من الأرشيف : حوار مع مجلة اليمامة
طُلب مني الترشح للرئاسة زمن حكومة ولد الطايع فاعتذرت
حوار: سامي صالح التتر
بإيمان راسخ، سطر الشيخ العلامة معالي الدكتور عبدالله بن بيه وزير العدل الموريتاني الأسبق، ملاحم وجوده وكفاحه في ميادين العلم والتفقه في الدين، ناهلاً من معين علم والده الغزير الذي كان من كبار علماء الدين في عصره، فأفضى به التبحر بالعلم لميادين السياسة، التي سار في ركابها مناضلاً لسطوة المستعمر الفرنسي على بلاده، متسلحاً بلغته التي أتقنها بجهود ذاتية، نزولاً عند رغبة الوالد في مقاطعة المستعمر .
الدكتور ابن بيه، حمد الله كثيراً أن أنقذه من السياسة لمجالات العلم والإصلاح، كاشفاً تفاصيل الانقلاب العسكري بعد إعلانه تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد، بصفته قائداً مركزياً لحزب الشعب الحاكم للبلاد، وتفضيله الاعتقال على المغريات التي عرضت عليه للبقاء خارج البلاد.
وتفاصيل أخرى تطالعونها عبر هذا الحوار .
بيئة علمية دينية
أين غرست بذرة ميلادك، وبأي بيئة تشكلت معالم نضجك وانفتاحك على ميادين العلم؟
– ولدت في مدينة تمبدغة جنوب شرق الجمهورية الإسلامية الموريتانية عام 1935م، ونشأت وتربيت في بيت علم وورع، حيث نهلت من معين علم والدي الغزير القاضي الشهير الشيخ العلامة المحفوظ – رحمه الله – الذي كان من كبار العلماء ورئيس مؤتمر العلماء الموريتانيين الذي نظم بعد استقلال البلاد، ولأن الإنسان حصيلة من التأثرات فقد تأثرت بالوالد – رحمه الله – كثيراً، كما تأثرت بمعلمي ومعلم والدي باللغة العربية الشيخ أحمد بن سالم الشيخ، الذي أعتبره (سيبويه زمانه)، فأخذت عنه علوم اللغة العربية والعلوم الدينية، وتأثرت بالانفتاح على العالم، بعد أن كنا في حالة انعزال في الصحراء، خصوصاً بعد الاستقلال.
هذه البيئة الدينية العلمية التي نشأت بها، كانت نتاجاً للتقسيم التاريخي منذ خمسة قرون بين العائلات التي تحمل العلم والأخرى التي تحمل السلاح، فتكون السيادة في البلاد إما للقلم والعلم، أو للقوة والسيف في ظل عرف اجتماعي وتصالح جعل الاثنين يسيران معاً.
أسرتك.. إلى أي الجانبين كانت تنتمي؟
– بالطبع إلى الجانب العلمي، باعتبار والدي كان يرأس مؤتمر العلماء الموريتانيين الذي نظم بعد الاستقلال، وهو من طالب بمقاطعة عملية للمستعمرين، وقرر ألا يدرس أولاده – وأنا واحد منهم- في المدارس الفرنسية.
ولكنك تجيد اللغة الفرنسية؟
– نزولاً عند رغبة الوالد في مقاطعة المستعمر، لم أذهب إلى المدارس الفرنسية وتعلمت اللغة بجهود ذاتية، من خلال المطالعة بشيء من الاهتمام والتركيز، ولم أجد عناء كبيراً في تعلمها.
وما الذي دعاك لتعلمها؟
– تعلمتها عندما كانت بلادنا على وشك الاستقلال وبحاجة ماسة إلى نخبة من الشباب الذين يتولون المحاكم بعد ذهاب المستعمر، فاستدعيت مع مجموعة من العلماء بعد إجراء الاختبارات اللازمة، فكنت من أوائل الطلاب، وحينها ذهبت إلى تونس لدراسة القانون في كلية الحقوق والتدريب في المحاكم التونسية، وعندما عدنا من تونس وتوليت القضاء في محكمة الاستئناف، لم تكن هناك وسيلة لتدارس القانون والتعامل مع القوم والإدارة، إلا باللغة الإدارية؛ وهي الفرنسية.
ألم يكن هناك مناصرون للغة العربية، بدلاً من لغة المستعمر الفرنسية؟
– كانت اللغة العربية، هي لغة النخب المثقفة، ولم يكن لها رواج آنذاك. في المقابل كانت هناك نخب فرانكفونية لا تتكلم العربية، وفي كل الدوائر لم يكن هناك شيء باللغة العربية.
