ارشيف ل

العاصمة المغربية تحتضن ندوة دولية بعنوان “في السلم وفي الحاجة إليه”

تحتضن مؤسسة دار الحديث الحسنية 12-13 يوليو 2018 الندوة الدولية الأولى التي ينظمها منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة بالمملكة المغربية، بعنوان: “في السلم وفي الحاجة إليه”، وهي ندوة يحاضر فيها معالي العلامة عبد الله بن بيه، رئيس منتدى تعزيز السلم، ويشارك فيها ثلة من العلماء  والمفكرين والباحثين، بما فيهم فضيلة الدكتور أحمد الخمليشي مدير مؤسسة دار الحديث الحسنية، وسماحة مفتي الديار المصرية شوقي علام، ومحمد مطر الكعبي رئيس الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف بالإمارات.

وتعالج الندوة مجموعة من القضايا المتعلقة بالسلم وتعزيزه من خلال محاور متنوعة وجامعة بين العلوم الشرعية والإنسانية.

نص كلمة العلامة عبدالله بن بيه في الجلسة الافتتاحية لمجلس الإمارات للإفتاء الشرعي

كلمة معالي العلامة عبد الله بن بيه  رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي        مقدمة عن الفتوى وأهميتها - كلمة عن الواقع والوعي به       - والوسطية وروحها  مهمة المجلس - تصنيف القضايا    - مراحل معالجة القضايا  - نبذة عن مؤهلات المفتي الذي نحتاجه        - ميزان الفتوى          - منهجية للتعامل

كلمة معالي العلامة عبد الله بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي

بسم الله الرحمن الرحيم

   الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه.

وبَعدُ، فَإنَّ دَرَجةَ الإِفْتَاءِ في سُلَّمِ الشَّريعةِ مُنِيفَةٌ، ومَرتَبَةَ صَاحِبِه مَرتَبةٌ شَرِيفَةٌ، لها شأن عظيم في الإسلام، فهي خلافة للنبيe في وظيفة من وظائفه في البيان عن الله تعالى، ولذلك، كانت الفتوى محل عناية المسلمين بمختلف مراتبهم، أمراء أولي أمر، أو علماء أهل رأي ونظر، أو مستفتين باحثين عن حكم الله في ما ينزل بهم من النوازل، ويحيق بهم من الملمات.

تعريف الفتوى

الفتوى: اسم مصدر من أفتاه في الأمر، إذا أبانه له، وهي: الإجابة على مـا يشك فيه حسب عبارة الراغب، كمـا في التاج، يُقال: استفتى الفقيه، فأفتاه، والاسم: الفتيا والفتوى، ويُجمع على فتاوٍ، وقد يُفتح تخفيفاً، كمـا نص عليه مرتضى([1]).

والفتيا اصطلاحاً: (تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه)([2]). قال القرافي: إنها إخبار عن الله تعالى، فالمفتي كالمترجم.

الفتوى والحكم:

الفتوى أعم من الحكم، إذ أن الأحكام قسمان منها ما يقبل حكم الحاكم مع الفتوى فيجتمع الحكمان، ومنها ما لا يقبل إلاّ الفتيا([3]).

   أما القسم الثاني فهو العبادات، وقد بيَّن ذلك القرافي خير بيان في الفرق بين قاعدة الفتوى وبين قاعدة الحكم.

   فالفتوى تدخل في الأحكام الاعتقادية وتدخل في الأحكام العملية جميعها من عبادات ومعاملات وعقوبات و أنكحة، وتدخل في الأحكام التكليفية من واجبات ومحرّمات ومندوبات ومكروهات ومباحات، وتدخل في الأحكام الوضعية من أسباب وشروط وموانع وصحة وفساد([4]).

5- ذكر أكثر المؤلفين الفتوى في فروض الكفاية كقول خليل المالكي في باب الجهاد: (كالقيام بعلوم الشرع والفتوى “ودفع” الضرر والقضاء والشهادة والإمامة والأمر بالمعروف)([5]).

 والأصل أن السلطة مدعوة إلى القيام بهذه الفروض بالتعاون مع المجتمع ولهذا ورد في بعض الآثار: لا يفتى الناس إلا ثلاثة أمير أو مأمور أو متكلف”. قال المدني على كَنُّون: فالأمير هو الإمام والمأمور نائبه والمتكلف غيرهما وهو الذي يتقلد تلك العهدة من غير حاجة ولا تكليف رسمي.

وقد كان العلماء يشكون من جهل المفتين وتجاوز المنتحلين، حتى قال القرافي في “الفروق”: ولاعتبار هذا الشرط يحرم على أكثر الناس الفتوى، فتأمل ذلك فهو أمر لازم”.

وإذا كان ذلك في زمانهم فكيف تكون الحال في زماننا الذي عمت فيه الأهواء فأعمت البصائر ودارت على العلم وأهله الدوائر. فمَا أحْوَجَنَا فِي هَذَا الأَوَانِ لِضَبْطِ الفَتَاوَى، التِي تَرَاوَحَتْ بَيْنَ شِدَّةٍ فِي غَيْرِ مَوضِعِهَا، وسُهُولَةٍ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، فَاسْتَحَالَتِ السُّهُولَةُ إِلى تَسَاهُلٍ والشِّدَةُ إِلى غُلُوٍ وتَنَطُعٍ. وذَلِكَ نَاشِئٌ عَنْ عَدَمِ الإِلْمَامِ بأُصُولِ الفَتْوى عِنْدَ الأَوائِلِ مِنْ مُجْتَهِدينَ ومُقَلِدِينَ، فانْتَحَلَ صَفَةَ المُجْتَهِدِ مَنْ نَزَلَ عَنْ دَرَجَةِ المُقَلِدِ البَصِيرِ، واسْتَنْسَرَ البُغَاثُ واسْتَبْحَرَ الغَدِيرُ، وانتشرت فتاوى التكفير التي مهدت لاستباحة الدماء والأموال بوسائل التفجير والتدمير بالإضافة إلى أن لِكُلِ زَمَانٍ نَوازِلَه وفَتَاوِيه، تَنَوعَتْ بِتَـنَوعِ الحَوادِثِ والوَقَـائِعِ، وتَعَدَدتْ بتَعَدُدِ اجْتِهَاداتِ المُجْتِهدِينَ واخْتِلافِ أَهْلِ الصَّنَائِعِ.

 

ج- مسؤولية الدولة في ضبط الفتوى

أخطر ما أنتجه الواقع المعاصر أن صارت الفتوى سلاحا للمتطرفين وحملة الفكر المأزوم بكل أطيافه وتمظهراته، استحل به الأديان ودمر الأوطان وجنى على الإنسان فاصطلت بناره كليات الشريعة، واجتثت به جزئياتها ومفاهيمها، وانبتت نصوصها عن سياقاتها، ولذلك فالواقع اليوم يبدو ملحاً إلحاحا لا ينتظر تنظيرَ المنظرين ولا تأصيلَ المؤصلين، واقع معقد في تركيبته، وفي إكراهاته، وفي تقلباته وتغيراته،  وهو ما يلزم الدولة في المجتمعات المسلمة أن تستعمل نفس السلاح في مواجهتها المباشرة وغير المباشرة للتطرف، وفي تدخلاتها العلاجية والوقائية الاستباقية ضد ثقافة العنف والكراهية والإرهاب، وتحصين المجتمع بفتاوى رصينة ضد الفتاوى المارقة التي تفضي إلى المفاسد دون المصالح، وتحش نيران الحرب المجنونة بدل السلم بيئة كل الحقوق، ومظلة لكل مكونات المجتمع.

وقد كان لعلماء المسلمين وعي بأهمية تدخل الدولة في تنظيم الفتوى، قال سهل بن عبد الله التستري رحمه الله: «إذا نهى الحاكمُ العالمَ أن يفتي فليس له أن يفتي، فإن أفتى فهو عاصٍ.

ونصوا على منع ولي الأمر جهال المفتين من الفتوى، قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله عن المفتين الجهلة: ويلزم ولي الأمر منعهم، كما فعل بنو أمية وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبُّ الناس، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم لذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبّب من مُداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟

ويأتي القرار المبارك لمجلس الوزراء بدولة الإمارات العربية المتحدة في عام زائد عام الوفاء لمنهج التسامح والاعتدال والحكمة بإنشاء مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي في سياق تحقيق غاية ضبط الفتوى ومأسستها، ليمثل مع غيره من المؤسسات في الدولة سياجا وحصنا من الفتاوى المارقة، والتيارات الهدامة التي تهدد الأمن الروحي والسلم الأهلي والاجتماعي والإقليمي بل والدولي، ولا يقف هذا المجلس عند هذه الغاية، بل سيكون معلما وملهما ليس فقط للعلماء المفتين في هذه الدولة الكريمة المباركة، ولكن لنظرائهم وزملائهم، والمجالس والهيئات الأخرى في العالم الإسلامي التي سيكون محاورا لها، ومشاركا معها كما نص على ذلك القانون التأسيسي.

فقد كانت دولة الإمارات سباقة في تنظيم مراكز الفتوى لتقدم الخدمة الدينية للمواطن والمقيم إرشاداً وهداية وتوجيهاً ونصحاً حيث ينشر المفتون، وهو سعي محمود وجهد مشهود، وهو ما يتوج اليوم بإنشاء مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي لرفع مستوى الرعاية والعناية التي توليها دولتنا حرسها الله لهذا القطاع الحساس دينيا ووطنيا، وذلك للتأكيد على الاختصاص الحصري في إصدار الفتاوى العامة الشرعية لمجلسكم هذا الذي أنيط به أيضا ضبط الفتوى الشرعية وتوحيد مرجعيتها وتنظيم مسئوليتها وتأهيل المفتين وتدربيهم.

كما أنيط بمجلسكم بالخصوص مواجهة الإساءة إلى المقدسات والتكفير والتعصب المذهبي، كما أضيف له بُعد بحثي لتقديم الدراسات الشرعية بمختلف مجالات التنمية.

إنها صلاحيات يشرف مجلسكم الموقر أن تناط بعهدته، وأن يكون محل ثقة قيادة دولتنا -وعلى رأسها رئيس الدولة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد حفظه الله ونائبه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد ولي العهد ونائب القائد العام للقوات المسلحة، وسائر شيوخ الإمارات.

وما اختياركم لهذه المهمة إلا لمكانتكم العلمية والخلقية، وهو اختيار يشعرنا بمسئوليتنا الدينية والوطنية وكيف نقوم بواجبنا في هذا العالم.

إنه تحد كبير ومهمة جسيمة إلا أن الظروف الجيدة والأجواء الكريمة والروح الإيجابية ووتيرة البناء والنماء ووضوح الأهداف وإتاحة وسائل البلوغ وجودة الآليات وقدرات كل واحد منكم بعد توفيق الرحمن الرحيم يبشر بأنَّ مجلسنا سيرفع التحدي ويكون عند حسن ظن القيادة ويلبي متطلبات المرحلة، ويسهم في النهضة التي تنجزها بكفاءة واقتدار قيادة بلدنا.

الفتوى وفقه الواقع

إن مهمة الفتوى تنزيل أحكام الشرع على واقع المكلفين، ولذلك فهي ترتبط بحياة الناس ومعايشهم، ومصالحهم في العاجل والآجل، ومن ثم فإن ما ينبغي أن يرعاه المفتي هو حفظ مقاصد الشارع وما يحققها في واقع الناس.

                ولقد كان هذا شأن المفتين منذ العهد النبوي، وعهد صحابته رضي الله عنهم، وخاصة الخلفاء الراشدين الذين كانوا يحققون مناطات النوازل بناء على الواقع، وتبعا لظروف تغيرت وأحوال تطورت، وكان الفقه في الدين عاصمهم من الفتنة، وكانوا يفسرون ويتأولون ويعللون وعلى الواقع ينزلون([6])،ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا ([7])، فإنهم كانوا يدركون تأثير الواقع في النظر الفقهي، بل كانوا يعدونه شريكا في عملية استنباط وتطبيق الأحكام([8])، كما دلت عليه النصوص والأصول وممارسة السلف الراشد.

                فما علاقة الواقع بالفتوى؟

قال ابن القيم رحمه الله:>ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع. ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً”.

والمطلوب من المفتي هو معرفة الواقع بكل تفاصيله، وليس الواقع بمعنى اللحظة الحاضرة، ولكنه الواقع الذي يعني الماضي الذي أفرز الحاضر وأسس له، والذي بدون تصوره لا يمكن تصور حاضر هو امتداد له وحلقة من سلسلة أحداثه وإحداثياته. غير أن ذلك لن يكون كافيا دون استشراف مستقبل تتوجه إليه تداعيات الحياة وتفاعلات المجتمعات، وذلك ما نسميه بالتوقع([9])،.

إن الواقع الذي يبحث عنه الفقيه هو الذي يحقق العلاقة بين الأحكام وبين الوجود المشخص، لتكون كينونتُها حاقةً فيه، أي ثابتة ثبوتاً حقيقياً، يتيح تنزيل خطاب الشارع على هذا الوجود سواء كان جزئياً أو كلياً، فردياً أو جماعياً، وذلك يفترض مراحل تبدأ من ثبوت حكم موصوف لتنزيله على واقع مشخص معروف. فالواقع المطلوب فقهه هو الواقع المحكوم فيه والمحكوم عليه؛ لأن المحكوم به هو ما سماه ابن القيم “الواجب في الواقع”، وهذا هو الحكم الشرعي الباحث عن محل مشخص.

والواقع هو الإنسان فرداً ومجتمعاً، ولهذا فإنَّ المناط لا يتحقق إلا بالإنسان، ومن خلال الإنسان نفسه، فهو المحقق الأول والأخير، لأنه الفاعل والمحل. وهذا يعني أن علاقة الفتوى بنوازل الواقع تنبع من كونها “المؤطر القانوني للنشاط الاجتماعي والاقتصادي” كما يقول جاك بيرك باعتبارها تتعلق ب”مشكلة عقائدية أو أخلاقية يصطدم بها المسلم في حياته اليومية، فيحاول أن يجد لها حلا يتلاءم وقيم المجتمع بناء على قواعد شرعية” بحسب عبارة روجي ادريس.

لقد أنتجت العولمة واقعا جديدا معقدا، فرض نفسه على الدول والمجتمع والأسرة والتعليم، والسياسة والاقتصاد، واقترح الواقع الجديد صورا مغايرة للصور التي نزلت فيها الأحكام الجزئية، والمواثيق الدولية شبه حاكمة، واستقرت الحدود بين الدول الوطنية على أساس هذا الواقع، وأسلحة الدمار الشامل تهدد الوجود البشري بل الكون كله، وهو واقع يؤثر في النظم والقوانين، ومدى ملاءمتها للنصوص الشرعية مجردة عن مقاصد التعليل وقواعد التنزيل([10]).

لذلك، فليس أمام المفتي من وسيلة سوى فهم الواقع بتركيبته ومتغيراته وإكراهاته، المرتبط بتركيبة الكينونة البشرية في سعتها وضيقها، ورخائها وقترها، وضروراتها وحاجاتها، وتطوراتها وسيروراتها([11])، وعليه الحرص على تطابق كامل بين الأحكام الشرعية وتفاصيل الواقع، بحيث لا يقع إهمال أي عنصر له تأثير من قريب أو بعيد، في جدلية بين الواقع وبين الدليل الشرعي، تدقق في الدليل بشقيه الكلي والجزئي، وفي الواقع والمتوقع بتقلباته وغلباته، والأثر المحتمل للحكم في صلاحه وفساده، بحيث لو تنزل بالفعل كان محمود الغب جار على مقاصد الشريعة بحسب عبارة الشاطبي.

إذا ثبتت العلاقة بين الواقع والفتوى، فكيف يتعرف المفتي على الواقع؟

المجتهد أو المفتي يتوسط بين النص وبين الواقع، فإذا كان الحكمُ يعرف من خلال النصوص الشرعية وما يستنبط منها، فإنّ الواقع بحاجة إلى مُعرِّفات وهي الموازين الخمسة عند أبي حامد الغزالي في كتابه >أساس القياس<، وقد جعلها معيارا للتحقق من الواقع المؤثر في الأحكام، ويمكن تسميتها بمسالك التحقيق، وهي: اللغوية، والعرفية، والحسية، والعقلية، والطبيعية. ويمكن أن نضيف إليها ميزانَ المصالح والمفاسد، والنظر في المئالات، واعتبار الحاجات في إباحة الممنوعات كاعتبار الضرورات في إباحة المحظورات، كما يقول ابن العربي.

هذه المسالكَ تشرح الواقع وتفسره بمنزلة القول الشارح عند المناطقة، وإذا اعتبرنا المصالح والمفاسد من حيث إدراكُها بالعقل داخلةً في العقلية، واعتبرنا الاكتشافاتِ العلميةَ راجعةً إلى الطبيعية، وهي العلوم الطبية أو طبيعة الأشياء، كان هذا الميزان حاوياً بل حاصراً لأدوات تحقيق المناط.

إن تحقيق المناط يعمل في ثلاث مجالات: في الأشخاص، وفي الأنواع، وفي الأحوال، وهو بذلك يعتبر الاجتهاد الثالث إلى جانب الاجتهاد في دلالات ألفاظ النصوص، والاجتهاد في المصالح والمفاسد المتعلق بالمعاني والمقاصد، فهو نظر في طبيعة التكليف، وفي أحوال المكلفين مجتمعا وأفرادا، فيكون في الذوات والصفات والمعاني، فهو مجمع العزائم ومنبع الرخص…هو حكم على الأفعال، وعلى الأشياء وهو المبرهن على ديمومة الشريعة وصلوحيتها لكل زمان ومكان([12])، وبعبارة جامعة: تحقيق المناط مواكب للتكليف في جميع تفاصيله…يعدل ويغير اطراد النصوص والقواعد من خلال تعامله بالمقاصد، ويضبط حركة المكلف باستعماله مختلف الأدوات حتى يكون التكليف موافقا للأصول المرعية([13])، رغم ما فيه من عمق أحيانا يدق عن فهم المتعاملين.

الوسطية في الفتوى

إذا كان الاعتدال محبباً للإنسان كله، فإنه بالنسبة لنا نحن المسلمين وفي دولة الإمارات يعني الوسطية النابعة من تعاليم الإسلام ودعوته بالحكمة والموعظة، تلك الوسطية التي تقدم الإسلام كما هو في قيمه وتفاعله البناء مع الحضارات الأخرى في ما هو إنساني مشترك عام([14])، فهي الميزان الشرعي الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، هو نبذ المبالغة والمغالاة([15]).

