائر وغيرها من المظاهر الدينية لا يمكن أن توصف بأنها سلوك إرهابي .
2- وبالنسبة لتجفيف المنابع المالية فإن الهيئات الإسلامية الإغاثية و الأفراد الذين يبذلون جزء من أموالهم لهذه الهيئات أو يقدمونها مباشرة لمؤسسات تعليمية أو مساجد أو مراكز إسلامية أو للأيتام أو الفقراء في العالم كله لا يمكن أن تكون موضع مساءلة بناء على أنها تقوم بأداء وظيفة دينية ففريضة الزكاة في الإسلام تعتبر الركن الثالث بين الأركان الخمسة للإسلام والمسلمون يجب عليهم بنص القرآن الكريم أن يوزعوها على مصارفها .
3- وفى المقابل على المشروع الإسلامي أن يعرف أن الإرهاب ليس مرادفا للجهاد فالإرهاب يختلف عن الجهاد شكلا ومضمونا
الإسلام يدعو إلى السلام والتعايش وذلك مؤصل من القرآن والعالم الإسلامي مستعد لغرس ثقافة السلام .
فالجهاد في الإسلام هو حرب دفاعية يعلنها الأمام أي أنها حرب بين دول لرد عدوان كما هو نص القرآن الكريم ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ..) فلا يمكن لفرد ولا لجماعة أن تعلن حربا أو تقوم بعمليات من أعمال الحرب وليس الجهاد لإرغام الناس على اعتناق الدين الإسلامي كما يقول وبتفصيل ووضوح شيخ الإسلام ابن تيمية .
فعلاقة المسلم مع الآخر هي علاقة سلام كما يدل عليه كلام ابن تيمية حسب عبارة الشيخ أبو زهرة .
بل إن العلاقة علاقة بر ووفاء وقسط كما تدل عليه آية الممتحنة .
إنها معان غائمة في أذهان الغربيين قد أكدناها في روما في اجتماعنا مع القيادات الكنسية . ولعلها غائمة في أذهان بعض المسلمين.
يجب على العلماء والقادة أن يوصلوا إلي هولاء هذه الثقافة ثقافة التعايش وثـقافة المصالح والنظر إلى المئالات الذي يمثل أهم قاعدة في الفكر الاستراتيجي للإسلام.
فالإسلام دين العقل والحكمة فلا يدعو أتباعه لدخول حروب بلا هدف و لا مصلحة فالمسلم عليه دائما أن ينظر في هدف عمله وغايته .
وبخاصة أن هذه الحروب والضربات والتفجيرات في العالم الإسلامي إنما تمثل خدمة مجانية للمتربصين بالدول الإسلامية وتبرر مزيداً من التدخل الأجنبي والتحكم في حاضر الشعوب ومستقبلها ومصائرها وفرض الإملآت الأجنبية عليها.
وهكذا كانت الأوامر في العهد المكي رغم كل الاضطهاد أن لا يقوم المسلمون بأي عمل انتـقامي كما هو معروف في كتب السيرة حتى كانت لهم دولتهم بالمدينة فردوا العدوان ويقول ابن تيمية إن كل حروبه عليه الصلاة والسلام كانت رداً لاعتداء .
فلا قتل للقتل ولا قتل للانتقام ولا قتال ضد الأبرياء وضد من لم يقاتل ولهذا ضبطت هذه الأمور في الشرع بنظام ترعاه سلطة وبدون ذلك ستقوم حروب بدون حسابات وبدون أهداف وبدون تقدير لمصالح العباد والبلاد من الجهات المخولة شرعا وواقعيا بذلك.
إنها ثقافة تعايش نقدمها لأنفسنا وللآخر نلزم بها أنفسنا طوعا وامتثالا لديننا ونطلب من الغير أن يلتزم بها .
4- إن من حقنا أن نطلب من الغربيين الشفافية في قضية الاتهام الموجه إلى الأفراد أو الدول لأهمية البينة في الشريعة الإسلامية وفى كل الشرائع السماوية والنظم البشرية فالإنسان بريء حتى تثبت إدانته .
5- إن المشروع الإسلامي يجب أن يؤكد على قاعدة عدم أخذ البريء بالمجرم وهى القاعدة القرآنية التوراتية الإبراهمية بنص القرآن ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى و إبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى )
وهى قاعدة تعترف بها كل الشرائع والقوانين الدولية .
6- إن المشروع الإسلامي يؤكد على احترام القانون الدولي في سيادة الدول في حال ما إذا وجه الاتهام إلى أفراد أو جماعات ينتمون إلى دولة معينة أو يوجد تحت سيادتها فهذه الدولة هي وحدها التي من حقها أن تقوم بعمليات التحقيق والمحاكمة مع إبلاغ الجهة المتضررة بالنتائج التي تتوصل بشفافية ووضوح
ولهذا فإن معالجة موضوع الإرهاب تحت مظلة الأمم المتحدة ستكون له أهمية كبرى لحل العقد القانونية والأمنية والنفسية التي ستنشؤ من تنصيب دولة لنفسها مهما كانت قوتها للتدخل المباشر لما سيسبب من زعزعة الأمن وربما من تهيئة أجواء للإرهاب أكثر ملائمة .
7- أهمية معالجة المظالم في العالم حتى تجتث جذور الإرهاب وتهيأ الظروف لعالم أكثر سلاما وطمأنينة لأنه أكثر عدلا و إنصافا .
وبخاصة الظلم والجور الصارخ في فلسطين والحروب الدائرة في العراق وأفغانستان .
إن هذه النقاط السبع يمكن أن تكون أساسا لمشروع إسلامي كامل لمكافحة الإرهاب يقوم على الوضوح والعدل والشفافية .
ومن شأن هذا المشروع أن يجعل كل الأطراف تتصرف بطمأنينة وثقة متبادلة تقضى على الإرهاب الإجرامي وإرهاب الدولة أيضا.
ومن شأن إهمال هذه الموضوعات الحيوية وترك الأمور في داخل العالم الإسلامي وخارجه في مهب رياح أجواء الحروب وتوتراتها والاتهامات الغامضة ضد مجموعات تعيش في الظلام الدامس .
كل ذلك سينشأ وضعا أمنيا مزعزعا وحالة اجتماعية معكرة ووضعا من الكساد الاقتصادي.
من جهتنا تـثـقيف شبابنا الذين لم ينجرفوا في تيار وتـفقيههم في أمر دينهم وإيصال رسالة العقل والمصلحة إليهم وإبلاغ الآخرين حقيقة ديننا التى يجهلونها .
إن جهود العلماء يجب أن تتظافر في اتجاه الوسطية والاعتدال والانخراط في سلك المشروعية .
وفي الختام أحييكم إخواني هنا في هذا المؤتمر واسأله سبحانه وتعالى لنا ولكم التوفيق والسداد والتسديد والرشاد.
الوقف في ديار الغرب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه
قد طلب مني أن أكتب حول هذا الموضوع وهو موضوع له أهمية قصوى لأنه من أهم الوسائل للحفاظ على شخصية المسلمين في ديار الغرب والغربة وتوفير الظروف الملائمة لممارسة شعائرهم الدينية.
مقدمــة:
إن هذا البحث المختصر عن الأوقاف في الغرب يرمى إلى إبراز أهمية الوقف في ديار الغرب.
ولهذا سنتحدث عن الأقلية المسلمة وهي المستهدفة من هذا البحث وعن معوقات الوقف الإسلامي في الغرب وحلول تشتمل على ضرورة مساعدة المسلمين وأهمية التضامن فيما بينهم.
تعريف للوقف في الإسلام مع مقارنة سريعة بنظام المؤسسة الوقفية fondation في الغرب “فرنسا أنموذجاً” لتكييف الوقف في ديار الغرب.
ضرورة تأقلم الوقف مع المحيط الغربي.
أولاً: الأقلية المسلمة:
إن مصطلح الأقلية مصطلح حديث لم يكن معروفاً في الماضي وقد نشأ في القرن الماضي وتأكد في مطلع القرن الخامس عشر الهجري مع قيام الهيئات الإسلامية المهتمة بأوضاع الجاليات المسلمة والمجتمعات المسلمة في بلاد الغرب وفي مقدمة هذه الهيئات رابطة العالم الإسلامي وبعدها منظمة المؤتمر الإسلامي حيث استعملت كلمة الأقلية وهي ترجمة لكلمة minorite التي تعنى مجموعة بشرية ذات خصوصيات تقع ضمن مجموعة بشرية متجانسة أكثر منها عدداً وأندى منها صوتاً تملك السلطان أو معظمه.
وقد وقع جدل كثير حول تسمية “فقه الأقليات” وقد حسم المجلس الأوربي هذا الجدل في دورته المنعقدة بدبلن ايرلندا.
واستقر المجلس على صحة استعمال مصطلح (فقه الأقليات) حيث لا مشاحة في الاصطلاح، وقد درج العمل عليه في الخطاب المعاصر، إضافة إلى كون العرف الدولي يستعمل لفظ (الأقليات) كمصطلح سياسي يقصد به: “مجموعات أو فئات من رعايا دولة تنتمي من حيث العرق أو اللغة أو الدين إلى غير ما تنتمي إليه الأغلبية”.
كما استقر رأي المجلس على أن موضوع (فقه الأقليات) هو: الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام.
قد تكون خصوصيات الأقلية دينية أو نسبية “إثنيه” ولهذا فإن الأكثرية تنحو في الغالب إلى تجاهل حقوق هذه الأقلية إن لم تضايقها في وجودها المادي أو المعنوي لأنها تضيق ذرعاً بالقيم والمثل التي تمثلها تلك الأقلية وهذه أهم مشكلة تواجهها الأقليات في المواءمة بين التمسك بقيمها والتكيف والانسجام مع محيطها.
لقد شهد التاريخ مئاسي كثيرة للأقليات بسبب الخصومة بين الأقليات وبين الأكثرية ولسنا بصدد سرد تاريخي لمجازر للأقليات ما زال العالم يعيشها في نهاية القرن العشرين في كوسوفو والبوسنة والهرسك.
إلا أنه وفي العصر الحديث حصل تطور مهم في العالم حيث أصبح نظام حقوق الإنسان وسيلة لعيش الأقليات بين ظهراني الأكثرية وبخاصة في ديار الغرب التي تبنت حقوق الإنسان وكان في الأصل وسيلة للتعايش بين أتباع الكنيستين البروتستانية والكاثولوكية إلا أنه سمح مع الزمن بوجود أقليات أفريقية وآسيوية نشأت هذه الأقليات لأسباب شتى أهمها العلاقة الاستعمارية التي أدت إلى نزوح عمال المستعمرات إلى البلاد المستعمرة.
