ارشيف ل November, 2022

الكلمة التأطيرية لمؤتمر الدراسات الإسلاميةفي الجامعات

     
   

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين

 

الكلمة التأطيرية لمؤتمر الدراسات الإسلامية

معالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

معالي الدكتور حمدان مسلم المزروعي رئيس مجلس أمناء الجامعة

أصحاب المعالي، أصحاب السعادة، أصحاب السماحة، والفضيلة،

أيها الحضور الكريم، كلٌّ باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

 

أهلا بكم جميعا في دار الابتكار والأفكار، دار الإبداع والازدهار، دار زايد الخير وأبناءه الأماجد، أهلا بكم في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، جامعتنا الجديدة في عمرها، المُجدّدة في منهجها، التي حازت مزية الاسم وخصوصية المجال، فقد شرفت بحمل اسم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، وهو اسم يرمز لرؤية أمة وطموحها، طموح التميّز والفرادة الجامع بين الإيجابية في المنطلق والفاعلية في الأداء والجودة في المخرج.

سأوجز القول في هذه المقدمة التأطيرية من خلال توجيه الأسئلة المفاتيح ماذا ولماذا وكيف، في محاولة للإحاطة بموضوع الدراسات الإسلامية وإصلاحها.

 

 

 

ماذا نعني بالدراسات الإسلامية؟

في منبتها الأوروبي كانت الدراسات الإسلامية Islamic Studies، محاولة ظهرت في القرن التاسع عشر على يد زمرة من المستشرقين لدراسة الإسلام من منظور مغاير للمنظور اللاهوتي الجدلي الذي كان سائدا قبلُ، ومن ثم فقد كان يرنو إلى معرفة علمية شاملة لكل ما يتعلق بالإسلام دينا وحضارة وأمما وثقافة وفنا، ولغات، بل بكل ما أنتجه الإسلام والمسلمون، سواء معرفة أو ممارسات أو أنماط ثقافية أو تاريخا، وكذلك واقع الحضارة الإسلامية واستشراف مستقبلها وآفاق تطورها.

هذا المفهوم الذي طبع المجال في أصله عند الغربيين، لم تحتفظ به الجامعات في العالم الإسلامي وإن احتفظت بعضها بالاسم وقصدت به تدريس العلوم الإسلامية شريعة وعقائد، أو ما أسماه بعض العلماء بعلوم الشرع والعلوم الشرعية، فأما علوم الشرع فهي الكتاب والسنة والتفسير والفقه وأما العلوم الشرعية فهي المنضافة إليها كاللغة والنحو وأصول الفقه والبلاغة والمنطق وغيرها من العلوم.

 

لماذا نحتاج إلى تطوير الدراسات الإسلامية وتجديدها؟

ينطلق المطلب التجديدي في الدراسات الإسلامية من الوعي بما تتهم به بعض المناهج التربوية الدينية من المسؤولية في انتشار التطرف والثقافة المأزومة، سواء ً تعلق الأمر بالبرامج أو بالكتب أو بالمربي نفسِه.

 فلا بد من إعادة النظر في هذا المنهاج، فالإنسان في مثل هذه الأجواء المضطربة، إذا لم يزوّد برواية صحيحة وصلبة للدين، مأخوذة من الجهات الموثوقة وداخل المحاضن المؤسّسية المأذونة شرعا، فإنه لا محالةَ سيستقي من مصادر غير متخصّصة، قد تكون الأنْدى صوتا والأكثر دعاية، فتقوده إلى الغُلوّ والتطرف وغيرهما من أدواء وأمراض العصر الخطيرة.

لكنّ ذلك لا يعني إلغاء البرامج، واتهامها جملة وتفصيلا واتخاذ منحى التطرف الآخر، بل يقتضي الاصلاح بصفة فيها من الحكمة والعُمق ما يمكن أنْ يُصلح ما أفسدتْه يد التطرف والجهل الذي هو أساس كل المشاكل.

ثم من موجبات الإصلاح والتجديد ما نشاهده من انكماش مساحة الاجتهاد الفقهي مما نتج عنه عجز عن مواكبة مستجدات العصر في المعاملات وضحالة في الإنتاج الفكري، فكل هذا يبرر إجراء عمليات كبيرة عمليات جراحية إن صح التعبير لمناهجنا ولتعليمنا.

على أن إصلاح التعليم لا يمكن إلا أن يكون بعقليات متفتحة واعية بعصرها وفي نفس الوقت متجذرة في تاريخها. لأن الإصلاح التجديدي عندنا ليس كالإصلاح التنويري عند كانط، الذي هو تفكير بلا سقف، فلا كتابَ يَهْديه ولا مدير أو قسيس يرشده، ولا طبيب يصف له وجبة غذاءه. بل هو إصلاح منطلق من أساس شرعي، يسعى إلى المصالحة والموائمة وإلى تبرير الدين بالعقل وتحرير العقل بالدين.

 

كيف نطوّر الدراسات الإسلامية؟

سأحاول حصر الحديث عن هذا الموضوع عقليا ومحاصرة الانفلات عمليا من خلال تبني الإطار المنطقي المعروف بالعلل الأربع التي تمثّل الماهية ولوازمها: المادة والصورة والغاية والفاعل. فالأوليان ذاتيتان، والأخريان خارجيتان.

فكل بناء محسوس أو ذهني يشتمل على هذه الدوالّ، فله مادة منها يستمدّ ويتكوّن، وله صورة عليها يتشكّل، وله غاية إليها يقصد وهي الباعثة على إيجاده وهي الأولى في الفكر، وإن كانت آخرا في الوجود، ولهذا قال أرسطو: مبدأ العلم منتهى العمل. وله فاعل هو المحرّك والسبب في وجوده.

وفي كل منحى من هذه المناحي الأربعة يمكن للنظر أن يفحص ما ينبغي تداركه من أوجه الخلل والعطب وما يمكن تكميله من أوجه النقص.

أولاً المادة:

ونعني بالمادة أصل الشيء الذي منه بناؤه وبنيته والذي بدونه لا تتصور شيئيته.