والوسطية هي الميزان والموازنة والتوازن بين الثبات والتغير بين الحركة والسكون هي التي تأخذ بالعزائم دون التجافي عن الرخص في مواطنها. وهي التي تطبق الثوابت دون إهمال للمتغيرات، تتعامل مع تحقيق المناط في الأشخاص والأنواع، تقيم وزناً للزمان ولا تحكمه في كل الأحيان، تفرق بين المتماثلات وبين المتباينات. هي إعمال للحاجات وللمصالح وعموم البلوى والغلبة وعسر الاحتراز.

ونعني بالوسطية هنا المقارنة بين الكليّ والجزئيّ، والموازنة بين المقاصد والفروع والربط الواصب بين النصوص وبين معتبرات المصالح في الفتاوى والآراء، فلا شطط ولا وكس.  قال الشاطبي:>المفتي البالغ ذِروة الدرجة هو الذي يَحمِلُ الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهبَ الشِّدَّة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال. وأيضا: فإنَّ الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق. أما في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضاً، لأن المستفتي إذا ذُهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة، وهو مشاهد. وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى، واتباع الهوى مهلكة. والأدلة كثيرة.([16])

فأن يكون المفتي وسطياً في فتواه معناه أنه ليس ممن يؤثر التشدد ويلزم العامة بالورع والاحتياط فيفسد عليهم معاشهم في أمر لهم فيه مندوحة. ولا متحلّلاً يحل كل شيء حتى يكاد يُلغي التكاليف الشرعية ويتطاول على الضروري من الدين.

والوسطية تقضي:

1-   أن يكون المفتي ناظراً في المئالات متطلعاً إلى المتوقعات، فرب مصلحة يدركها ببادئ الرأي في فتوى تنقلب إلى مفسدة في عاقبتها. ولهذا يقول الشاطبي: “النظر في مئالات الأفعال معتبر مقصود شرعاً”.

2- أن يكون عارفا بتوازنات المصالح والمفاسد وتوازنات الأدلة مرتكباً أخف الضررين وأهون الشرين مراعياً أصلح المصلحتين وخير الخيرين. قال ابن القيم: “ومن أصول الشريعة إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم أرجحهما”([17]). وقال المقري: وعند التساوي فإن عناية الشرع بدرء المفاسد أشد من عنايته بجلب المصالح<. وقال الشاطبي: والمصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة بدليل النهي عن تلقي السلع وعن بيع الحاضر للبادي.

وهذه التوازنات تراعى في التعارض بين الكلي والجزئي فيقدم الأول غالباً وفي تعارض الأدلة وهو المسمى بالتعادل والتراجيح في أصول الفقه.

منهجية الفتوى

1- مؤهلات المفتي:

لقد شغلت صفات المفتي حيزا كبيرا من عناية العلماء وفصلوا القول في العلوم المشترطة فيه وغيرها من الصفات الشخصية تفصيلا، نجمل ثمرته في ما يلي:

1- عنصر العلم: فمن لا يَعلم لا يُعْلِم ومن لم يتبيَّن لا يُبيِّن.

2- معرفة الواقع بجميع تفاصيله لتكون الفتوى مطابقة له.

3- القدرة على تقدير تأثير الفتوى على المستفتي وغيره في الحاضر والمستقبل بحيث يقدر المصالح والمفاسد التي قد تنشأ عن الفتوى والنتائج والمئالات تقديراً سليماً.

4- الاتصاف بالصفات الشخصية العاصمة من الانحراف كالديانة الوازعة والعدالة المتمكِّنة والرزانة والحصافة.

2- تصنيف القضايا النازلة:

يمكن ترتيب قضايا الإفتاء في مرحلتين”: أ، ب

قضايا (أ) وهي قضايا فروض الكفايات وبخاصة السلطانية عند الفقهاء: كقضايا الجهاد والحرب والسلم وأنظمة الحكم والتكفير والعلاقات والمعاهدات الدولية، وهو ما سماه سيدي زروق “الأمور الجمهورية[18]”  وهذه لا يفتي فيها إلا الجهات المكلفة من قبل الدولة بالفتوى لما قد يترتب على ذلك من المفاسد وتهديد السلم في المجتمعات المختلفة.

قضايا (ب) القضايا المعروفة التي يحتاجها الفرد كل فرد ويعلمها أكثر الناس لأنها مما علم من الدين ضرورة كالصلاة والصوم والزكاة والحج والمواريث.

3- معالجة الفتوى:

إن الحكم في القضايا أما أن يكون ثابتاً بنص قطعي الثبوت والدلالة منطبق على الواقعة انطباقاً لا مرية فيه، كأحكام الصلاة والصوم.

قد يكون النص من كتاب وسنة أو نص مذهبي في مسألة اجتهادية فيفتي بالصحيح أو الراجح والمشهور أو ما جرى به العمل أو يعمل بالضعيف بثلاثة شروط: أن لا يكون ضعيفاً جداً، وأن تدعو إليه الضرورة وأن يكون معزوا.

 وأما أن يكون في القضايا الجديدة بالنوع حتى ولو كانت قديمة بالجنس فهذه تحتاج إلى معالجة يُولَد فيها الحكم بعد مخاضٍ ليس باليسير ويمر بمحطاتٍ عديدةٍ، نجملها في مرحلتين أساسيتين:

– المرحلة الأولى: تشخيصُ المسألة المعروضة مِنْ حيثُ الواقع، فإذا كانتْ عَقْداً يكون ذلك بالتعرّف على مكوناته وعناصره وشروطه([19]).

وإذا كان الأمر يتعلّق بذاتٍ معيّنة لإصدار حكم عليها كالنقود الورقية، فإنَّ الباحثَ يجب أن يتعرَّض إلى تاريخ العملات، ووظيفتِها في التداول والتعامل والتبادل، وما اعتراها على مرّ التاريخ من تطور يتعلّق بذات النقد، كمَعْدِنٍ نفيس إلى فلوسٍ، أو يتعلّق بعلاقته بالسلطة وهي جهةُ الإصدار أو بالسّلَع والخدمات، وهذه هي مرحلة التكييف والتوصيف التي لا تنئ كثيراً عن “تحقيق المناط” عند الأصوليين؛ لأنه تطبيق قاعدةٍ متفقٍ عليها على واقعٍ معيّنٍ أو في جزئيةٍ من آحادِ صورِها.

وهذه المرحلة لا غنى عنها للفقيه فإنّ الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، وبدون هذا التصور والتصوير يمكن أَنْ يكونَ الحكمُ غيرَ صائبٍ؛ لأنه لم يصادف محلاً. وتزدادُ أهمية هذه المرحلة عندما ندرك تعقُّد العقود المعاصرة وانبنائَها على عناصر لم تكن موجودةً في العقود المعروفة لدى الفقهاء مِنْ بيعٍ وسلَم وإجارة وكراءٍ وقِراض وقَرْض ومساقاةٍ ومزارعةٍ وكفالةٍ ووكالةٍ إلى آخرها.

فهنا يتوقف الفقيهُ فترةً من الوقت للتعرف على مكونات العقد وردّه إلى عناصرِه الأولى لتقرير طبيعته، وهل هو مشتملُ على شرطٍ ينافي سَنَن العقود المجمع عليها والمختلف فيها.

ومن الواضح أن عملية التشخيص في معظمها تستدعى من الفقيه رجوعاً إلى بيئات هذه العقود وأصول التعامل عند أهلها قبل أَنْ يزنَها بميزانِ الشرع.

وأعتقدُ أنَّ الخلاف بين أعضاء المجامع الفقهية في جملةٍ من المسائل يرجعُ إلى تفاوتُ بين الباحثين في قضية التصوُر والتشخيص أكثرَ مما يرجع إلى اختلافٍ في فهم النُّصوص الفقهية، إذاً فالخلاف هو خلافٌ في علاقة المسألة بتلك النصوص تبعاً للزاوية التي ينظر إليها الفقيه مِنْ خلالها.

– المرحلة الثانية: مَرْحلةُ المعالجة الفقهية لإصدار حُكْم شَرْعي([20])

وهذه المرحلة الثانية فيها صعوبة كبيرةٌ تبدأ بالبحث عنْ نصّ في المسألة أو ظاهر يقتضيها أو عموم يشملها أو مفهوم موافقة أو مخالفة أو دلالةِ اقتضاءٍ أو إشارة.

فإذا لم يرد بخصوصها نصّ مِنْ كتاب أو سنَةٍ بمعنى من المعاني المشار إليها، ولا قولٌ لإمام من أئمةِ المسلمين المقتدى بهم -: فإن الباحث يلجأُ إلى الأشباه والنظائر إنْ كانتْ لها أشباهٌ ونظائر، لمحاولة القياس إذا انتفتْ موانعُه وتوفرتْ شروطُه مِنْ قيامِ أصلٍ منصوص عليه أو مجمع عليه، غير مخصوص بحكم ولا معدول به عن القياس، ووجود علةٍ جامعةٍ بين الأصل والفَرْع منصوصة أو مستنبطة بشروطها من انضباط وظهور سالمةً من القوادح.

فإذا تعذرتْ هذه الضوابط فإن القياسَ لا يصحُ، لأن قياسَ العلة إنما يكونُ في فرعٍ له أصلٌ بالنوع أو الجنس ولا يصح إلا بعد “ثبوت الحكم في محل منصوص باسم خاصٍ”، كما يقول علاء الدين شمس النظر السمرقندي.

عند تعذر القياس فإن الباحثَ قد يلجأ إلى بعض الأدلة المختلف فيها كالمصالح المرسلة عند مالك وهي أهم دليل يُعْتَمَد عليه في معركة التحليل والتحريم، حيث يكتفي الفقيهُ بالمناسبةُ التي معناها أن يحصُلَ على ترتيب الحكم على الوصف مصلحة مِنْ نوع المصالح التي يهتمُ الشارعُ بجلبها، أو درءُ مفسدةٍ من نوعِ المفاسد التي يهتم الشارع بدرئها، ولكن الباحث عليه أن يلتزم هنا أيضاً بجملةٍ من الضوابط، منها:

– أن تكون هذه المصلحة في خدمة مقصِدٍ من مقاصد الشريعة الثلاثة وهي المقصِد الضروري والحاجي والتحسيني، ولا يعتبر أكثر الأصوليين إلا المقصِد الضروري خلافاً للشاطبي.

– أما الضابط الثاني: فهو أن لا تكون المصلحة ملغاة.

– والضابط الثالث: أن تكون عامة قطعيةً كما يراه الغزالي في “المستصفى” أوْ ظنية كما يراه الشاطبي، -وهو الذي ذهب إليه الغزالي في “شفاء العليل”- وقد يلجأ الباحث إلى قاعدة سدّ الذرائع والنظر إلى المئالات.”([21]).

إنّ إهمال هذه المنهجية إفراطاً أو تفريطاً أو الإخلالَ بها يؤدي إلى أخلال كبيرة، توقع أحياناً في تضييق شديد وحرج لعدم اقتدار المتعاطي على فتح الأبواب وولوج السُّبُلِ الموصلة إلى مقاصد الشرع والميسرة على الخلق، وفي نفس الوقت المنضبطة بضوابط الاستنباط.

إنَّ الفتوى لا يحسنها كثير من الناس في بعض القضايا، لوجوب النظر في وقت واحد إلى عناصر متعددة لإدمـاج كل واحد منها بالآخر، أو استبعاده إذا لم تُر ضرورة لذلك، أو مراعاته بمقدار، بدءً بمنشإ النازلة وهي الواقعة ومـا يحيطها من ظروف وملابسات، إذ أنَّ اختلاف جزئية بسيطة في ملابسات الواقعة قد يؤثر في مسار الفتوى.

موازين الفتوى([22])

يحتاج المفتي إلى موازين لضبط التجاذبات التي تعرض له أثناء النظر في النوازل بين الأمر والنهي، وبين المقاصد والوسائل، وبين الكلي والجزئي، ونذكر من بين هذ الموازين:

1- ميزان الأوامر والنواهي: فالأوامر والنواهي ليست على وزان واحد، بل هي مرتبطة بكل مرتبة من مراتب المقاصد الثلاث، أي: الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات، وبالتالي فالفروع عند التوارد على محل واحد ردت إلى كليها، ليقدم ما كليه ضروري على ما كليه حاجي أو تحسيني. كما ينظر إلى درجات النهي التي تحدد قوته وضعفه من حيث الدلالة اللغوية، وتردده بين الوسائل والمقاصد.

2- وزن حالة الأشخاص: وهو نوع من تحقيق المناط الذي أشرنا إليه سابقا، وإلى هذا الميزان يرجع اختلاف الأئمة بالنظر إلى حال المكلفين من قوة وقدرة تتحمل العزائم، ومن ضعف أو فقر يوجب الترخيص والسهولة. كما يرى الشعراني في كتابه “الميزان”.

3- بين الحال والمآل: فقاعدة النظر في المآلات إنما هي في حقيقتها قاعدة الموازنة بين مصلحة أولى بالاعتبار، أو بين مصلحة ومفسدة، إلا أنها في الغالب تعني أن المصلحة أو المفسدة المرجحة متوقعة، وهذا التوازن أساس من أسس الاجتهاد والفتوى باعتبار أن المصالح والمفاسد ليست على وزان واحد.

4- التوازن بين الكلي والجزئي: فالمفتي مطالب بألا يغيب عن بصره الجزئي، ولا يغيب عن بصيرته الكلي…وفي هذا تندرج الموازنة بين المقاصد والنصوص الجزئية، وبين القواعد والفروع.

5- الموازنة بين المصلحة المتقاضاة بالعقل، ومقتضيات النقل، بين من يقول باعتبار المصلحة إذا تعارضت مع النقل، وبين من يقول إن للمصلحة أصلاً تعبدياً.

6- وزن ما كان حقا لله وما كان حقا للعبد، أو متجاذبا.

7- وزن نية المكلف وما تنطوي عليه تصرفاته.

8- ضبط المقصد هل هو في مرتبة العلة طبقا لعلاقته بالنص الخاص أم في مرتبة الحكمة.

9- وهل العلة منصوصة أم مستنبطة لا يمكن أن تلغي النص؟

هذه الموازين، إلى جانب عمل المفتي على استنفار النصوص، واستنطاق التراث، واعتماد مسالك تحقيق المناط والتعرف على الواقع، واستغلال الإمكان المتاح في الشريعة من خلال استنفاره المنهج الأصولي الثري يمكنها أن توفر قراءة جديدة للفتوى في ظل للواقع وفي ضوء الشرع للتذكير بالكليات التي مثلت لبنات الاستنباط بربط العلاقة بين الكليات وبين الجزئيات، وهي جزئيات تنتظر الإلحاق بكلي أو استنتاج كلي جديد من تعاملات الزمان وإكراهات المكان والأوان، أو توضيح علاقة كلي كان غائماً أو غائبا في ركام العصور وغابر الدهور ليكون الاستنباط محكوماً بالانضباط.

أيها الأخوة الأفاضل:

تلك شذرات واضاءات وصوى وامارات على دروب ستعبدونها ومسالك ستسلكونها لتنيروا سبل الرشد والسداد أمام شباب الأمة.

سائلين منه سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يعيننا على حمل الأمانة وأدائها إلى أهلها، وأن يحفظ بلدنا هذا وسائر بلاد المسلمين والعالم، إنه الوهاب الكريم الرحمن الرحيم.

([1])  تاج العروس(39/211)، مـادة: «فتي».

([2]) الموسوعة الفقهية الكويتية (32/20)، وشرح المنتهى(3/456).

[3]– المنجور    شرح المنهج، ص616

[4] – القرافي    الفروق  4/48 وما بعدها  دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة

[5] – مختصر خليل، ص: 88.

[6] – تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع، ص: 96 و98.

[7] – إعلام الموقعين، 1/69.

[8] – تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع، ص: 22.

[9] – تنبيه المراجع، ص: 72.

[10] – تنبيه المراجع، ص: 56.

[11] – تنبيه المراجع، ص: 57.

[12] – ينظر تفصيل ذلك في كتابنا: تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع.

[13] – تنبيه المراجع، ص: 123.

[14] – ينظر كتابنا: خطاب الأمن في الإسلام، ص: 13.

[15] – خطاب الأمن في الإسلام، ص: 34.

[16]– الموافقات   5/277

[17] – إعلام الموقعين، 2/6.

[18]– وهي عنده كل ما يحتاج إلى يد سلطانية، أو ما يقوم مقامها من الخطط الشرعية، واعتبر الاخلال بهذا الشرط مفتاحاً لباب الفتنة وإهلاك الضعفاء من المسلمين بغير حق  ولا حقيقة، ومثله له بالجهاد ورد المظلومات، وتغيير المنكر بطريق القهر والاقتدار.(عدة المريد ص68)

[19] – ينظر كتابنا: “مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات، ص: 16.

[20] – مقاصد المعاملات، ص: 17.

[21] – مقاصد المعاملات، ص: 18

[22] – ينظر كتابنا: مقاصد المعاملات، ص: 96 وما بعده.

ملخص أجوبة العلامة عبدالله بن بيه في أول مؤتمر صحفي لمجلس الإمارات للإفتاء الشرعي

أكد الشيخ عبدالله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، أن قرار القيادة الرشيدة في دولة الإمارات بتشكيل مجلس الإفتاء يشكل خطوة جديدة في إطار نهج التسامح وفلسفة التعايش السعيد، الذي وضع لبناته الأولى مؤسس الدولة المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وإخوانه المؤسسون الأوائل من حكام الإمارات.

مشدداً على أن هذا المجلس يتمتع بصلاحيات كبيرة ومهمة في التصدي للفتاوى المارقة الناجمة عن انحراف مسار الفتوى، الذي صار بمثابة سلاح للمتطرفين وحملة الفكر المأزوم.

وقال بن بيه، خلال مؤتمر صحافي عقد أمس في أبوظبي، عقب الاجتماع الأول لمجلس الإمارات للإفتاء الشرعي: «يبدو الواقع اليوم ملحاً إلحاحاً لا ينتظر تنظير المنظرين ولا تأصيل المؤصلين، واقع معقد في تركيبته، وفي إكراهاته، وفي تقلباته وتغيراته، وهو ما يلزم الدولة أن تتدخل لنزع سلاح الفتوى من أيدي الإرهابيين والمتطرفين.

وتستعمل السلاح نفسه في مواجهتها المباشرة وغير المباشرة للتطرف، وفي تدخلاتها العلاجية والوقائية الاستباقية ضد ثقافة العنف والكراهية والإرهاب، وتحصين المجتمع بفتاوى رصينة ضد الفتاوى المارقة التي تفضي إلى المفاسد دون المصالح، وتغذي نيران الحرب المجنونة بدل السلم بيئة كل الحقوق، ومظلة لكل مكونات المجتمع».