وفي فترة من التاريخ كانت الحضارة الإسلامية الوحيدة بين الحضارات البشرية التي تنظم حقوق الأقليات في ممارسة شعائرها والتحاكم إلى محاكمها.
وهكذا عاشت الأقلية القبطية في مصر 14قرناً محمية بحماية الإسلام كما هي حال الأقلية اليهودية في المغرب.
ولقد اهتمت كثير من المعاهدات الدولية بعد الحرب العالمية الأولى بحماية الأقليات كما كانت مسألة الأقليات من أهم المشكلات التي واجهت عصبة الأمم المتحدة.
أن أوضاع الأقلية المسلمة في ديار غير المسلمين يمكن أن توصف بأنها أوضاع ضرورة بالمعنى العام للضرورة الذي يشمل الحاجة والضرورة بالمعنى الخاص.
ولهذا احتاجت إلى فقه خاص ولا يعني ذلك أحداث فقه جديد خارج إطار الفقه الإسلامي ومرجعيته الكتاب والسنة وما ينبني عليهما من الأدلة كالإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والاستصحاب إلى آخر قائمة الأدلة التي اعتمدها الأئمة في أقوالهم وآرائهم العديدة والمتنوعة والتي تمثل ثراء وسعة فقضايا الأقليات قديمة بالجنس حديثة بالنوع.
وهكذا فإن تنامي الوجود الإسلامي يطرح تحديات ومهمات جديدة قد تشكل الأوقاف أداة للقيام بها والتعامل مع تعقيداتها إذا أنشأت أوقاف إسلامية في مجالات متنوعة ومتعددة بالإضافة إلى المساجد والتي يسمونها في الغرب بدور العبادة ومؤسسات التعليم التي لها أهمية كبرى وبخاصة على مستويات التعليم الابتدائي والثانوي حيث تتشكل شخصية الفرد العقدية والخلقية خاصة بالإضافة إلى مشكلة منع الحجاب بالنسبة للفتيات في هذه المرحلة في بعض الدول الأوربية.
بالإضافة إلى التعليم الجامعي والعالي كمعهد العلوم الإنسانية في باريس الذي يرتاده طلاب من أوربا وكذلك المراكز الثقافية التي من خلالها يتاح القيام بأنشطة ثقافية من شأنها أن تحافظ على المقومات الثقافية والفكرية للمسلمين وتتكامل وظيفتها مع المعاهد والمساجد وهناك بعض المجالات المهمة الأخرى التي لم تصلها عناية المسلمين وهي مراكز الدراسة والبحث فقد تكوّن المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء وله شعبة للبحث تصدر مجلة المجمع ونحن بحاجة إلى أوقاف في مجال البحث والفكر ودراسة المجتمعات والحوار… إلى آخره.
وكذلك تحتاج الأقليات إلى مؤسسات اقتصادية وثقافية فاعلة تجبر ضعفها وتقيم أودها وتحرس عقيدتها وتحافظ على أبنائها بتعليمهم أمر دينهم ولمساعدة المحتاجين والفقراء والمرضى منهم وبخاصة بعد أن تزايد أعداد المسلمين في الغرب ولم يعد وجودهم عابراً ولا عارضاً وإنما أصبح وجودهم يتصف بالديمومة والنمو حيث بلغ عددهم كما يراه بعض الباحثين يتجاوز ستين مليوناً في أمريكا وأوربا بين مسلمين أصليين في شرق أوربا ومسلمين جدد ووافدين وهناك مدن مرشحة لأن يكون عدد المسلمين أكثر من غيرهم من أهل الديانات الأخرى كمدينة ابريكسل البلجيكية عاصمة أوربا. وفي مدينة واحدة كمدينة باريس بلغ عدد المسلمين مليونين.
ثانيا:معوقات الوقف الإسلامي في الغرب
ويواجه الوقف في ديار الغرب جملة من المعوقات منها معوقات مادية :
المعوق الاول:
شح الموارد الذي كان من أسبابه الحملة الشرسة الموجهة ضد مؤسسات العمل الخيري مما جعل كثيراً من الخيرين يعزفون عن تقديم الأموال التي من شأنها أن تساعد في إنشاء أوقاف في الغرب وينصرفون إلى إنفاق ما ينفقون – إن أنفقوا- إلى بناء مساجد ودور أيتام في نطاق محيط جغرافي محدود جداً في الوقت الذي تقوم فيه المؤسسات التنصيرية بإنفاق الأموال بسخاء لترسيخ دعوتها في البلاد الإسلامية وفي إفريقيا وآسيا بلا حدود ولا نكير.
ولهذا فإن هذا الموضوع ينبغي أن يدرج على جدول الحوار مع الجهات الغربية وكذلك أن يلفت انتباه الجهات الرسمية إلى أهمية المعاملة بالمثل في مثل هذه القضايا.
فالمسلمون كالجسد الواحد فلا يجوز أن نخذل الأقليات المسلمة التي هي جزء من الأمة الإسلامية وجسر للتواصل الحضاري مع الغرب وحلقة حيوية في حلقات العلاقة مع الغرب.
المعوق الثاني:
يتمثل في وجود بعض الخلل في التضامن والتعاون بين الأفراد والجمعيات الإسلامية في بلاد الغرب الأمر الذي يشكل عقبة تحول دون القيام بمجهود جماعي لإنشاء مؤسسات وقفية متعددة الخدمات على مستوى التحدي.
ومع ذلك فلا ينكر وجود حد من التضامن – ولله الحمد- في أكثر من منطقة.
المعوق الثالث:
النقص في الكفاءة التنظيمية والإدارية للوصول إلى أكبر قدر من استغلال الموارد الإنسانية والمالية المتاحة أو التي يمكن أن تتاح.
المعوق الرابع: هو التلاؤم مع النظم والقوانين الغربية إذ أن الأقلية المسلمة تعيش ضمن مجتمع غير مسلم خاضع لسلطان قوانين وضعية غالباً تختلف في أحكامها عن أحكام الشريعة التي تحكم الوقف الإسلامي بناء على طبيعته الخاصة التي أملت أحكاماً قد لا تتفق بشيء من الاجتهاد والانتقاء من الأقوال مع الأنظمة الغربية.
حلـول:
لمواجهة هذه المعوقات يمكن أن نتصور بالنسبة للمعوق الأول: قيام جهات وقفية مهمة في العالم الإسلامي بتقديم دعم مادي كبير لمنظمات إسلامية معترف بها في بلاد المهجر لتنفيذ برنامج وقفي مسجل لدى الجهات الرسمية.
وأعترف أن هذا الحل يقتضي اتصالات مكثفة بين المنظمات الإسلامية المستفيدة والسلطات المختصة وبخاصة بعدما شرعت بعض الجهات في دول أوربية بتكوين مؤسسات تمويلية محلية لبناء دور العبادة والاعتناء بها في نطاق الحماية مما يسمى “بالأصولية الوافدة”.
وبالنسبة للمعوق الثاني: فإن مزيداً من التوعية في صفوف المسلمين لإقناعهم بإدماج هيئاتهم في بعضها البعض حيث تقوم في الوقت الحاضر مؤسسات ومساجد على أساس عرقي وجهوي وأحياناً مذهبي وبالتالي لتكوين أوقاف ضخمة لمواجهة الحاجات وهناك بشائر منها الوقف الإسلامي الأوربي وهو حديث وهناك وقفية في أمريكا وقد قامت على أكثر من مائة وثلاثين مسجداً ويمكن للمجلس الأوربي للبحوث والإفتاء وللإتحاد العالمي لعلماء المسلمين أن يقوما بدور طليعي في هذا المجال.
المعوق الثالث:
وهو المتعلق بالنقص في الكفاءة التنظيمية والإدارية للاستغلال الأمثل فيبدو لي أنه من الممكن التغلب عليه عن طريق تبادل الخبرات وتنظيم دورات للراغبين والتركيز على النماذج الناجحة لتكون قدوة ويمكن للأمانة العامة للأوقاف في دولة الكويت على دورات.
أما المعوق الرابع:
وهو فقهي قانوني فيجب لإيضاحه أن نبين طبيعة الوقف في الإسلام باختصار
تعريف الوقف :
الوقف وهو الحبس وهما لفظان مترادفان يعبِّر بهما الفقهاء عن مدلول واحد وإن كان الرصاع يرى أن الوقف أقوى في التحبيس. [ شرح الرصاع 2/539] .
ويُطلق على ما وقف فيقال هذا وقف فلان أي الذوات الموقوفة فيكون فعلاً بمعنى مفعول كنسج بمعنى منسوج ويطلق على المصدر وهو الإعطاء .
وحده ابن عرفة بأنه : إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً.
ورد ابن عرفة ما حدّه به ابن عبد السلام : بأنه إعطاء منافع على سبيل التأبيد مبطلا طرده بصورة المخدم.(مرجع سابق)
وحده في أقرب المسالك بأنه :جعل منفعة مملوك ولو بأجرة أو غلته لمستحق بصيغة مدة ما يراه المحبس )[ الشرح الصغير للدردير4 /97] .
وعند أبي حنيفة: حبس العين على حكم ملك الواقف والتصدق بالمنفعة. [حاشية ابن عابدين 3 /357] .
وقال ابن قدامة: ومعناه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة. [المغني 8 /184] .
وهو أقرب تعريف لنص الحديث الذي أخرجه النسائي في سننه من حديث ابن عمر بلفظه وهو قوله عليه الصلاة والسلام لعمر في المائة سهم التي أصابها في خيبر : “حبس أصلها وسبل ثمرتها”.وأخرجه الدار قطني والبيهقي وصححه الألباني في إرواء الغليل .
الوقف مؤسسة عظيمة تتجلى فيها حكمة هذه الشريعة الربانية الخالدة في ترسيخ أسس التعاون بين أفراد المجتمع ورعاية أهل الخصاصة والفاقة حتى قبل أن يوجدوا فهي في الدنيا رصيد للأجيال القادمة وللواقفين صدقة جارية يجرى عليهم أجرها ويدخر لهم ذخرها فيتلقون روحها في القبور ويوم الحشر والنشور .