ومادة الدراسات الإسلامية كما مرّ آنفا هي شجرةُ المعارف الإسلامية التي نبتت على ضفاف بحر الكتاب والسنة، وامتدت دوحتها الوارفة لتُظِلَّ جميعَ مناحي الدّين، في شبكة من العلوم والفنون المتكاملة، والمتساندة، منها اللصيقة والأقرب نسبا كالفقه والتفسير، ومنها أخرى هي وسائل للأولى كأصول الفقه الخادم للفقه والبلاغة الخادمة للإعجاز، بل وعلوم خادمة للعلوم الثانوية، كالمنطق الخادم لعلم الكلام، وما انضاف إلى علم الكلام من الفلسفة التي هي منبته أو محاوره.

والسؤال الذي يطرح نفسه على هذا المستوى، هو حول موجبات إضافة مواد جديدة قد يقتضي الواقع الجديد إضافتها وإلحاقها، ولن يكون ذلك بدعا من القول ولا بدعة من العمل، فالعلوم ظهرت تباعا، متدرّجة بحسب بما اقتضاها من مستجدات، فمبنى مسيرة العلوم على أوضاع تجدّ ومواضيع تنشأ. فعلم أصول الفقه بدأ في نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث الهجري مع الإمام الشافعي، وعلم النحو بدأ في القرن الأول مع أبي الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد وعلم البلاغة بدأ مع الجرجاني ..وهكذا فكلها علوم نشأت عن الحاجة.

فلعل الحال اليوم داعية إلى الانفتاح على العلوم الإنسانية لتلافي الفصل بين المعارف الذي أدى إلى انعدام التكامل في شخص العالم المسلم، وهي الميزة المعرفية والمزية الثقافية في عصور الازدهار الحضاري للأمة، حيث كان العالم يجمع بين علوم الطبيعة وعلوم الشريعة فالمازري الإمام كان فقيها طبيبا وابن رشد الحفيد كان فيلسوفا طبيبا فقيها وابن خلدون كان فقيها وعالم اجتماع ومؤرخا.

إنَّ هذا الاختزال في المعارف أدى إلى حالة من ضيق الأفق والظاهرية والحرفية والعجز عن مواكبة العصر والانفتاح على المكتسبات الإنسانية الثقافية والفلسفية وعن التسامح وهي صفات يجب أن يتكون الطالب على نقيضها فبدلا من الظاهرية يتكون على المقاصدية وبدلا عن الانغلاق والتقوقع ينفتح على العصر ويواكب مستجداته. ولعلكم تعرفون قصة الفقيه المالكي أبي الوليد الباجي (474 هـ) بعد رجوعه من رحلته إلى المشرق لما وصل أطراف الأندلس وجد أبا محمد بن حزم في أوج تألقه ينشر مذهبه وقد قهر الأقران وبهر الألباب ببلاغته وقوة عارضته فحل أبو الوليد الباجي بساحته في مايورقة ولم يبرح تلك المنطقة حتى ظهر عليه قائلاً: ابتلينا ببدعة الباطنية في المشرق وابتلينا ببدعة الظاهرية في المغرب. 

ثانياً الصورة:

تعتبر الصورة من أهم مداخل التطوير والتجديد في كل منظومة من خلال إعادة التركيب والترتيب، فالصورة تضفي على المادة خصائصها وتحولها بالفعل إلى شيء وجوهر.

ولعل أهم ما يمكن لفت الانتباه إليه على هذا المستوى هو ضرورة البحث عن منظور كلي يلمّ شعث العلوم ويجمع متفرقها في طرح متناسق ومعرفة موحدة؛ من خلال مقاربات العلوم البينية INTERDISCIPLINARITE والعلوم المتعددة والعلوم المتكاملة، فلعل هذا المنحى التركيبي الموجّه بالغايات العملية أن يشكّل مولجا مكملا -وليس بديلا- للمدخل الأساسي التقليدي الذي يمنح الطالب مدارك العلوم، والذي لا غنى عنه.

ونظير هذا على مستويات التبويب والتلقيب والتقريب، ضرورة البحث عن منظور يوازن بين الاحتفاظ بما حرره العلماء والممارسة المدرسية التاريخية في العلوم وبين مواكبة أعراف اللغة والمناهج المعاصرة.

ثالثاً الغاية:

العلة الغائية كما يقول أرسطو هي أهم العلل المساعدة على الفهم، وبها تفسر أنواع العلل الأخرى وتختم عملية التفسير كلها.

ويجب أن نتنبه أن لكلّ علم غايته، المتمثلة في الإشكال المعرفي الباعث على إنشاءه، والثمرة المرجوة التحصيل منه، فعلم أصول الفقه مثلا غايته هي الاستنباط والانضباط، والنحو غايته صون اللسان عن اللحن،  فلا بدّ من ربط العلوم بغاياتها، لاستبانة حدودها واستيضاح مدى إعمالها، ولذلك قال الإمام الغزالي عن علم الكلام: “صادفته علما وافيا بمقصوده غير واف بمقصودي”. فمقصود الغزالي في رحلته البرهانية إلى اليقين، مختلف عن الغاية الجدلية التي بها قوام علم الكلام.

وكذلك فإن حاجات الإنسان الروحية والعملية متغيرة متطوّرة بتطوّر السياقات، فلذلك صحّ أن تتطوّر كذلك غايات العلوم، وتتغيّر، وأن تنشأ كما مرّ آنفا علوم جديدة لأغراض جديدة.

رابعاً الفاعل:

إن الفاعل أو المبدأ المحرّك كما يسميه أرسطو – على مرتبتين:

مرتبة الخبير المجتهد الذي يشرف على وضع البرنامج، وهو الصّانع الذي يتولى صناعة الدراسات الإسلامية وتطويرها، وهي صناعة لأنها تركيبٍ وعملٍ يحتاجُ إلى دِرايةٍ وتَعمُّلٍ، فهي ليست فعلاً ساذجاً ولا شكلاً بسيطاً.

مرتبة المعلّم المشرف على تلقين هذه العلوم وتكوين الطلبة عليها. وتلك صناعة أخرى من أهم الصناعات لما تحتويه من بعد تربوي.

وكلا المرتبتين ركن مهم من أركان الإصلاح المطلوب، فطموحنا ينبغي أن يكون إلى تكوين علماء قد حصلوا ملكة العلوم، يجمعون بين الرسوخ في فهم الشريعة -أصولا وقواعد ومقاصد وقيما- وبين الوعي بحقائق الواقع المعاصر.

