ارشيف ل November, 2022
الكلمة التأطيرية- عولمة الحرب وعالمية السلام: المقتضيات والشراكات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان – وزير التسامح والتعايش بدولة الإمارات العربية المتحدة معالي الشيخ الدكتور محمد عبدالكريم العيسى– الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، أصحاب المعالي، أصحاب السعادة، أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فيسرني أن أرحب بكم اليوم في الملتقى التاسع لمنتدى أبوظبي للسلم والذي نعقده هذا العام تحت شعار “عولمة الحرب وعالمية السلام: المقتضيات والشراكات”، وتسعدنا مشاركتكم جميعا من مختلف الأديان والعرقيات، ومن مختلف المناطق والقارات. أتيتم جميعا إلى عاصمة دولتنا أبوظبي من أجل السلام ولتفعيل مبادرات السلام. فمرحبا بكم وبجهودكم الخيّرة في خدمة البشرية جمعاء، فأهلا بكم في بيت السلام والوئام، بيت زايد الخير وأبناء زايد الأماجد. إننا في منتدى أبوظبي للسلم نسير وفق رؤية القيادة الرشيدة لبلدنا والتي قررت أن يكون شعار هذه المرحلة هو “السلام والتعافي والازدهار” وحسب هذه الرؤية نعمل لحشد الجهود لتعزيز السلم والتعاون على الخير والبر وقول الحسنى للناس أجمعين، برعاية كريمة من سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان -وزير الخارجية والتعاون الدولي. أيها الحضور الكريم، إن ملتقى هذا العام يأتي في خضم وضع دولي مضطرب يزيد من مستوى التحديات التي تواجه البشرية، فمن تحديات الأزمة الصحية التي لا تزال تلقي بظلالها على أجزاء من العالم إلى تحديات الاقتصاد والتضخم الذي تشهده الأسواق العالمية إلى تحدي الأمن والحروب المشتعلة في مناطق من العالم. ولقد أكدت الأزمات الراهنة والتوترات الحاصلة أن السلم كل لا يتجزأ وأن أي إخلال به ستنعكس آثاره على البشرية في كل مكان فالحروب في هذا الزمان لا تقف آثارُها عند الحدودِ الجغرافية لميدان المعركة بل تتعداها إلى باقي أصقاع العالم. كما بينت الحروب الدائرة حاليا في أجزاء من العالم أن شياطين الحروب ما تزال كامنة في النفوس؛ ولذا فإن من مسؤولية القيادات الدينية كما رجال السياسة معالجة هذه الأفكار في النفوس والأذهان قبل أن تخرج إلى العيان. إن الوعي بهذه الضرورة هو الذي يوجه ملتقانا هذا العام، حيث نستشعر جميعا الحاجة إلى أن تتكامل أدوارنا، لنسهم في استعادة الضمير الأخلاقي للإنسانية، الذي يعيد الفاعلية لقيم الرحمة والغوث ومعاني التعاون والإحسان. إننا أمام هذه التحديات الخطرة التي تواجه البشرية نقف متسائلين: نتساءل عن كيفية درء خطر الحروب والنزاعات المسلحة؟ كيف يمكن لسفينة البشرية أن تتفادى جبل الجليد- مثل الذي اصطدمت به سفينة “تيتانيك”- الفرق أننا هذه المرة نعلم بوجود هذا الجبل وندرك أننا للأسف نسير تجاهه وبسرعة فائقة! فهل يمكننا أن نسأل عن الطرق المناسبة لتلافي الاصطدام به؟ نتساءل عن دور القيادات الدينية والروحية في الإسهام في مواجهة هذه الأزمات وفي معالجة هذه التحديات. كيف نصل إلى حلول مبتكرة فيما يخص الغذاء والدواء وخصوصا توفيرهما للدول النامية؟ كيف نزيد من الوعي في التعامل مع الجائحة الصامتة التي تتطلب تعاونا دوليا ألا وهي التحديات النفسية التي تحتاج إلى خبرة المتخصصين النفسيين، وعناية القادة الدينيين ورعاية صناع القرار والمنظمات الدولية. وكيف يمكن أن نعزز جهود السلام لتصل إلى شرائح واسعة من العالم ويشارك جمهور عريض في أعماله ورفع أعلامه ؟ كيف نشرك مختلف شرائح المجتمع في هذا الجهد الجمعي الخيّر ؟ كل هذه الاسئلة الجوهرية والمواضيع الملحة تجعلنا نتطلع باهتمام إلى ما ستقدمونه حولها وتقترحونه فيها من أفكار وتصورات وخطط وخطوات عملية قابلة للتطبيق خلال فعاليات هذا الملتقى المبارك. المشاركون الأفاضل، إن شعار ملتقى هذا العام هو “عولمة الحرب وعالمية السلام: المقتضيات والشراكات” ونعني بعولمة الحرب ما هو مشاهد من انتشار حروب مستعرة في بقاع شتى من العالم، كما نعني به انتشار وانعكاس آثارها وتداعياتها على باقي دول العالم، وأما العالمية فهي دعوة لمقابلة عولمة الحرب برد فعل مضاد حسب الصيغة المشهورة أن (لكل فعل ردَّ فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه) بحيث نزيل العرض ونداوي المرض، فاعراض المرض تقابل بالعلاج السريع (الإسعافات الأولية)، والبحث عن الدواء أو اللقاح كما جرى في الجائحة الصحية قريبة العهد وكذلك الحرب ودواعيها. ونعني بالعلاج السريع الإيقاف الفوري للإقتتال ونعني بالدواء إقامة السلام والوئام والمصالحات. ولذلك فإن القيادات الدينية المعنية بخطاب هذا المؤتمر يمكن أن نتصور إسهامها وفق مايلي: أولاً: الدعوة إلى الحوار كوسيلة لا بديل عنها وطريق لا بد من سلوكها للوصول إلى السلام. اللسان بدل السنان، والكلام بدل الحسام (أو في عصرنا القنبلة والصاروخ). “ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين..” تلك هي أدوات الحوار التي وهبها الله للإنسان. ثانياً: دور الإطفائي الذي لا يسأل عن المتسبب وإنما كيف نطفئ الحريق. لطالما تحدثنا في هذا المنتدى عن دور صانع السلام بوصفه إطفائياً. وإننا كاطفائيين نسعى إلى إطفاء الحريق قبل السؤال عن من أشعله أو الحكم عليه أو وصفه أو وصمه بأي جرم، المهم أولاً هو إطفاء الحريق وإيقاف القتل والقتال قبل الحكم على الأعمال والأفعال. فنحن لا نضع الإشكالية الكانتية (ايمانويل كانت) في تعليق السلام على تحقيق العدالة الدائمة، بل نرى أن العدالة تنال على بساط السلام، فلا عدالة مالم تتوقف الحرب. بفقد السلام تهدر كل المصالح الأخرى. ثالثاً: روح ركاب السفينة. إن درجة التشابك بين مصائر الشعوب وأوضاعها في سياق العولمة المعاصرة فرضت الشعور الواعي بحقيقة الانتماء للبشرية كعائلة كبرى وللأرض كوطن أشمل، وهو ما يسميه البعض مواطنة كونية، المطلوب التحقّق بها من خلال تجسيد روح ركاب السفينة التي ضرب بها النبي صلى الله عليه وسلم المثل، روح ركاب السفينة الذين يؤمنون بالمسؤولية المشتركة وبالحرية المسؤولة المرشّدة وبواجب التّضامن والتعاون. بهذه الروح ننشد أن نشيد عالما تتضافر فيه ثمرات العقول لفائدة الجميع فلا يستأثر بها القوي أو يحتكرها الغني، عالما تتنافس فيه الأمم في الخير، وتستبق فيه الدول في تقديم الضيافة التي تستند إلى الكرامة الإنسانية، والتي تجعلك ترى الغريب قريبا، تراه أخا وصديقا، تقابله بحسن الظن، تؤويه إلى بيتك وتبذل له البر والإحسان، من غير سابق معرفة بينكما. رابعا: التزام القيادات الدينية بالبحث في نصوصها المقدسة وتراثها الديني وتقاليدها الأصيلة عن مسوغات السلام فلقد بينا في الملتقيات الثمانية السابقة نصوصاً كثيرة تدعو إلى السلم والأمن والأمان واحترام الإنسان، دمه وعرضه وماله، وتدعو المؤمنين كافة للدخول في السلم طبقا للأية الكريمة “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً”[1] التي دعت إلى السلم في عبارات بليغة واستعارات رائعة تمثل السلم ببيت فسيح، ومنزل مريح، يتسع للجميع، فكنى بالدخول عن حالة الانخراط في المصالحة والسلام. بالدخول وجاء بفي الظرفية التي تشير للظرف المكاني وهو السلم الذي هو البيت أو الحصن الحصين. السَّلْمُ تأْخُذُ منها ما رَضِيتَ به***والحَرْبُ تَكْفِيك من أَنْفَاسِها جُزَع[2]