ولهذا سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم “صد قة جارية” في الأعمال الثلاثة التي يبقى أجرها ولا ينقطع درها بالموت حيث جاء في الحديث الصحيح :” إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له “.أخرجه مسلم.
وفسرت الصدقة الجارية بالوقف وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى وغيره إن الوقف من خصائص هذه الأمة وأنه لم يكن معروفاً قبل الإسلام.
ومن خصائص الوقف ديمومة العين وصرف الريع في مصارف الخير التي حددها الواقف ولهذا الغرض أحيطت الأوقاف بأحكام كثيرة يمكن اعتبارها منظومة كاملة تمثل سياجاً حول الوقف لسد ذرائع التدخل فيه ضد أيدي الحكام والنظار عن التغيير فيه والتبديل بله التفويت والتبذير.
ولهذا كان الإبدال والاستبدال والمناقلة والمعاوضة وترميم الوقف من وفره وغلته وقسمته مهايأة أو بتة كل ذلك كان محل عناية من الفقهاء أدت أحياناً إلى خلاف قسم الفقهاء إلى ثلاث مدارس هنا تختلف أنظار العلماء وتتباين آراؤهم من محافظ على عين الموقوف إلى ما يشبه التوقيف والتعبد ، ومن متصرف في عين الوقف في إطار المحافظة على ديمومة الانتفاع وليس على دوام العين ، ومن متوسط مترجح بين الطرفين مائس مع رياح المصالح الراجحة في مرونة – صلبة إذا جاز الجمع بين الضدّين .
الفريق الأول:
يمكن أن نصنّف فيه المالكية والشافعية فلا يجيز الإبدال والمعاوضة إلاّ في أضيق الحدود في مواضع سنذكرها فيما بعد .
الفريق الثاني:
المتوسط يمثله الحنابلة وبعض فقهاء المالكية وبخاصة الأندلسيين.
الفريق الثالث:
الذي يدور مع المصالح الراجحة حيثما دارت وأينما سارت فيتشكل من بعض الأحناف كأبي يوسف ومتأخري الحنابلة كالشيخ تقي الدين بن تيمية وبعض متأخري المالكية .
ونحن هنا نتبنى هنا رأي مدرسة إعمال المصلحة في الوقف وتجيز المناقلة والمعاوضة وتتبنى التعريف المالكي للوقف الذي ذكرناه عن أقرب المسالك لأن الموقوف لا يشترط أن يكون عيناً باقية بل شيئاً مملوكاً حتى ولو كان منفعة مدة بقاء الإجارة وهو لا يمنع التوقيت في الوقف.
ومن أهم قضايا الوقف النظارة وبمراجعة أقوال علماء وبمراجعة أقوال علماء المذاهب الإسلامية فإن النظارة تدور على الواقف والناظر والقاضي والإمام “الحاكم المسلم” والموقوف عليهم وجماعة المسلمين.( يراجع كتابنا “إعمال المصلحة في الوقف” وبحثنا المقدم لهذا المنتدى حول النظارة)
والناظر يمكن أن يكون واحداً أو متعدداً كما نص عليه صاحب التوضيح الجامع بين المقنع والتنقيح في الفقه الحنبلي.
ولهذا فإن إدارة الجمعية تتمتع بالنظارة وكذلك مؤسسة الوقف التي ينضم إليها في النظام الفرنسي الجديد مفوض الحكومة.
ويستند في جواز الوقف على غير المسلمين كما ثبت عن أمنا صفية رضي الله عنها أوقفت على أخيها اليهودي.
كما يجوز الوقف على الكنائس قصداً للإنفاق على المار بها.( يراجع المغني لابن قدامة وغيره )
هذا في حال كان الوقف مؤسسة اجتماعية يستفيد منها المسلمون وغيرهم, وكذلك ما لو كان الوقف مؤسسة تعليمية تستقبل أطفال المسلمين وغيرهم لأن المصلحة هي المعيار الأهم.
أما في الحالة الغربية فهناك صور متعددة منها: أن تسجل جمعيةassociation للنفع العام لها الشخصية المعنوية القانونية وهذه الجمعية تدير أملاكها طبقاً لنظامها المؤسسي الذي قدمته في تصريحها ويمكن أن تجمع أموالاً من الجمهور كما يمكن أن تتلقى مساعدة من السلطات العمومية وتقبل الهدايا والوصايا.
وهناك المؤسسة الوقفية fondation وهي لا تختلف كثيراً عن نظام الجمعيات ذات النفع العام في مصادر تمويلها إلا أن هناك فرقاً مهما بالنسبة للقانون الفرنسي وهو أن العطايا المقدمة إلى المؤسسة الوقفية تخضع لترخيص إداري للسماح لها بتلقي التبرعات.
كما أن الاعتراف بالمؤسسة يكون بمرسوم من مجلس الدولة وهو أعلى هيئة قضائية في فرنسا.
وفي الختام:
لا بد من نظرة تأصيلية شمولية لواقع الأوقاف في الغرب وآفاق المستقبل لإيجاد الصيغ الملائمة التي تسمح برواج الأوقاف في المحيط الغربي مع المحافظة على أساسيات الوقف في الشريعة الإسلامية.
وأخيراً فإن مجالات الوقف الإسلامي في ديار الغرب عديدة وأهمها: المجال الدعوي والمجال التربوي والمجال الاجتماعي ومجال البحث العلمي كما شرحه بإسهاب الدكتور عبد المجيد النجار في بحثه:” مقاصد الوقف في الغرب”.
وقد يكون من المناسب إجراء كشف لحاجات المسلمين في هذه المجالات.
والله ولي التوفيق.
عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيـّه
جدة 23 ربيع الأول 1426هـ
معايير الوسطية في الفتوى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه
معايير الوسطية في الفتوى
الأستاذ/ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه
الوسطية هي الميزان والموازنة والتوازن بين الثبات والتغير بين الحركة والسكون هي التي تأخذ بالعزائم دون التجافي عن الرخص في مواطنها.
وهي التي تطبق الثوابت دون إهمال للمتغيرات.
تتعامل مع تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع
تقيم وزناً للزمان ولا تحكمه في كل الأحيان.
تفرق بين المتماثلات بين المتباينات.
إعمال للحاجات وللمصالح وعموم البلوى والغلبة وعسر الاحتراز.
ونعني بالوسطية هنا المقارنة بين الكليّ والجزئيّ والموازنة بين المقاصد والفروع والربط الواصب بين النصوص وبين معتبرات المصالح في الفتاوى والآراء فلا شطط ولا وكس.
وميدانياً فعن طريق الوسطية نريد تكوين جيل متجذر في تراثه متصالح مع زمانه يتعامل مع الآخرين بسماحة وأيضاً بشجاعة فلا نريد أن يكون شبابنا سباعاً عادية كما قال الشاعر:
ولكنما أهلي بــواد أنسيـــه سباع تبغي الناس مثنى وموحـداً
ولا نريدهم كذلك خرافاً وبقراً يمد أعناقه للجزار على حد قول الشاعر:
هزبر عدا في شرعة الرمح والعدا غدوا بقراً يستسهل النحر والذبحاً
نريدهم جيلاً منفتحاً سمحاً عزيزاً أبياً.
وللتدليل على مفهوم الوسطية في الفتوى نقتطف من الموافقات القطوف التالية: إذ يقول الشاطبي: المفتى البالغ ذِروة الدرجة هو الذي يَحمِلُ الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهبَ الشِّدَّة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال.
والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مر أن مقصد الشارع من المكلفِ الحملُ على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين.
وأيضاً: فإن هذا المذهب كان المفهومَ من شأن رسول الله r وأصحابه الأكرمين، وقد رد عليه الصلاة والسلام التبتل.
وقال لمعاذ لمَّا أطال بالناس في الصلاة :”أفتان أنت يا مُعاذ ؟”. وقال: “إن منكم مُنَفِّرين”.
وقال:”سَدِّدوا وقارِبوا واغدُوا ورُوحوا وشيءُ من الدُّلْجة والقصدَ القصدَ تَبلُغُوا.” وقال: “عَلَيْكُم مِنَ العَمَلِ مَا تُطِيقُونَ فإنَّ اللهَ لا يمَلُّ حتى تمَلُّوا”. وقال: “أَحَبُّ العَمَلِ إِلَى اللهِ مَا دَاومَ عَلَيْهِ صَاحِبُه وإِنْ قَلَّ”.
وأيضا: فإن الخروج إلى الأطراف خروج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق.أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضا.
لأن المستفتي إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين، وأدّى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة وهو مشاهد.
وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة.
و الشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، وإتباع الهوى مهلكة. والأدلة كثيرة”.
كيف نضع معايير للفتوى الوسطية من خلال أصول وقواعد محددة تحكم فتاوى المفتى وقراراته.
للإجابة على هذا السؤال بنينا بحثنا على أربع قواعد:
أولاً: قاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان:
كان لعمل أمير المؤمنين عمر نصيب كبير في تأصيل هذه القاعدة فمن ذلك أن عمر لم يعط المؤلفة قلوبهم مع وروده في القرآن ورأى أن عز الإسلام موجب لحرمانهم.
وكذلك إلغاؤه للنفي في حد الزاني البكر خوفاً من فتنة المحدود والتحاقه بدار الكفر لأن إيمان الناس يضعف مع الزمن.
وأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يأمر بالتقاط ضالة الإبل وبيعها وحفظ ثمنها لصاحبها كما رواه مالك رحمه الله تعالى عن ابن شهاب الزهري مع نهيه r عن التقاط ضالة الإبل وذلك لما رأى من فساد الأخلاق وخراب الذمم وورّث تماضر الأسدية لمّا طلقها عبد الرحمن في مرض موته.
وأمير المؤمنين علي رضي الله عنه يضمن الصناع بعد أن كانت يد الصانع أمانة قائلا: لا يصلح الناس إلا ذاك.
ويقول الأستاذ صبحي المحمصاني مسجلا موقف الصحابة في كتابه “تراث الخلفاء”: وقد أقروا مبدأ تغير الاجتهاد فتوسع عمر الفاروق بوجه خاص في الاجتهاد وفي تفسير النصوص بما يلائم حكمة التشريع وفلاح العباد ويناسب تطور الزمان والمكان وتقلبات الأحوال وتعرض في ذلك لمسائل عديدة منها المؤلفة قلوبهم والطلاق الثلاثي المتسرع وبيع أمهات الأولاد وعدم التغريب في الحدود وإعفاء السارق من القطع عام المجاعة وتطوير عقوبة التعزير تأديباً وزجراً للمذنبين والمجرمين وتحديد عاقلة الدية في القتل والجراح وتفصيل أمور ضريبة الخراج”.