 يعترض هذا الطموح المشروع تحديات كثيرة ومن أهمها تحديات السوق، فلا بد أن تقع الموائمة بين الطالب المكوّن وما حصّل من معارف ومهارات وبين حاجات السوق وقدراته الاستيعابية، لكيلا تغدو كلياتنا مصانع للبطالة.

ومن تلك التحديات أيضا تحديات الحيز الزمني المتاح، فعدد السنوات والساعات محصور محدود، مما يلزمنا الأخذ بحكمة القائل:

فقدّم الأهم إن العلم جمْ * والعمر ضيف زار أو طيف ألمْ

الزمان والمكان لوازم العلل الأربع:

إن ظرفي الزماني والمكاني لوازم للعلل الأربع، ففيهما ومن خلالهما تتجسد هذه العلل وتظهر، ولا يمكن إدراكها منفصلة عن إطار الواقع، ولذلك فإصلاح الدراسات الإسلامية يمرُّ كذلك بربطها بزمانها ومكانها، وتجاوز ما هو مشاهد من انفصام العلاقة بين الواقع الزمني والإنساني وبين برامج الدراسات الإسلامية، فيلزم سد الفجوة بين ما يُدرّس وبين الزمان الذي نعيشه، إذ لكلّ عصر واجباته وقضاياه وله مذاقه ومزاجه، فلا بد لنهر الدّراسات الإسلامية أن يظلَّ وفيا لمنبعه، متفاعلا متلونا بلون تربة واقعه.

والمطلوب هو معرفة الواقع بكل تفاصيله، وليس الواقع بمعنى اللحظة الحاضرة، لكنه الواقع الذي يعني الماضي الذي أفرز الحاضر وأسس له والذي بدون تصوره لا يمكن تصور حاضر هو امتداد له وحلقة من سلسلة أحداثه واحداثياته.

ولن يكون ذلك كافياً دون استشراف مستقبل تتوجّه إليه تداعيات الحياة وتفاعلات المجتمعات؛ وذلك ما سميناه بالتوقع.

كل ذلك يُمهِّد لبناء كليٍّ أعلى هو كلي الواقع الذي من خلاله يتعامل مع مختلف الدلائل، ومع تفاصيل المسائل، وفق ما تقرّر في الشريعة من مبدأ شراكة الواقع، فهو شريك في استنباط الحكم، كما دلت عليه النصوص والأصول وممارسة السلف الراشد. ولذلك فإن من جميل صنيع جامعتنا عنايتها بفقه الواقع وتخصيصها برنامجا خاصا به.

 بهذا المنظور المعتبر للإطار الواقعي يتسنى الربط بين النصوص والمقاصد، التي هي الغايات والحِكم والبواعث، أي أنها تحمل المكلف على أن يقوى بالعمل.

فهذه المقاصد التي يمكن أن تتعامل مع مختلف الظروف ومختلف الأوضاع والأحوال تمثل صمّام أمان دائم لتجنب الوقوع في العنف أو الفساد أو الفتنة، ووحده المنظور الكلي المؤسس على المقاصد قادر على مواجهة الأزمات.

يجب أن نتحرى التجديد دون إهمال أو إغفال الطرق القديمة للتعليم وبخاصة الحفظ الذي هو مقدمة الفهم:

لكي يسوغ الحفظ ثم الفهم بالعنصرين يستتب العلم

فحفظ المتون هو الملجأ حين تخون العيون، ويضعف البصر ويكل النظر، وهو دأب الأولين، وسبيل المحققين: قال الشافعي رضي الله عنه:

علمي معي أينما يممت يتبعني    صدري وعاء له لا جوف صندوق

إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق

 

أيها السادة الأفاضل،

رجاؤنا أن يؤسّس مؤتمرنا بجدّية مواضيعه، وجدّة تناوله، وجودة مخرجه، تقليدا علميا كبيرا في بلدنا والمنطقة جمعاء.

وأنتم أيها العلماء الأفاضل الذين تجمعون بين الرسوخ المعرفي والفكري المشهود والتّجربة العملية وألأكاديمية الرصينة، ولذلك فالمعوّل في إنجاح المسعى على ما تجودون به من أفكار سديدة ومقترحة مفيدة.

أتمنى لمؤتمرنا هذا التوفيق والنجاح وأشكركم على حسن إصغائكم.  والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الكلمة التأطيرية- عولمة الحرب وعالمية السلام: المقتضيات والشراكات

   
     

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين

معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان – وزير التسامح والتعايش بدولة الإمارات العربية المتحدة

معالي الشيخ الدكتور محمد عبدالكريم العيسى– الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي،

أصحاب المعالي، أصحاب السعادة،

أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

فيسرني أن أرحب بكم اليوم في الملتقى التاسع لمنتدى أبوظبي للسلم والذي نعقده هذا العام تحت شعار “عولمة الحرب وعالمية السلام: المقتضيات والشراكات”، وتسعدنا مشاركتكم جميعا من مختلف الأديان والعرقيات، ومن مختلف المناطق والقارات. أتيتم جميعا إلى عاصمة دولتنا أبوظبي من أجل السلام ولتفعيل مبادرات السلام. فمرحبا بكم وبجهودكم الخيّرة في خدمة البشرية جمعاء، فأهلا بكم في بيت السلام والوئام، بيت زايد الخير وأبناء زايد الأماجد.

إننا في منتدى أبوظبي للسلم نسير وفق رؤية القيادة الرشيدة لبلدنا والتي قررت أن يكون شعار هذه المرحلة هو “السلام والتعافي والازدهار” وحسب هذه الرؤية نعمل لحشد الجهود لتعزيز السلم والتعاون على الخير والبر وقول الحسنى للناس أجمعين، برعاية كريمة من سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان -وزير الخارجية والتعاون الدولي.

أيها الحضور الكريم،

إن ملتقى هذا العام يأتي في خضم وضع دولي مضطرب يزيد من مستوى التحديات التي تواجه البشرية، فمن تحديات الأزمة الصحية التي لا تزال تلقي بظلالها على أجزاء من العالم إلى تحديات الاقتصاد والتضخم الذي تشهده الأسواق العالمية إلى تحدي الأمن والحروب المشتعلة في مناطق من العالم.

ولقد أكدت الأزمات الراهنة والتوترات الحاصلة أن السلم كل لا يتجزأ وأن أي إخلال به ستنعكس آثاره على البشرية في كل مكان فالحروب في هذا الزمان لا تقف آثارُها عند الحدودِ الجغرافية لميدان المعركة بل تتعداها إلى باقي أصقاع العالم.