وأضاف: «إن قرار مجلس الوزراء بتشكيل مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، يأتي في سياق تحقيق غاية ضبط الفتوى ومأسستها وتوحيد مرجعيتها، ليمثل مع غيره من المؤسسات في الدولة سياجاً وحصناً من الفتاوى المارقة، والتيارات الهدامة التي تهدد الأمن الروحي والسلم الأهلي والاجتماعي والإقليمي بل والدولي.

ولا يقف هذا المجلس عند هذه الغاية، بل سيكون معلماً وملهماً ليس فقط للعلماء المفتين في هذه الدولة الكريمة المباركة، ولكن لنظرائهم وزملائهم، والمجالس والهيئات الأخرى في العالم الإسلامي التي سيكون محاوراً لها، ومشاركاً معها كما نص على ذلك القانون التأسيسي».

مقاصد الشارع

وأوضح بن بيه أن مهمة الفتوى تنزيل أحكام الشرع على واقع المكلفين، ولذلك فهي ترتبط بحياة الناس ومعايشهم، ومصالحهم في العاجل والآجل، ما يحتم على المفتي مراعاة مقاصد الشارع، ولذلك فإن المطلوب من المفتي هو معرفة الواقع بكل تفاصيله، وليس الواقع بمعنى اللحظة الحاضرة.

ولكنه الواقع الذي يعني الماضي الذي أفرز الحاضر وأسس له، والذي من دون تصوره لا يمكن تصور حاضر، هو امتداد له وحلقة من سلسلة أحداثه وإحداثياته، غير أن ذلك لن يكون كافياً دون استشراف مستقبل تتوجه إليه تداعيات الحياة وتفاعلات المجتمعات، وذلك ما نسميه بالتوقع.

وأفاد بأن العولمة أنتجت واقعاً جديداً معقداً، فرض نفسه على الدول والمجتمع والأسرة والتعليم، والسياسة والاقتصاد، بصور مغايرة للصور التي نزلت فيها الأحكام الجزئية، ما يعني أنه ليس أمام المفتي سوى فهم الواقع بتركيبته ومتغيراته وإكراهاته، المرتبط بتركيبة الكينونة البشرية في سعتها وضيقها، ورخائها وقترها، وضروراتها وحاجاتها، وتطوراتها وسيروراتها.

كما تحدث بن بيه عن مفهوم الوسطية في الفتوى: «إذا كان الاعتدال محبباً للإنسان كله، فإنه بالنسبة لنا نحن المسلمين وفي دولة الإمارات يعني الوسطية النابعة من تعاليم الإسلام ودعوته بالحكمة والموعظة، تلك الوسطية التي تقدم الإسلام كما هو في قيمه وتفاعله البناء مع الحضارات الأخرى في ما هو إنساني مشترك عام، فهي الميزان الشرعي الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، هي نبذ المبالغة والمغالاة».

وأكد أن الوسطية تقضي مراعاة مسألتين، الأولى أن يكون المفتي ناظراً في المآلات، متطلعاً إلى المتوقعات، والثانية أن يكون عارفاً بتوازنات المصالح والمفاسد وتوازنات الأدلة مرتكباً أخف الضررين وأهون الشرين مراعياً أصلح المصلحتين وخير الخيرين.

تتويج للجهود

من جانبه، أكد رئيس الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، الدكتور محمد مطر الكعبي، خلال المؤتمر الصحافي، أن قرار مجلس الوزراء الموقر بإنشاء مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، يشكل خطوة مباركة، تتوج الجهود الكبيرة التي تبذلها الحكومة الرشيدة لتطوير الخطاب الديني.

وترسيخ قيم التسامح والتعايش والاعتدال وتعزيز مرجعية الإفتاء الرسمي في المجتمع الإماراتي، وتحصين فكر الأجيال من اختراقات المتطرفين والإرهابيين، وإعادة الصورة الحضارية الناصعة للدين الإسلامي الحنيف.

وقال الكعبي: إن انطلاق مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي من العاصمة أبوظبي في مسيرته الرائدة بتشكيله الميمون من عدد من ذوي الخبرة والتخصص في العلوم الشرعية الإسلامية ممن يتمتعون بالكفاءة والدراية والسمعة الحميدة، يعطى المجلس العمق العلمي، والبعد العالمي، والهوية الوطنية لدولة الإمارات العربية المتحدة ومكانتها الرائدة على الساحة الدولية.

وهذا بدوره سيعزز مكانة المجلس على الصعيدين الوطني والدولي، كما سيعزز التعاون والتنسيق مع هيئات الفتوى الرسمية في العالم الإسلامي والمراكز الإسلامية المعنية بإصدار الفـــتاوى للجاليات الإسلامية، والعمل على تأهيل مفتين يستطيعون استيعاب الواقع وإدراك تغيراته واستشراف مستقبله.

منهجيات

قال رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي: إن المجلس يعمل حالياً على ترجمة قرار تأسيسه عملياً وعلى الأرض، من خلال الإشراف على جميع المراكز المعنية بالفتوى في الدولة، ومتابعة المنهجيات التي تسير عليها تلك المراكز بهدف توحيد الفتوى، مؤكداً أن المجلس لن يكون أشبه بمحاكم الاستئناف فيما يتعلق بما سيصدر من فتاوى، ولكن سيكون له دور استباقي في صناعة الفتوى.

موقف المؤجر من تصرفات المستأجر غير الجائزة شرعاً – العلامة عبدالله بن بيه

الكلمة التأطيرية للملتقى الرابع لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة بعنوان : السلم العالمي و الخوف من الاسلام 

هذا بحث ليس بالطويل المُمِلّ ولا بالقصير المُخِلّ حول مسألة فقهية تُدرك من العنوان (موقف المُؤجِرِ من تصرفات المُستأجر غير الجائزة شرعاً).

إن المؤجر الذي يؤجر شيئاً لمستأجر يتصرف فيه أو به تصرفات غير مشروعة([1]) لا يخلو من حالات ثلاث:

1.أن يكون اكتشف هذه التصرفات غير المشروعة بعد انعقاد الإيجار وأثناء تمتع المستأجر بمنافعِ الشيءِ المستأجَر، ولم يكُنْ على علمٍ بها حين تمّ العقد.

2.أن يكون عقد الإيجار مشتملاً صراحة على هذه التصرفات كموضوع لاستغلالِ المنافع.

  1. أن يكون المُؤجِر عالماً حين العقد بهذه التصرفات دونَ أن يكون ذلك مشروطاً.

الحالة الأولى: إذا كان المستأجر لم يشترط عليه تصرفات غير مشروعة في العقد ولم يعلمْ بها المُؤجر في حالة الإقدام عليه فإنه لا سبيل إلى فسخ العقد، فالمنافع في الإيجار كالأعيان في البيع، فكما لا يملك البائع التصرف في الأعيان التي باعها لا يملك المؤجر التدخل في استيفاء المنافع فهو كغيره مِنْ عامة المسلمين يجبُ عليهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر حسْب قدرتهم.

قال الشيرازي في المهذّب: ” فصلٌ: إذا تم العقد لزم، ولم يملك واحدٌ منهما أن ينفرد بفسخه من غير عيب لأن الإجارة كالبيع، ثمّ البيعُ إذا تم لزِم فكذلك الإجارة. وبالله التوفيق([2]) ).

وقد صرّح  ابن عابدين في حاشيته بقوله: ( فَرعٌ كثير الوقوع ) قال في لسان الحكام ” لو أظهر المستأجر في الدار الشرَّ كشُرب  الخَمْر وأكل الربا والزنا واللواطة يؤمر بالمعروف وليس للمؤجر ولا لجيرانه أنْ يخرجوه، فكذلك لا يصير عذراً في الفسخ ولا خلاف فيه للأئمة الأربعة([3])).

وفي الجوهر: ( إن رأى السلطان أن يخرجه فعل )، ويُفهم من هذا الكلام أنَّ تصرفات المستأجر غير المشروعة التي تنكشف للمؤجر أثناء تمتع المستأجر بالمنافع لا تكون عيباً يوجب الفسخ وإنما العيوب الموجبة للفسخ من طرف المؤجر هي التي تُشكل ضرراً بعين الذات المؤجر.

قال خليل في مختصره في سرده للمسائل التي لا تفسخ فيها الإجارة ” لا بإقرار المالك أو خُلْفِ رب الدّابة في غير معين أو حج وإن فات مقصده أو فسق مستأجر وآجر الحاكم إن لم يكف “.

قال الزرقاني معلقاً عليه: ” كظهور فسق مستأجر لدار وجيبة أو مشاهرة([4]) ونقد لا تنفسخ به وأمر بالكف وآجر الحاكم إن لم يكف حيث حصل بفسقه ضرر للدار أو الجار إلى آخره([5]) “.

الحالة الثانية: أن يكون عقد الإيجار مشتملاً على استغلال الذات المستأجرة في أمر حرام، وهذا حرامٌ ويُفسَخ فيه العقد لا لكون مآل العقد إلى استعمال المنافع في حرام، ولكن لكون صيغة العقد تشتمل على عقد على منافع معيّنة في معصية، وقد نصَّ صراحة على الشرط الكاساني في بدائع الصنائع حيث قال: ” وإسلامُه في الإجارة ليس شرطاً فتجوز الإجارة والاستئجارُ من المُسْلم والذّمي والحربي المستأمَن” إلى قوله: ” غير أنَّ الذّمي إذا استأجر دار مسلم في المِصْر فأراد أن يتخذها مصلّى للعامّة ويضرب فيها بالناقوس له ذلك، ولربّ الدار وعامة المسلمين أن يمنعوه من ذلك على طريقة الحسبة، لما فيه من إحداثِ شعائرهم وفيه تهاون بالمسلمين واستخفاف بهم، كما يُمنع من إحداث ذلك في دار نفسه في أمصار المسلمين، إلى قوله: ” وهذا إذا لم يشترط ذلك في العقد فإما إذا شُرط بأن استأجر ذمّي داراً من مسلم في مصر من أمصار المسلمين ليتخذها مصلى للعامّة لم تُجَزِ الإجارة، لأنه استئجار على المعصية” انتهى باختصار.

وفيه أيضاً عن أبي حنيفة جوازُ الحمّال يؤجر نفسه من شخص ليحمل له خمراً، وعند أبي يوسف ومحمد ” لا أجر له “.

وفي الجامع الصغير أنهما كرها الأجر لأنه على معصية. ووجه كلام أبي حنيفة: بأن الحَمْل ليس بمعصية؛ بدليل الحَمْل للإراقة والتخليل، وليس بسبب للمعصية وهي الشرب، لأن ذلك يحصل بفعل فاعل مختار، وليس الحملُ من ضرورات الشُّرب، فكانت سبباً محضاً فلا حكم كَعَصْر العنب وقطعه، والحديث محمولٌ على الحَمل بنيّة الشرب، وبه نقول، إنَّ ذلك معصيةٌ، ويكره أكل أُجرته([6]) أهـ كلامه باختصار وحذف.

ويُفهم من كلامه عدة أشياء، أولاً: أنَّ الإجارة تامةٌ وصحيحةٌ بين المسلم وغيره الذي يتخذُ الدار مصلَّى، وأن صاحب الدار وغيره سواء في القيام عليه حسبة لمنعه من ممارسة الشعائر غير المشروعة.

ثانياً: أن الشَّرط وليس العلم هو الذي يؤدّي إلى بطلان العقد:

أما الكلام الثاني على مذهب أبي حنيفة في جوازه أُجرة حمّال الخَمْر فيفهم منه أنّ كون الشيء سبباً أو وسيلة لا يكفي، بل لا بدّ أن يكون الفعل محرّماً لذاته فإذا انفكَّت الجهةُ لم ير بذلك بأساً، وبهذا يُقال في انفكاك الجهة بين العقار وبين التصرّف غير المشروع.

الحالة الثالثة: علم المُؤجِر بما ينوي المستأجِرُ أن يفعله بمنافع الذات من تصرفات غير مشروعة.

فأكثر العلماء لا يفرقون بين العلم والشرط في الإقدام وبطلان العقد. قال ابن قدامة في المغني: “ولا يجوز للرجل إجارة داره لمن يتخذها كنيسة أو بيعة، أو يتخذها لبيع الخمر، أو للقمار وبه قال الجماعة وقال أبو حنيفة: إنْ كان بيتك في السواد فلا بأس أن يؤجره لذلك، وخالفه صاحباه واختلف أصحابه في تأويل قوله، ولنا أنه فعل محرّم فلم تجز الإجارة عليه كإجارة عبدهِ للفجور.

ولو اكترى ذمّيٌ من مسلم داره فأراد بيع الخمر فيها فلصاحب الدار منعه، وبذلك قال الثوري، وقال أصحاب الرأي: إنْ كان بيته في السواد والجبل فله أن يفعل ما يشاء([7]) أ هـ.

قال خليلٌ في المختصر وهو يسرد المسائل التي تمنع فيها الإجارة: ” ولا تعلم غناء أو دخول حائض لمسجد أو دار لتتخذ كنيسة كبيعها لذلك”.

وقال الزرقاني معلقاً عليه: ” أو إيجار دارٍ أو أرضٍ لتتخذ كنيسة أو بيت نار أو محلاًّ لبيع خمرة أو عصره أو مجمعاً للفساق([8])” .

قال في البيان والتحصيل: وسُئل، الضمير يعود إلى ابن القاسم لأنه في رسم سماع سحنون عنه، عن الذي يبيع العنب لمن يعصُره خمراً أو يُكري حانوته ممَّنْ يبيع الخمر، أو يُكري دابّته إلى الكنيسة أو يبيعُ شاته لِمَنْ يذبحها لأعياد النصارى ـ قال: أمّا بيعُ العنب ممّن يعصره خمراً أو كراء البيت ممن يبيع الخمر فأرى أنْ يُفسخ الكراء ويُرَدَّ البيعُ ما لم يفُتْ، فإن فات تمَّ البيع ولم أفْسَخْه، وأما كراء الدّابة وبيعُ الشاةِ فإنّه يُمضَى ولا يُرَد.

وقد اختلف في كراء الدّابة قولُ مالك فمنْ ثمَّ رأيت له ذلك، وبلغني عن أشهب أنه سُئل عن الذي يبيع كَرْمَه من النصراني فقال: أرى أن تُباع على النصراني بمنزلة شرائه العبد المسلم([9]).

وعلَّق ابن رشد على كلامه معلِّلاً مُضيَّ البيع عند الفوات، والكراء كذلك: بأنه بيعٌ وكراءٌ لا غرَرَ فيه ولا فساد في ثمنٍ ولا مثمون، فأشبه البيعَ الذي طابق النهيَ كالبيع يوم الجمعة بعد النداء، وذكر ثلاثة أقوال:

الأول: مُضي البيع والكراء بعد الفوات بالثمن.

الثاني: الردُّ إلى القيمة عند الفوات.

الثالث: صحة البيع والكراء وعدم الفسخ ولو كانت ( العين) قائمة.

قائلاً: فعلى قياس هذا القول لا يفسخ بيع العنب ممن يعصره خمراً ولا كراء الحانوت ممن يبيع فيه الخمر وأدرك قبل فوات، فإنْ كان نصرانياً  مُنع من بيع الخمر في الحانوت وبيع عليه العنب، وإنْ كان مسلماً مُنع من جميع ذلك ولم يفسخ منه، إلى أن قال: ” وأما الكراء فيتصدق بجميعه، قيل: لأنه لا يحل له كثمن الخمر، وقيل: أدباً له لا من أجل أنه حرام كثمن الخمر، وهو ظاهر هذه الرواية، وسواء في العنب باعه ممن يعصره خمراً بتصريح أو باعه منه وهو يعلم أنه يعصره خمراً([10]) أهـ.

قال الزرقاني في شرحه للمختصر بعد أن ذكر منع بيع آلة الحرب للحربيين: ” قال في التوضيح: وكذا الدار لمن يتخذها كنيسة، والخشبة لمن يتخذها صليباً، والعنبُ لمن يعصرها خمراً، والنحاسُ لمن يتخذها ناقوساً، وكل شيء يعلم أن المشتري قصد به أمراً لا يجوز كبيع الجارية لأهل الفساد الذين لا غيرة لهم([11]).

وممّن قال بعَدم فسخِ الكراء في البيت يؤجره لمن يبيعُ فيه خمراً مع حرمة الإقدام ابن حبيب من المالكية، قائلاً: إنه إذا أكراه لمن يعلم أنه يبيعُ فيه الخمر لم يُفسخ الكراء بخلاف العنب. والفرق بينهما عنده: أن العنب يغابُ عليه، فلا يمكن منعه من عصره، بخلاف بيع الخمر في الحانوت([12]).

فتحصل في الحالة الثالثة: قولان بالفسخ وعدمه مع التصدق بالأجرة إما لأنها حرامٌ أو لتأديب المُؤجر دون أن يكون ذلك حراماً.

ملاحظة: فرّق بعضهم بين التعامل مع أهل الكتاب فيجوزُ ومع غيرهم فلا يجوز. وهذا يُفهم منْ كلام ابن رشد، حيث يقول في البيان والتحصيل: “وسُئل مالكٌ في بيع الجَزْرَة([13]) من النصراني وهو يعلمُ أنّه يريدها للذبح لأعيادهم في كنائسهم فكره ذلك، فقيل له: أيُكرَوْنَ الدوابَّ والسفن إلى أعيادهم. فقال: يتجنبه أحب إليَّ، وسُئل ابن القاسم عن الكراء فقال: ما أعلمه حراماً وتركه أحبّ إليَّ.

قال محمد بن رشد: وهذا كما قالا: إن ذلك مكروه وليس بحرام، لأن الشرع أباح البيع والاشتراء منهم والتجارة معهم وإقرارَهم، ذمّة للمسلمين على ما يتشرعون به في دينهم في الإقامة لأعيادهم، إلاّ أنه يكره للمسلم أن يكون عوناً لهم على ذلك، فرأى مالك هذا على هذه الرواية من العَوْن على أعيادهم فكرهه، وقد رُوي عنه إجازةُ ذلك وهو على القول بأنهم غيرُ مخاطبين بالشرائع([14]).

وهذا القول مبنيٌّ على عدم مخاطبتهم بفروع الشريعة كما صرَّح به ابن رشد وصرَّح به في المنهج المنتخب حيث قال الزقَّاق:

هل خوطبَ الكفار بالفروع   عليه كالوطء لذي الرجوع

والغسل والكرا وإحداد طلاق    وغرم كالخمر وتحليل عتاق

يعني بقول ” والكرا” كراء الدّابة” لكافر في عيده ليركبها([15]).

ومما يشبه هذا: ما ذهب إليه الشافعيةُ مِنْ جواز إيجار الذّمية على كنس المسجد وما ذهب إليه أبو حنيفة من جواز إجارة العقارات إليهم في السواد؛ لاتخاذها أماكن للعبادة.