وقد روي عن عمر بن عبد العزيز قوله: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.
وقد قال ابن رشد إن لله أحكاماً لم تكن أسبابها موجودة في الصدر الأول فإذا وجدت أسبابها ترتبت عليها أحكامها.
هذه القاعدة وردت في مجلة الأحكام العدلية بعنوان: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان”.
وهي قاعدة ليست على إطلاقها فليست كل الأحكام تتأثر بتغير الزمان فوجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج وبر الوالدين والكثير من أحكام المعاملات والأنكحة وكذلك فإن المنهيات القطعية كالاعتداء على النفس والأموال والأعراض وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن وأكل أموال الناس بالباطل ومنها الغش والخيانة ومحرمات عقود الأنكحة ومحرمات عقود البيوع المشتملة على الربا أو الغرر الفاحش أو الجهالة فكل تلك لا تستباح إلا بالضرورات التي تبيح المحظورات.
وبصفة عامة فمحرمات المقاصد التي تعنى أن العقد يشتمل على المفسدة التي نهى الشارع عنها لا تجيزها الحاجة.
وبالعكس من ذلك فإن محرمات الذرائع التي يتوصل بها إلى المفسدة وواجبات الوسائل التي يتوصل بها إلى مصلحة فإنها تتغير بتغير الزمان لأنها تدور مع المصالح جلباً والمفاسد درءاً فإذا رجحت مصلحة على المفسدة التي من أجلها كان الحظر فإن النهي يستحيل تارة إلى تخيير وتارة إلى طلب.
وقد أشار الشارع إلى ذلك في مسائل كان نهى عنها أو أمر بها فمن قبيل النهي: “كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها”.
وقد كان r نهى عن ادّخار لحوم الأضاحي ثم رفع النهي قائلا: إنما نهيتكم من أجل الدافة فكلوا وادخروا.
وإذا غلبت المشقة سقط الأمر :”لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك..
فالذي يتغير هو الأحكام الاجتهادية وأما القطعيات من الأحكام فلا تتغير فلا يمكن أن تتغير المواريث بدعوى أن المرأة أصبح لها شأن ولا يمكن أن يتغير تحريم ربا النسيئة في بلاد الإسلام ولا تحريم أكل الميتة والخنزير.
فأما الثابت فيبقى ثابتا ما دام الإنسان على هذه الأرض له ضروراته التي لا ينفك عنها يتصف بكل صفاته التي تحتاج إلى ضبط من الشرع فهو ضعيف أمام شهواته }وخلق الإنسان ضعيفا{ وهو ظلوم جهول لا يقدر مسئولية أمانته وخلافته في هذا الكون.
وكذلك فإن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان أمر معهود نص عليه غير واحد من العلماء كابن القيم والقرافي ولهم سلف من أعمال الصحابة رضوان الله عليهم كما أشرنا وفتاويهم وليس ذلك إلا لترجح مصلحة شرعية لم تكن راجحة في وقت من الأوقات أو لدرء مفسدة حادثة لم تكن قائمة في زمن من الأزمنة والزمن لا يتغير فهو كما قال الشاعر :
ومَا الدَّهْرُ إِلا لَيلَةُ ونَهَارُهَا وإلا طُلُوعُ الشَمسِ ثُمَ غِيارُهَا
والذي يتغير هو أحوال أهل الزمن والمصالح التي تبنى عليها الأحكام جلباً والمفاسد التي تراعيها الشريعة درءاً.
ومن رد المحتار: فقد اتفقت النقول عن أئمتنا أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن الاستئجار على الطاعات باطل لكن جاء من بعدهم من المجتهدين الذين هم أهل التخريج والترجيح فافتوا بصحته على التعليم للقرآن للضرورة فإنه كان للمعلمين عطايا من بيت المال وانقطعت فلو لم يصح الاستئجار وأخذ الأجرة لضاع القرآن وفيه ضياع الدين لاحتياج المعلمين إلى الاكتساب وأفتى من بعدهم أيضا من أمثالهم بصحته على الأذان والإمامة لأنهما من شعائر الدين فصححوا الاستئجار عليهما للضرورة أيضا فهذا ما أفتى به المتأخرون عن أبي حنيفة وأصحابه لعلمهم بأن أبا حنيفة وأصحابه لو كانوا في عصرهم لقالوا بذلك ورجعوا عن قولهم الأول.
وفي كتاب الفتاوى رسم المفتى في زماننا من أصحابنا إذا استفتى عن مسئلة إن كانت مروية عن أصحابنا في الروايات الظاهرة بلا خلاف بينهم فإنه يميل إليهم ويفتى بقولهم ولا يخالفهم برأيه وإن كان مجتهداً متقناً لأن الظاهر أن يكون الحق مع أصحابنا ولا يعدوهم واجتهاده لا يبلغ اجتهادهم ولا ينظر إلى قول من خالفهم ولا تقبل حجته أيضا لأنهم عرفوا الأدلة وميزوا بين ما صح وثبت وبين ضده ..إلخ.
ثم نقل نحوه عن شرح برهان الأئمة على أدب القضاء للخصاف. “قلت” لكن ربما عدلوا عما اتفق عليه أئمتنا لضرورة ونحوها كما مر في مسألة الاستئجار على تعليم القرآن ونحوه من الطاعات التي في ترك الاستئجار عليها ضياع الدين كما قررناه سابقا فيجوز الإفتاء بخلاف قولهم كما نذكره قريبا عن الحاوي القدسي وسيأتي بسطه أيضا آخر الشرح عند الكلام على العرف.
(والحاصل) أن ما خالف فيه الأصحاب أمامهم الأعظم لا يخرج عن مذهبه إذا رجحه المشايخ المعتبرون وكذا ما بناه المشايخ على العرف الحادث لتغيير الزمان أو للضرورة ونحو ذلك لا يخرج عن مذهبه لأن ما رجحوه لترجح دليله عندهم مأذون به من جهة الأمام وكذا ما بنوه على تغير الزمان والضرورة باعتبار أنه لو كان حياً لقال بما قالوه لأن ما قالوه إنما هو مبني على قواعده أيضا فهو مقتضى مذهبه.
وكذلك في المذهب الحنفي: الأصل أن المرأة إذا قبضت معجل صداقها تلزم بمتابعة زوجها حيث شاء.
ولكن المتأخرين من أهل المذهب لاحظوا فساد الأخلاق وغلبة الجور على النساء فأفتوا بأن المرأة لا تجبر على السفر مع زوجها إلى مكان إذا لم يكن وطناً لها وذلك لفساد الزمان والأخلاق وعلى هذا استقرت الفتوى والقضاء في المذهب”.
وقال في رسالته المسماة “رفع الغشاء في وقت العصر والعشاء” لا يرجح قول صاحبيه أو أحدهما على قوله إلا لموجب وهو أما ضعف دليل الإمام وأما للضرورة والتعامل كترجيح قولهما في المزارعة والمعاملة وأما لأن خلافهما له بسبب اختلاف العصر والزمان وأنه لو شاهد ما وقع في عصرهما لوافقهما كعدم القضاء بظاهر العدالة.
ومسألة خيار الرؤية في اشتراء الدار.
لكن مراجعة كتب الفتاوى كالهندية تبرز بوضوح تأثير المتأخرين في ترجيح كفة الفتاوى وما يفتى به في بلخ وخوارزم وغيرهما.
ويرى الشيخ أبو الحسن الندوي أن البعض يفترض أن الزمان لا ثبات له ولا دوام بل إنه اسم للتغيير والتحول.
وليس الأمر كذلك بل إن الزمان مركب من الاثنين التغيير والاستمرار وإذا أختل هذا التوازن أختل الوضع.
وضرب مثلاً بالنهر في جريانه الدائم مع أنه لا يزال نفس النهر.
والدين حارس الحياة ثابت في المنبع ومتغير في جريانه.
وليس الدين مقياس حرارة يقتصر عمله على تسجيل لدرجة حرارة المجتمع وإنما هو معدل لهذه الحرارة ومؤثر في سلوك المجتمعات للارتقاء إلى مراد الحق سبحانه.
ثانياً: قاعدة العرف:
قال ابن عابدين: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما بظاهر الرواية ويتركا العرف، والله أعلم.
وله أيضاً: ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد أنه لابد فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان لتغيّر عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً للزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد لبقاء العالم على أتم نظام وأحسن أحكام، ولهذا ترى مشايخ المذاهب خالفوا ما نصَّ عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمانهم لقال بما قالوا به أخذاً من قواعد مذهبه.
وقد عبّر العلماء عن ذلك تعبيراً قوياً فقال ابن القيّم في تغيّر الفتوى واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيّات والعوائد : هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالّة عليه وعلى صدق رسوله r.
قال القرافي في “الأحكام”:… إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغيّر تلك العوائد خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد، يتغيّر الحكم فيه عند تغيّر العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة وليس هذا تجديداً للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد”.(القرافي، الأحكام ص218).
وقال أيضاً في الفرق الثامن والعشرين بين قاعدة العرف القولي يقضى به على الألفاظ ويخصصها وبين قاعدة العرف الفعلي لا يقضى به على الألفاظ ولا يخصصها: وعلى هذا القانون تُراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجْره عليه وأفته به دون بلدك والمقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، وعلى هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحاً مستغنية عن النيّة.
قال ابن عابدين: (ثم أعلم)أن كثيراً من الأحكام التي نص عليها المجتهد صاحب المذهب بناء على ما كان في عرفه وزمانه قد تغيرت بتغير الأزمان بسبب فساد أهل الزمان أو عموم الضرورة كما قدمناه من إفتاء المتأخرين بجواز الاستئجار على تعليم القرآن وعدم الاكتفاء بظاهر العدالة مع أن ذلك مخالف لما نص عليه أبو حنيفة ومن ذلك تحقق الإكراه من غير السلطان مع مخالفته لقول الإمام بناء على ما كان في عصره إن غير السلطان لا يمكنه الإكراه ثم كثر الفساد فصار يتحقق الإكراه من غيره فقال محمد باعتباره، وأفتى به المتأخرون.