كما بينت الحروب الدائرة حاليا في أجزاء من العالم أن شياطين الحروب ما تزال كامنة في النفوس؛ ولذا فإن من مسؤولية القيادات الدينية كما رجال السياسة معالجة هذه الأفكار في النفوس والأذهان قبل أن تخرج إلى العيان.

إن الوعي بهذه الضرورة هو الذي يوجه ملتقانا هذا العام، حيث نستشعر جميعا الحاجة إلى أن تتكامل أدوارنا، لنسهم في استعادة الضمير الأخلاقي للإنسانية، الذي يعيد الفاعلية لقيم الرحمة والغوث ومعاني التعاون والإحسان.

إننا أمام هذه التحديات الخطرة التي تواجه البشرية نقف متسائلين:

نتساءل عن كيفية درء خطر الحروب والنزاعات المسلحة؟

كيف يمكن لسفينة البشرية أن تتفادى جبل الجليد- مثل الذي اصطدمت به سفينة “تيتانيك”- الفرق أننا هذه المرة نعلم بوجود هذا الجبل وندرك أننا للأسف نسير تجاهه وبسرعة فائقة! فهل يمكننا أن نسأل عن الطرق المناسبة لتلافي الاصطدام به؟

نتساءل عن دور القيادات الدينية والروحية في الإسهام في مواجهة هذه الأزمات وفي معالجة هذه التحديات.

كيف نصل إلى حلول مبتكرة فيما يخص الغذاء والدواء وخصوصا توفيرهما للدول النامية؟

كيف نزيد من الوعي في التعامل مع الجائحة الصامتة التي تتطلب تعاونا دوليا ألا وهي التحديات النفسية التي تحتاج إلى خبرة المتخصصين النفسيين، وعناية القادة الدينيين ورعاية صناع القرار والمنظمات الدولية.

وكيف يمكن أن نعزز جهود السلام لتصل إلى شرائح واسعة من العالم ويشارك جمهور عريض في أعماله ورفع أعلامه ؟ كيف نشرك مختلف شرائح المجتمع في هذا الجهد الجمعي الخيّر ؟

كل هذه الاسئلة الجوهرية والمواضيع الملحة تجعلنا نتطلع باهتمام إلى ما ستقدمونه حولها وتقترحونه فيها من أفكار وتصورات وخطط وخطوات عملية قابلة للتطبيق خلال فعاليات هذا الملتقى المبارك.

المشاركون الأفاضل،

إن شعار ملتقى هذا العام هو “عولمة الحرب وعالمية السلام: المقتضيات والشراكات” ونعني بعولمة الحرب ما هو مشاهد من انتشار حروب مستعرة في بقاع شتى من العالم، كما نعني به انتشار وانعكاس آثارها وتداعياتها على باقي دول العالم، وأما العالمية فهي دعوة لمقابلة عولمة الحرب برد فعل مضاد حسب الصيغة المشهورة أن (لكل فعل ردَّ فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه) بحيث نزيل العرض ونداوي المرض، فاعراض المرض تقابل بالعلاج السريع (الإسعافات الأولية)،  والبحث عن الدواء أو اللقاح كما جرى في الجائحة الصحية قريبة العهد وكذلك الحرب ودواعيها. ونعني بالعلاج السريع الإيقاف الفوري للإقتتال ونعني بالدواء إقامة السلام والوئام والمصالحات. ولذلك فإن القيادات الدينية المعنية بخطاب هذا المؤتمر يمكن أن نتصور إسهامها وفق مايلي:

أولاً: الدعوة إلى الحوار كوسيلة لا بديل عنها وطريق لا بد من سلوكها للوصول إلى السلام. اللسان بدل السنان، والكلام بدل الحسام (أو في عصرنا القنبلة والصاروخ). “ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين..” تلك هي أدوات الحوار التي وهبها الله للإنسان.

ثانياً: دور الإطفائي الذي لا يسأل عن المتسبب وإنما كيف نطفئ الحريق. لطالما تحدثنا في هذا المنتدى عن دور صانع السلام بوصفه إطفائياً. وإننا كاطفائيين نسعى إلى إطفاء الحريق قبل السؤال عن من أشعله أو الحكم عليه أو وصفه أو وصمه بأي جرم، المهم أولاً هو إطفاء الحريق وإيقاف القتل والقتال قبل الحكم على الأعمال والأفعال. فنحن لا نضع الإشكالية الكانتية (ايمانويل كانت) في تعليق السلام على تحقيق العدالة الدائمة، بل نرى أن العدالة تنال على بساط السلام، فلا عدالة مالم تتوقف الحرب. بفقد السلام تهدر كل المصالح الأخرى.

ثالثاً: روح ركاب السفينة. إن درجة التشابك بين مصائر الشعوب وأوضاعها في سياق العولمة المعاصرة فرضت الشعور الواعي بحقيقة الانتماء للبشرية كعائلة كبرى وللأرض كوطن أشمل، وهو ما يسميه البعض مواطنة كونية، المطلوب التحقّق بها من خلال تجسيد روح ركاب السفينة التي ضرب بها النبي صلى الله عليه وسلم المثل، روح ركاب السفينة الذين يؤمنون بالمسؤولية المشتركة وبالحرية المسؤولة المرشّدة وبواجب التّضامن والتعاون.

بهذه الروح ننشد أن نشيد عالما تتضافر فيه ثمرات العقول لفائدة الجميع فلا يستأثر بها القوي أو يحتكرها الغني، عالما تتنافس فيه الأمم في الخير، وتستبق فيه الدول في تقديم الضيافة التي تستند إلى الكرامة الإنسانية، والتي تجعلك ترى الغريب قريبا، تراه أخا وصديقا، تقابله بحسن الظن، تؤويه إلى بيتك وتبذل له البر والإحسان، من غير سابق معرفة بينكما.

رابعا: التزام القيادات الدينية بالبحث في نصوصها المقدسة وتراثها الديني وتقاليدها الأصيلة عن مسوغات السلام فلقد بينا في الملتقيات الثمانية السابقة نصوصاً كثيرة تدعو إلى السلم والأمن والأمان واحترام الإنسان، دمه وعرضه وماله، وتدعو المؤمنين كافة للدخول في السلم طبقا للأية الكريمة “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً”[1] التي دعت إلى السلم في عبارات بليغة واستعارات رائعة تمثل السلم ببيت فسيح، ومنزل مريح، يتسع للجميع، فكنى بالدخول عن حالة الانخراط في المصالحة والسلام. بالدخول وجاء بفي الظرفية التي تشير للظرف المكاني وهو السلم الذي هو البيت أو الحصن الحصين.