وكان لنا وقفة مع نصوص من العهد القديم والجديد تمجد السلم وتنشره بين أتباعها وأشياعها. ومن ذلك ما ورد في سفر أشعيا[3]: “ما أجمل على الجبال أقدام المبشّرين، المنادين على مسامعنا بالسلام، الحاملين بشارة الخير والخلاص”. خامساً: تشكيل وفود من القيادات الدينية والروحية للوساطات والمصالحات، وبناء الجسور وفتح باب الحوار بين أطراف النزاعات المشتعلة. سادساً: تفعيل الوثائق والمواثيق التي صدرت عن الجهات والمراجع الدينية المتضمنة دعوة للسلام. ومن جملتها الحلف المعروف تاريخيا بـ “حلف الفضول”، الذي أبرم بمكة المكرمة وزكاه النبي صلى الله عليه وسلم. وفي عصرنا الحديث نجد الإعلان في الحقوق الدينية /Dignitatis humanae/ الذي أعلنته الكنيسة الكاثوليكية 1965 والذي مثل نقطة انطلاق الكثير من مبادرات الحوار، ويضاف إليه الإعلانات المختلفة التي أصدرتها الأديان والطوائف والتقاليد الأخرى. وفي العقدين الأخرين: رسالة عمان (2004)، وكلمة سواء (2007)، وإعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في البلدان المسلمة (2016)، وإعلان واشنطن لتحالف القيم (2018)، ووثيقة الأخوة الإنسانية (2019)، ووثيقة مكة المكرمة (2019)، وحلف الفضول الجديد (2019).
لقد عملنا في السنوات الماضية بالشراكة مع كثير من الهيئات والشخصيات الحاضرة على دعوة السلم لشعورنا أنها دعوة لازمة وضرورة ملحة، لكن هذه الضرورة تتأكد عندما تظهر الحروب وتراق الدماء وتستخدم القوة العنيفة بحيث يصبح التهديد عالمياً؛ ولذا قلنا إن هذه العولمة ينبغي أن تقابل بعالمية السلام. إن حماية السلام بالحرب مثل تكليف الذئب برعي الغنم، فهذه الحروب والأزمات لا تولد إلا الخسائر في المنتظم الانساني أجمع (أو ما يسمى عند المسلمين بالكليات الخمس- الدين والحياة والعقل والملكية والعائلة)، فهذه الضروريات الخمس التي هي أسمى حقوق الإنسان التي منحها له الله عز وجل، لا ثبوت لها ولا ثبات إلا في إطار المجتمع الآمن الذي يتمتع بدرجة من السلم تضمن توفرها. ففي ظل السلام وما يوفره من الألفة والسكينة والأمل تقوم أسبابها وتتوفر شروطها وتنتفي موانعها. إننا لا ندعو إلى السلم باعتباره ممكنا، بل باعتباره أمراً لابد منه، فالسّلام هو النهج وهو الغاية. والسلام ليس كلمة فقط، وإنما هو معنى عظيم يقوم في النفوس محبة وشفقة وأخوة، ويظهر على السلوك تعاوناً وتضامناً، هكذا تبنى الأمم وتتعايش المجتمعات ويزول شبح الخوف والمجاعات. ولقد أظهرت جائحة كورونا أهمية التعاون الدولي والشراكات متعددة الاطراف في مواجهة التحديات ذات الطابع المعولم، والتي لا يمكن لبلد بمفرده أو منطقة لوحدها معالجتها أو التعامل معها. وإذا كانت الحرب أوّلها كلام كما تقول العرب فإنّ السلم أوّله كلام أيضا؛ ولذا فلابد من الحوار والتباحث لايقاف الحروب ولتخفيف التوترات. بحيث يوضع السلاح ويقدم بديل للحرب؛ فإن الأبواب المغلقة والأسماع الموصدة لا تؤدي إلى التفاهم ولا إلى السلام. إن القيادات الدينية تخاطب العقول والقلوب وطموحها أن يؤثر هذا الخطاب في الساحة، وتتلقاه آذان واعية، وقلوب مصغية؛ ليتحول إلى إدراك يجعل الحكمة أساسا، والتواضع منطلقا، والمصلحة هدفا، والترويج لقيم الحياة مبدأ، والقيم النبيلة