ومن ذلك تضمين الساعي مع مخالفته لقاعدة المذهب من أن الضمان على المباشر دون المتسبب ولكن أفتوا بضمانه زجراً لفساد الزمان بل أفتوا بقتله زمن الفتنة. ومنه تضمين الأجير المشترك. وقولهم إن الوصي ليس له المضاربة بمال اليتيم في زماننا. وإفتاؤهم بتضمين الغاصب عقار اليتيم والوقف. وعدم إجارته أكثر من سنة في الدور وأكثر من ثلاث سنين في الأراضي مع مخالفته لأصل المذهب من عدم الضمان وعدم التقدير بمدة، ومنعهم القاضي أن يقضى بعمله وإفتائهم بمنع الزوج من السفر بزوجته وإن أوفاها المعجل لفساد الزمان، وعدم سماع قوله أنه أستثنى بعد الحلف بطلاقها إلا ببينة مع أنه خلاف ظاهر الرواية.
وعللوه بفساد الزمان. وعدم تصديقها بعد الدخول بها بأنها لم تقبض ما أشترط لها تعجيله من المهر مع أنها منكرة للقبض وقاعدة المذهب أن القول للمنكر لكنها في العادة لا تسلم نفسها قبل قبضه. وكذا قالوا في قوله كل حل على حرام يقع به الطلاق للعرف قال مشايخ بلخ وقول محمد لا يقع إلا بالنية أجاب به على عرف ديارهم أما في عرف بلادنا فيريدون به تحريم المنكوحة فيحمل عليه، نقله العلامة قاسم ونقل عن مختارات النوازل أن عليه الفتوى لغلبة الاستعمال بالعرف ثم قال قلت: ومن الألفاظ المستعملة في هذا في مصرنا الطلاق يلزمني، الحرام يلزمني، وعلي الطلاق ،وعلي الحرام .هـ
ثالثاً:قاعدة النظر في المآلات:
ومما يصب في جداول المصلحة ويسير في دربها قاعدة النظر في المآلات في الأقوال والأفعال وقد نص الشاطبي على أن المفتى عليه أن ينظر في مآل فتواه.
وقد كان الإمام الشاطبي من أوفى من شرح هذا المدلول الاصطلاحي كما يقول الدكتور عبد المجيد النجار ونص الشاطبي: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدّى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعة ربما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوى أو تزيد فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد إلا أنه عذب المذاق محمود الغبّ جار على مقاصد الشريعة”.
وأصل ذلك قوله تعالى)ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم( وقوله r: لولا قومك حديثو عهدهم بكفر لأسست البيت على قواعد إبراهيم ” وقوله في تعليل انصرافه عن قتل المنافقين:دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه أخاف أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه”. البخاري.
وهكذا فإن الصحابة فهموا مقصد الشارع والمقاصد هي المعاني التي تعتبر حكما وغايات التشريع فتصرفوا طبقا لذلك فهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يترك تغريب الزانى البكر مع وروده في الحديث حيث قضى عليه الصلاة والسلام بجلده مائة وتغريب سنة وذلك لما شاهد من كون التغريب قد يؤدي إلى مفسدة أكبر وهى اللحاق بأرض العدو وقال لا أغرّب مسلماً.
وقال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: كفى بالنفي فتنة.
وأيضا فإن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لمّا تولى الملك أجّل تطبيق بعض أحكام الشريعة فلمّا استعجله ابنه في ذلك أجابه بقوله : أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعونه جملة ويكون من ذا فتنة”.
وقد فهم ذلك العلماء فرتبوا عليه أولويات الأمر والنهي فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية حينما مر بقوم من التتار يشربون الخمر فنهاهم صاحبه عن هذا المنكر فأنكر عليه ذلك قائلاً: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم”.
وقد قال الشاطبي أنه ينبغي على المجتهد: النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت وحال دون حال وشخص دون شخص إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزّان واحد، فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف”.
وسد ذرائع الحرج والمشقة وقد يسميه البعض بفتح الذرائع لأنه ترك لبعض فضائل الأعمال خوفاً من إعنات المكلفين كما ترك عليه الصلاة والسلام تأخير صلاة العشاء قائلا: هذا وقتها لولا أن أشق على أمتي”.
وصار الأفضل مفضولاً خوفاً من المشقة.
وكذلك ترك الأمر بالسواك عند كل صلاة وكذلك الجمع بين الصلاتين من غير عذر فقال ابن عباس: لئلا يحرج أمته.
وترك بناء البيت على قواعد إبراهيم لحدثان عهد القوم بالكفر فيفتنون.
وترك قتل أهل النفاق المشهود عليهم بالكفر لما في ذلك من تشويه صورة الدين وتنفير الناس منه.
وترك بعض الصحابة لذبح الأضحية يوم العيد وترك عثمان رضي الله عنه للقصر في الحج خوفا من أن يقول جهلة الناس: إن الصلاة أصبحت ركعتين.
وترْك عمر رضي الله عنه لإصدار بيان على الناس يشرح فيه قضية الشورى واختيار الحكام بناء على نصيحة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حتى لا يساء فهمه ويطير الناس إلى أقطارهم بتصورات خاطئة.
وعلى هذا ينبني كثير من قرارات المجلس الأوربي حيث يمنع أئمة المساجد من عقد النكاح قبل أن يعقد عقداً مدنياً أمام السلطة لأن من شأن تلك العقود وإن كانت مستوفية الشروط أن تؤل إلى خصومات وربما حرمان المرأة من حقوقها وحرمان الأولاد من نسبهم لعدم توثيق العقد وهذا من باب النظر في المآلات.
وقاعدة ارتكاب أخف الضررين وجلب المصالح ودرء المفاسد فكما يقول ابن تيمية: إن الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وعلى هذا تعطل أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما ويرتكب أخف الشرين والضررين لتفويت أقصاهما.
ويقول الشاطبي: وقد يرتكب النهي الحتم إذا كانت له مصلحة راجحة ومثل بمسألة تقرير الزاني وفيها النطق بالكلمة التي ينهى عنها في غير هذا المقام”.
وبناء عليه فقد وضع المالكية قاعدة جريان العمل وهي قاعدة من خلالها يرجح قول كان في الماضي مرجوحاً ليصبح القول الضعيف راجحاً فيترك مشهور المذهب وراجحه ويعمل بهذا القول لكنهم ضبطوا ذلك بضوابط :كان مخالفاً للمشهور وهذا ظاهر إذا تحقق استمرار تلك المصلحة وذلك السبب و إلا فالواجب الرجوع إلى المشهور هذا هو الظاهر”.
ومن المهم أن نعرف لماذا عدل العلماء عن المشهور والراجح إلى القول الضعيف؟
والجواب كما يقول السجلماسي في شرحه: إن أصل العمل بالشاذ وترك المشهور الاستناد لاختبارات شيوخ المذهب المتأخرين لبعض الروايات والأقوال لموجب ذلك كما بسطه ابن الناظم في شرح تحفة والده من الموجبات تبدل العرف أو عروض جلب المصلحة أو درء المفسدة فيرتبط العمل بالموجب وجوداً وعدماً ولأجل ذلك يختلف باختلاف البلدان ويتبدل في البلد الواحد بتبدل الأزمان”.
وشروط العمل بالضعيف ثلاثة: أن لا يكون القول المعمول به ضعيفاً جداً وأن تثبت نسبته إلى قائل يُقتدى به علماً وورعاً وأن تكون الضرورة محققة ومعناها الحاجة.
وهذا طريق لاحب للفقهاء لا يمترى فيه من عرف مقاصد الشريعة وذاق طعم حكمها ووزن الأحكام بميزانها الذي لا يحيف.
وقد يعتبر البعض أن هذا من باب التساهل في الفتوى المنهي عنه وليس الأمر كذلك فمعنى التساهل عند ابن الصلاح: هو أن لا يتثبت “الفقيه” ويُسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر، وربما يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة والإبطاء عجز ومنقصة وذلك جهل، ولأن يُبطئ ولا يخطئ أكمل به من أن يعجل فيضل ويُضل وقد يكون تساهله وانحلاله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحظورة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلباً للترخيص على من يروم نفعه أو التغليظ على من يريد ضره ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينه”.
وبهذا نقرر أن التسهيل غير التساهل فالتسهيل مطلوب ومرغوب لانبنائه على قاعدة التيسير أما التساهل فمبني على الهوى.
رابعاً: قاعدة تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع:
يقول الشاطبي: ويختص غير المنحتم بوجه آخر، وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص؛ إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزن واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك؛ فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر، ورب عمل يكون حظ النفس والشيطان فيه بالنسبة إلى العامل أقوى منه في عمل آخر، ويكون بريئاً من ذلك في بعض الأعمال دون بعض؛ فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نوراً يعرف به النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها، وقوة تحمُّلها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها؛ فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف؛ فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق، لكن مما ثبت عمومه في التحقيق الأول العام، ويقيد به ما ثبت إطلاقه في الأول، أو يضم قيداً أو قيوداً لما ثبت له في الأول بعض القيود.
هذا معنى تحقيق المناط هنا.
وفي “أحكام إسماعيل بن إسحاق”عن ابن سيرين؛ قال: كان أبو بكر يُخافِت، وكان عمرُ يَجهر -يعني في الصلاة- فقيل لأبي بكر: كيف تفعل؟ قال: أناجي ربِّي وأتضرع إليه، وقيل لعمر: كيف تفعل؟ قال: أوقِظُ الوَسْنانَ، وأخسأ الشَّيطان، وأُرضي الرحمن. فقيل لأبي بكر: ارفعْ شيئاً، وقيل لعمر: اخْفِض شيئاً”.
وفسر بأنه عليه الصلاة والسلام قصد إخراج كل واحد منهما عن اختياره وإن كان قصده صحيحاً.
وفي “الصحيح”: أن ناساً جاؤوا إلى النبيr فقالوا: إنا نجدُ في أنفسنا ما يتعاظم أحدُنا أن يتكلَّمَ به. قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريحُ الإيمان”.
وفي حديث آخر: “مَن وَجَدَ من ذلك شيئاً، فلْيَقُلْ: آمنتُ بالله”.
وقال عليُّ: حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يكذَّبَ اللهُ ورسوله؟” فجعل إلقاء العلم مقيداً؛ فَرُبَّ مسألةٍ تصلُح لقوم دون قوم، وقد قالوا في الرَّباني: إنه الذي يُعلِّمُ بصغارِ العلم قبل كِباره فهذا الترتيب من ذلك.