السَّلْمُ تأْخُذُ منها ما رَضِيتَ به***والحَرْبُ تَكْفِيك من أَنْفَاسِها جُزَع[2]

 

وكان لنا وقفة مع نصوص من العهد القديم والجديد تمجد السلم وتنشره بين أتباعها وأشياعها. ومن ذلك ما ورد في سفر أشعيا[3]: “ما أجمل على الجبال أقدام المبشّرين، المنادين على مسامعنا بالسلام، الحاملين بشارة الخير والخلاص”.

خامساً: تشكيل وفود من القيادات الدينية والروحية للوساطات والمصالحات، وبناء الجسور وفتح باب الحوار بين أطراف النزاعات المشتعلة.

سادساً: تفعيل الوثائق والمواثيق التي صدرت عن الجهات والمراجع الدينية المتضمنة دعوة للسلام.

ومن جملتها الحلف المعروف تاريخيا بـ “حلف الفضول”، الذي أبرم بمكة المكرمة وزكاه النبي صلى الله عليه وسلم. وفي عصرنا الحديث نجد الإعلان في الحقوق الدينية /Dignitatis humanae/ الذي أعلنته الكنيسة الكاثوليكية 1965 والذي مثل نقطة انطلاق الكثير من مبادرات الحوار، ويضاف إليه الإعلانات المختلفة التي أصدرتها الأديان والطوائف والتقاليد الأخرى. وفي العقدين الأخرين:

رسالة عمان (2004)، وكلمة سواء (2007)، وإعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في البلدان المسلمة (2016)، وإعلان واشنطن لتحالف القيم (2018)، ووثيقة الأخوة الإنسانية (2019)، ووثيقة مكة المكرمة (2019)، وحلف الفضول الجديد (2019).

 

لقد عملنا في السنوات الماضية بالشراكة مع كثير من الهيئات والشخصيات الحاضرة على دعوة السلم لشعورنا أنها دعوة لازمة وضرورة ملحة، لكن هذه الضرورة تتأكد عندما تظهر الحروب وتراق الدماء وتستخدم القوة العنيفة بحيث يصبح التهديد عالمياً؛ ولذا قلنا إن هذه العولمة ينبغي أن تقابل بعالمية السلام.

إن حماية السلام بالحرب مثل تكليف الذئب برعي الغنم، فهذه الحروب والأزمات لا تولد إلا الخسائر في المنتظم الانساني أجمع (أو ما يسمى عند المسلمين بالكليات الخمس- الدين والحياة والعقل والملكية والعائلة)، فهذه الضروريات الخمس التي هي أسمى حقوق الإنسان التي منحها له الله عز وجل، لا ثبوت لها ولا ثبات إلا في إطار المجتمع الآمن الذي يتمتع بدرجة من السلم تضمن توفرها. ففي ظل السلام وما يوفره من الألفة والسكينة والأمل تقوم أسبابها وتتوفر شروطها وتنتفي موانعها.

إننا لا ندعو إلى السلم باعتباره ممكنا، بل باعتباره أمراً لابد منه، فالسّلام هو النهج وهو الغاية. والسلام ليس كلمة فقط، وإنما هو معنى عظيم يقوم في النفوس محبة وشفقة وأخوة، ويظهر على السلوك تعاوناً وتضامناً، هكذا تبنى الأمم وتتعايش المجتمعات ويزول شبح الخوف والمجاعات.

ولقد أظهرت جائحة كورونا أهمية التعاون الدولي والشراكات متعددة الاطراف في مواجهة التحديات ذات الطابع المعولم، والتي لا يمكن لبلد بمفرده أو منطقة لوحدها معالجتها أو التعامل معها.

وإذا كانت الحرب أوّلها كلام كما تقول العرب فإنّ السلم أوّله كلام أيضا؛ ولذا فلابد من الحوار والتباحث لايقاف الحروب ولتخفيف التوترات. بحيث يوضع السلاح ويقدم بديل للحرب؛ فإن الأبواب المغلقة والأسماع الموصدة لا تؤدي إلى التفاهم ولا إلى السلام.

إن القيادات الدينية تخاطب العقول والقلوب وطموحها أن يؤثر هذا الخطاب في الساحة، وتتلقاه آذان واعية، وقلوب مصغية؛ ليتحول إلى إدراك يجعل الحكمة أساسا، والتواضع منطلقا، والمصلحة هدفا، والترويج لقيم الحياة مبدأ، والقيم النبيلة قواعد للنظام العام؛ بحيث يحتكم الناس إلى قوة المنطق لا إلى منطق القوة.

ولذا فإننا نعتقد أنه من خلال جهود القيادات الدينية مع غيرها بإمكاننا أن نوصل صوت الحياة، صوت الحكمة للأخذ بحجزات الناس عن القفز إلى أتون الحرب والفناء.. ذلك هدفنا وتلك أمنيتنا.

أيها المشاركون الأفاضل،

لقد سجلت كتب التاريخ بمداد من ذهب أقواما أطفأوا نيران الحروب، وكظموا الغيظ، وأحيو الناس؛ فأثنى عليهم التاريخ وحمدت فعلهم البشرية.

   تَدَارَكتُما عَبْسًا وَذُبيان بَعْدَمَا               تفَانَوا وَدَقّوا بَينَهم عطرَ مَنشمِ

   وقد قلتما: إنْ نُدْرِك السّلمَ وَاسعًا           بمالٍ وَمَعْروفٍ من القول نَسلمِ

   فأَصْبَحْتُمَا منها عَلَى خَيرِ مَوْطِنٍ           بَعيدَينِ فيها مِنْ عُقُوقٍ وَمَأثَم

 

إننا في خضم هذه التحديات القاتمة والازمات الخانقة، مانزال نرجو ألا تخبو شعلة الأمل وأن تؤدي الأزمات الحالية إلى رد فعل معاكس من شأنه خلق معاهدات جديدة لنزع الاسلحة النووية وليس فقط لتقليصها (لتكون اتفاقية START جديدة)، من خلال مواثيق دولية تحمي حقوق الدول وتصون مصالحها دون الحاجة إلى دخول الحروب واختلاق النزاعات. إن اسلحة الدمار الشامل يجب أن تدمر هكذا يقول العقل.

