إن الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة كما جاء في الحديث الصحيح: “بُني الإسلام على خمس ..إلى قوله وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلاً“.
وهو واجب بالكتاب والسنة قال تعالى: ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً).
وقال عليه الصلاة والسلام : “يا أيها الناس كُتب عليكم الحج فحجّوا“.
فهو عبادة من أجلّ العبادات، وهي من ملة أبينا إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، وخليل الرحمن. قال تعالى موجّهاً الخطاب لإبراهيم عليه السلام (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجّ عميق).
وورثته الأمة المحمدية فكان الركن الخامس، وقد شرع في العام الخامس من الهجرة كما يقول ابن سعد في طبقاته؛ إذ إن وفادة ضمام بن ثعلبة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كانت سنة خمس؛ إذ علمه فرائض الدين ومنها:”أن تحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً“.
فهو شعيرة من شعائر الدين وفريضة من فرائضه، من أنكر وجوبه- بشروطه- على المسلم يخرج من الملة الإسلامية بإجماع علماء الأمة.
وقد وعد الله سبحانه وتعالى بالأجر الجزيل من يأتي به على ما ينبغي قائماً بواجباته ومتصفاً بآدابه الرفيعة، ومن أهم المثوبات التي يرجع بها الحاج مغفرة الذنوب، والتجاوز عن الخطايا لقوله عليه الصلاة والسلام: “من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه“.
وليس غرضنا من هذا المقال المختصر بيان أنساك الحج الثلاثة، ولا أركانه الأربعة التي لا تقوم ماهيته دونها، ويبطل عند فقدها أو أحدها كالإحرام، والوقوف بعرفة، وطواف الإفاضة و”السعي” على خلاف.
وليس الغرض بيان أحكام الحج و واجباته التي تنجبر بالفدية أو بالهدي. ولا إيضاح محظورات الإحرام ولا غيرها من المكروهات أو السنن والمستحبات.
ولكننا نحاول إلقاء الضوء على بعض المعاني السامية التي تستوقف المتأمل في هذه الشعيرة.
إن موسم الحج مناسبة عظيمة للأمة الإسلامية وفريدة في نفس الوقت لا يوجد لها نظير لدى أمم العالم كله منذ أقدم التاريخ، إنها مؤتمر عالمي رائع. ولهذا فيمكن بحق أن تعتبر من خصائص هذه الأمة ومميزاتها التي لا يشاركها فيها غيرها.
1- إن أول شيء يلفت انتباه المرء عندما يفكر في هذه المناسبة هو مظهر العالمية الذي يتجلى بأنصع صوره؛ إذ تتجمع أعداد هائلة تتجاوز المليونين من كل الجنسيات، تتكلم بكل اللغات، وتمثل كل الأعراف والألوان، لا يجمعها إلا رباط الإيمان ووشيجة العقيدة.
إنها العولمة الطوعية والاختيارية التي لا تفرضها سلطة ولا دولة كبرى.
2- الوحدة التي تستعلي على كل العصبيات القومية والخلافات المذهبية والنزاعات السياسية.
إنها وحدة تتمظهر في وحدة الشعور والشعار والمشاعر والشعائر. إنها ألفاظ أربعة مشتقة من جذر واحد هو جذر “شعر”.
فما هو مرادنا بهذه الألفاظ “المصطلحات”؟ وما علاقتها بالحج؟
– الشعور: إن شعور الحجيج هو شعور واحد، هو الافتقار إلى الخالق الباري العظيم والخضوع له .
– أما شعارهم فهو الملابس البيضاء والتلبية.
– أما الشعائر فهي أعمال الحج التي يقوم بها الجميع بهيئة واحدة، من إحرام ووقوف بعرفات، ونزول بمنى، ورمي للجمرات، وطواف إلى آخره .