وذكر الونشريسي في قواعده الخلاف في أنهم مخاطبون بالفروع وذلك في القاعدة ( 68 )، وأصلها للقرافي في الفروق والمقري في القواعد: وذكر مِنْ فروع هذه القاعدة إكراء الدابّة للنصارى ليركبوها لأعيادهم، وبيع الشاة لعيدهم.

ونقل عن ابن العربي: أنه لا خلاف في مذهب مالك أنهم مخاطبون إلاّ أنّ أبا بكر بن العربي قال: إنَّ الصحيح جوازُ معاملتهم مع رباهم واقتحام ما حرَّم الله سبحانه عليهم، فقد قام الدليل القاطع في ذلك قرآناً وسُنَّةً إلى آخر كلامه([16]).

وقد قال ابن رشد في البيان والتحصيل: إنَّ الصحيح أنَّهم غيرُ مخاطبين بالفروع([17]).

توجيه الخلاف بين العلماء في مسألة الإيجار منعاً وفسخاً وصحةً وإمضاءً:

أما القولُ بالمنع والفسخ فهو مبني على قاعدة سدّ الذرائع: ويقول بسدّ الذرائع في الجملة مالكُ وأحمد وينتفي من هذه القاعدة الأحناف والشافعيةُ ويعتمد القائلون بها ـ كقاعدة يُستند إليها في تقرير حكم فيما لا نصّ فيه، وإحداث أثر حيث لا يوجد وصف مؤثر يقاس عليه ـ عموم وظواهر آيات كتاب الله، ونصوص من السنة في مسائل تُشبهُ المسائل محل النزاع.

فمن الآيات قوله تعالى: { وتَعَاوَنوا على البِرِّ والتَقْوَى ولا تَعَاوَنوا على الإثْمِ والعُدْوان}.

قال القرطبي: “هي عبارةٌ عَنْ أمرٍ غير ممنوعٍ لنفسه يخافُ من ارتكابه الوقوعُ في ممنوعٍ([18])”.

وتوجيه القول بعدم الفسخ وبصحّة العقد ما أشار إليه ابن رشد وهو مسألة انفكاك الجهة، ومعناها: أنَّ النهي ليس منصبّاً على ماهية العقد، فالعاقدان لا يشوب إرادتهما عيب، والمعقود عليه مِنْ ثمن ومثمن لا غرر فيه ولا خطر، وإنما في استعمال محلّ العقد، وهو أمر خارج عن العقد.

وشبهه ابن رشد بالبيع وقت نداء الجمعة، وقد تقدم كلامُه. ومعلومٌ أن البيع وقت النداء مختلفٌ في فسخه على قولين ذكرهما في التوضيح، وأمّا حرمة الإقدام عليه فلا خلاف فيها كما نقله الحطاب عن الطراز([19]). ومقتضى مذهب أبي حنيفة اعتبارُ انفكاك الجهة([20]).

وأمّا مذهب الشافعي فعلى أصله في عدم الفسخ بالمآل مع الخلاف في حرمة الإقدام، وذلك في بيع العنب لمن يعصره خمراً.

ووجهه الرملي فقال بالحرمة إلاّ أنَّ صاحب المنهاج عطفه على البيوع المنهي عنها والتي لا يفسخ فيها، ونصُّه: ” وبيع الرُّطَب والعِنَب والتَّمْر والزبيب لعاصر خمر” إلى قوله: ومثل ذلك كل تصرّفٍ يُفضي إلى معصية كبيع أمرد إلى آخره([21]).

ونسب ابن قدامة إلى الشافعي القولَ بالكراهية في البيوع التي مآلها إلى الحرمة وشبهها ابن قدامة في ردّه على الشافعية بإجارة الأمَة للفاحشة ونصّه:

مسألة، قال: “وبيع العصير ممن يتخذه خمراً باطل”. وجملةُ ذلك: أنَّ بيع العصير لِمَنْ يعتقدُ أنّه يتخذه خمراً محرمٌ وكرهه الشافعي. وذكر بعض أصحابه أنّ البائع إذا اعتقد أنه يعصرها خمراً فهو محرّمٌ، وإنما يكره إذا شكَّ فيه. وحكى ابن المنذر عن الحسن وعطاء والثوري: أنه لا بأس ببيع التمر لمن يتخذه مسكراً. قال الثوري: بع الحلال ممن شئت. واحتجّ لهم بقول الله تعالى: { وأَحَلَّ الله البَيْعَ}([22])، ولأن البيع تمّ بأركانه وشروطه.

ولنا قول الله تعالى: { ولا تَعَاوَنوا على الإثْمِ والعُدْوان }. وهذا نهي يقتضي التحريم. ورُوي عن النبيe: ” أنه لعن في الخمر عشرةً، فروى ابن عباس:” أنّ النبيe أتاه جبريل فقال:” يا محمد، إنّ الله لَعَن الخَمرَ وعاصرها ومُعتصِرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وبائعها ومبتاعها وساقيها” وأشار إلى كل مُعاوِنٍ عليها ومساعد فيها. وأخرج هذا الحديث الترمذيُّ من حديث أنس، وقال: قد رُوي هذا الحديث عن ابن عباس وابنِ عمر عن النبيe. وروى ابن بطة في تحريم النبيذ بإسناده عن محمد بن سيرين: ” أنّ قيماً كان لسعد بن أبي وقاص في أرض له، فأخبره عن عنب أنه لا يصلحُ زبيباً ولا يصلح أن يُباع إلاّ لمن يعصره، فأمر بقلعه، وقال: بئس الشيخ أنا إنْ بِعْتُ الخمر”، ولأنه يعقد عليها لمن يعلم أنه يريدها للمعصية.

فأشبه إجارة أمَته لمن يعلم أنه يستأجرها ليزني بها، والآية مخصوصةٌ بصور كثيرة فيُخَص منها محل النزاع بدليلنا وقولهم: تم البيعُ وشروطه وأركانه، قلنا: لكن وُجِدَ المانعُ منه.

إذا ثبت هذا فإنما يحرم البيعُ ويبطُلُ إذا علم البائعُ قصدَ المشتري ذلك. إمّا بقوله، وإمّا بقرائنَ مختصة به تدلُّ على ذلك، فإما إن كان الأمرُ محتملاً، مثل أن يشتريها من لا يُعْلَم حاله أو مَنْ يعملُ الخل والخمر معاً ولم يلفظ بما يدلُّ على إرادة الخمر، فالبيع جائزٌ، وإذا ثبت التحريمُ فالبيعُ باطلٌ، ويحتمل أن يصحّ، وهو مذهب الشافعي، لأن المحرم في ذلك اعتقاده بالعقد دونه، فلم يمنع صحة العقد كما لو دلَّس العيب.

ولنا: أنه عقد على عين لمعصية الله بها، فلم يصح كإجارة الأمَة للزنا والغناء. وأما التدليسُ فهو المحرم دون العقد، ولأن التحريم ههنا لِحَقِّ الله تعالى، فأفسد العقد كبيع درهم بدرهمين، ويفارق التدليس فإنه لِحَقِّ آدميّ.

(فصلٌ): وهكذا الحكم في كل ما يُقصد به الحرام كبيع السلاح لأهل الحرب أو لقطّاع الطريق أو في الفتنة، وبيع الأمَة للغناء أو إجارتها كذلك، أو إجارة دارِه لبيع الخمر فيها، أو لتتخذ كنيسةً أو بيتَ نارٍ وأشباه ذلك. فهذا حرام والعقد باطل لما قدمنا. قال ابنُ عقيل: وقد نصَّ أحمد رحمه الله على مسائل نبّه بها على ذلك، فقال في القصَّاب والخبَّاز: إذا عُلِمَ أنّ من يشتري منه يدعو عليه مَنْ يشربُ المسكر لا يبيعه، ومَنْ يخترِط الأقداح لا يبيعها ممّنْ يشربُ فيها، ونهى عن بيع الديباج للرجال، ولا بأس بيعه للنساء. ورُوي عنه: لا يبيعُ الجوزَ من الصبيان للقمار. وعلى قياسه: البيضُ فيكون بيعُ ذلك كله باطلاً([23]).

وبهذا تكون الأقوال ثلاثة إذا اعتبرنا استواء الإجارة بالبيع، لأنها بيعُ المنافع، لا تفترقُ عن البيع إلاّ في قليل من المسائل تقتضيها طبيعة العقد:

1ـ قولٌ بجواز الإقدام وصحة العقد.

2ـ قولٌ بحرمة الإقدام وصحة العقد.

3ـ قولٌ بحرمة الإقدام وبطلان العقد.

إنَّ المؤجر لا يجوز له أن يؤجر عقاراً أو نحوه إذا كان المستأجر يستعمله فيما لا يشرعُ، بأن استعمله كحانة للخمر أو مثابة للقمار، أو غيره من أنواع الفسق كالربا والبغاء، وإنْ فعل ذلك كشرط في العقد فالذي يترجح هو الفسخُ وعدمُ جواز الاستفادة من الكراء، أما إذا لم يُشْتَرط وعلم المؤجر أن المستأجرَ سيستعمل العقار في المذكور أعلاه فإن الإقدام على الإيجار لا يجوز أيضاً كما عليه أكثر العلماء، لا فرق في ذلك بين أن يكون المستأجرُ مسلماً أو كافراً على الصحيح، كان العقار في أرض الإسلام أو غيرها إلاّ إنْ كان المستأجَر وسيلة نقل لكتابي تنقله لأداء شعائر دينه فالمشهورُ عن مالك الكراهةُ في هذه المسألة.

أما الفسخُ بعد إبرام العقد للعالمِ بمصيره فهو أمرٌ مختلفٌ فيه على قولين جيدين يصلحان للاعتماد لقوة مستندهما.

والذي أختاره عدمُ الفسخ من الكافر نظراً للقول بعدم مخاطبته بالفروع، والفسخُ بين المسلمين لئلا يقروا على حرام.

أما المال الذي يُحْصل عليه من الكراء في حالة عدم الفسخ، ففيه قولان: قولٌ بوجوب التصدق به وهو الصحيح، ولو فُرق بين مَنْ يحتاج الكراء وبين الغني الذي لا يحتاج له لكان وجهاً من النظر لأنهم أجازوا ثمنَ المبيع لفعل حرام إذا فاتت العينُ، كالدار يبيعُها لِمَنْ يبنيها كنيسة لاشتداد الضرر بدلاً من التصدق بكل الثمن. أما مَنْ أَجَّرَ وهو لا يعلم بما سيفعله المستأجر ثم اطلع عليه في أثناء مدة العقد فليس له الفسخُ وله الانتفاعُ بالأجرة، وهو كغيره من المسلمين فيما يجبُ من أمرٍ بمعروفٍ ونهيٍ عن منكرٍ.

إن هذا الموضوع يدور حول تنزيل الوسائل منزلة المتوسل إليه سداً لذريعة الحرام وتحريم الوسائل كما هو معروف أخف من تحريم المقاصد؛ ولهذا اختلف العلماء في الصور التي ذكرناها وقد اعتمدنا على الاستحسان في الفرق بين المحتاج وغيره بناء على مصلحة سد خلة المحتاج الذي هو مقصد من مقاصد الشريعة.

والله سبحانه وتعالى وليٌّ التوفيق ومُلْهِم للصَّواب.

([1])  تنبيه: كلما ورد في البحث من عبارة ( غير مشروعة ) فالمقصور أصالة لا الناشئ عن شروط المتعاقدين الصريحة أو الضمنية.

([2]) المجموع شرح المهذّب، تكملة المطيعي، 15/41.

([3]) ابن عابدين، ردّ المختار، ج6/ 81.

([4]) الوجيبة: الإيجار المحدد الزمن كعقار سنة بكذا وهو لازم. المشاهرة: إيجار لا تحد له نهاية بل تكون الأجرة مقابل أي زمان يستمتع فيه المستأجر بالعقار مثله، وهي منحلة من الطرفين. الزرقاني، ج7، ص 46 ـ 47 عند قول خليل “مشاهرة ولم يلزم لهما إلا بنقد فقدره كوجيبة” والمشاهرة المنحلة من الطرفين من مفردات مذهب مالك.

([5]) الزرقاني، 7 /46.

[6]-الكاساني      بدائع الصنائع     4/176 -190

([7])  المغني، ص5، ص 522.

([8]) الزرقاني               7/ 23

([9]) البيان والتحصيل      9/394ـ395

([10]) البيان والتحصيل           9/ 394ـ395

([11]) الزرقاني                  5/11

([12]) البيان والتحصيل         9/396

([13]) الجزرة هي: الواحدة من الإبل ـ انظر المصباح المنير جزر.

([14]) البيان والتحصيل              3 /276

[15]-المنجور      شرح المنهج       ص 261

[16]– إيضاح السالك            ص283- 285

[17]-البيان والتحصيل         18/514

[18]– الجامع لأحكام القرآن              2/57

[19]– حاشية البناني على الزرقاني      2/66

[20]–  ميزان الأصول                ص231

[21]– نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج       3/471

[22]– سورة البقرة  الآية 275

([23]) ابن قدامة           المغني      6 / 317ـ319    هجر للطباعة والنشرـ القاهرة.

إنشاء مجلس الإمارات للإفتاء تحت رئاسة العلامة عبد الله بن بيه

 

في خطوة لتنظيم الشأن الديني ، وتوحيد المرجعية في القضايا الدينية وضبط الفتوى، قام مجلس الوزراء الإماراتي بتشكيل أول مجلس اتحادي للإفتاء الشرعي، تحت رئاسة العلامة  عبد الله بن بيه، الذي يحظى باحترام كبير داخل المحافل الدولية.

ويمثل هذا المجلس الجديد المرجعية الرسمية لتنظيم عمل الجهات الحكومية والمؤسسات والأفراد الخاصة بالشأن الديني، والممثل الوحيد للدولة في جميع المجامع الفقهية الدولية، والمؤتمرات والمحافل المتعلقة بشؤون الفتوى الشرعية.

وسيكون من مهام المجلس إصدار الفتاوى العامة التي تخص مؤسسات الدولة والأفراد، وتأهيل المفتين وتدريبهم، والإشراف على البحوث والدراسات الشرعية ذات الصلة بمختلف مجالات التنمية، كما سيشرف على مركز الفتوى التابع للهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف.

تجدر الإشارة أن العلامة عبد الله بن بيه من أبرز المرجعيات الدينية المسلمة المعاصرة، تدرج في أعلى المناصب الشرعية والسياسية ،وصاحب رؤية شرعية أثبتت فاعليتها وقوتها العلمية وبعد نظرها الواقعي، ويترأس منتدى تعزيز السلم بأبوظبي الذي انبثق عن توصياته تأسيس مجلس حكماء المسلمين، كما يرأس مركز الموطأ للدراسات والتعليم بأبوظبي، ويشرف على برنامج إعداد العلماء الإماراتيين.

كما قاد العلامة بن بيه مجموعة من المبادرات المهمة لتعزيز السلم والسلام العالمي، من قبيل “إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي، مراكش 2016، ومبادرة إعلان واشنطن الذي كان من نتائجه تأسيس حلف الفضيلة من أجل الصالح العام 2018، ومبادرة إطعام مليار  جائع في العالم، كما أسس جائزة الإمام الحسن بن علي الدولية لتعزيز السلم.

الإيجار الذي ينتهي بالتمليك – بقلم العلامة عبدالله بن بيه

الإيجار الذي ينتهي بالتمليك ( الإجارة مع وعد التمليك)

الحمد لله الذي يخلق ما يشاء ويختار، يتصرف في خلقه بغالبات الأقدار بدون وزير ولا معين ولا مستشار، ألزم بشريعته تنفيذاً لحكمته في الابتلاء والاختيار.

والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي المختار، وعلى آله وصحبه الأخيار.

وبعد:

فهذا بحث يتعلق بإيجار البيع وبيع الإيجار، مسألة عمَّت بها البلوى في الأقطار، فراجعت هذه المسألة على اشتغال وركوب أسفار، إلا أني سلكت في البحث عنها الأنجاد والأغوار؛ قصد إخراجها عن قاعدة الغرر والخطار، ونفي الضرر والضِرار عن طريق إجارة مع بيع بخيار، أو وعد لاحق ببيع أو هبة بعد تمام عقد الإيجار، على صعوبة في الإيراد، ووعورة في الإصدار، آثرت في بحثي هذا الاختصار ومحاولة القرب من أقوال ذوي الاستبصار، معترف بالقصور عن شأو الاجتهاد والاختيار.

سائلاً الله جل وعلا -وهو الكريم الغفار- أن يوفقنا فيما أردنا ويسلمنا من العثار، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه وأزواجه أجمعين.

وبعد:

استجابة لطلب الأمين العام لمجمع الفقه أردت أن أقدم بحثاً مختصراً حول ما يسمى بـ(الإيجار الذي ينتهي بالتمليك)، وهو العنوان الذي اقترحه فضيلته لهذا البحث، وهذا الموضوع -كما يستشف من العنوان- هو موضوع جديد وعقد حديث، نشأ وترعرع في ظل القانون الوضعي، ومن المعلوم أن سنَّة التطور في هذا الزمان قد جرت، بأن أقطارنا الإسلامية أصبحت تستورد السلع المصنوعة من العالم الآخر، وقد تستورد معها التكنولوجيا؛ لتصنيع هذه السلع محلياً، وهو أمر مرغوب فيه، إلا أنها قد تستورد مع هذه السلع أحياناً كثيرة الأنظمة وطرق التعامل والتبادل، ووسائل التقاضي والتراضي، حيث تكون إرادة الطرفين قانوناً للعقد ورضاؤهما أساس الحكم الذي تصدر عنه القوانين، والذي يرجع إليه القضاة دون نظر إلى أصول خُلُقِية، وقواعد ضابطة لا يمكن الخروج عنها، فحادوا بذلك عن الصراط المستقيم، واختلَّت لديهم موازين العدل التي لا تقوم إلا على الأنظمة الإلهية التي لا يطمع في الاستلهام بمنهجها والاقتباس من نورها إلا من سلك سبيل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأخذ من الكتاب والسنة بقسط وافر، وأقام ميزاناً على هديهما عن طريق القياس الصحيح طبقاً لأصوله ومقاييسه التي وضعها وتواضع عليها سلف هذه الأمة، وهناك شرط آخر يغفله الكثيرون؛ ألا وهو أن يكون القائس عاملاً بما علم، متبعاً للسنة النبوية، إذ لا يقوم على هذا الميزان من حاد عن السبل، وجارت به الطرق، وارتضى ديناً غير دين الإسلام، وقانوناً يخالف شريعة سيد الأنام، فعميت عليه الأنباء، ولعبت بعقله الأهواء؛ لهذا فإن مسألتنا من هذه المسائل الموجودة في غير بيئة هذا الميزان، وليس معنى هذا أن نرفضها سلفاً، ونصدف عن جوهرها، ونتخذه صدفاً قبل أن نعرضه على ميزان الصدق الذي أشرنا إليه آنفاً، وعليه فسنفصل البحث فيها أولاً إلى مقدمة في تعريف هذا العقد، تعريفاً يشمل الجنس والفصل والخاصة، وتكييفه من الناحية القانونية، معتمدين في هذا على نقل أهل هذا الفن، تاركين لهم الكلمة في تعريفه وتكييفه وتصنيفه، ثم نصنف بحثناً في مسائل تنبني على الفروض المختلفة تبين وجهة النظر الفقهية باختصار، غير متوسعين في غرض القضية، ثم نختم بخاتمة نقترح فيها ما يمكن أن يكون بديلاً، أو أن يكون صيغة مقبولة من الناحية الشرعية.