ولكن موريتانيا لم تتعرض لنار الاستعمار الفرنسي، كما تعرض له الجزائريون والمغاربة؟
– علينا أن نعود إلى التاريخ لنفهم أسباب استعمالهم سياسة الأرض المحروقة في الجزائر، بينما لم يحدث ذلك في موريتانيا؛ لأنهم كانوا يريدون أن تكون بلادنا تأميناً لمعبر من أفريقيا السوداء إلى أفريقيا الشمالية، ولهذا تأخر احتلالهم لبلادنا كثيراً، وتم توقيع الاتفاق مع الفرنسيين عام 1912م في السنة التي وقع فيها المغرب أيضاً اتفاق الحماية معهم.
هل كان هناك تواؤم ما بين والدك القاضي المعروف بقوته في الحق، والمستعمر الفرنسي؟
– شدة والدي – رحمه الله – في الحق، أزعجت كثيراً الفرنسيين؛ لأن أحكامه كانت نافذة في ظل وجودهم، وكان أشبه بالوالي أخذاً بما قاله العز بن عبدالسلام وغيره من أنه «إذا احتل قطر من أقطار المسلمين، فإن عليهم أن يولوا قاضياً منهم يحكم بالشريعة»، فكانت أحكامه تنفذ بقدر ما تيسر في المعاملات والأحكام الشخصية؛ لأن المستعمر كان يحتكر القوانين العامة كقانون العقوبات والأمن وغيره.
في معترك الحياة العملية
ما أهم المناصب والخبرات العلمية التي تخللت مشوار حياتك؟
– عينت رئيساً لمصلحة الشريعة في وزارة العدل، ثم نائباً لرئيس محكمة الاستئناف، ثم نائباً لرئيس المحكمة العليا ورئيساً لقسم الشريعة الإسلامية بهذه المحكمة.
ثم عينت مفوضاً سامياً للشؤون الدينية برئاسة الجمهورية، عندما اقترحت إنشاء وزارة للشئون الإسلامية، فكنت أول وزير لهذه الوزارة، ثم عينت وزيراً للتعليم الأساسي والشؤون الدينية، فوزيراً للعدل والتشريع وحافظاً للخواتم، ثم وزيراً للمصادر البشرية – برتبة نائب رئيس الوزراء- ثم وزيراً للتوجيه الوطني والمنظمات الحزبية والتي كانت تضم وزارات الإعلام والثقافة والشباب والرياضة والبريد والبرق والشؤون الإسلامية.
ثم عينت أميناً دائماً لحزب الشعب الموريتاني، الحزب الوحيد الحاكم الذي كنت عضواً في مكتبه السياسي ولجنته الدائمة من سنة 1970 – 1978م.
وما أهم المؤتمرات العلمية التي شاركت فيها؟
– شاركت في كثير من المؤتمرات من أهمها: أول مؤتمر قمة للدول الإسلامية بالرباط، وأول مؤتمر تأسيس لمنظمة المؤتمر الإسلامي في جدة، وحضرت مؤتمر القمة لعدم الانحياز في الجزائر، ومؤتمر القمة العربي الأفريقي في القاهرة، وفى الستينيات شاركت في مؤتمر الحقوقيين الناطقين باللغة الفرنسية في لومي، وأشرفت على المؤتمر الأول الأفريقي لرابطة العالم الإسلامي في نواكشوط.
كما شاركت في ندوات فكرية وعلمية كثيرة، منها: الملتقيات الفكرية في الجزائر، حيث قدمت محاضرات مثبتة في مجلة الملتقيات. وشاركت في جولات الحوار الإسلامي المسيحي في روما ومدريد، بصفتي عضواً في رابطة العالم الإسلامي. وشاركت في اجتماعات المجمع الفقهي لمنظمة المؤتمر الإسلامي كخبير، وقدمت بحوثاً مثبتة في مجلة المجمع.
ما النتاج العلمي الذي رفدت به مكتبتنا العربية الإسلامية؟
– صدر لي 25 عنواناً في مجالات متعددة فقهية وفكرية وثقافية.
وما العضويات التي تتشرف بحملها، بصفتك من كبار علماء الدين؟
– أنا عضو في هيئة الإعجاز العلمي في القرآن والسنّة. وعضو في المجلس الأعلى العالمي للمساجد. وعضو في الهيئة الخيرية العالمية الإسلامية بالكويت. وعضو مؤتمر العالم الإسلامي بكراتشي. وعضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث. وعضو المجمع الفقهي.