قواعد للنظام العام؛ بحيث يحتكم الناس إلى قوة المنطق لا إلى منطق القوة. ولذا فإننا نعتقد أنه من خلال جهود القيادات الدينية مع غيرها بإمكاننا أن نوصل صوت الحياة، صوت الحكمة للأخذ بحجزات الناس عن القفز إلى أتون الحرب والفناء.. ذلك هدفنا وتلك أمنيتنا. أيها المشاركون الأفاضل، لقد سجلت كتب التاريخ بمداد من ذهب أقواما أطفأوا نيران الحروب، وكظموا الغيظ، وأحيو الناس؛ فأثنى عليهم التاريخ وحمدت فعلهم البشرية. تَدَارَكتُما عَبْسًا وَذُبيان بَعْدَمَا تفَانَوا وَدَقّوا بَينَهم عطرَ مَنشمِ وقد قلتما: إنْ نُدْرِك السّلمَ وَاسعًا بمالٍ وَمَعْروفٍ من القول نَسلمِ فأَصْبَحْتُمَا منها عَلَى خَيرِ مَوْطِنٍ بَعيدَينِ فيها مِنْ عُقُوقٍ وَمَأثَم
إننا في خضم هذه التحديات القاتمة والازمات الخانقة، مانزال نرجو ألا تخبو شعلة الأمل وأن تؤدي الأزمات الحالية إلى رد فعل معاكس من شأنه خلق معاهدات جديدة لنزع الاسلحة النووية وليس فقط لتقليصها (لتكون اتفاقية START جديدة)، من خلال مواثيق دولية تحمي حقوق الدول وتصون مصالحها دون الحاجة إلى دخول الحروب واختلاق النزاعات. إن اسلحة الدمار الشامل يجب أن تدمر هكذا يقول العقل. ولما كان مؤتمرنا هذا يهدف إلى زيادة التعاون وبناء الشراكات بين الفاعلين في حقول السلم والمصالحات، ولعلّي في هذا الصدد أقترح فكرة قد تكون سهلة التنفيذ محمودة الأثر، وهي أن نخصص -كقيادات دينية ونخب اكاديمية وصناع قرار- أقرب فرصة قادمة للكلام أو الكتابة بعد المنتدى سواء كانت تلك الفرصة خطبة للجمعة، أو عظة للسبت أو الأحد، أو مقالا صحفيا، أو برنامجا تلفزيونيا، أو غيرها؛ من المناسبات للكلام والكتابة عن السلم وجهود السلم وإيصال رسالة السلام إلى مجتمعاتنا في مختلف القارات وبجميع اللغات؛ وبهذا نكون قد أسهمنا في نشر الوعي والخروج بهذه الأفكار والجهود الخيّرة إلى فضاء أرحب من إطار المؤتمرات للوصول بها إلى البشرية؛ لتتنزّل في المدارس تعليما للناس، وفي المعابد تعاليم للمؤمنين، وفي ساحات الصراع وميادين النزاع، طمأنينة تحلُّ في النفوس، وأملا يعمر القلوب ويثير في النفوس محبة الخير الكامنة في الفطرة البشرية. وختاما، فإنكم أيها المشاركون في هذا المؤتمر رسل سلام، وسفراء فوق العادة لنشر رسالة السلم والوئام، ولا أكون مبالغا إذا قلت إن البشرية جمعاء تعلق على جهودكم وأعمالكم آمالاً عظيمة. أجدّد الشكر لكم جميعا، على تلبية الدعوة، وأتمنى لأعمال ملتقانا هذا النجاح والتوفيق ولضيوفنا مقاما سعيدا وأوبا حميدا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.[1] سورة البقرة، 208 [2] العباس بن مرداس [3] سفر أشعيا (52 /7) |
الفلسفةوالأخلاق – كلمة العلامة عبدالله بن بيه
الحمدلله الذي كرم الإنسان بالعقل وميّزه، وكرم العقل بالعلم وعززه. والصلاة والسلام على سيدنا محمد المتمم لمكارم الأخلاق والمرشد للحكمة والرحمة والمعرفة وعلى آله وصحبه أجمعين، معالي الدكتور حمدان مسلم المزروعي رئيس مجلس أمناء الجامعة أصحاب المعالي والسعادة، أصحاب السماحة والفضيلة، أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يسرني أن أرحب بكم في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، هذه الجامعة الحديثة النشأة، البعيدة الطموح، التي حازت مزيّة الاسم وخصوصيّة المجال، فقد شرفت بحمل اسم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله. وهو شرف يحمل هذه الجامعة مسؤولية التميز والتفوق في كل مجالات البحث العلمي.