مقدمة في تكييف العقد:

(الإيجار الذي ينتهي بالتمليك):

أحد الأسماء الذي أطلقه المترجمون والقانونيون العرب على العقد المعروف في القانون الفرنسي باسم (Vente Location)، ومعناها الحرفي -كما هو واضح-: إيجار بيعي؛ لأنه اسم مركب من كلمتين، وقد تطور هذا العقد وتعددت الأسماء طبقاً لهذا التطور، فقد كان أولاً يعرف باسم البيع بالتقسيط، والاحتفاظ بالملكية حتى استيفاء الثمن (Vente Atem? Cement)، ثم تطور إلى إيجار ساتر للبيع، ثم تطور إلى ما سموه بالإيجار المقترن بوعد بالبيع، وهذه الأسماء التي كان موضوعها في الأصل متحد، إلا أنها ليست اعتباطي، وليست من باب المترادفات التي لا تخدم أي غرض، بل تعدد الأسماء -كما يشير إليه القانوني السنهوري في شرحه للقانون المدني- ناشئ عن تدرج نظرة المشرع لهذا العقد؛ في محاولة لترجمة الهدف الذي يرمي إليه، والمصلحة التي يحرص على حمايتها، وهي مصلحة البائع كما هو واضح، فهو يرمي إلى الاستيثاق من أن المشتري سيفي بالثمن كاملاً في الوقت المحدد.

وفي مقابل ذلك يشترط البائع أن تبقى ملكيته قائمة بشكل ما حتى وفاء المشتري بالتزامه، بحيث يكون له الحق أولاً: في منع المشتري من تفويت الذات موضع العقد.

ثانياً: أن يكون له الحق في استرجاع الذات عند عدم الوفاء في الوقت المحدد.

ثالثاً: أن يكون له الحق في الحصول على مقابل انتفاع المشتري بالذات في حالة عدم البيع، ونقتطف المقتطفات التالية بنصها من كتاب السنهوري (الوسيط: ص173، 182).

البيع بالتقسيط مع الاحتفاظ بالملكية حتى استيفاء الثمن، أو الإيجار الساتر للبيع، النصوص القانونية:

تنص المادة (430) من التقنين المدني على ما يأتي:

1-             إذا كان البيع مؤجل الثمن؛ جاز للبائع أن يشترط أن يكون نقل الملكية إلى المشتري موقوف على استيفاء الثمن كله، ولو تمَّ تسليم المبيع.

2-             فإذا كان الثمن يُدفع أقساطاً؛ جاز للمتعاقدين أن يتفقا على أن يستبقي البائع جزءاً منه تعويضاً له عن فسخ البيع إذا لم توفَّ جميع الأقساط، ومع ذلك يجوز للقاضي -تبعاً للظروف- أن يخفض التعويض المتفق عليه وفقاً للفقرة الثانية من المادة (224).

3-             فإذا ما وفيت الأقساط جميعاً؛ فإن انتقال الملكية إلى المشتري يعتبر مستنداً إلى وقت البيع.

4-             وتسري أحكام الفقرات الثلاث السابقة ولو سمى المتعاقدان البيع إيجاراً.

وأول صورة لهذا البيع كانت هي البيع بالتقسيط، ثم تدرَّج التعامل من هذه الصورة إلى صورة الإيجار الساتر للبيع، وهو الآن في سبيله إلى التدرج نحو صورة ثالثة في الإيجار المقترن بوعد بالبيع.

ونستعرض هذه الصور الثلاث التي وقف منها التقنين المدني الجديد عند الصورتين الأوليين؛ لأنهما هما الصورتان الأكثر انتشاراً.

البيع بالتقسيط:

عرضت الفقرات الثلاث الأولى من المادة (430) مدني -كما رأينا- لحالة البيع بالتقسيط، فإذا باع تاجر عين سيارة أو آلة كاتبة أو راديو أو غير ذلك بثمن مؤجل واجب الدفع في ميعاد معين، أو بثمن مقسط أقساط متساوية على النحو الذي قدمناه، واشترط البائع على المشتري أن يكون البيع معلقاً على شرط واقف هو وفاء المشتري بالثمن المؤجل في الميعاد المحدد، أو وفاؤه بالأقساط جميعاً في المواعيد المتفق عليها؛ فإن البيع بهذا الشرط يكون صحيحاً، ويجب إعمال الشرط حتى لو سَلَّم البائع المبيع للمشتري قبل استيفاء الثمن، أو قبل استيفاء أي قسط من أقساطه.

في هذه الحالة تنتقل ملكية المبيع معلقة على شرط واقف إلى المشتري، ويستبقي البائع ملكية المبيع معلقة على شرط فاسخ.

وكل من الشرط الواقف والشرط الفاسخ هنا حادث واحد، هو أن يوفي المشتري بالثمن أو بأقساطه في الميعاد المحدد، فإذا فعل؛ تحقق الشرط الواقف، وانتقلت الملكية باتة بأثر رجعي إلى المشتري، وتحقق في الوقت ذاته الشرط الفاسخ، وزالت الملكية عن البائع بأثر رجعي أيضاً، ومن ذلك نرى أن البيع بالتقسيط هو صورة معكوسة لبيع الوفاء، إذ في بيع الوفاء يكون البائع هو المالك تحت شرط واقف، والمشتري مالك تحت شرط فاسخ.

وقبل تحقق الشرط يكون المشتري -كما قدمنا- مالكاً للمبيع تحت شرط واقف، ولا يمنع من وقف ملكيته أن يكون قد تسلَّم المبيع، فالذي انتقل إليه بالتسليم هو حيازة المبيع، أما الملكية فانتقلت إليه بالبيع موقوفة، ولكن ذلك لا يمنع المشتري من أن يتصرف في هذه الملكية الموقوفة، ويكون تصرفه هو أيضاً معلقاً على شرط واقف، وإذا كان المبيع منقولاً -كما هو الغالب- وتصرف فيه المشتري تصرفا باتّاً، لمشتر حسن النية لا يعلم أن ملكية المشتري معلقة على شرط واقف؛ فقد تملكه المشتري من المشترى تملكاً باتّاً بموجب الحيازة، ولا يعتبر المشتري في هذه الحالة مبدداً، فالتبديد يقتضي قيام عقد معين بالإيجار أو العارية أو الوديعة أو الرهن – وليس البيع بالتقسيط من بين هذه العقود.

ولو أفلس المشتري، والشرط لا يزال معلقاً؛ كان الباقي من الثمن دين في التفليسة، ولا يستطيع البائع من جهة أخرى أن يستردَّ المبيع من التفليسة.

فهذان أمران يجريان على غير ما يشتهي البائع: عدم اعتبار المشتري مبدداً إذا تصرف في المبيع.

وعدم استطاعة البائع استرداد المبيع عيناً من التفليسة.

وإذا تحقق الشرط، ووفى المشتري بالثمن؛ فقد صار مالكاً للمبيع هو وثمراته منذ البداية، وزال عن البائع ملكيته للمبيع بأثر رجعي.

أما إذا تخلف الشرط، وتأخر المشتري عن دفع الثمن؛ فإن ملكية المشتري التي كانت معلقة على شرط واقف تزول بأثر رجعي؛ لعدم تحقق الشرط، وتعود الملكية باتة إلى البائع منذ البداية، إذ أن البيع يعتبر كأن لم يكن، ولا يحتاج البائع في ذلك إلى حكم بزوال البيع، فإن تخلُّف الشرط الواقف وحده كاف في ذلك وفقاً للقواعد المقررة في الشرط، وللبائع في هذه الحالة أن يطالب المشتري بتعويض، ويغلب أن يكون قد اشترط في عقد البيع أن يكون التعويض هو احتفاظه بكل أو بعض الأقساط التي يكون قد استوفاها، ويعتبر هذا الشرط شرطاً جزائيّاً تسري عليه أحكام الشرط الجزائي، وأهم هذه الأحكام -وهو ما تشير إليه الفقرة الثانية من المادة (430) مدني- أنه يجوز للقاضي تخفيضه إذا كان مبالغاً فيه، ويكون مبالغاً فيه إذا كان المشتري قد وفى عدداً كبيراً من الأقساط، بحيث يكون احتفاظ البائع بها يزيد كثيراً على الضرر الذي لحقه من جرَّاء عدم استيفائه الباقي من الثمن.

ففي هذه الحالة يحكم القاضي بإرجاع بعض هذه الأقساط إلى المشتري، ويحتفظ البائع من الأقساط التي استوفاها بما يكفي لتعويضه.

الإيجار الساتر للبيع:

وحتى يتجنب البائع المحظورين اللذين أشرنا إليهما -عدم اعتبار المشتري مبدداً إذا تصرف في المبيع قبل الوفاء بالثمن، وعدم استطاعة البائع استرداد العين من تفليسة المشتري- يعمد في كثير من الأحيان أن يخفي البيع بالتقسيط تحت ستار عقد الإيجار، فيسمى البيع إيجاراً، وغرضه من ذلك ألا تنتقل ملكية المبيع إلى المشتري بمجرد العقد؛ حتى هذه الملكية المعلقة على شرط واقف، والتي كانت هي المانعة من اعتبار المشتري مبدداً، ومن استرداد البائع للمبيع من التفليسة، فيصف المتعاقدان العقد بأنه إيجار، ويصفان أقساط الثمن بأنها هي الأجرة مقسطة، ثم يتفقان على أنه إذا وفَّى المشتري بهذه الأقساط؛ انقلب الإيجار بيعاً، وانتقلت ملكية البيع باتة إلى المشتري، وحتى يحكما ستر البائع يتفقان في بعض الحالات على أن يزيد الثمن قليلاً على مجموع الأقساط؛ فتكون الأقساط التي يدفعها المشتري هي أقساط الأجرة لا أقساط الثمن، فإذا وفَّاها جميعاً، ووفى فوق ذلك مبلغاً إضافيّاً يمثل الثمن؛ انقلب الإيجار بيعاً باتّاً.

ويحسب البائع بذلك أنه قد حصن نفسه؛ فهو أولاً وصف البيع بأنه إيجار، وسلَّم العين للمشتري على اعتبار أنه مستأجر، فإذا تصرف المشتري فيها وهو لا يزال مستأجراً، أي: قبل الوفاء بالثمن؛ فقد ارتكب جريمة التبديد، ومن ضمن عقودها الإيجار.

وهو ثانياً قد أمِن شر إفلاس المشتري، إذ لو أفلس وهو لا يزال مستأجراً؛ فإن البائع لا يزال مالكاً للمبيع ملكية باتة، فيستطيع أن يسترده من تفليسة المشتري.

ولكن بالرغم من تذرع المتعاقدين بعقد الإيجار يستران به البيع، فإن الغرض الذي يرميان إلى تحقيقه واضح، فقد قصدا أن يكون الإيجار عقداً صوريّاً يستر العقد الحقيقي وهو البيع بالتقسيط، والمبلغ الإضافي الذي جعله المتعاقدان ثمناً ليس إلا ثمناً رمزياً، والثمن الحقيقي إنما هو هذه الأقساط التي يسميانها أجرة.

ومن ثم قضت الفقرة الرابعة من المادة (430) مدني، بأن أحكام البيع بالتقسيط تسري على العقد، ولو سمى المتعاقدان البيع إيجاراً، ويترتب على ذلك أن الإيجار الساتر للبيع يعتبر بيعاً محضاً، وتسري عليه أحكام البيع بالتقسيط التي تقدم ذكرها، وأهمها أن تنتقل ملكية المبيع إلى المشتري معلقة على شرط إلى آخره.

وبعد أن رأينا تكييف المسألة من الناحية القانونية والفروض التي افترضها القانونيون، والعروض التي أرسوها عليها؛ يجدر بنا أن نُفَصِّل الموضوع إلى عدة مسائل طبقاً للمقدمة التي كرسناها للتكييف القانوني لهذا العقد.

المسألة الأولى: بيع بالتقسيط لا تنتقل فيه الملكية إلا بعد الوفاء بالأقساط:

هذه المسألة مسألة مختلف فيها لوجود شرط غير ملائم للعقد؛ لأن الأصل في البيع أن يكون باتّاً، فتعليق البيع على هذا الشرط لا يوافق عليه أكثر العلماء؛ لأنه منافٍ لتمام الملكية التي ينبني عليها البيع، وفيه جهالة بالمال، وهو يتخرج على الخلاف في الشروط؛ فيكون فيه ثلاثة أقوال:

قول ببطلان البيع والشرط.

وقول بصحة البيع وبطلان الشرط.

وقول بصحة البيع وصحة الشرط، وهذه القوال -كما هو معروف- مبنية على اختلاف مواقف العلماء من أحاديث الشروط المعروفة، وهي:

أولاً: حديث جابر المتفق عليه وفيه ” اشترى مني النبي صلى الله عليه وسلم بعيراً واشترط ظهره إلى المدينة ” وهو حديث صحيح ادُعِي فيه الاضطراب، وهو غير مؤثر هنا؛ لأنه يُشترط لتأثير الاضطراب تكافؤ سندي الطرق المختلفة، أما إذا لم تتكافأ؛ فيسار إلى الترجيح كما حققه العلامة ابن دقيق العيد.

ثانياً: حديث بريرة وهو متفق عليه أيضاً: ” كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولو كان مائة شرط ” .

ثالثاً: حديث جابر الذي رواه مسلم في صحيحه، قال: ” نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة، قال أحدهما –أي: الراويين- بيع السنين هو المعاومة، وعن الثنيا، ورخص في العرايا ” .

رابعاً: حديث أبي داود عن أبي هريرة -بعد سنده- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” من باع بيعتين في بيعة؛ فله أوكسهما أو الربا ” .

خامساً: الحديث الذي أخرجه الخمسة، وصححه الترمذي والحاكم وابن خزيمة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك ” .

سادساً: الحديث الذي رواه أبو حنيفة في مسنده بالسند السابق: ” نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط ” ، أخرجه الطبراني في الأوسط بصيغة: ” نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، البيع باطل والشرط باطل ” .

ولاختلاف العلماء في كيفية الأخذ بهذه الأحاديث نشأ الخلاف في مسألة الشروط؛ فمنهم من أخذ ببعضها، ومنهم من أوَّلَ الجمع بينها:

فذهب أبو حنيفة والشافعي إلى بطلان البيع والشرط.

وأجاز ابن شبرمة البيع والشرط جميعاً.

وأجاز ابن أبي ليلى البيع والشرط.

وأجاز أحمد الشرط الواحد.

هذه مذاهبهم باختصار شديد، أما مالك ففصل تفصيلاً وحاول الجمع بين الأخبار، ذكرها ابن رشد في البيان والتحصيل، وذكر بعضها حفيده في بداية المجتهد، مؤداه: أن الشرط الذي لا يناقض المقصود من العقد.. لا يبطله، إلا أنه مرة يكون مكروهاً، ومرة يكون جائزاً، والشرط الذي يناقض المقصود تارة يلغيه دون العقد، وتارة يلغي العقد والشرط، وذلك بحسب مناقضة الشرط للعقد، فمرة يناقض أصل العقد مناقضة تامة، وتارة يناقض حكماً من أحكام العقد أو شرطاً من شروطه لا يدخل في ماهيته، فلا يكون مبطلاً للعقد.

وتفاصيل ذلك معروفة سترى بعضها في كلامنا على هذه المسألة، وهي المعروفة عند المالكية بمسألة البيع على أنه إن لم يأتِ بالثمن لكذا فلا بيع، والمشهور في مذهب مالك إلغاء الشرط وصحة العقد، قال خليل في مختصره في سرد نظائر يصح فيها العقد ويبطل الشرط: (كمشترط زكاة ما لم يطب وإن لا عهدة ولا مواضعة، أو لا جائحة أو إن لم يأتِ بالثمن لكذا فلا بيع)، ففي هذه المسائل يصح العقد ويبطل الشرط، إلا أن مسألتنا هي المسألة الأخيرة، أي: إن لم يأت بالثمن لكذا؛ فلا بيع فيها ثلاثة أقوال عن مالك متخرجة على قاعدة الشروط السالفة الذكر، نقلها خليل في توضيحه عن ابن لبابة قائلاً: ذكر ابن لبابة عن مالك في هذه المسألة ثلاثة أقوال: صحة البيع وبطلان الشرط، وصحتهما، وفسخ البيع، ولكن المدونة التي اتبعها المصنف في المختصر اقتصرت على الأول؛ وهو بطلان الشرط وصحة البيع، ونصها في آخر البيوع الفاسدة: (ومن اشترى سلعة على أنه إن لم ينقد ثمنها إلى ثلاثة أيام -وفي موضع آخر: إلى عشرة أيام- فلا بيع بينهما، لا يعجبني أن يعقد على هذا، فإن نزل ذلك صح البيع وبطل الشرط وغرم الثمن). انتهى. [1]

وذكر الحطاب في التزاماته في هذه المسألة سبعة أقوال، حصلها من كلام المدونة وشروحها، كشرح الشيخ أبي إسحاق التونسي، وابن يونس، واللخمي، والرجراجي، وفي كلام ابن بشير، وصاحب التوضيح، وابن عرفة، وغيرهم، أعرضنا عن هذه النقول لطولها، واقتصرنا على الأقوال الثلاثة السالفة الذكر؛ لانبنائها على قاعدة الشروط. [2]

إلا أن خليل في باب النكاح مشى على شطر آخر من قاعدة الشروط، فحكم بفسخ العقد قبل الدخول، فقال في سرد النظائر التي يكون الشرط فيها موجباً لفسخ النكاح قبل الدخول: (وقبل الدخول وجوباً في ألا تأتيه إلا نهاراً أو بخيار لأحدهما أو غيره، على إن لم يأت بالصداق لكذا فلا نكاح وجاء به، وما فسد لصداقه أو على شرط يناقض كأن لا يقسم لها أو يؤثر عليها أو ألغى)، ذكرنا نص خليل على طوله؛ لأنه يشير إلى نوعين من الشروط:

شروط لا تلائم العقد؛ لأن الحكم يوجب خلافها، وهي المشار إليها في الفقرات الأولى.