في مواجهة «التغريب
يقال إن معارك الموريتانيين العسكرية انتهت مع خروج الفرنسيين، وبدأت أنت بحمل السلاح الفكري ضد الشيوعيين، ودخلت معهم في مواجهات طاحنة؟
– إشكاليات موريتانيا في تلك الفترة تمحورت أولاً في التعريب، وتفاقمت في هذه الأيام مع الأسف الشديد، وكانت النخب الوطنية تريد التعريب وأنا منهم، وتشرفت بإلقاء أول خطاب في يوم المحاكم باللغة العربية، وعندما توليت القيادة السياسية في حزب الشعب الحاكم غيرت الأسلوب، فكان أول خطاباتنا باللغة العربية لدرجة أن أحد الصحافيين جاءني يطلب الأصل بالفرنسية، فأخبرته أن الأصل باللغة العربية، والإشكال الثاني مع الحركة اليسارية الشيوعية وكانت مواجهاتنا معها عندما دخلت الحكومة مواجهة فكرية وليست أمنية، فأحدثنا برنامجاً أسميناه (المناضل المسلم) ومجلة أسميناها (البرهان)، وبالجهود التي قمت بها مع غيري لمواجهة تغريب المجتمع، استطعنا أن نبطئ من حركة اليسار بشكل مؤثر عندما واجهنا فكرهم بالإسلام الذي يمكن أن يقدم الحل من عام 1971م إلى أن تركنا الحكم عام 1978م بعد الانقلاب.
الرئيس ولد دادة
متى التقيت بالرئيس الموريتاني ولد دادة، وهل كان سبب توجهك للعمل في المجال السياسي؟
– علاقتي مع ولد دادة – رحمه الله – كانت حميمة جداً، وقد التقينا لأول مرة عام 1958م واستمرت علاقتنا لتقارب الأفكار بيننا في الكثير من الأمور، وحظيت بثقته لتولي القيادة المركزية للحزب عندما تولى رئاسة البلاد، إضافة إلى عدد من المناصب الوزارية.
أما عن توجهي للمجال السياسي، فأحب أن أقول لك إن الموريتانيين يحبون السياسة، وهم سياسيون بطبيعتهم، وأنا كنت في حراك سياسي حتى قبل استقلال بلادنا عام 1960م؛ فقد تعاطفنا مع ما يجري في الجزائر ثم استقلال المغرب، وفي عام 1958م ذهبت مع أربعة آخرين تم اختيارهم من كل المناطق إلى الخارج، فأوقفنا الفرنسيون في داكار ورفضوا السماح لنا، فالحس السياسي لديَّ بدأ مبكراً، ثم جاءت تجربة حزب الشعب وكنت في موقع قيادة وصياغة للفكر.
قاضٍ أولاً
بالرغم من تقلدك لعدد من الوزارات في الدولة، إلا أنك متمسك في غالب توقيعاتك بمنصب وزير العدل الموريتاني الأسبق.. لماذا؟
– لأنني قبل أن أكون وزيراً، كنت قاضياً ومن قطاع العدل، ووالدي كان قاضياً ومشرفاً على القضاء أيضاً، وانتمائي كبير وممتد بهذا القطاع، فقد كنت قاضياً ونائباً لرئيس المحكمة العليا، وكنت في تلك الفترة أتفق مع الرئيس ولد دادة في فهم بعض الأطروحات المعاصرة، إضافة إلى العلاقة الجيدة التي كانت تجمع الرئيس ولد دادة بالوالد أيضاً.
من المواقف التاريخية التي تحسب لك، إعلانك شخصياً تطبيق الشريعة الإسلامية في موريتانيا الذي جاء على إثره الانقلاب العسكري.. كيف حدث ذلك؟
– بعد خروج المستعمر من بلادنا، شعرت أن الظروف مواتية لاتخاذ مثل هذا القرار، خصوصاً أن دستور البلاد ينص على أن الإسلام هو الدين، بالإضافة إلى أن الموريتانيين بطبيعتهم وبحكم تاريخهم الاجتماعي، بعيدون عما أفرزته الحضارة المعاصرة من الخمور وغيرها، فالأرضية موجودة والمجتمع مهيأ والرغبة موجودة لدى الناس كافة، ومن أجل ذلك أعلنت شخصياً هذا الأمر، وقلت في ذلك الوقت، إننا نريد أن يتسع قانوننا لكل المذاهب الإسلامية، فلم نكن متعصبين وتمسكنا بالشريعة قلباً وقالباً، وأسأل الله أن يكون ذلك خالصاً لوجهه الكريم.
لماذا لم تأخذوا رأي الجيش والقوات المسلحة في قرار تطبيق الشريعة الإسلامية، ألم تراودكم مخاوف من انقلابه عليكم؟
– الجيش كان يحضر مراقباً في الحزب مع القضاء لا منتسباً له، ومسألة الانقلاب ظلت مطروحة إلى حد ما، بسبب الحرب ضد جبهة (البوليساريو) التي كانت مدعومة من بعض الجيران. والجيش في الدول المتخلفة إذا دخل حرباً يكون خطراً من جهتين؛ فإن كان منتصراً قال أريد أن آخذ نتائج انتصاري، وإن كان منهزماً فإنه يريد أن يعوض عن الهزيمة بنصر داخلي عبر الاستيلاء على الحكم ليقول إنه لم ينهزم، وأنا لا أتهم جيشنا لا بهزيمة ولا بنصر، لكن كانت الظروف من هذا القبيل.