المنهج كما أتصوره: وفي بداية كلمتي هذه اسمحوا لي بنبذة عن منهج هذه الجامعة كما أتصوره: إنّه منهج الموائمات الحضارية والوساطات، إنه منهج الجسور الممدودة بين الحقول المعرفية والممرات الواصلة بين الفضاءات الثقافية، إنه منهج التحالف بين القيم، والتكامل بين الكليات. نعتقد أنه قد آن الأوان لنبذ المنظور الفصلي القطائعي الذي يرتكز على الخصوصيات ويهمّش ويلغي أوجه الاتصال ودوائر المشترك، ويقيم تقابلات سجالية وصراعا بين المركزيات، مآله المحتوم تفكيك الوئام وهلاك الأنام. فلا بُد من القطع المنهجي مع هذا المنظور الإقصائي، إذ هو منظور انفعالي قلق لا يمكن أن يؤسس لرؤية حضارية. بهذه المنهجية التي تقوم على تجاوز المتقابلات ونبذ القطائع والمفاصلات، بالانتفاع بثمرات العقول ومحصولها، وإرساء التعايش بين الأفكار، حقّقت الإمارات بفضل الله ولا تزال تحقّق الاستئناف الحضاري الواعي والازدهار التنموي المثمر. الوساطة بين الفلسفة والدين: إن من الوساطات الضرورية التي نأمل أن تنجح فيها جامعتنا الوساطة بين الفلسفة والدين، فلقد درج الناسُ على افتراض تنافر جذري بينهما، إما على وجه التضاد، أو على سبيل الاستقلال. إن الجوار بين الفلسفة والدين قد يتوتر، والخلاف بين ممثليهما قد يحتدم، كما جرى بين الغزالي وابن سينا وأبي نصر الفارابي، إلا أن ذلك لا يدفعنا إلى الاعتقاد باستحالة الحوار، بل إننا نؤمن بأن هذا الوصل ممكن وضروري، وأنّ هذه الخصومات التاريخية لا ينبغي أن تغيّب نجاحات وتحجب لقاءات سعيدة جرت على يد فقهاء فلاسفة وفلاسفة فقهاء، ومن أبرز هؤلاء رائد المصالحة ابن رشد الحفيد في كتابه “فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”. حيث انطلق من مجال وحدة الموضوع بين الدين والحكمة (الفلسفة) حيث إن الحكمة هي نظر في الموجودات والمصنوعات لمعرفة الصانع أو لما سوى ذلك والشريعة كذلك تأمر بالنظر في الموجودات (الآيات) :(قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) والقصد التعرف على الصانع كذلك. ولذا بذل جهداً لدرء وصمة التكفير عن الفلاسفة عن طريق التأويل. الفلسفة التساندية التكاملية: إننا نطمح إلى فلسفة تساندية لا تعارضية. فلسفة ثلاثية الأركان يتناغم فيها الحس فيأخذ نصيبه والعقل فيوضع في نصابه والوحي فيكون مهيمناً ومرشداً للحس والعقل فيما يقفان دونه من الماورائيات والحقائق التي لا يدركها الإنسان أو التي لم يكتشف بعد أنه لا يدركها على قاعدة أن عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود وعدم العلم لا يعني علم العدم. فلسفة قائمة على النسبة والتناسب حيث تسلم المقدمة الأولى للحس وتعمل العقل للتوصل للنتيجة. لماذا قلنا الحس؟ لأنا هناك من ينفي الحس من فلاسفة الشك كديكارت، والعقل لأن هناك من يلغي العقل ويعتبر التجربة فقط كهيوم. ونحن نقول هذه العناصر تتناسب وتتعاون في الكشف عن الحقيقة. لقد جاء العلم الحديث لينقل الجدل المتعلق بحدوث العالم إلى مجاله، حين سلم للدين المقدمة الصغرى ليبني عليها المقدمة الكبرى “كل محدث فلا بد له من محدث”، ليكون القديم الذي لم يسبق على وجوده عدم هو واجب الوجود. وهكذا يصلح برهان السببية بين الدين والعلم، فكما يقول ديكارت “أن العدم لا يخلق وجوداً”. ولذلك يجب أن نميّز بين الفلسفة باعتبارها منهجا في التفكير يقوم على السؤال والتحليل والتّرْكيب والنّقد والاستنتاجِ، وبين الفلسفة كأجوبة وأطروحات ومواقف ومفاهيم تختلف من فيلسوف لآخر. إن قطار الفلسفة يتأخر عن موعده حين يكتفي العاملون في هذا الحقل بتاريخ الفلسفة عن ممارسة التفلسف، وعن الإضافة والتجديد بالترجمة والتقليد. لقد كانت الفلسفة أوّل أمرها تطلق على جميع فصول المعرفة الإنسانية (علم الفلك والرياضيات والفيزياء أو علوم الطبيعة)، ثم لم تزل شجرتها تشذّب، وتفقد أغصانها غصنا بعد غصن، باستقلال العلوم عنها تباعا، حتى آلت إلى جوهرها وهو السؤال والاستفهام طلبا وبحثا وتحقيقا وتدقيقا. هي إذاً أداة ووسيلة للحكم على الأشياء ووسيلة للتعلم. بل إن أقدم الطرق الفلسفية تعتمد على السؤال والتمحيص وطرح الفرضيات واستبعادها واحدة تلو الأخرى وهو منهج استخدمه المناطقة والأصوليون في سبر وتقسيم العلل. يصف سقراط عمله بأنه إنتاج وتوليد لأفكار الآخرين عن طريق حثهم على التفكير في أمر معين من زوايا مختلفة. وكثيراً ما يبدؤ محاوره وهو يتبنى موقفاً وينتهي الحوار وهو يدافع عن نقيضه فيما يسمى منهج إلِينخوس أو منهج سقراط. لكن السؤال في الفلسفة ليس للتحدي وإنما للبناء على ما استقر لدى العقلاء ولإعمال التفكير وإجالة النظر بحثاً عن الوصول بدلالة معلوم إلى مجهول. إن السؤال ليس مرادفاً للشك، بل مرادفاً للرغبة الصادقة في التعلم. وإن من أهم المباديء الفلسفية التي يجب أن نغرس في طلابنا هو أن العالم أو الفيلسوف لا يفكر لوحده وإنما يفكر من خلال تقاليد علمية عريقة وفي حوار دائم مع من سبقوه في هذا المجال. إن الدعوات لتجاوز التراث قد تكون في حقيقتها دعوة للجهل. ولذلك نقول إن القطيعة مع التراث خطأ، والتقوقع فيه خطيئة. فإذا فهمت الفلسفة فهما يتجاوز ثمراتها اللحظية، إلى جوهرها التساؤلي لم نجد فيها ما يفترض تناقضا أو تعارضا محتوما مع الدّين، بل لا يعدم المتكلم والفقيه وغيرهما من أصحاب النظر الديني فائدةً بمحاورتهم للقول الفلسفي، في توسيع مداركهم وإحكام مناهجهم وتبسيطها. والغاية الكبرى من التعليم الفلسفي في عالمنا العربي ينبغي أن تكون إعادةَ المنطق إلى حياةِ الناس وأن نعيد برمجة العقول للتفكير الإيجابي ومركزة العقل في الخطاب الديني من خلال مفاهيم المصلحة والحكمة والعدل والرحمة.