وشروط تناقض العقد، وهي المشار إليها في الفقرة الأخيرة؛ ليتضح الأمر لا بد من الإشارة إلى القاعدة التي أصلوها، والتي تفرق بين الشرط الذي يوجب الحكم خلافه، إلا أنه لا يناقض العقد، مشيرة إلى الخلاف في هذا النوع من الشروط بخلاف ما يناقض العقد أن يهدم ركناً من ماهيته، فإنه إما أن يبطل العقد، أو يلغى دونه، وإلى هذه القاعدة أشار الزقاق في المنهج بقوله:

هل شرط ما لا يقتضي الفساد      إن خالف الحكم اعتباراً فادا

كرجعة نفي رجوع واعتصار       ونفيه ضمان رهن ومعار

ونفيه وشهروا لا في الذي   خالف سنة العقود فاحتذي

كمودع ضمن واكتراء       وشبه دين وابن زرب رائي

خلا تبرع بعيد العقد وألزم القراض بعد القيد

به ولابن بشر التزامه        تلميذه نصره حسامه

وغيره أنكره ومنعاً   ولكلا الرأيين مبناً سمعاً

أشار المنهج إلى جملة من المسائل، وذكر قول ابن زرب في أن لِقيد اللاحق بالعقد لا يبطله كتطوع عامل القراض بضمانه، وكذلك ابن بشر شيخ ابن عتاب، وصحح تلميذه في مال القاصر يدفعه الوصي قراضاً بجزء من الربح، ويتطوع العامل بضمان المال وغرمه إذا تلف قائلاً أن ذلك شرط جائز، وخالفه غيره لمخالفة ذلك لسنة هذه العقود. [3]

إلا أن مسألتنا هذه لا تقتصر على كونها بيع لا يتم نقل الملكية فيه إلا باستيفاء الثمن، ليكون داخلاً في الخلاف المشار إليه، فهو زيادة على ذلك بيع يتضمن غرر ويخالف سنة العقد في كل وجه؛ لأن المشتري إذا دفع الأقساط ولم يأتِ بآخر قسط منها؛ ضاع عليه ما أدَّى، وضاعت عليه السلعة محل البيع، ومعلوم أن البيع الفاسد يفوز فيه المشتري بالغلة في مقابل ضمان، فلو فسخ العقد كان للبائع أن يستزيد بالأقساط التي حصل عليها في مقابل الاستغلال؛ لأن الغلة في مقابل الضمان كما ورد في الحديث الذي أصبح بعد قاعدة: (الخرج بالضمان)، فقد أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والإمام أحمد.

قال في المنهج: الخرج لضمان أصل قد ورد في مستحق شفعة بيع فسد.. إلخ.

فهذه المسألة الأولى أو الفرض الأول لا يمكن أن تصحَّ بوجه من الوجوه، والأهداف التي يحددها القانون لا يوصل إليها، ومنها استرداد السلعة عند فلس المشتري، ألا يخالفه للحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني، ورواه مالك عن الزهري، وهو: ” أيما رجل باع سلعة فأدرك سلعته بعينها عند رجل أفلس ولم يكن قد قبض من ثمنها شيئاً؛ فهي له، وإن كان قد قبض من ثمنها شيئاً؛ فهو أسوة الغرماء ” .

المسألة الثانية:

أما المسألة الثانية، وهي عقد إيجار ساتر للبيع، وهذه الصورة كما تبدو إنما هي بيع سمي إيجاراً؛ لئلا تترتب عليه آثار البيع، فمن جهة البائع هو يحتفظ بملكيته، ومن جهة المشتري فهو لا يستطيع التصرف، فكأنه إيجار بهذا المعنى لتلبية مطلب البائع، إلا أنه بيع من حيث أن الأقساط إذا وفَّى بها؛ نشأت عن الوفاء بها نقل الملكية بأثر رجعي، وهو من آثار البيع، وليس من آثار الإجارة نقل ملكية الذات، فهذا العقد بهذه الخصائص هو عقد غرر ومجازفة؛ لأن المشتري قد يعسر في آخر قسط، وقد دفع أقساط لا تناسب الإجارة؛ لأنها تتجاوز قيمة المنافع، وهي في الأصل قيمة للرقبة، فقد خسر الثمن والمثمون اللذين ربحهما البائع، ويكون بذلك البائع قد حصل على العوض والمعوض خلافاً للقاعدة الشرعية المشهورة التي ذكرها المقري وغيره، فقال القاضي أبو عبد الله المقري: (قاعدة الأصل ألا يجتمع العوضان لشخص واحد؛ لأنه بمعنى العبث وأكل أموال الناس بالباطل)، قال في المنهج في سرد نظائر من القواعد التي تعتبر أصول:

والإذن للعداء وألا يجمعا     الشخص بين عوضين فاسمعا

وليس كل عقد يتردد صاحبه في نتيجته ممنوع، بل هناك من العقود ما تحصل مصلحته عاجلاً: كالبيع والإجارة والهبة، كما يقول المقري، وهناك ما لا تحصل مصلحته عاجلاً: كالقراض؛ لأن المقصود الربح، وقد لا يحصل فيضيع تعب العامل، بل قد يضيع رأس المال، وهذا جائز نفي للضرر عن المتعاقدين. [4]

ومن المسائل التي أجازوا فيها الغرر مع التردد في مآل الأمر:

مسألة بيع كتابة المكاتب، والمشتري لا يدري هل يفي المكاتب بما عليه فيحصل على دراهم، أو لا يحصل عليها فيحصل على عبد، ولكن لما كان البائع قد أحلَّ المشتري محله، فهو –أي: البائع- مهما كانت النتيجة لا يحصل على أكثر من الثمن الذي دفعه له المشتري سلفاً، أجازوا هذه المعاملة استحساناً مخالفة للقياس.

قال ابن رشد في البيان والتحصيل (18/83)، قال: (حدثني ابن القاسم، عن مالك، عن ربيعة بن عبد الرحمن: أنه كره أن تباع كتابة المكاتب، ويقول هو خطار أن عجز كان عبداً له، وإن أدى أربعة آلاف درهم)، قال محمد بن رشد: (الغرر في هذا بين كما قال، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة، إلا أن مالكاً وأصحابه أجازوا ذلك استحساناً واتباعاً على غير قياس، وله وجه، وهو أن المشتري للكتابة يحل فيها محل سيده، والذي كاتبه في الغرر؛ لأنه إذا كاتبه لا يدرى هل يؤدي ما كاتبه عليه، أو يعجز فيرجع رقيقاً له؟ وذلك جائز بقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } [سورة النور:33] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ” المكاتب عبد ما بقي عليه درهم من مكاتبته ” ،

هذا الحديث أخرجه مالك في الموطأ، وهو في سنن أبي داود والترمذي، ولكن قضيتنا هذه لا يدري المشتري فيها هل يعجز؛ فيكون قد دفع أكثر الثمن وخسر المثمن، أما البائع فهو دائماً بأفضل الخيارين، فهذا خطار وغرر شديد يجعل هذه المسألة أيضاً تدخل في العقود الممنوعة.

قال الحطاب في التزاماته: (ما يؤول إلى الإخلال بشرط من الشروط المشترطة في صحة البيع)، كشرط ما يؤدي إلى جهل وغرر في العقد، في الثمن أو في المثمن، أو إلى الوقوع في ربا الفضل، أو في ربا النساء، كشرط مشورة شخص بعيد، أو شرط الخيار إلى مدة مجهولة، أو إلى مدة زائدة عما قرره الشرع في السلعة المبيعة، أو شرط تأجيل الثمن إلى أجل مجهول، أو شرط زيادة شيء مجهول في الثمن، أو في المثمون؛ فهذا النوع يوجب فسخ البيع على كل حال، فاتت السلعة أو لم تفت، ولا خيار لأحد المتبايعين في إمضائه، فإن كانت السلعة المبيعة قائمة؛ ردت بعينها، وإن فاتت؛ ردت قيمتها بالغة ما بلغت، ويستثنى من هذا النوع مسألة، وهي البيع بشرط أن يسلف المشتري البائع أو العكس، فإنه لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى الجهل بالثمن، فإن وقع ذلك فالمشهور أنه يفسخ ما دام مشترط السلف متمسكاً به، فإن أسقط مشترط السلف شرطه صح البيع، وسواء أخذ مشترط السلف سلفه وغاب عليه أم لا على المشهور.

وقال سحنون: (إنما يصح إسقاط مشترط إذا لم يأخذ مشترط السلف ما اشترطه)، وأما إن أخذه وغاب عليه فلا بد من فسخ ذلك ورد السلعة؛ لأنه قد تم ما أراده من السلف، وهذا إذا كانت السلعة قائمة بيد المشتري، فأما إن فاتت فلا يفيد الإسقاط؛ لأن القيمة قد وجبت عليه حينئذ، فلا بد من فسخه، فإن كان السلف من البائع فله الأقل من الثمن أو القيمة يوم القبض ورد عليه السلف، هذا مذهب المدونة وهو المشهور، وقاله المازري، وظاهر إطلاق ابن الحاجب وغيره؛ لأنه لا فرق بين أن يكون الإقساط قبل فوات السلعة أو بعد فواته.

المسألة الثالثة:

أما المسألة الثالثة، وهي الإجارة مع وعد بالتمليك بهبة أو بيع، فهي مسألة يجب أن ينظر إليها من عدة وجوه:

أولها: هل هذه الإجارة إجارة جادة، بمعنى أن الأقساط المدفوعة تناسب قدر الإيجار؛ فتكون إجارة حقيقية مصحوبة بوعد؟

ثانياً: وهل الوعد حصل في صلب العقد بحيث يؤثر على الثمن، أو كان تطوعاً بعد العقد؟ وهل كان وعداً بالهبة أو وعداً بالبيع؟

كل هذه الأوجه تترتب عليها أحكام تخص كلّاً منها، فلنبدأ بأقرب هذه الأوجه للصحة والقبول؛ وهو أن يكون الطرفان قد عقدا بينهما إجارة، وبعد العقد وعد البائع المشتري بأن يهبه تلك العين إذا هو وفّى بأقساط الإيجار في وقته المحدد برغبته في الوفاء، فهذه الصورة تعتبر وعداً بهبة، وهو وعد ملزم على أصل مالك في الوعد المعلق على سبب على ما استظهره بعض الشيوخ من الخلاف في مسألة الإلزام بالوعد، فمعلوم أن مذهب مالك فيه أربعة أقوال فيما يتعلق بالإلزام بالوعد:

القول الأول: أن الوعد لا يلزم به شيء، وأن الوفاء به إنما هو من مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، وهذا موافق للمذاهب الأخرى. [5]

والقول الثاني عن مالك -هو معلوم-: هو لزوم الوعد الواقع مطلقاً، وهو كما رأيت مخالف للمذاهب الأخرى.

وقول بالتفصيل عن مالك بين الوعد الواقع على سبب فيلزم.

وقول رابع هو المشهور: أنه إذا أدخل الموعود به في ورطة فإنه يلزم، وقد أجمل صاحب المنهج هذه الأقوال الأربعة بقوله:

هل يلزم الوفاء بالوعد نعم   أو لا نعم لسبب وإن لزم

فالمسألة هنا تدخل في قاعدة أن من التزم شيئاً بسبب عمل الملتزم له الإتيان بما يلزمه إذا كان الملتزِم -بكسر الزاي- يعلم بوجوب ذلك العمل على الملتزَم له بدون مقابل، وأسسوا على ذلك، كما قال الحطاب في التزاماته: (ص 189)، نقلاً عن ابن رشد في البيان والتحصيل، بعد أن نقل عدم لزوم الوعد على الواجب على الملتزَم له -بفتح الزا- قائلاً ما نصه: (قال محمد بن رشد: قال ابن القاسم في رواية ابن جعفر الدمياطي عنه: وذلك إذا لم تعلم –أي: زوجته- أنه كان يلزمه أن يأذن لها –أي: في الحج- وأما إذا علمت، فذلك لازم لها؛ لأنها أعطته مالها طيبة بذلك نفسها، وقوله هذا مفسر لهذه الرواية، وأطال الكلام في هذه المسألة إلى أن قال الحطاب:

تنبيه: فعلى ما قاله ابن رشد إذا كان الملتزِم يعلم أن ذلك الفعل يجب على الملتزَم له، ثم علق الالتزام عليه؛ فإنه يلزمه ويحمل على أنه أراد ترغيبه في الإتيان بذلك الفعل، كقوله: إن صليت الظهر اليوم فلك عندي كذا وكذا.

والله أعلم.

وذكر كثيراً من المسائل، من هذا النوع: من أعطى لزوجته داراً على أن تسلِم.

ومن ذلك أيضاً: من يقول لعبده: إن تركت شرب الخمر أو الزنا؛ فأنت حر، فهذا لازم.

أما الوعد بالهبة في صلب العقد إذا كان من شأنه أن يؤثر على الثمن؛ فهذا لا يجوز، وهو من باب الجعل، والجعل لا يجوز جمعه مع الإجارة، فكأنه قال له: إن فعلت كذا فلك كذا، قال خليل في الإجارة: (وفسدت إن انتفى عرف تعجيل معين كمع جعل).

قال الزرقاني لتنافي الأحكام فيهما: فهذا الوعد بالهبة -كما ترى- فهو جهة جعل لا يجوز جمعه مع الإجارة، ومن جهة أخرى قد يؤثر في الثمن، أي: في قدر الإيجار، فلا يدري ما أعطى مقابل الوعد بالهبة، أي: هي هبة ثواب، وما أعطى مقابل الإيجار حقيقة.

والوعد بالهبة في صلب العقد بالإجارة أو بالمساقاة أو غيرهما لا يوجد فيه نص صريح ما عرف عن مالك وابن القاسم وسحنون من وجوب الوفاء بالوعد إذا أدخل الموعود في ورطة، إلا أنهم إنما افترضوا هذه المسألة في عقود أخرى كالخلع، قال خليل: (وبالوعد أن ورطها).

أما في عقد البيع مثلاً، فظاهر كلام مالك يدل على المنع إذا كان الأمر معلقاً على شيء لا يدري هل يقع أم لا؟

قال الحطاب في التزاماته: (قال في رسم القبلة من سماع ابن القاسم من جامع البيوع: سمعت مالكاً يقول: لا أحب البيع على أنه إذا وجد ثمناً قضاه، وإن هلك ولا شيء عنده لا شيء عليه.

قال ابن القاسم: فإن وقع هذا الشرط وفات؛ لزم المشتري قيمتها يوم قبضها.

قال محمد بن رشد: هذا الشرط من الشروط التي يفسد بها البيع؛ لأنه غرر، فالحكم فيه الفسخ مع قيام السلعة شاءً أو أبيّاً، ويصبح في فواتها بالقيمة بالغة ما بلغت، وهو ظاهر قول ابن القاسم وتفسير لقول مالك، إذ قد يقول كثيراً فيما يجب فيه الفسخ لا أحب هذا، أو أكرهه أو شبهه من الألفاظ، فيكتفي بذلك من قوله.

ونقله في النوادر وزاد فيه: قال ابن القاسم: هذا حرام، ويُرَدُّ، فإن فات فعليه قيمتها يوم قبضها.

أما الوعد بالبيع فهو مؤثر على الثمن ومخل بهن، وسبب للجهالة، وأكثر افتراضات نصوص المذهب وشروحه إنما هي في إيجاب الوفاء بالوعد في مسائل التبرعات، كالهبة؛ لأنها تملك بالقول عند مالك، وهذا من أسرار مذهب مالك في مسألة الوعد، وكذلك الصدقة والعتق والطلاق.

أما البيع فإنه لا ينعقد إلا بالصيغ المشار إليها بقول خليل: ينعقد البيع بما يدل على الرضا.. إلى آخره، فالتزامه بالوعد إلزام بالبيع، والنظر في العقود غالب إلى المآل كما أشار إليه الزرقاني في مسائل الثنيا.

وعليه فهذه الصيغة تعتبر تلفيقية في غاية الضعف.

أما الوعد بالبيع بعد عقد الإجارة فيخرج على المسألة المشهورة عند المالكية، وهي إذا قال البائع للمشتري بعد عقد البيع: إذا أنا أتيتك بالثمن رددت إلى المبيع، فقبل المشتري بذلك؛ فإن ذلك يلزمه.

قال الحطاب في التزاماته: مسألة:

قال في معين الحكام، ويجوز للمشتري أن يتطوع للبائع بعد العقد بأنه إن جاء بالثمن إلى أجل كذا فالمبيع له، ويلزم المشتري متى جاءه بالثمن في خلال الأجل، أو عند انقضائه أو بعده على القرب منه، ولا يكون للمشتري تفويت في خلال الأجل، فإن فعل ببيع أو هبة أو شبه ذلك؛ نقض أن أراده البائع ورُدَّ إليه، وإن لم يأتِ بالثمن إلا بعد انقضاء الأجل؛ فلا سبيل له إليه، وإن لم يضربا لذلك أجلاً فللبائع أخذه متى جاءه بالثمن في قرب الزمان أو بعده ما لم يفوته المبتاع، فإن فوته فلا سبيل له إليه، فإن قام عليه حين أراده التفويت فله منعه بالسلطان إذا كان ماله حاضراً، فإن باعه بعد منع السلطان له رُدَّ البيع، وإن باعه قبل أن يمنعه السلطان نفذ بيعه.

ويتخرج أيضاً قاعدة الشروط اللاحقة لا يبطل بها العقد، كما نقلناه عن ابن زرب من المالكية وابن بشر وتلميذه ابن عتاب.

خلاصة القول:

إن هذا العقد المسمى بالإيجار الذي ينتهي بالتمليك في شكله القانوني والعرفي الحالي لا يشبه العقود الجائزة، ولا يمكن أن يكون جائزاً على بعض أقوال العلماء إلا إذا أخذ إحدى الصيغ الخمسة التالية:

أولاً: أن يكون إيجاراً حقيقيّاً، ومعه بيع خيار عند من يجيز الخيار المؤجل إلى أجل طويل؛ كالإمام أحمد، ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف، وابن المنذر، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأبي ثور يشترط أن تكون المدة معلومة محدودة، واجتماع البيع مع الإجارة جائز في عقد واحد بشرط أن يكون لكل منهما موضوع خاص به في رأي كثير من العلماء، كالشافعية والحنابلة والمالكية، قال خليل عاطفاً عطف مغايرة: (كمع جعل لا بيع)، قال الزرقاني بعقد واحد، فلا يفسد كاشترائه ثوباً بدراهم معلومة على أن يخيطه البائع.

وإننا فرقنا بين هذا وبين الوعد المؤثر بالثمن بالجهالة؛ لأنه هنا إجارة حقيقية وبيع بالخيار، بشرط أن يعقدا على ثمن خاص للبيع يشبه مثله.