رهن الاعتقال
أين كنت عندما حصل الانقلاب عليكم؟
– كنت موجوداً في مهمة رسمية في ليبيا، فطلب مني أن أقيم في فيلا على البحر، لكنني رفضت وأصررت على العودة أيا كانت النتائج، وتم اعتقالي بعد عودتي ولم أمكث في المعتقل كثيراً، ولكن بقيت مدة في الإقامة العادية وليس الجبرية لعدم وجود جواز سفر، ثم سمح لي بعد ذلك، فقررت أن آتي إلى المملكة العربية السعودية وبقيت فيها إلى الآن.
كيف هي علاقتك الآن بمن انقلبوا عليك في تلك الأيام؟
– الموريتانيون – بحمد الله- أرواحهم طيبة وعلاقتي طيبة معهم وهم إخواننا، حتى إنني عندما عقدت مؤتمراً قبل سنتين هناك، حضره العقيد مصطفى الرئيس الذي استولى على الحكم في الانقلاب علينا، وهو صديقي. وفي موريتانيا تزول مثل هذه الأمور بعد فترة وتذوب، خصوصاً أنها لم تكن دموية عندما حدثت.
ما سبب رفضك للترشح لرئاسة البلاد، رغم وجود مناصرين لك؟
– طلب مني بالفعل خوض انتخابات الرئاسة أيام حكومة ولد الطايع، ولكنني اعتذرت، لأني وجدت مجالات العلم والإصلاح، أهم بكثير من السياسة التي بقيت فيها فترة كبيرة؛ وأحمد الله أن أنقذني من السياسة ونفذت منها بجلدي ويسر لي طريق العلم في هذه الديار المباركة.
مع الملك فيصل
ما سر علاقتك المتميزة بالملك فيصل بن عبدالعزيز- رحمه الله -؟
– علاقتي بالملك فيصل – رحمه الله – بدأت عندما رافقته في زيارته لموريتانيا عام 1972م، وأفتخر بمنحي وسام الملك عبدالعزيز من قبله، وهو شخصية فوق مستوى الكثير من رؤساء الدول في عهده؛ فكان قليل الكلام وإذا تكلم أنصت له الناس.
ما الذي تتذكره من مآثر الملك فيصل رحمة الله عليه؟
– في إحدى القمم في المغرب، دار حديث عن طموحات لإنشاء صندوق استثمار في الدول العربية الفقيرة، وكانت اليمن الجنوبي – في ذلك العهد- دولة مستقلة، فتحدث الرؤساء عن تقديم مساعدة لها، فأشار الملك فيصل إلى خطورة الانحراف الفكري الموجود في اليمن الجنوبي آنذاك، وأنه لا يريد المساعدة لتكريس هذا الأمر، ورغم دفاع رئيس اليمن الجنوبي في المؤتمر، إلا أن الرؤساء اقتنعوا بأهمية ما قاله الفيصل للالتزام بالقيم والدين، وتأثرنا بكلمته في موريتانيا، وقد أعطاه الله مهابة ومحبة ومكانة بين الناس خصوصاً في أفريقيا، وأتذكر عند قدومه إلى داكار أن بعض السنغاليين لبسوا ملابس الإحرام وكانوا يلبون في المطار من شدة إعجابهم بمواقفه الإسلامية معهم، وكانت جولته على القارة الأفريقية جولة مباركة وتركت أثراً تجديدياً للإسلام في كل بلد، إضافة إلى المساعدات الكبيرة التي قدمها لكل الدول المسلمة في القارة السوداء.
وكيف ترى الأوضاع السياسية في موريتانيا حالياً؟
– الحمد لله، الأوضاع السياسية مطمئنة الآن، لكن يظل التخلف الاقتصادي مؤثراً في البلاد رغم وجود الثروات، وكما تعرف أن النمو يتركب من التنظيم ورأس المال والأرض والبشر، ونحن نحتاج لتضامن كل هذه العوامل لتنمو البلاد وتخرج من تخلفها، وأعتقد أن أهل البلاد جميعاً، سواء من كان في الحكومة أو المعارضة، في أذهانهم هذه الخطة وبدأت الآن خطط جيدة لمساعدة الضعفاء وإزالة قرى الصفيح، وهناك جهد نسأل الله أن يوفق فيه الجميع.