سؤال الأخلاق في الفلسفة: أيها الحضور الكريم، نجتمع اليوم وبالتزامن مع اليوم العالمي للفلسفة للحديث عن موضوع هام هو “الفلسفة والأخلاق”. لقد نال سؤال الأخلاق مكانة كبيرة في تاريخ الفلسفة منذ بواكيرها الأولى، لأن موضوعه هو الإنسان، كيف يعيش حياة فاضلة، وكيف يتعايش مع الآخرين في سلم. إنه مجال لا ينفك يشغل الفلاسفة في كل عصر وإن كان محل سؤاله يختلف من عصر إلى آخر. فإن كانت أخلاقيات الحرب والسلم والتعايش قد نالت نصيب الأسد من الدراسات بعد الحربين العالميتين، فسؤال الأخلاق في هذا العصر يتناول مواضيع كالأخلاقيات الطبية وأخلاقيات الذكاء الصناعي وإشكال الهجرة وغيرها من الإشكالات الراهنة. ولعلنا نبدؤ بلمحة عن تعريف الأخلاق من ناحية فلسفية. الأخلاق هي تلك السجايا الكامنة في النفس، وهي أيضًا المظهر الخارجي لتلك السجايا. وقد رأى بعضهم: “أن الخلق هو صفة نفسية لا شيء خارجي، والمظهر الخارجي هو سلوك أو معاملة”. والأخلاق تجاورها ثلاث كلمات: القيم – الفضيلة – المبادئ؛ إذا راجعنا ما يمكن أن يرادف هذه الكلمات في اللغات الغربية لوجدنا كلمة Valeurs باللغة الفرنسية، ومن معانيها ما يعتبر حقاً وجميلاً وخيراً طبقاً لمعايير شخصية أو اجتماعية، ويوظف كمعيار ومرجع لمبدأ خلقي. كذلك كلمة Éthiques التي تدل على ما يختص بالمبادئ الخلقية ومجموعة قواعد السلوك. وكذلك أيضا كلمة Vertu التي تدل على الفضيلة، وهي استعداد دائم لفعل الخير؛ فتدل على جزء من المعنى لأنها تدل على مكارم الأخلاق. إن الأخلاق توفر الأمنَ النفسيّ للفرد، والأمنَ في العلاقات الاجتماعية، والأمنَ في المعاملات، والأمنَ في احترام النظام والتعليمات من خلال الصدق، والاستقامة، وحسن المعاملة، واحترام القيم، ذلك كله هو حسن الخلق: إيمان بالحق، وإحسان على الخلق. بشكل عام يمكن رجع الأخلاق إلى مصدرين أساسيين: المصدر الديني، والمصدر المنطقي العقلاني، وسنبدؤ بهذا الأخير في هذه العجالة. يقسم ابن مسكويه الأخلاق في كتابه “تهذيب الأخلاق” إلى قسمين: قسم طبيعي من أصل المزاج، وآخر مستفاد بالعادة والتدرب وهو يرد الأخلاق إلى العقل لأنه يعتبر الحس خداعاً لكنه ظل يشير إلى الفضيلة والوسطية. وفي العصر الحديث ربما كان “كانط” أشهر العقلانيين في ميدان الأخلاق، فقد كان يعتقد أن خرق القانون الأخلاقي هو أيضًا خرق لقانون المنطق. فاللاأخلاقية تنطوي دائمًا على تناقض. وقد أصل الأخلاق بفصلها عن الدين وأسس على قاعدة الأمر الكلي القطعي. إلا أن كانت مع عقلانيته يذكرنا في مكان آخر أن هذه المبادئ الإنسانية لا يمكن مراعاتها إلا بالدين، وذلك في النص التالي: “الأخلاق إذن تقود ولا بدّ إلى الدين، الذي بواسطته ترقى إلى فكرة مُشرّع أخلاقيّ خارج الإنسان، بحيث تكمن في إرادته تلك الغاية القصوى التي يمكن ويجب في نفس الوقت أن تكون الغاية القصوى للإنسان”. إن أهم موجة فلسفية زعزعت ما استقر لدى البشرية من قيم خلقية هي فلسفة ما يسمى بـ(التنوير)، ذلك ما وصل إليه الفيلسوف الاسكتلندي ماكنتاير صاحب كتاب “بعد الفضيلة” Après la vertu. وخلاصة كتابه هو أن تجربة الفلسفات الأخلاقية الحديثة قد فشلت في إيجاد مقاربة عقلانية عرية عن الغائيات مجردة من الفضيلة لا مرجعية لها من تقليد أو دين. لقد أنزلت هذه الفلسفات الإنسان من مخلوق مكرم إلى كائن محبوس في كينونته، فهو مختزل عند هيوم في عاداته، وعند فرويد في سلوكياته، وفي أصله ونسبته عند داروين.