وتحقيقُ المناط في الأنواع واتفاقُ الناس عليه في الجملة مما يشهد له كما تقدم، وقد فرَّع العلماء عليه؛ كما قالوا في قوله تعالى ﴿إنما جزاء الذي يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا﴾ الآية
إن الآية تقتضي مطلق التخيير، ثم رأوا أنه مقيَّدُ بالاجتهاد؛ فالقتل في موضع، والصلب في موضع، والقطع في موضع، والنفي في موضع، وكذلك التخيير في الأساري من المَنِّ والفداء.
وكذلك جاء في الشَّريعة الأمرُ بالنِّكاحِ وعدُّوه من السُّنن، ولكن قسَّموه إلى الأحكام الخمسة، ونظروا في ذلك في حق كل مكلف وإن كان نظراً نوعياً فإنه لا يتم إلا بالنظر الشخصي فالجميع في معنى واحد، والاستدلال على الجميع واحد، ولكن قد يُستبعدُ ببادىء الرأي وبالنظر الأول؛ حتى يتبيَّن مغزاه ومورده من الشَّريعة، وما تقدم وأمثاله كافٍ مفيدُ للقطع بصحة هذا الاجتهاد، وإنما وقع التنبيه عليه لأن العلماء قلما نبهوا عليه على الخصوص”.
قلت: هذا هو تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع وهو من دقائق علم الفتوى.
وأخيراً:
فإن الوسطية هي موقف بين موقفين في فهم النصوص والتعامل معها وهي اتجاه بين اتجاهين بين ظاهرية مفرطة وباطنية مفرطة يتلخص كلام الشاطبي فيه فيما يلي: أولاً: الاتجاه الظاهري الذي لا يهتم بالمعاني وإنما يقتصر على ظواهر النصوص وهم يحصرون مظان العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص.
والاتجاه الثاني: يرى أن مقصد الشارع ليس في الظواهر ويطرد هذا في جميع الشريعة لا يبقى في ظاهر متمسك وهؤلاء هم الباطنة وألحق بهؤلاء من يغرق في طلب المعنى بحيث لو خالفت النصوص المعنى النظري كانت مطرحة.
والذي ارتضاه هو الاتجاه الثالث الذي شرحه بقوله:
والثالث: أن يقال باعتبار الأمرين جميعاً، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص، ولا بالعكس؛ لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض، وهو الذي أمّه أكثر العلماء الراسخين؛ فعليه الاعتماد في الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع.
وهي موقف وسط في التعامل مع المقاصد والنصوص الجزئية فقد تباينت آراء الباحثين حول المقاصد من مبالغ في اعتبارها متجاوز لحدود عمومها حيث جعله قطعياً وجعل شمولها مطرداً غافلاً أو متجاهلاً ما يعترى العموم من التخصيص وما لاينبري للشمول من معوقات التنصيص.
فألغوا أحكام الجزئيات التي لها معان تخصها بدعوى انضوائها تحت مقصد شامل.
ومن مجانب للمقاصد متعلقاً بالنصوص الجزئية إلى غاية تلغى المقاصد والمعاني والحكم التي تعترض النص الجزئي وتحد من مدى تطبيقه وتشير إلى ظرفيته فهي كالمقيد له والمخصص لمدى اعتباره إلى حد المناداة بإبطال المصالح.
والمنهج الصحيح وسط بين هذا وذاك يعطى الكلي نصيبه ويضع الجزئي في نصابه، وقد انتبه لهذه المزالق الشاطبي رحمه الله تعالى حيث حذر من تغييب الجزئي عند مراعاة الكلي ومن الإعراض عن الكلي في التعامل مع الجزئي.
وختاماً ففي هذا البحث السريع قدمنا أسساً للوسطية في الفتوى التي تراعي المصالح والمآلات في الأقوال والأفعال والتوازن بين الكلي والجزئي ولعلي هنا أسوق أبياتاً نظمتها للمجلس الأوربي للإفتاء في دبلن أحدد فيها الجدلية بين الجزئيات والكليات في فتاوى فقه الأقليات وهي:
عُقُودُ المُسلِمينَ بـدَارِ غَــربٍ تَجَاذَبَـها المَقَاصِـدُ والفُـرُوعُ
ومِيزَانُ الفَقِيـه يَجُـورُ طَـوراً إلى طَـرَفِ فَيـفْرِطُ أو يُضِيـعُ
فَفِي الجُزْئِيِّ ضِيـقُ وانْحِصَـارُ وفـي الكُلـِيِّ مُنْفَسَـحُ وَسِيـعُ
ونُورُ الحَـقِ مَصْلَـحَةُ تـُوازَى بِجُزئيِّ النُصُوصِ لَـه سُطُـوعُ
مَـآلاتُ الأُمـُورِ لَـهَا اعتِبَـارُ وحَاجِيُّ الضـَرُورةِ قَـدْ يُطِيـعُ
فَـزِنْ هـذَا بـذَاكَ وذَا بِهــذَا يَكُنْ في القَيسِ مَنْهَجـُك البَدِيـعُ
فِإنْ لَـمْ تَسْتَطِـعْ أمـراً فَدَعْـهُ وجَـاوزهُ إلـى مَـا تَسْتَطِيـعُ
وختاماً: فالوسطية ناموس الأكوان وقانون الأحكام تتعامل مع الوقائع من خلال النصوص والواقع مما سمّاه بعض العلماء فقه الموازنات وهو في حقيقته توازن بين الثوابت والمتغيرات.
والله ولي التوفيق.
عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيـّــه
وزير العدل والتوجيه الوطني بموريتانيا سابقا
من ضوابط الإعجاز العلمي
معالي الشيخ عبد الله بن محفوظ بن بيه
وزير العدل الموريتاني ـ سابقا ـ
أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز ـ جدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من لا برهان له على رب سواه: (ومن يدع مع الله إلهاً ءاخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه)، وشهادة من قامت أمامه وفي نفسه البراهين على ألوهيته خلقاً بديعاً متضامناً مجاله الكون وشواهده السمع والبصر والإدراك وعلامات وآيات مع رسله يدركها الشهود والعقل والوجدان. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم الأنبياء صاحب معراج السماء الدال على البارئ. جل وعلا، بحاله ومقاله.
وأشهد أنك يا رب إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف وعورة وخطيئة وضلال مبين. إياك نعبد بمنِّك وإياك نستعين بفضلك؛ لتحقق هذه الشهادة المباركة في عالم العقل والوجدان والحس. فحققنا بها وثبتنا عليها حتى نلقاك بها، وندعوك بلسان الضراعة الذي لا يعبر عنه إلا ضعفنا وعجزنا وقدرتك وإحاطتك بكل شيء أن تحققنا بمقتضيات لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيماناً وإحساناً واستسلاماً لأمرك ونهيك ومقاماً على سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
أما بعد،
فإن الإعجاز العلمي اصطلاح حديث قصد به ما تكشفه العلوم الحديثة من حقائق في هذا العصر بالذات لم يكن في مقدور البشرية من قبل أن تصل إليها، وتأتي هذه الحقائق مطابقة لخبر وارد في القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة.
أيها الأخوة:
سنتذاكر اليوم حول آيات ربنا المكتوبة وآياته المبثوثة في هذا الكون المدركة للإنسان بالحواس أو العقل أو عن طريق الاثنين معاً. عن طريق العلم.
لا يخفى على كريم علمكم أن هذا الدين المبارك الذي ختم البارئ. جل وعلى. به الديانات واجه كثيراً من التحديات فتغلب على صعابها وبين باطلها من صوابها. واجه هذا الدين تحدي إبادة أهله واستئصال شأفتهم وهو ناشئ عن تحدي الاستفزاز من الأرض قال تعالى: (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلاً ) الإسراء 76
نعم كان ذلك في مكة، لم يلبث خلافه الذين استفزوه من أرض مكة إلا خمسة عشر شهراً خرجوا بعدها في أثره فهلكوا ببدر، يقول في التحرير والتنوير: (وفي الآية إيماء إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم. سيخرج من مكة وأن مخرجيه أي المتسببين في خروجه لا يلبثون بعده بمكة إلا قليلاُ)
لكن محاولة محو هذا الدين من الأرض كانت تراود نفوس أعدائه إلا أن الله سبحانه وتعالى قيّض لهذا الدين أتباعاً أمدّهم بعونه وقوته حتى هيأوا في أقل من قرن حيزاً جغرافياً من جدار الصين إلى جبال البرني يكفل وإلى الأبد بقاء هذا الدين .
التحدي الثاني: كان تحدي الديانات السماوية وغير السماوية فجادلها هذا الدين بالحسنى وبالحجة البالغة والبرهان الساطع توحيداً لا شرك فيه، وتشريعاً لا حيف فيه ومساواة كاملة بين أبنائه فانحسر التثليث أمام دليل الوحدانية، وكذب الأحبار أمام نور النبوة وعدالة الوحي. بعد أن أسلم منهم من هداه الله تعالى في عصر النبوة وما بعده ظلت أجيال منهم تصارع بالسلاح تارة وباللسان أخرى فانتدب للرد عليهم علماء وأعلام من أمثال ابن حزم وابن تيمية والشهرستاني.
التحدي الثالث: الفلسفات وبخاصة اليونانية التي سبق أن أفسدت النصرانية بثنائيتها وإلحادها فواجهها علماء هذا الدين بالعقل المؤيد بالوحي فكشفوا زيفها ونقضوا كيفها فبرز علماء أيضاً كأبي حامد الغزالي وابن تيمية وابن رشد على اختلاف فيما بينهم إلا أنهم جميعاً استضاءوا بنور الوحي فوقفوا سداً منيعاً دون الأخطاء القاتلة للفلسفة وأدمجوا عناصرها الإيجابية وأخذوا وأعطوا، ولذا فإن الفلاسفة المتنورين في الغرب قد أفادوا من فلاسفة الإسلام وظهر دين الحق على كل من ناوأه بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان على حد عبارة أبي بكر بن العربي الأندلسي.
وفي هذا القرن المنصرم واجهت الديانات وبخاصة الإسلام. وما زالت تحدي العلم الذي أصبح معبود الأجيال الصاعدة التي شكت في العقل مرة أخرى واطّرحت الأخلاق وانتبذت منها مكاناً قصياً فكيف تعود إلى عقلها وتعاود الأخلاق الفاضلة التي هي صمام أمان إنسانية الإنسان الذي لا نشك في أنه إذا تجرد من إنسانيته مع ما لديه من سلاح علم وتكنولوجيا سيصبح حيواناً خطراً يقضي على نفسه.