ولما كان مؤتمرنا هذا يهدف إلى زيادة التعاون وبناء الشراكات بين الفاعلين في حقول السلم والمصالحات، ولعلّي في هذا الصدد أقترح فكرة قد تكون سهلة التنفيذ محمودة الأثر، وهي أن نخصص -كقيادات دينية ونخب اكاديمية وصناع قرار- أقرب فرصة قادمة للكلام أو الكتابة بعد المنتدى سواء كانت تلك الفرصة خطبة للجمعة، أو عظة للسبت أو الأحد، أو مقالا صحفيا، أو برنامجا تلفزيونيا، أو غيرها؛ من المناسبات للكلام والكتابة عن السلم وجهود السلم وإيصال رسالة السلام إلى مجتمعاتنا في مختلف القارات وبجميع اللغات؛ وبهذا نكون قد أسهمنا في نشر الوعي والخروج بهذه الأفكار والجهود الخيّرة إلى فضاء أرحب من إطار المؤتمرات للوصول بها إلى البشرية؛ لتتنزّل في المدارس تعليما للناس، وفي المعابد تعاليم للمؤمنين، وفي ساحات الصراع وميادين النزاع، طمأنينة تحلُّ في النفوس، وأملا يعمر القلوب ويثير في النفوس محبة الخير الكامنة في الفطرة البشرية.

وختاما، فإنكم أيها المشاركون في هذا المؤتمر رسل سلام، وسفراء فوق العادة لنشر رسالة السلم والوئام، ولا أكون مبالغا إذا قلت إن البشرية جمعاء تعلق على جهودكم وأعمالكم آمالاً عظيمة.

أجدّد الشكر لكم جميعا، على تلبية الدعوة، وأتمنى لأعمال ملتقانا هذا النجاح والتوفيق ولضيوفنا مقاما سعيدا وأوبا حميدا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.  

[1] سورة البقرة، 208

[2] العباس بن مرداس

[3] سفر أشعيا (52 /7)

الفلسفةوالأخلاق – كلمة العلامة عبدالله بن بيه

   
     

 

الحمدلله الذي كرم الإنسان بالعقل وميّزه، وكرم العقل بالعلم وعززه. والصلاة والسلام على سيدنا محمد المتمم لمكارم الأخلاق والمرشد للحكمة والرحمة والمعرفة وعلى آله وصحبه أجمعين،

معالي الدكتور حمدان مسلم المزروعي رئيس مجلس أمناء الجامعة

أصحاب المعالي والسعادة، أصحاب السماحة والفضيلة، أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

يسرني أن أرحب بكم في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، هذه الجامعة الحديثة النشأة، البعيدة الطموح، التي حازت مزيّة الاسم وخصوصيّة المجال، فقد شرفت بحمل اسم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله. وهو شرف يحمل هذه الجامعة مسؤولية التميز والتفوق في كل مجالات البحث العلمي.

 

المنهج كما أتصوره:

وفي بداية كلمتي هذه اسمحوا لي بنبذة عن منهج هذه الجامعة كما أتصوره: إنّه منهج الموائمات الحضارية والوساطات، إنه منهج الجسور الممدودة بين الحقول المعرفية والممرات الواصلة بين الفضاءات الثقافية، إنه منهج التحالف بين القيم، والتكامل بين الكليات.

نعتقد أنه قد آن الأوان لنبذ المنظور الفصلي القطائعي الذي يرتكز على الخصوصيات ويهمّش ويلغي أوجه الاتصال ودوائر المشترك، ويقيم تقابلات سجالية وصراعا بين المركزيات، مآله المحتوم تفكيك الوئام وهلاك الأنام. فلا بُد من القطع المنهجي مع هذا المنظور الإقصائي، إذ هو منظور انفعالي قلق لا يمكن أن يؤسس لرؤية حضارية.

بهذه المنهجية التي تقوم على تجاوز المتقابلات ونبذ القطائع والمفاصلات، بالانتفاع بثمرات العقول ومحصولها، وإرساء التعايش بين الأفكار، حقّقت الإمارات بفضل الله ولا تزال تحقّق الاستئناف الحضاري الواعي والازدهار التنموي المثمر.

الوساطة بين الفلسفة والدين:

إن من الوساطات الضرورية التي نأمل أن تنجح فيها جامعتنا الوساطة بين الفلسفة والدين، فلقد درج الناسُ على افتراض تنافر جذري بينهما، إما على وجه التضاد، أو على سبيل الاستقلال.

إن الجوار بين الفلسفة والدين قد يتوتر، والخلاف بين ممثليهما قد يحتدم، كما جرى بين الغزالي وابن سينا وأبي نصر الفارابي، إلا أن ذلك لا يدفعنا إلى الاعتقاد باستحالة الحوار، بل إننا نؤمن بأن هذا الوصل ممكن وضروري، وأنّ هذه الخصومات التاريخية لا ينبغي أن تغيّب نجاحات وتحجب لقاءات سعيدة جرت على يد فقهاء فلاسفة وفلاسفة فقهاء، ومن أبرز هؤلاء رائد المصالحة ابن رشد الحفيد في كتابه “فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”. حيث انطلق من مجال وحدة الموضوع بين الدين والحكمة (الفلسفة) حيث إن الحكمة هي نظر في الموجودات والمصنوعات لمعرفة الصانع أو لما سوى ذلك والشريعة كذلك تأمر بالنظر في الموجودات (الآيات) :(قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) والقصد التعرف على الصانع كذلك. ولذا بذل جهداً لدرء وصمة التكفير عن الفلاسفة عن طريق التأويل.

الفلسفة التساندية التكاملية:

إننا نطمح إلى فلسفة تساندية لا تعارضية. فلسفة ثلاثية الأركان يتناغم فيها الحس فيأخذ نصيبه والعقل فيوضع في نصابه والوحي فيكون مهيمناً ومرشداً للحس والعقل فيما يقفان دونه من الماورائيات والحقائق التي لا يدركها الإنسان أو التي لم يكتشف بعد أنه لا يدركها على قاعدة أن عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود وعدم العلم لا يعني علم العدم

فلسفة قائمة على النسبة والتناسب حيث تسلم المقدمة الأولى للحس وتعمل العقل للتوصل للنتيجة.