إن التذمر من التحدي الأخلاقي ليس بالأمر الجديد. سأقرؤ عليكم نصاً وأريدكم أن تتوقعوا قائله: “فقد الناس فضيلة الحياء، وصار التطاول علامة على الذكاء. صاروا يهتمون بالمنافع العاجلة، انعدم احترام الكبار. لم يعد الشباب يرجعون للكبار وصار الكبار يتصرفون وكأنهم صبية. تقلصت الفروق بين الجنسين. أصبح الناس يضيقون ذرعاً بأدنى قيد على حريتهم ويتذمرون من الأحكام والشرائع.”
قائل هذا النص ليس قساً أو راهباً أو واعظاً يتذمر من زمننا، بل أفلاطون وهو ينتقد الأخلاق في عصره[1]. لذا دافع في أكثر من حوار عن فكرة أن الإنسان لا يمكن أن يكون مصدراً أو معياراً للأخلاق والقيم بل لا بد من مصدر خارجي. وما أقرب هذا من قول أبي حامد الغزالي في التهافت: “وعلم الأخلاق طويل والشريعة بالغت في تفصيلها ولا سبيل في تهذيب الأخلاق إلا بمراعاة قانون الشرع في العمل حتى لا يتبع الإنسان هواه فيكون قد اتخذ إلهه هواه بل يقلد الشرع فيقدم ويحجم بإشارته لا باختياره فتتهذب به أخلاقه”. المصدر الخارجي الذي يتحدث عنه أفلاطون والغزالي لا يمكن إلا أن يكون المصدر الديني وإلا فكيف نوفر خلق بر الوالدين والشفقة على الصغير وتوقير الكبير إذا لم نغرس في المجتمع: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً). إن الإلزام بهذه القيم والالتزام بها لا يحصل إلا بالإيمان بتسامي مصدرها وسمو غايتها. إن قيم العائلة والفضيلة والكرامة ضرورية حتى نحول دون التفكك العائلي والأنانية التي تقود إلى أخلاق الإنسان الأخير كما وصفه فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” وهو يقول إنه انسان نذل لا كرامة له ولاغيرة. حلول للمستقبل: إن انتهاج مبدأ الموائمة وأسلوب التجسير بين الفلسفة والدين الذي تحدثنا عنه في بداية هذه الكلمة سيكون من ميادينه إعادة الاعتبار للفضيلة كقيمة فلسفية مؤسّسة، وإعادة الاعتبار للمباديء الكبرى كمبدء السببية والغائية وهي مباديء يؤدي إهمالها إلى تقويض الفلسفة نفسها أو كما يقول ابن رشد إن إلغاء السببية هو إلغاء للعقل ذاته. إن لقاء الفلسفة مع علم الكلام كان في بواكير العصر الإسلامي. وإننا مدعوون إلى تحقيق التوازن بين جملة من التجاذبات بين الكليات، ، وتجسير العلاقة بين عالمَيْ الأفكار والأشخاص، فبدلاً من واقع قيم تهاجم وقيم تقاوم، يكون التعاون والتعاضد والتآزر والتعارف هو عنوان المرحلة. وأخيراً، فإن طموحنا أن تصبح جامعتنا في مصاف الجامعات العريقة التي تُكَوّن فقهاء فلاسفة وفلاسفة فقهاء على غرار كلية اللاهوت بجامعة كامبريدج التي تخرج لاهوتيين فلاسفة، وبذا نحقّق طموح دولتنا الساعي دوماً إلى الإبداع ولازدهار والاستقرار. أتمنى لمؤتمرنا هذا التوفيق والنجاح وأشكركم على حسن إصغائكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. [1] الجمهورية، الفقرات٥٦٠-٥٦٤. النص من اختصار جوناثان ساكس في كتابه “الشراكة الكبرى”. |