لقد كانت آيات الله تعالى بالمرصاد لكل تحدٍ بمختلف أوجهها ومجالاتها في التشريع والتوجيه والأخلاق لكن الآيات خرجت من عباءة العلم شواهد نطق بها العلم أنطقه الله تعالى الذي أنطق كل شيء بتصديق الوحي والشهادة له فانقلب السحر على الساحر.
وهكذا تضاعف غم الذين كانوا يعولون على العلم كأداة هدم لا تقهر لقلعة الدين عندما شاهدوه يتحول إلى قلعة من قلاع الدين لا تغلب حينما اكتشف العلم نفسه في نصوص الكتاب والسنة.
وتتابعت اعترافات بعض قمم العلم في هذا العصر بأن النصوص الدينية الإسلامية ليست كغيرها من النصوص الدينية التي تدخل فيها يد الإنسان بالتحريف والتبديل فعارضت العلم واعترض عليها لكنه لم يستطع أن يفند أي حرف من القرآن الكريم كما يجزم به الطبيب الفرنسي موريس بوكاي بعبارة قريبة من هذا، بينما أظهر في كتابه تعارض العلم والكتب السماوية الأخرى. ونعتقد أن ذلك نتيجة التحريف والتبديل لأن القرآن وحده وحي الله المحفوظ الشاهد لنفسه والبرهان على صدق رسوله الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. العلم يقوم اليوم شاهداً بالمعجزة وعلامة على صدق الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وسنحاول أن نقول كلمة عن تأصيل الإعجاز العلمي وقبل ذلك ينبغي أن نتحدث عن الألفاظ والمصطلحات ذات العلاقة بالإعجاز: المعجزة، والدليل، والعلامة، والآية.
فالمعجزة مشتقة من العجز وهو عجز الخصم أمام البرهان ليقر بالقضية الدعوى ( وسميت معجزة لعجز من يقع عندهم ذلك على معارضتها ) تلك عبارة ابن حجر.
وقد عرّفها بعضهم بأنها: ( أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي سالم من المعارضة )
أما الدليل: فقد استعمل جمعه دلائل وهو جمع على غير قياس كرهين ورصيد، وقد استعمله البعض كأبي نعيم والبيهقي في دلائل النبوة.
أما الآية: فهو اللفظ القرآني وهو يرادف العلامة لغة واستعمالاً لأنه علامة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعواه قال تعالى عن سيدنا موسى. صلى الله عليه وسلم. ( في تسع ءاياتٍ إلى فرعون وقومه ). ( فلما جاءتهم ءاياتنا مبصرة ) وقال تعالى عن البيت الحرام: ( فيه ءايات بينات مقام إبراهيم ) وهي علامات تدل على اصطفاء هذا المكان للعبادة مقام إبراهيم وبئر زمزم الذي لا يزال ماؤه جارياً. ووصف القرآن الكريم بأنه آيات: ( الر* تلك ءايات الكتاب وقرءان مبين )
أما العلامة فقد أطلقها بعضهم كالإمام البخاري في صحيحه: ( باب علامات النبوة في الإسلام ) ( الفتح، ج6، ص 580 ) وعلق عليه الحافظ ابن حجر بأن العلامة أعم من المعجزة والكرامة ص 581. وقد بين فيما بعد العلامات: منها ( ما وقع التحدي به ومنها ما وقع دالا على صدقه من غير سبق تحدٍ ) ص 582 فيفهم من هذا أن العلامة أعم إذ كل معجزة علامة وليس كل علامة معجزة.
).
جعل ابن خلدون المعجزة مركبة من الخارق والتحدي إذ يقول في مقدمة تاريخ العبر: ( ومن علاماتهم ( الأنبياء ) أيضاً وقوع الخوارق لهم شاهدة بصدقهم وهي أفعال يعجز البشر عن مثله فسميت بذلك معجزة وليست من جنس مقدور العباد وإنما تقع في غير محل قدرتهم .. إلى أن يقول: فالمعجزة دالة بمجموع الخارق والتحدي وبذلك كان التحدي جزءاً منها ).
ووصف الله تعالى إتيان النبي الأمي – عليه صلوات الله وسلامه – بالقرآن بأنه آية ( وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون * بل هو ءايات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ).
ووصف اعتراف أهل الكتاب بالقرآن الكريم بناء على م وجدوه في كتبهم من وصفه بكونه آية ( أولم يكن لهم ءايةً أن تعلمه علماؤا بني إسراءيل * ولو نزلناه على بعض الأعجمين * فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنون ) الشعراء 197-199.
وهكذا فإن القرآن آيات بينات والقرآن الكريم هو معجزة النبي –عليه الصلاة والسلام – الكبرى الباقية ما بقي الزمان شاهداً لأهل كل زمان يشهدون منها ما يدفعهم إلى الإيمان حسب ما سبق في علمه –جل وعلى- من هدايتهم على حد قوله –صلى الله عليه وسلم -: ( ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم .
وكان الحديث يشير إلى الديمومة الزمنية للوحي التي تستقطب الأتباع وهي التي تميز القرآن الكريم عن سائر معجزات الأنبياء، وكذلك عن معجزاته –صلى الله عليه وسلم – الكثيرة الأخرى، إذ إن تلك المعجزات ثابتة بالمشاهدة لمن شهد وقوع الحدث في عصر النبوة وبالسماع فقط لمن سواهم، فطريق معرفتنا لشق الصدر لسيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وشق القمر له هو الخبر الوارد في الكتاب أو السنة فهي معجزات انقضت مشاهدتها بلحظة وقوعها، قال البوصيري: ( فشق من صدره وشق له البدر ومن شرط كل شرط جزء).
أما القرآن الكريم فإنه يحمل شهادة الله – جل وعلى – التي لا تغيب، وبيانه الذي لا يستعجم لكل الأقوام، فهو بلاغ للناس ( هذا بلاغ للناس) أي كل الناس في كل زمان يبلغ إليه هذا الكتاب ( وأوحي إلى هذا القرءان لأنذركم به ومن بلغ ) فكان القرآن رسالة وشهيداً، مقدمة ونتيجة، ودعوى وبرهاناً تكفل البارئ بحفظه برهاناً على صدقه، فالدلائل والعلامات والآيات والمعجزات ألفاظ متقاربة توصف بها الخصائص المميزة لشجرة النبوة التي لا تشبهها شجرات البشرية .
لقد شبه الناظرون وهم يشاهدون تلك الدوحة الناضرة السامقة الأثيثة الفروع، الجنية الثمار، الدانية القطوف، فطفقوا يصفون سناها وسناءها ونورها ونورها كل على قدر علمه وجده وحظه رأى من جوانب هذه الشجرة ؛ فآمن بعضهم بمجرد مشهد شخص صاحب النبوة فكفاه المظهر عن المخبر، ففي حديث عبد الله بن سلام: (لما رأيت وجه النبي – صلى الله عليه وسلم – قلت: ما هذا بوجه كذاب، فأسلمت) وفي حديث الربيع بنت معوذ-رضي الله عنهما: (إذا رأيته قلت الشمس طالعة) ومنهم من جاوز المنظر إلى التأمل كحديث سلمان -رضي الله عنه – وبعضهم طالب صاحب النبوة –عليه الصلاة والسلام- بالمعجزات المادية كطلب قريش بانشقاق القمر فانشق نصفين ظهر بينهما جبل حراء كما ورد في الصحيح، ومنهم من طالب بإحياء حيوان ميت ليشهد له كصاحب سليم في حديث صاحب الضب فأحياه الله على يديه فشهد شهادة الحق .
ومن هذا القبيل شهادة الأشجار والأحجار وحنين الجذع بمحضر الملأ من الصحابة، وتكثير القليل من الطعام والماء كما ورد في أحاديث بلغت حد التواتر، ومنهم من رأى المعجزة في الإخبار عن الغيوب في زمانه وبعده، وهي أنباء تترى لا تبليها الأيام ولا يكذبها الزمان ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .
ومن أهل الكتاب من آمن بسبب البشارات السابقة في الرسالات القديمة إذ لم يخل كتاب من وصفه بالإشارة أو بصريح حتى إن كتب الهندوس والبوذيين تنص على اسمه الكريم .
ومنهم من رأى المعجزة فيما أخبر عنه من تزكية النفوس التي يصل إليها المرء بالذوق عندما يستجيب لله والرسول – صلى الله عليه وسلم – ومن هؤلاء أبو حامد الغزالي بعد أن تحدث عن معرفة النبي – صلى الله عليه وسلم -. بالمشاهدة والتواتر والتسامع، قائلاً: (فإنك إذا عرفت الطلب والفقه يمكنك أن تعرف الفقهاء والأطباء بمشاهدة أحوالهم وسماع أقوالهم وإن لم تشاهدهم .. ) فكذلك إذا فهمت معنى النبوة فأكثرت النظر في القرآن والأخبار يحصل لك العلم الضروري بكونه – صلى الله عليه وسلم – على أعلى درجات النبوة، وأعضد ذلك بتجربة ما قاله في العبادات وتأثيرها في تصفية القلوب وكيف صدق رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، في قوله: ( من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم) إلى غير ذلك من الآيات البينات والمعجزات. إلا أنه لا يختلف في أن معجزته الباقية وآيته الخالدة هي هذا الكتاب العزيز والذكر الحكيم والقرآن المجيد فهو المعجزة التي تخاطب أجيال البشرية المتعاقبة لتهديها إلى البارئ – جل وعلى – وإلى سبيل النجاة والخلود في دار المقامة والكرامة ولتعريف الإنسان على حكمة خلقه .
وانطلاقاً من ذلك فإن كل جيل سيجد في كتاب الله من البينات ما يقيم عليه الحجة (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة) ومعنى ذلك أن باب التفسير سيظل مفتوحاً أمام الأجيال في نطاق احترام ثوابت التفسير وهي :
1- المأثور عن النبي –صلى الله عليه وسلم.
2- المأثور عن أصحابه – عليهم رضوان الله.
3- مقتضيات اللغة العربية. التي سنشير إليها فيما بعد.
فإذا احترمت هذه الثوابت فلا حرج – إن شاء الله – على المفسر ولعله لا يدخل تحت طائلة الوعيد في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي عنه – عليه الصلاة والسلام: ( من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ) .