ثانياً: وعد ببيع لاحق بعد الإيجار، وقد علمت تخريجه على مسألة الإقالة السابقة، وهذه الصيغة ضعيفة لا تجد سنداً إلا في أصل وجوب الوفاء بالوعد، وهو في البيوع غير مفرَّع عليه في المذهب كما أسلفنا، إلا أنها لما كانت بعد العقد كانت أخف من شرط البيع الواقع في العقد؛ فأمكن تخريجه على الوعد الواقع على سبب وقد تقدم ما فيه.

ثالثاً: وهو أن يبيعه بشرط ألا يمضي البيع إلا بدفع الثمن، وهذه ليست من باب البيع؛ فيكون البيع معلقاً على دفع آخر الثمن، وحسبما يفيده الزرقاني عن ابن الحسن على المدونة، هذه الصيغة جائزة معمول بها وسلمه البناني مع كلمة (ألا يمضي) بدل من كلمة (أن لا ينعقد)؛ فتكون الذات كالمحبوسة للثمن أو للإشهاد، كما أشار إليه خليل بقوله: (وضمن بالقبض إلا المحبوسة للثمن أو للإشهاد فكالرهن).

فالبيع منعقد غير نافذ، فإذا دفع بعض الثمن وأراد البائع استرجاع السلعة؛ يُرَدُّ ما أخذ من الثمن.

وصورة رابعة: وهي أن يبيعه بيعاً باتّاً على أن لا يتصرف له في المبيع حتى يفي بالثمن، فيلزمه الوفاء بذلك، وتصير كالمرهونة، فلا يتصرف فيها، وهي مستثناة من قول خليل: (وكبيع وشرط يناقض المقصود، قال الدردير: (كأن يشترط البائع على المشتري أن لا يبيع أولا يجلب أو لا يتخذها أم ولد).

ونقل عليش في شرحه ما يلي: في سماع عن ابن زياد، سئل مالك رضي الله عنه عمن باع عبداً أو غيره وشرطه على المبتاع أن لا يبيعهن ولا يهبه، ولا يعتقه حتى يعطيه ثمنه، فلا بأس بهذا؛ لأنه بمنزلة الرهن إذا كان إعطاء الثمن لأجل مسمى.

خامساً: وعد بهبة لاحق بعقد الإيجار جار على سبب، وهذا أجدر هذه الأوجه بالجواز، وأولاها بالصواب، وهذا ما نراه في هذه المسألة باختصار.

نسأل الله السلامة من العثار، والله سبحانه وتعالى أعلم.

[1] راجع: (الدسوقي في حاشيته على الدردير الجزء الثالث: ص175، 176).

[2] راجع: (ص366) من تحريم الكلام في مسائل الالتزام.

[3] انظر: المنثور في شرحه على الزقاق: (ص87، و88) مخطوطات الشنقيطي.

[4] (انظر المنثور: ص135 و 136).

[5] راجع المغني لابن قدامة في مسألة تعليق الهبة: (5/658).

ليلة القدر

ليلة اجتهاد وعمل،

والسّعيد من جعل كل لياليه ليلة قدر،

فمن يُعطِي هذه الليلة ويفتح، يَهب كل حينٍ ويمنح.

فالحمدلله الكريم الوهّاب.

العلامة عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

 

دعاء العلامة عبدالله بن بيه.

ماهو حكم إقامة الجمعة إذا وافقت يوم العيد؟

السؤال :

ماهو حكم إقامة الجمعة إذا وافقت يوم العيد؟

 

الجواب :

مسألة إقامة الجمعة إذا وافقت يوم العيد مسألة خلافية، والذي نراه أن يقام كل منهما فى وقته ووفق سنته.

نص كلمة العلامة عبدالله بن بيه في ⁧‫موتمر السلام في الاديان‬⁩ في جامعة أكسفورد  

نص كلمة العلامة عبدالله بن بيه في ⁧‫موتمر السلام في الاديان‬⁩ في مقر جامعة أكسفورد بالمملكة المتحدة

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين.

أيها السيّدات والسّادة،

يطيب لي أن أحيي معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، الدكتور/ محمد عبدالكريم العيسى، والقيادات الدينية الحاضرة معنا اليوم، وجامعة أوكسفورد ممثلة في مركز الدراسات الإسلامية.

يطيب لي أن أخاطبكم في هذا المؤتمر المشهود الذي يتحدث عن موضوع له راهنيته وحيويته، وهو موضوع من الموضوعات التي كانت أوروبا المسيحية قد ناقشتها منذ سنين طويلة فكان لبعض من فلاسفتها موقف سلبي بناء على الحروب التي عاشتها القارة العجوز والتي كان للدين والمذهبية في نطاق الدين الواحد منها نصيب ليس بقليل.

إن مؤتمركم هذا يمكن أن يقدم من خلال عملنا المشترك الدليل القاطع على أن الدين ليس سبباً للحروب ولا للكراهية على الرغم من الأمثلة التاريخية والمعاصرة الأليمة والتي حفرت في الذاكرة الإنسانية ذكريات كارثية، والأدهى من ذلك أن فلاسفة عصر “التنوير” جعلوها قاعدة ثابتة وقانوناً اجتماعياً على أساسه يجب عزل الدين عن المجال العام باعتباره يفرق ولا يجمع ويضر ولا ينفع ويسبب الحروب.

بل اعتبروا الأخلاق الدينية أفيون الشعوب -عند ماركس-، واعتبر ديفيد هيوم الأديان بدون سند عقلي، إنّ إيمانويل كانت -الذي جاء لإصلاح ما أفسده هيوم ويعيد للأخلاق مكانتها، اقترح دين الأخلاق أو الدين العملي الذي أنزل الأخلاق من السّماء إلى الأرض، من خلال مذهبه المنطقي المعروف.

إلا أنّ ”كانت“ استبعد الأديان التوحيديّة الثلاثة: اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام، قائلاً بأنّها إيديولوجياتٌ دوغمائية، لا يمكن أن تكون أساساً للسّلام. ربّما كان نتشه أكثر بصيرة عندما قال في كتابه ”ما وراء الخير والشّر“ إنّ الذين أوجدوا القيم في البشرية قلّة في التاريخ ومنهم موسى وعيسى ومحمّد.

كما ذكرنا فإنّ إيمانويل كانت يرى أنّ الدين لا يمكن أن يكون عامل إصلاح، ونحى باللائمة على الديانات الثلاث التوحيدية (اليهودية والمسيحية والإسلام) وهكذا فإنّ كانْت حاول أن يوجد سبلاً للسلام الدائم خارج الدين، لأنّ الدّين بمبادئه المطلقة لا يُمكن إلّا أن يكون مِحَشّاً للحروب مُحَرّضا على العنف.

معالي الأمين العام، الحضور الكرام، لقد بيّنت في كلمة في مطلع فبراير في واشنطن أمام “حلف الفضول للعائلة الإبراهيمية” -وكان لحضور معاليكم في ذلك الاجتماع الأثر البالغ في نجاحه-، عوار هذا الحكم الذي حكم به كانْت ومن لفّ لفّه من الفلاسفة والمفكرين الأوربيّين الذين يريدون إقصاء الدين عن المجال العام، وأظهرت فساد رأيه من وجهين:

أولاهما: أنّه حكم على الأديان من خلال ممارسة بعض أتباعها الذين وظفوها توظيفاً سيئا لأغراض سياسية وتوسعية بفهم منحرف، وهو أمر نعاني منه في عالمنا اليوم، ونماذج نسعى جاهدين للرد عليها وتفنيدها. وكان الأولى به أن يحكم عليها من خلال مبادئها السامية ونصوصها الحاكمة، ويطيب لي أن أذكر بعض النصوص الحاثة على السلام من هذه الأديان، ولنبدأ بالمسيحية التي نفترض أن ”كانت“ يدين بها:

من ضربك على خدك فاعرض له الآخر أيضاً ومن أخذ ردائك فلا تمنعه ثوبك أيضا (انجيل لوقا 29:6)

سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ. (إنجيل يوحنا 14: 27).

فَلْنَعْكُفْ إِذًا عَلَى مَا هُوَ لِلسَّلاَمِ، وَمَا هُوَ لِلْبُنْيَانِ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ. ( رسالة بولس إلى أهل رومية، 14: 19).

وفي اليهودية: مَا أَجْمَلَ أن يَقِفَ الْمُبَشِّرُ عَلَى قدميه فوق الْجِبَالِ، الْمُخْبِرُ بِالسَّلاَمِ، الْمُبَشِّرُ بِالْخَيْرِ، الْمُخْبِرُ بِالْخَلاَصِ..(سفر إشعياء، 52: 7).

حِدْ عَنِ الشَّرِّ، وَاصْنَعِ الْخَيْرَ. اطْلُبِ السَّلاَم، وَاسْعَ وَرَاءَه. (سفر المزامير لداود، إصحاح 33: 14).

لُقْمَةٌ يَابِسَةٌ وَمَعَهَا سَلاَم، خَيْرٌ مِنْ بَيْتٍ مَلآنٍ ذَبَائِحَ مَعَ خِصَامٍ. (سفر الأمثال لسليمان، إصحاح 17: 1).

وَلْيَمْلِكْ فِي قُلُوبِكُمْ سَلاَمُ اللهِ الَّذِي إِلَيْهِ دُعِيتُمْ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ، وَكُونُوا شَاكِرِينَ. (رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي 3: 15).

وفي الإسلام: فإن النصوص اليهودية والنصرانية المذكورة آنفاً لا تعتبر غريبة على التراث الإسلامي، لأن المسلمين يعتبرون أنفسهم امتدادا للديانات السابقة، ففي القرآن الكريم: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [البقرة: 285].

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق“ فهو يقدم نفسه متمما لا مبتدعاً {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِين} [الأحقاف: 9]

وفي القرآن الكريم:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصلت: 34، 35]

بالإضافة إلى أنّ الوصايا العشر الواردة في سفر الخروج تعتبر من صميم الديانات الثلاث.

كل هذه النصوص ترد على دعوى تحميل الأديان مسئولية الحروب، بل الإنسان الذي يفسر الدين تفسيراً خاطئاً أو يستنجد به، أو يسخره لأغراضه هو المسؤول.

فالدين في حد ذاته يدعو إلى الحب والتسامح والعفو والترابط والتكافل.

وتدعوا الديانات التوحيدية إلى المحافظة على الكليات الخمس: الدين والنفس والعقل والمال والعرض.

الوجه الثاني: هو أن قانون ”كانت“ الأخلاقي ليس فيه ثواب إلهي ولا عقاب، أي ليس فيه وعد الآخرة، مما يَجعله قليل الجدوى في ردع النفوس الجامحة، وبالتالي لن يحقق سلاماً بل هو مجرد افتراض سعادة في السلام قد يجدها الفيلسوف المتأمل، ويعجز عن إدراكها عامة الناس.

هل الدين سبب ظاهرة العنف أم العنف ناشيء عن عوامل أخرى والدين وسيلة؟ فكيف نعالج تلك الدعوى؟ وكيف يكون الدين حلاً وليس مشكلة؟

تلك أسئلة واجهتنا، حيث توجد دعوى مظلومية فهل السلم أولاً أم العدالة؟

للإجابة على هذا نقول إن من شأن الظواهر البشرية أنها ترجع إلى شبكة عوامل متعددة متداخلة ومتضامنة، وهذه العوامل منها ما هو موضوعي، ومنها ما هو ذاتي، ومنها الحقيقي، ومنها الوهمي، وهذا التعدد هو ما يجعل البحث في الظاهرة متشعبا، وإن للخلفية الثقافية للمحلل دورها البارز في تحديد الأسباب لترتيب نوعية الحلول التي يتبناها. ولهذا يلزم الباحث حينما يعالج الظاهرة أن يسبُر شبكة الأسباب، ويفحص قوة تأثيرها ليخلص إلى انتقاء العامل المهيمن الذي ينبغي أن يُخص بمعظم المعالجة.

انطلاقا من هذا الوعي بتركيب المشكل وتعقيد بنيته، وتداخل العوامل الطاردة والجاذبة في تشكيل ظاهرة العنف، مما يفرض في الحلول أن تكون هي أيضا مركبة تتضافر فيها جميع المقاربات التي تمكن من التفسير الصحيح والمعالجة القويمة، استصحابا لذلك كله فإننا نعتقد مع ابن القيّم أنّ العنف كسائر أنماط السلوك والأفعال البشرية قبل أن يتجسّد في الوجود الخارجي العياني بكسب الإنسان ينشأ في نفسه ويعتمل في خواطر ذهنه وأفكاره وتتوجّه إليه إرادته وقصده.

وفي هذا العامل الفكري بمعناه الأعم والأشمل يمكن أن ندمج الدين في بعض تمظهراته المنحرفة كعنصر من عناصر ثقافة العنف. إن الديانة قد تكون أحد المبررات للعنف، ولكن هذا السبب غالباً ما يكون ممزوجاً بأسباب أخرى كالإحباط والإهانة والفشل، ويقوم الدين بدور مؤطّر للنزاعات، بل أحياناً بدور مكرّس للنزاعات.

ومن هنا يتجلى واجب القيادات الدينية في البحث في نصوصهم الدينية وتاريخهم وتراثهم ليجدوا أسسا متينة للتسامح والتعايش ونماذج مضيئة يسهم إحياؤها في إرساء قيم الخير والسلام في نفوس معتنقي هذه الديانات. لأنه بالرجوع إلى النصوص وإلى التأويل المناسب والمقارب يمكن أن نتصدى لمروجي الكراهية والمتلبسين بلبوس الدين من المجرمين.

وأن نقدّم الرواية والرؤية، رواية الإسلام في دعوته للسلام والتسامح اعتمادا على نصوص أكيدة وعلى ممارسات رشيدة، وعلى التأويل الصحيح، على عكس الرواية المحرفة على يد الغلاة الخارجين عن الضبط الديني والضبط العقلي، ويجب الاعتراف بأن جذور هذا الانحراف والمعارف المسببة له ليس بعضها بجديد وإنما هو وريث فكر كان في التراث الإسلامي وتاريخه، وهو علاقة هذا الفكر بالنص التي تتميز بحرفية في الفهم بلا تأويل ولا تعليل، وكذلك فإنّ استغلال الدين سياسياً وطائفياً قد يكون سبباً للاضطراب.

إنّ مؤتمركم هذا سيكون فرصة لإظهار الدين كقوة للسلام والمحبة وعامل جذب بين المختلفين وليس عامل حروب وإثبات أن ذلك ممكن فعلاً، فديناميكية المحبة تتغلب على الكراهية، المحبة والسلام والصداقة هي رسالتنا إلى البشرية وهي شعارنا.

شكراً لكم على الإنصات وتمنياتي لكم بمؤتمر ناجح.

تحياتي لكم.

هل هذا النوع من الرهن جائز ؟

في بلادنا ثلاث تعاملات في العقار البيع، الإجارة والرهن. البيع والإجارة لا إشكال فيهما، أما الرهن ففي صيغته إشكال من الناحية الشرعية.

وهذه صيغته : يعرض الراهن صاحب البيت بيته للرهن لمدة زمنية محددة (سنة سنتين أو ثلاث) مقابل مبلغ من المال يؤديه المرتهن كما يسكن المرتهن البيت المرهون مقابل أجرة شهرية أقل (بالنصف) من الأجرة الحقيقية للبيت. عندما تنتهي المدة الزمنية إما أن يخرج المرتهن من البيت و يأخذ نقوده (وذلك برهنه لآخر من جديد) وإما أن يعيدوا العقد من جديد مع الإبقاء على المبلغ المؤدى في السابق. ويكثر الطلب على هذه الصيغة لأنه عوض أن يستأجر الإنسان بيتا ب1000 فإنه يستأجره ب500 مقابل المبلغ الذي يؤديه للراهن والذي يرجع إلى المرتهن في آخر المدة.

فهل هذه الصيغة حلال أم حرام ؟ وجزاكم الله خيرا.

 

الجواب:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فالرهن الذي سأل عنه السائل هو في حقيقته عبارة عن قرض بزيادة، فالأصل أن المرتهن لا ينتفع بشيء من الرهن وفي الحقيقة فإنه أقرضه بزيادة مقسطة هي منافع البيت، فهذه الصورة لا تجوز حتى في مذهب أبي حنيفة. الذي يجيز الانتفاع بالرهن فإنما يجيزه إذا كان عطاء من الراهن وليست شرطاً –فإذا كان شرطاً فإنها تكون ربا – حتى في مذهب الأحناف.

فهذه صورة مهجنة .

فإنه أعطاه أجرة ليست لأجرته الحقيقية للبيت ثم استرد النقود التي كان قد أخذها من الراهن وهي في حقيقتها عبارة عن قرض –وهذه الصورة ليست جائزة. والله أعلم.

ما حكم تأسيس شركة تعمل كوسيط تأمين؟

ما الحكم الشرعي في تأسيس شركة تعمل كوسيط تأمين لان زوجي بصدد إنشاء هذه الشركة ارجوا الإجابة بالتفصيل ولكم جزيل الشكر؟

الجواب:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

أولاً أي نوع من أنواع التأمين تقصده السائلة فهناك تأمين تكافلي يخف فيه الضرر وتقل فيه الجهالة وهذا النوع من التأمين التكافلي يجوز.

وهناك تأمين تجاري يكثر فيه الضرر وتكثر فيه الجهالة وهذا النوع من التأمين ليس بجائز إلا لضرورة شديدة لمن يكون في أوروبا ولا يجد تأميناً شرعياً فيجوز له أن يؤمن على سيارته. فإذا كان وسيطاً في نوع من أنواع التأمين الذي ذكرنا فلا بأس بذلك –خاصة إذا كان يحتاج في معيشة وفي مصروفاته اليومية إلى هذا التأمين.

أما إذا كان تأميناً تجارياً فإن ذلك لا يجوز إلا للضرورة كما ذكرنا. والله أعلم.

 

هل بجوز لولي الأمر أن يرغم ابنته على زوج لاترغب فيه؟

السؤال فيه رجل عنده بنت عمرها14 السنة وعندها الجنسية الأمريكية. وقد خيرها بين شخصين للزواج والبنت رافضة الجميع. والأب مصر على زواجها من أحدهما غصبا عنها. هل الزواج والعقد والنكاح صحيح أم باطل مع رفض البنت وشكرًا.

 

الجواب:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

هذه البنت إذا كانت بالغة عاقلة فهذا الزواج اختلف العلماء فيه، فالإمام أحمد عنه روايتان إحداهما أنه يصح كمذهب مالك وابن أبي ليلى والشافعي.