لماذا قلنا الحس؟ لأنا هناك من ينفي الحس من فلاسفة الشك كديكارت، والعقل لأن هناك من يلغي العقل ويعتبر التجربة فقط كهيوم. ونحن نقول هذه العناصر تتناسب وتتعاون في الكشف عن الحقيقة. لقد جاء العلم الحديث لينقل الجدل المتعلق بحدوث العالم إلى مجاله، حين سلم للدين المقدمة الصغرى ليبني عليها المقدمة الكبرى “كل محدث فلا بد له من محدث”، ليكون القديم الذي لم يسبق على وجوده عدم هو واجب الوجود. وهكذا يصلح برهان السببية بين الدين والعلم، فكما يقول ديكارت “أن العدم لا يخلق وجوداً”.

ولذلك يجب أن نميّز بين الفلسفة باعتبارها منهجا في التفكير يقوم على السؤال والتحليل والتّرْكيب والنّقد والاستنتاجِ، وبين الفلسفة كأجوبة وأطروحات ومواقف ومفاهيم تختلف من فيلسوف لآخر. إن قطار الفلسفة يتأخر عن موعده حين يكتفي العاملون في هذا الحقل بتاريخ الفلسفة عن ممارسة التفلسف، وعن الإضافة والتجديد بالترجمة والتقليد.

لقد كانت الفلسفة أوّل أمرها تطلق على جميع فصول المعرفة الإنسانية (علم الفلك والرياضيات والفيزياء أو علوم الطبيعة)، ثم لم تزل شجرتها تشذّب، وتفقد أغصانها غصنا بعد غصن، باستقلال العلوم عنها تباعا، حتى آلت إلى جوهرها وهو السؤال والاستفهام طلبا وبحثا وتحقيقا وتدقيقا.

هي إذاً أداة ووسيلة للحكم على الأشياء ووسيلة للتعلم. بل إن أقدم الطرق الفلسفية تعتمد على السؤال والتمحيص وطرح الفرضيات واستبعادها واحدة تلو الأخرى وهو منهج استخدمه المناطقة والأصوليون في سبر وتقسيم العلل. يصف سقراط عمله بأنه إنتاج وتوليد لأفكار الآخرين عن طريق حثهم على التفكير في أمر معين من زوايا مختلفة. وكثيراً ما يبدؤ محاوره وهو يتبنى موقفاً وينتهي الحوار وهو يدافع عن نقيضه فيما يسمى منهج إلِينخوس أو منهج سقراط.

لكن السؤال في الفلسفة ليس للتحدي وإنما للبناء على ما استقر لدى العقلاء ولإعمال التفكير وإجالة النظر بحثاً عن الوصول بدلالة معلوم إلى مجهول. إن السؤال ليس مرادفاً للشك، بل مرادفاً للرغبة الصادقة في التعلم. وإن من أهم المباديء الفلسفية التي يجب أن نغرس في طلابنا هو أن العالم أو الفيلسوف لا يفكر لوحده وإنما يفكر من خلال تقاليد علمية عريقة وفي حوار دائم مع من سبقوه في هذا المجال. إن الدعوات لتجاوز التراث قد تكون في حقيقتها دعوة للجهل. ولذلك نقول إن القطيعة مع التراث خطأ، والتقوقع فيه خطيئة.

فإذا فهمت الفلسفة فهما يتجاوز ثمراتها اللحظية، إلى جوهرها التساؤلي لم نجد فيها ما يفترض تناقضا أو تعارضا محتوما مع الدّين، بل لا يعدم المتكلم والفقيه وغيرهما من أصحاب النظر الديني فائدةً بمحاورتهم للقول الفلسفي، في توسيع مداركهم وإحكام مناهجهم وتبسيطها.

والغاية الكبرى من التعليم الفلسفي في عالمنا العربي ينبغي أن تكون إعادةَ المنطق إلى حياةِ الناس وأن نعيد برمجة العقول للتفكير الإيجابي ومركزة العقل في الخطاب الديني من خلال مفاهيم المصلحة والحكمة والعدل والرحمة.

 

سؤال الأخلاق في الفلسفة:

أيها الحضور الكريم، نجتمع اليوم وبالتزامن مع اليوم العالمي للفلسفة للحديث عن موضوع هام هو “الفلسفة والأخلاق”. لقد نال سؤال الأخلاق مكانة كبيرة في تاريخ الفلسفة منذ بواكيرها الأولى، لأن موضوعه هو الإنسان، كيف يعيش حياة فاضلة، وكيف يتعايش مع الآخرين في سلم. إنه مجال لا ينفك يشغل الفلاسفة في كل عصر وإن كان محل سؤاله يختلف من عصر إلى آخر. فإن كانت أخلاقيات الحرب والسلم والتعايش قد نالت نصيب الأسد من الدراسات بعد الحربين العالميتين، فسؤال الأخلاق في هذا العصر يتناول مواضيع كالأخلاقيات الطبية وأخلاقيات الذكاء الصناعي وإشكال الهجرة وغيرها من الإشكالات الراهنة.

ولعلنا نبدؤ بلمحة عن تعريف الأخلاق من ناحية فلسفية. الأخلاق هي تلك السجايا الكامنة في النفس، وهي أيضًا المظهر الخارجي لتلك السجايا. وقد رأى بعضهم: “أن الخلق هو صفة نفسية لا شيء خارجي، والمظهر الخارجي هو سلوك أو معاملة”.

والأخلاق تجاورها ثلاث كلمات: القيم – الفضيلة – المبادئ؛ إذا راجعنا ما يمكن أن يرادف هذه الكلمات في اللغات الغربية لوجدنا كلمة Valeurs باللغة الفرنسية، ومن معانيها ما يعتبر حقاً وجميلاً وخيراً طبقاً لمعايير شخصية أو اجتماعية، ويوظف كمعيار ومرجع لمبدأ خلقي. كذلك كلمة Éthiques التي تدل على ما يختص بالمبادئ الخلقية ومجموعة قواعد السلوك. وكذلك أيضا كلمة Vertu التي تدل على الفضيلة، وهي استعداد دائم لفعل الخير؛ فتدل على جزء من المعنى لأنها تدل على مكارم الأخلاق.