– أما المشاعر فهي الأماكن التي يغشاها الحجيج لتأدية الشعائر، فعرفة مشعر، والمزدلفة ” المشعر الحرام ” ومنى ومكة كلها مشاعر؛ لأنها مكان أداء الشعائر.
3- المساواة التي تذوب فيها الامتيازات والأبهة؛ فلا فرق بين غني وفقير، وملك و سوقة، ولا بين رئيس ومرؤوس، فهم يلبسون ملابس لا يزيد ثمنها على بضعة ريالات، ويقيمون في خيم منى المنضدة في طراز واحد، وعلى طريقة موحدة، يرفعون نفس الحصيات من مزدلفة ليرموا بها الجمار بمنى.
إن هذه المعاني تعمق لدى المسلم الشعور بالتضامن والتعاون مع إخوانه. ولكنه تنطبع في ذهنه صورة الوحدة الإنسانية على حقيقتها، فيعود بشخصية إيمانية ملؤها التواضع وحب الخير للآخرين.
إن هذا الجمع العظيم يحتاج إلى رعاية فائقة لكي يؤدي مناسكه في جو من السكينة والطمأنينة والرخاء النفسي والمادي أيضاً.
وهنا يمكن أن نقدر المسؤولية العظمى التي يضطلع بها إمام المسلمين في الديار المقدسة وحكومته؛ إذ إن الحج من العبادات التي لا يمكن ممارستها إلاّ في ظل سلطة شرعية مهيبة وولاية معتبرة؛ لأن الحج مناسبة يجتمع فيها الناس من كل حدب وصوب، يريد خيارهم العبادة، ويبحث شرارهم عن التخريب، وفي كل زمن خيار وأشرار. ولولا تلك السلطة لذهب الأخيار ضحايا الأشرار، وضاعت شعيرة الحج بالكلية؛ لأنه لا سكينة مع الخوف، ولا خشوع مع القلق، وقد كان عليه الصلاة والسلام يحث على السكينة والطمأنينة؛ ففي حديث جابر الطويل الذي وصف فيه حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه عليه الصلاة والسلام كان يشير على الناس بيده السكينة السكينة.( رواه مسلم)
ولهذا فإن أمن الحاج يعتبر أمراً لا غنى عنه، وهنا يجب الاعتراف بما تقوم به حكومة خادم الحرمين لتوفير جو من الأمن والطمأنينة؛ مما يمثل ثابتاً من الثوابت التي قامت عليها هذه المملكة منذ عهد الملك عبد العزيز كما شهد به المؤرخون؛ إذ يقول شكيب أرسلان في رحلته: أما الأمن فقد توفر في أيام ابن سعود إلى حد لا يتطلع فيه متطلع إلى مزيد، وإنما يرجو دوام هذه النعمة”.
ذلك هو الثابت الأول من ثوابت المملكة في خدمة الحرمين الشريفين، وهو الأمن.
أما الثابت الثاني فهو العمارة التي تجاوزت كل التوقعات؛ وقد كان مشروع خادم الحرمين لتوسعة الحرمين يمثل أكبر توسعة في التاريخ؛ إذ أصبحت مساحة الحرم المكي الشريف بعد التوسعة (328000)متراً مربعاً، ليتسع ويستوعب أعداداً متزايدة.
وتضاعفت مساحة الحرم النبوي عشرات المرات مع تزويده بكافة معطيات التقنية الحديثة.
وكان تنفيذ مشروع الخيام المضادة للحريق قمة تسخير التكنولوجيا لخدمة حجاج بيت الله الحرام.
أضف إلى ذلك توفير كل البنى التي تريح الحاج كسلسلة الفنادق التي تحف الحرمين الشريفين والمنتشرة في المدينتين المقدستين.
إنها أعمال جليلة نسأله تعالى أن يديم على هذه البلاد العافية، وأن يزيدها من سوابغ نعمه،
وأن يوفق القائمين عليها لكل خير، وأن يجزيهم أفضل الجزاء .