وقول الصديق – رضي الله عنه – وقد سئل عن الأب فقال: (أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأي ؟)
فكل الأدلة تشير إلى أن شخصاً قد يفتح له بفهم في كتاب الله لم يكن معروفاً لغيره وهذا ما يشير إليه دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – لابن عباس: ( اللهم فقه في الدين وعلمه التأويل )، واتفق العلماء على أنه تأويل القرآن، وقول أمير المؤمنين علي – رضي الله عنه وأرضاه – لما قال له أبو حنيفة: هل عندكم شيء من الوحي ليس في كتاب الله ؟ فقال: ( لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لا أعلمه إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن ).
فهذا الفهم هو الذي نعتمد عليه في تعاملنا مع القرآن بالعلوم، وقد قال الفخر الرازي: ( إن المتقدمين إذا ذكروا وجهاً في تفسير الآية فذلك لا يمنع المتأخرين من استنباط وجه آخر في تفسيرها ) هذا في التفسير بما لم يؤثر عن السلف بصفة خاصة، أما فيما يتعلق بالتفسير العلمي فقد اختلفت أنظار العلماء، ولعل أقرب ذلك إلى الصواب وأولاه بالإتباع ما قاله في التحرير والتنوير حيث يقول ابن عاشور: ( .. وإن بعض مسائل العلوم قد تكون أشد تعلقاً بتفسير أي قرآن ….. وكذا قوله تعالى: ( أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج ) فإن القصد منه الاعتبار بالحالة المشاهدة فلو زاد المفسر ففصل تلك الحالة وبين أسرارها وعللها بما هو مبين علم الهيئة كان قد زاد للمقصد خدمة.
وأما على وجه التوفيق بين المعنى القرآني وبين المسائل الصحيحة من العلم حيث يمكن الجمع، وأما على وجه الاسترواح من الآية كما يؤخذ من قوله تعالى: ( ويوم نسير الجبال ) أن فناء الأرض بالزلازل، ومن قوله تعالى: ( إذا الشمس كورت ) .. الآية أن نظام الجاذبية يختل عند فناء العالم ) واستطرد ابن عاشور حيث نقل عن ابن رشد الحفيد في فصل المقال قوله: ( أجمع المسلمون على أن ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشارع كلها على ظاهرها ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل، والسبب في ورود الشرع بظاهر وباطن هو اختلاف نظر الناس وتباين قرائحهم في التصديق.
هذا عن التفسير العلمي، وإنما مرادنا هو نوع خاص منه هو التقاء الحقيقة القرآنية وهو ما أشار إليه ابن عاشور في الفقرة الثانية من الكلام المذكور آنفاً من التوفيق بين المعنى القرآني وبين المسائل الصحيحة من العلم أما الإعجاز العلمي: فهو إعجاز خبري بدون شك ولكن وسيلة كشفه هي العلوم المعاصرة ومعنى ذلك أن مستقر النبأ يجئ عن طريق العلوم العصرية ( لكل نبأٍ مستقر ) مستقره يوم اكتشافه وهو أمر لا ينافي نصوص الشريعة ولا مقاصدها.
والإعجاز العلمي مركب من لفظين أولهما: الإعجاز وهو السبق والفوت، وهو أيضاً جعل الآخر عاجزاً، وثانيهما: العلم وهو كما يقول الأصفهاني: ( إدراك الشيء على حقيقته وذلك ضربان، أحدهما: إدراك ذات الشيء والثاني: الحكم على الشيء بوجود شيء هو موجود به، أو نفي شيء هو منفي عنه ). والعلم هنا المراد به ما كشفته العلوم التجريبية من حقائق كونية بحقائق مقررة في القرآن الكريم أو السنة النبوية، ووجه الإعجاز يتركب من ثلاثة عناصر:
عنصر الزمان، والرسول الأمي – صلى الله عليه وسلم – والكشف العلمي المتأخر، وذلك أنه يستحيل عادة في ذلك الزمان أي زمان الوحي إدراك هذه الحقيقة بالوسائل البشرية المتاحة، ويستحيل في كل زمان أن يدركها رجل أمي – صلى الله عليه وسلم – لم يتعاط وسائل العلوم ومقدماتها الضرورية في كل زمان للوصول إلى نتائج معينة. أما العنصر الثالث فهو الاكتشاف المتأخر لهذه الحقيقة.
ولكن يجب أن يضبط ذلك بضوابط من شأنها أن تحدد الإطار الشرعي للتعامل مع هذا الموضوع حتى لا تتفرق السبل ويتنكب عن الجادة ويصبح موضوع الإعجاز فوضى لا توصف بالخطأ الاجتهادي، بل يجب أن توصم بالخطر الذي يصل إلى الافتراء والقول في كتاب الله بلا علم والوقوع تحت طائلة الوعيد: ( من قال في كتاب الله بغير علم فهو مخطئ ولو كان مصيباً )
–الضابط الأول: أن يكون معنى اللفظ الوارد في الكتاب والسنة والذي يقصد مطابقته للحقيقة العلمية مفسراً بتفسير نبوي عنه – عليه الصلاة والسلام – أو مفسراً من قبل صحابي كتفسير ابن عباس – رضي الله عنه – ( للرتق ) في قوله تعالى: ( أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً ) بكونها ملتصقتين فقد قال ابن عباس والحسن وعطاء والضحاك وقتادة: يعني أنها كانت شيئاً واحداً ملتزقتين ) القرطبي.
-والكيفية التي كان عليها الجسم المرتوق قبل الفتق غير معروفة على سبيل التأكيد، إلا أن بعض قصص التراث تروي شيئاً قد لا يكون بعيداُ عما تصوره القائلون بنظرية الانفجار الكبير التي ترى أن جسيما متناهيا في الصغر من الطاقة الخالصة ذا كثافة وحرارة هائلة انفجرت فتناثرت أجزاؤه في شتى الاتجاهات في شكل سحب ) وقد عاد العلماء إلى هذه النظرية استناداً إلى معلومات القمر الصناعي أمريكي في أبريل 1992 م، أما القصة التي ذكرها العلامة الشيخ سيدي المختار الكنتي الشنقيطي من علماء القرن 12 الهجري في شرحه لمقصود وممدود ابن مالك، فنقول: إن أول شيء خلقه الله تعالى الذرة فجعلت تسيح ألف ألف عام حيث لا أرض ولا سماء .. فلما أراد ظهور الأكوان نظر إليها بعين الجلال فتصدعت فانبجست منها العناصر الخمسة وهي الماء والريح والنور والظلمة والنار ).
الضابط الثاني: في غياب تفسير نبوي أو تفسير صحابي ؛ فالضابط أن يكون التفسير بمقتضيات اللغة العربية بأن يكون إطلاق اللفظ على المعنى من قبيل الحقيقة ( وهي استعمال اللفظ فيما وضعت له العرب وضعاً ) ويتصور ذلك في مرتبتين:
مرتبة ( المفسر ) عند الأحناف وهو النص عند الجمهور لأنه لفظ لا يدل على معنى واحد لا يقبل التأويل.
مرتبة الظاهر: لفظ احتمل أكثر من معنى إلا أنه أظهر في أحد معانيه أن يكون اللفظ حقيقة عرفية أو شرعية.
إذا لم يكن اللفظ نصاً ولا ظاهراً حقيقة بأي معنى من المعاني فإن عدل عن الحقيقة إلى المجاز وعن الظاهر إلى المعنى المرجوح فإن الأمر سيكون من قبيل التأويل الذي يجب أن ينضبط بضوابط التأويل التي تقتضي وجود قرينة من نص آخر أو قياس مع احتمال اللفظ للمعنى المرجوح احتمالاً لغوياً لا غبار عليه، وقد تكون الحقيقة العلمية إذا كانت أكيدة فـ (خضراً ) في قوله تعالى: ( فأخرجنا منه خضراً ) هو الشيء الأخضر هذا ظاهره إلا أنه حمله على اليخضور بالمصطلح العلمي أمر سهل لاحتمال اللفظ احتمالاً لا غبار عليه وتأكيد الحقيقة العلمية.
إلا أن الشيء الذي يجب الانتباه إليه أن التفسير العلمي قد يكون موافقاً للحقيقة الوضعية لكنه يقابل مجازاً درج المفسرون عليه مما يقتضي من الباحث التقصي عن عدم وجود تفسير نبوي ولا صحابي، فإن اطمأن إلى ذلك أمكن حمل اللفظ على حقيقته والوضعية وبالتالي الالتقاء بين الحقيقة العلمية والحقيقة القرآنية كما في آية: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس) إذا صحت الحقيقة التي وصل العالمان الأمريكيان فولر وزميله في الحديد. فيكون الإنزال على حقيقته يوضح ذلك حديث: (إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد والنار والماء والملح) عن القرطبي في تفسيره .
وقد فسر أكثر المفسرين (الإنزال) بأنه استعارة لخلق معدن الحديد كما هي عبارة صاحب التحرير والتنوير.
هذه هي الضوابط التي يجب على كل باحث أن يضعها في حسابه وهو يحاول أن يتعامل مع الإعجاز العلمي في القرآن.
ومع هذا فلا حجر في التعامل مع الإشارات القرآنية والحديثية بشرط عدم الإخلال بالنص وعدم الخروج عليه فمن القواعد المقررة عند الأصوليين أن الإشارة لا يعتد بها إذا خالفت النص، والحقيقة أن مخالفتها للنص دليل على عدم وجود إشارة.
كما يمكن للباحثين أن يجعلوا بحوثهم تدور حول بعض القضايا العامة في خلق الكون كقانون الزوجية الذي تكرر التصريح به في أكثر من آية في الإنسان والأنعام: (جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) سورة الشورى –11- كذلك فإن الزوجية وردت في النبات: ( وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ) سورة ق – 7 .
إلا أن الزوجية جاءت في صيغة العموم والشمول في خلق الكون: (والسماء بنيناها بأييدٍ وإنا لموسعون*والأرض فرشناها فنعم الماهدون* ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون*ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين*ولا تجعلوا مع الله إلهاً ءاخر إني لكم منه نذير مبين) الذاريات 47 –50
إن الزوجية من خصائص المخلوقات ودليل الاحتياج والافتقار، والوحدانية والفردانية من خصوصيات الخالق وذلك ما يشير إليه التقابل في سورة الشورى والذاريات.