إن الأخلاق توفر الأمنَ النفسيّ للفرد، والأمنَ في العلاقات الاجتماعية، والأمنَ في المعاملات، والأمنَ في احترام النظام والتعليمات من خلال الصدق، والاستقامة، وحسن المعاملة، واحترام القيم، ذلك كله هو حسن الخلق: إيمان بالحق، وإحسان على الخلق.

بشكل عام يمكن رجع الأخلاق إلى مصدرين أساسيين: المصدر الديني، والمصدر المنطقي العقلاني، وسنبدؤ بهذا الأخير في هذه العجالة.

يقسم ابن مسكويه الأخلاق في كتابه “تهذيب الأخلاق” إلى قسمين: قسم طبيعي من أصل المزاج، وآخر مستفاد بالعادة والتدرب وهو يرد الأخلاق إلى العقل لأنه يعتبر الحس خداعاً لكنه ظل يشير إلى الفضيلة والوسطية.

وفي العصر الحديث ربما كان “كانط” أشهر العقلانيين في ميدان الأخلاق، فقد كان يعتقد أن خرق القانون الأخلاقي هو أيضًا خرق لقانون المنطق. فاللاأخلاقية تنطوي دائمًا على تناقض. وقد أصل الأخلاق بفصلها عن الدين وأسس على قاعدة الأمر الكلي القطعي.

إلا أن كانت مع عقلانيته يذكرنا في مكان آخر أن هذه المبادئ الإنسانية لا يمكن مراعاتها إلا بالدين، وذلك في النص التالي: “الأخلاق إذن تقود ولا بدّ إلى الدين، الذي بواسطته ترقى إلى فكرة مُشرّع أخلاقيّ خارج الإنسان، بحيث تكمن في إرادته تلك الغاية القصوى التي يمكن ويجب في نفس الوقت أن تكون الغاية القصوى للإنسان”.

إن أهم موجة فلسفية زعزعت ما استقر لدى البشرية من قيم خلقية هي فلسفة ما يسمى بـ(التنوير)، ذلك ما وصل إليه الفيلسوف الاسكتلندي ماكنتاير صاحب كتاب “بعد الفضيلة” Après la vertu. وخلاصة كتابه هو أن تجربة الفلسفات الأخلاقية الحديثة قد فشلت في إيجاد مقاربة عقلانية عرية عن الغائيات مجردة من الفضيلة لا مرجعية لها من تقليد أو دين.  لقد أنزلت هذه الفلسفات الإنسان من مخلوق مكرم إلى كائن محبوس في كينونته، فهو مختزل عند هيوم في عاداته، وعند فرويد في سلوكياته، وفي أصله ونسبته عند داروين.

 

إن التذمر من التحدي الأخلاقي ليس بالأمر الجديد. سأقرؤ عليكم نصاً وأريدكم أن تتوقعوا قائله:

“فقد الناس فضيلة الحياء، وصار التطاول علامة على الذكاء. صاروا يهتمون بالمنافع العاجلة، انعدم احترام الكبار. لم يعد الشباب يرجعون للكبار وصار الكبار يتصرفون وكأنهم صبية. تقلصت الفروق بين الجنسين. أصبح الناس يضيقون ذرعاً بأدنى قيد على حريتهم ويتذمرون من الأحكام والشرائع.”

 

قائل هذا النص ليس قساً أو راهباً أو واعظاً يتذمر من زمننا، بل أفلاطون وهو ينتقد الأخلاق في عصره[1]. لذا دافع في أكثر من حوار عن فكرة أن الإنسان لا يمكن أن يكون مصدراً أو معياراً للأخلاق والقيم بل لا بد من مصدر خارجي. وما أقرب هذا من قول أبي حامد الغزالي في التهافت: “وعلم الأخلاق طويل والشريعة بالغت في تفصيلها ولا سبيل في تهذيب الأخلاق إلا بمراعاة قانون الشرع في العمل حتى لا يتبع الإنسان هواه فيكون قد اتخذ إلهه هواه بل يقلد الشرع فيقدم ويحجم بإشارته لا باختياره فتتهذب به أخلاقه”.

المصدر الخارجي الذي يتحدث عنه أفلاطون والغزالي لا يمكن إلا أن يكون المصدر الديني وإلا فكيف نوفر خلق بر الوالدين والشفقة على الصغير وتوقير الكبير إذا لم نغرس في المجتمع: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً). إن الإلزام بهذه القيم والالتزام بها لا يحصل إلا بالإيمان بتسامي مصدرها وسمو غايتها. إن قيم العائلة والفضيلة والكرامة ضرورية حتى نحول دون التفكك العائلي والأنانية التي تقود إلى أخلاق الإنسان الأخير كما وصفه فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” وهو يقول إنه انسان نذل لا كرامة له ولاغيرة.

حلول للمستقبل:

إن انتهاج مبدأ الموائمة وأسلوب التجسير بين الفلسفة والدين الذي تحدثنا عنه في بداية هذه الكلمة سيكون من ميادينه إعادة الاعتبار للفضيلة كقيمة فلسفية مؤسّسة، وإعادة الاعتبار للمباديء الكبرى كمبدء السببية والغائية وهي مباديء يؤدي إهمالها إلى تقويض الفلسفة نفسها أو كما يقول ابن رشد إن إلغاء السببية هو إلغاء للعقل ذاته.

إن لقاء الفلسفة مع علم الكلام كان في بواكير العصر الإسلامي. وإننا مدعوون إلى تحقيق التوازن بين جملة من التجاذبات بين الكليات، ، وتجسير العلاقة بين عالمَيْ الأفكار والأشخاص، فبدلاً من واقع قيم تهاجم وقيم تقاوم، يكون التعاون والتعاضد والتآزر والتعارف هو عنوان المرحلة.

وأخيراً، فإن طموحنا أن تصبح جامعتنا في مصاف الجامعات العريقة التي تُكَوّن فقهاء فلاسفة وفلاسفة فقهاء على غرار كلية اللاهوت بجامعة كامبريدج التي تخرج لاهوتيين فلاسفة، وبذا نحقّق طموح دولتنا الساعي دوماً إلى الإبداع ولازدهار والاستقرار.

أتمنى لمؤتمرنا هذا التوفيق والنجاح وأشكركم على حسن إصغائكم.  والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

[1] الجمهورية، الفقرات٥٦٠-٥٦٤. النص من اختصار جوناثان ساكس في كتابه “الشراكة الكبرى”.