والثانية –ليس له ذلك وهو مذهب الأوزاعي والثوري وأبي عبيد وأبي حنيفة أصحاب الرأي وهؤلاء يستندوا لحديث: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البنت حتى تستأذن) قالوا يا رسول الله كيف أذنها قال (أن تسكت)، وهذا لحديث متفق عليه، ونحن نفتي بالمذهب الثاني للمسلمين في أوروبا وأمريكا وبناءً على أوضاع المرأة هناك وبناء على الأدلة التي استند إليها هؤلاء، منها ما رواه أبو داود وابن ماجه أيضاً وفي حديث أن جارية أتت النبي صلى الله عليه وسلم وأن أباها زوجها على غير رضاها فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم ومهما يكن في هذا الحديث من الإفساد لكن أوضاع النساء في أمريكا وأوربا تجعلنا نفتي بهذا المذهب لذلك نقول لا يصح هذا النكاح إلا إذا رضيت البنت وأجازت هذا النكاح. والله أعلم.

رجل يتقاضى راتبا من عمل في شركة تبيع مشروبات متنوعة من بينها الخمر . هل يجوز له هذا الراتب؟ وهل يحج به؟

عمل أبي لمدة سبعة وثلاثين سنة في شركة متنوعة المشروبات (ماء، عصير، خمر٠٠٠الخ) في فرنسا وهو الآن متقاعد، وله راتبا شهريا. هل يعتبر هذا الراتب الشهري حرام أم حلال بما أنه عمل في شركة تبيع الخمر؟ وهل يجوز له الحج بهذه الأموال؟

 

الجواب:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

إذا كان أبوك بحاجة إلى هذا الراتب فيجوز له أن يعيش به للضرورة.

.أما بالنسبة للحج فأنا أنصحه أن يتريث للحج وأن لا يحج مباشرة بهذا الراتب بمعنى أن يتحمل ديناً ليحج به ثم بعد ذلك يقضيه من هذه الأجرة.

 

قراءة في كتاب “إثارات تجديدية في حقول الأصول” للدكتور عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه

د. محمد المنتار

رئيس مركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء

اهتم العلماء المسلمون بموضوع المعارف الإنسانية، واستبطنت الحركة العلمية منهاجيات خاصة، تحولت إلى علوم ومعارف لها تجلياتها النظرية، والمعرفية، والعلمية، أفرزت بدورها طرائق في الاستنباط، والاستدلال، رامت تيسير عملية الاستمداد من الوحي، وإيجاد آليات وأدوات مساعدة للنهوض بواجب التفكر والتدبر في النص المؤسِّس.

وقد شملت هذه العناية علم أصول الفقه باعتباره منهجا لفهم الخطاب الشرعي، وإدراك مقاصده، وقد عرفت مباحثه تطورا ملحوظا في القضايا، والإشكالات، والأدلة، والمصطلحات، والمفاهيم، منذ العصر ما بعد الراشدي حتى يومنا هذا.

وقد أسهمت عوامل عقدية، ومذهبية، وثقافية، واجتماعية، وسياسية أحيانا في تشكيل الصورة التي رسمت لعلم أصول الفقه، وهي عوامل لا تزال في حاجة إلى دراسة وتحليل، بالنظر إلى ما تكنه مقرراته من إمكانات علمية وقواعد جليلة مسعفة في ضمان مرونة الشّريعة، واطراد صلاحها.

ولا يخفى أن أجيالا من العلماء قد بذلوا جهودا كبرى لتأسيس هذا الفن، وترتيبه، وتفصيله، وهيكلة بنائه، خدمة للوحي وتيسيرا للاجتهاد في نطاقه، ظهر ذلك جليا منذ المدونات الأصوليّة التي انطلقت مع مرحلة التدوين، وما تبعها من جهود المتكلمين والأحناف وأصحاب منهج التوفيق، وصولا إلى جهود المحدَثين والمعاصرين.

والناظر في مدونات هؤلاء الأعلام وغيرهم من أهل الفضل عبر تاريخ الأمة، يجد تقسيمات لمقررات الفكر الأصولي من حيث الاتفاق والاختلاف، ومن حيث رجوعها إلى النقل والعقل، ومن حيث الأصلية والتبعية، ومن حيث القطعية والظنية، ومن حيث تحقق المناطات من عدمها، واستحضار المآلات، واعتبار المساقات..

حيث اختار المتكلمون مدخل القواعد، ووضع الحدود والتعريفات وتحقيقها، وتأويل النصوص في ضوء معانيها اللغوية، وحشد الأدلة والبراهين النقلية والعقلية، وتأثرت طريقة الفقهاء بالفروع والأحكام، فبحثوا عن القواعد الأصولية في ثنايا الفروع والأحكام.. وعمل الرواد من أهل المقاصد على إيجاد تكامل بين فهم النص وتنزيله في الواقع المعيش، مع فقه مآلاته، وهو ما اقتضى صياغة مباحث الفكر الأصولي صياغة مقاصدية، فيما فضل أهل التوفيق الجمع بين كل المناهج في صياغة القواعد وتقرير الأصول الكلية، بما يخدم تيسير الاجتهاد والفهم..

وهي تقسيمات تتفاوت في القوة المعرفية والمنهجية، تجعل من علم أصول الفقه، حقلا علميا، حاملا لنسق منهجي متكامل ومتداخل، جامعا لعدة علوم وأنساق معرفية، تشكل نموذجا للتداخل والتكامل والتواصل بين العلوم في الثقافة العربية الإسلامية.

غير أن دخول العلوم الإسلامية، عموما، في مرحلة المختصرات والحواشي والشروح، كان له بالغ الأثر على تراث علم أصول الفقه، وبدرجة أكبر على وظيفية هذا العلم، وبعده العملي والتنزيلي، مما بات يستدعي ترشيد مسار هذا العلم بشكل يسهم في إعادة ربطه بمصدره الأساس الذي هو الوحي، قرآنا كريما وسنة نبوية شريفة، في استحضار لمقتضيات السياق الراهن.

هذه الوظيفة التي كانت بوصلة لعديد من رواد التجديد في هذا الحقل المعرفي، أمثال: محمد بن إدريس الشافعي في جمعه بين الحديث والرأي، وأبي حامد الغزالي في تسخيره لآليات المنطق وأشكال الاستدلال لغاية استغلال الطاقة الدلالية واللغوية للنص الشرعي، وأبي إسحاق الشاطبي الذي اتخذ النظر المقاصدي مدخلا لإعادة تشكيل العقل. وهم كلهم أعلام، حائزون بسبقهم تفضيلا، يستوجبون الثناء الجميل، قاموا بالحفر من أجل تخليص علم أصول الفقه من كثير مما علق به من الشوائب، على حد تعبير أبي إسحاق الشاطبي، وربط عملي بين الكلي والجزئي في ضوء ضرورات الواقع وحاجياته.

وهي، ولا شك مداخل للتجديد في حقل الدراسات الأصولية وجب البناء عليها، واستئناف القول فيها بما يخدم العملية الاستمدادية في كل أبعادها المعرفية والمنهجية والتأويلية.

ويعد كتاب “إثارات تجديدية في حقول الأصول”، للعلامة الأستاذ الدكتور عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بّيه، (الصادر عن “دار التجديد” و”دار وجوه”، ويقع في 167 صفحة من القطع المتوسط) من المؤلفات التجديدية الرائدة في هذا الباب، حيث رام مؤلفه، استئناف العملية الاجتهادية في قضايا محورية ضمن البناء العام لعلم أصول الفقه، لذلك نجد الشيخ الدكتور عبد الله بن بيه أبدع في رد فروع المسائل إلى أصولها وجزئيها إلى كليها، ولا يتعرض للمادة الأصولية في مجملها وتفاصيلها، وإنما يشير إلى بعض الموضوعات التي تعتبر جديرة بالاستئثار بالاهتمام في مشروع التجديد، ويرسم ملامح التصور للصورة الذهنية للتجديد، بالإضافة إلى خوض غمرة بعض القضايا نظريا وعمليا لتكون أنموذجا ومجسما لبناء البيت الأصولي.

بين يدي الكتاب

أصل الكتاب محاضرة ألقيت في قاعة الإمام محمد عبده بالأزهر الشريف بحضور شيخ الأزهر، ومشيخة الأزهر، والجم الغفير من العلماء والطلبة، والكتاب كذلك هو حصيلة سنوات من الاجتهاد والبحث، عبر محاضرات علمية شكلت مشروعا معتبرا ونوعيا حول الاجتهاد والتجديد، وقد ظهرت معالمه الكبرى في ثلاث مؤلفات للشيخ ابن بيه؛ أحدها كتاب “أمالي الدلالات ومجالي الاختلافات”، والثاني كتاب “مشاهد من المقاصد”، والثالث كتاب “إثارات تجديدية في حقول الأصول”، الذي تدور حوله ورقات هذه الدراسة.

وقد افتتح الشيخ ابن بيه كتابه البديع بمقدمة عرض فيها دعاوى التجديد في هذا العصر، مع نقدها وبيان تهافتها، وإن بدرجات متفاوتة، ثم شرع في التعريف بما هو مُقدم عليه من مشروع تجديدي عبّر عنه مرة بالمقاربة ومرة بالإثارات. وقد أشار الشيخ بن بيه، حفظه الله، إلى ثلاث دعاوى لها خطورتها على أصول الفقه بل على الشريعة، وهي باختصار:

الأولى: دعوى الحكمة والمصلحة غير المنضبطين بضوابط التعليل ووسائل التنزيل، مما سيحدث ارتجاجا في بنية الاجتهاد، وزلزلة لأسسه[1].

الثانية: الدعوة المقصدية مجردة عن مدارك الأصول، وعارية عن لباس الأدلة الذي هو لباس التقوى الذي أجمع عليه من عهد الشافعي.

ورغم أن هذه الدعوى فيها شيء من الصدق والمعقولية فهي تدعو إلى ضبط المقاصد، ولكنها لا تجيب على كيف؟ وهي إجابة لن تكون مماشية للموروث الفقهي إلا إذا تمسكت بعروة وثقى من أدلة الأصول[2].

الثالثة: دعوى تاريخية النص وظرفيته، وهي مذهب عرف في الغرب بأنه توجه فلسفي يربط المعارف والأفكار والحقائق والقيم بوضع تاريخي محدد بدلا من اعتبارها حقائق ثابتة[3].

هذا من شأنه أن يقطع الصلة بالنصوص الشرعية. نعم توجد مخصصات في الأحوال والمحال والأزمنة، ولكنها منضبطة بضوابط تشير إلى ظرفيتها، ومنها قضايا الأعيان عند الإمام مالك، ولكن ذلك لا يمكن أن يكون قانونا عاما ولا مبدأ مطردا.

فهذه الدعاوى الثلاث تتفاوت في خطورتها إلا أنها جميعا تفضي إلى هروب من ديمومة النصوص، وقفز في المجهول، وخروج من العلم إلى الجهل، وبحث عن الوداعة والسهولة دون تجشم سبل البحث الجادة، وتقحم عقبات علوم الشرع بالعدة والعتاد.

 

أولا: أسس العملية البنائية التجديدية عند الشيخ بن بيه

لقد بنى العلامة ابن بيه إثاراته التجديدية بناء أساسه صورة تقريبية تعرف عند المناطقة بالعلل الأربع التي تمثل الماهية ولوازمها، وهي: المادة، والصورة، والغاية، والفاعل.

إن دعاوى بهذه التصورات يكون التجديد فيها أقرب إلى التبديد، ووعدها أقرب إلى الوعيد. وبقية الدعاوى مقاربة، يحاول بعضها التقريب والتسديد؛ لكنها يغلب عليها الجانب التعليمي والتربوي، دون جانب إنشاء الأحكام، الذي هو الغاية المتوخاة لعملية تدوين الأصول. وذلك من خلال صورة تقريبية تعرف عند المناطقة بالعلل الأربع التي تمثل الماهية ولوازمها، وهي المادة، الصورة، الغاية، الفاعل؛ فالأوليان ذاتيتان، والأخريان خارجيتان”[4].

وقد اختار الشيخ، حفظه الله، أن يسميها إثارات تجديدية، وشعار هذه الإثارات “الوفاء للأصول، والتصرف في الفروع” مع الاجتهاد في حصر الموضوع عقليا، ومحاصرة الانفلات عمليا. وقد صرّفها من خلال محاور أربعة:

المحور الأول: المادة

جعل الشيخ بن بيه “مادة أصول الفقه” ما يكون منه استمداده: وهي سبعة أصول: “أولا: الكتاب، وكل ما سواه راجع إليه. وثانيا: السنة النبوية الشريفة، أقوالا وأفعالا، وثالثا: اللغة العربية؛ كون الأصولي مدفوعا إلى الكلام في فحوى الخطاب، وتأويل أخبار الرسول عليه السلام. ورابعا: الفقه، يقول الغزالي: استمداده من الفقه أنه المدلول وطلب الدليل مع الذهول عن المدلول مما تأباه مسالك العقول. خامسا: فتاوى الصحابة وقضاياهم، حيث كان الصحابة يجتهدون، ومن خلال تعاملهم مع القضايا أخذت عنهم جملة من قواعد أصول الفقه. سادسا: علم الكلام، ووجه استمداده من الكلام أن الإحاطة بالأدلة المنصوصة على الأحكام، مبناها على تقبل الشرائع وتصديق الرسل، ولا مطمع فيه إلا بعد العلم بالمرسل. سابعا: المنطق الأرسطي، لأن العلماء بدأوا من القرن الثاني يدمجون التعريفات المنطقية، والمصطلحات الكلامية في تعريفاتهم…”[5].

المحور الثاني: الصورة

أما الصورة فهي بيت القصيد، ومفتاح أقفال التجديد[6]. ومن خلال هذا المفهوم أجمل الشيخ بن بيه عملية بناء الأصول في الصورة التي شكلها صناع أصول الفقه، والتي ترتكز على خمسة ركائز هي:

1. التركيب: والمراد بالتركيب؛ تركيب الكلي من أجزائه، وتركيب الأجزاء بالكلي، أو تركيب الجزأين أحدهما على الآخر؛ فحسب بيان الشيخ، حفظه الله، الأدلة الإجمالية هي حقيقة أصول الفقه، والفصل الأول في تعريفه، إنما هي في واقعها كليات وضعها الأصولي، وصاغها من تفاريق المادة المشار إليها، بحيث:

الأولى: يقرر الكلي الثابت بدليل عقلي، أو نص شرعي، أو دلالة لغوية لتعريف أحكام جزئياته، والتعرف على مجال تطبيقاته… ومثال ذلك اختلاف الأصوليين في دلالة الأمر على الوجوب، أي في تقرير الأدلة التي ستصبح بالقوة كليا، وقاعدة أصولية[7].

الثانية: عملية معاكسة يرتقي فيها الأصولي من الجزئي صعودا ليصل إلى الكلي، أو من جزئيات أشهر ليصل إلى كلي أخفى؛ وهذا ما يسمى بالاستقراء. وعلى هذا الاستقراء بنى أبو إسحاق الشاطبي أصل المقاصد، واتخذ الاستقراء مسلكا لبيان أن الشريعة جاءت لمصالح العباد، يقول: “أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا، وهذه دعوى لابد من إقامة البرهان عليها صحة أو فسادا، وليس هذا موضع ذلك، وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم الفخر الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة ألبتة، كما أن أفعاله كذلك، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين، ولما اضطر في علم أصول الفقه إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية، أثبت ذلك على أن العلل بمعنى العلامات المعرفة للأحكام خاصة، ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة. والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره”[8].

وقد أوضح المؤلف أن على مثل هذا الاستقراء بني الكثير من الكليات كالاستحسان، وسد الذرائع، والعمل بالعرف[9].

الثالثة: تركيب جزئي على جزئي، وأصل العبارة جمل جزئي على جزئي أعرف فيما يسمى بالقياس[10]. يقول الشيح بن بيه: “إن عملية التركيب معقدة، إلا أنها ضرورية لصوغ المفاهيم وصياغة الكليات… ولهذا فالمقاصد لها وظيفة أساسية في بناء هذه الكليات، فهي بطبيعتها وتنوعها من كلية، وجزئية، عامة وخاصة، في مرتبة الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات تمثل مادة جوهرية متلونة ومرنة لخلق المفاهيم بمضامين متجددة، ومستوعبة للقضايا اللامتناهية لنهر الحياة الدافق”[11].

2. التبويب: والمراد به عند المؤلف الطائفة من المسائل، لها أول وآخر، وتجمعها وشائج قرب، وتسبح في فلك واحد، وذلك كباب القياس مقلا، فإنه يضم القياس الصحيح والقياس الفاسد، والعلل المتقاضية، والقوادح المانعة[12].

3. الترتيب: والمراد به ترتيب الموضوعات ابتداء من التعريفات، مثل تعريف علم الأصول، وغاية الحكم وأنواعه، والمحكوم به، والحاكم، ثم الأدلة من كتاب، وسنة، وإجماع[13].

4. التلقيب: فالمراد به وضع ألقاب وأسماء لمختلف مسائل الأصول، التي هي جزئيات باعتبار، وكليات باعتبار آخر. وقد اختلف الأصوليون في الألقاب وضعا وعدما، ومضمونا[14]؛ كاختلافهم في فحوى الخطاب، ودليل الخطاب، حيث نجد دلالة الأول عند الأحناف غير التي عند الجمهور، وقل مثل ذلك في المحكم، ودلالة النص، ودلالة الاقتضاء، ودلالة الإشارة، ودلالة الإيماء والتنبيه، وغيرها، مما هو معلوم اختلاف مدرسة الأحناف ومدرسة المتكلمين في تحديد معناه ودلالته.

5. التقريب: لقد حدد الشيخ بن بيه، حفظه الله[15]، التقريب في عمل المختصرين، والشراح، وأصحاب الحواشي، وهو في نظره عملية تعليمية أكثر من كونه عملية توليد للأحكام، وقد حملت في طياتها التشذيب الذي ألغى بعض المباحث غير المباشرة لكنها مفيدة في عملية التأصيل.

إن الألقاب الخمسة سالفة الذكر شكلت صورة بناء علم أصول الفقه في مختلف مراحله، وهي مسيرة منهجية رائدة، تخللتها فترات تجديدية، وإبداعية، همت أحيانا إبداع مصطلحات جديدة، ومركبات مبتكرة، ومفاهيم واسعة، أسعفت جميعها في الإجابة على عديد قضايا ومسائل واجهت المجتمعات المسلمة في مخالف الحقب.

وقد أبدع المؤلف في تحديد المراد بكل مرحلة على حدة، وبنى عليها معاني هي مقصوده الأصلي من إيرادها؛ حيث نجده وفي وعي تام بفقه الواقع وسياق الحال، يؤكد أن مسيرة مقررات الأصول كما رصدها، تسمح لنا بمراجعتها على ضوء الواقع المتغير، بل إن الشيخ ربط القول في هذه الألقاب بالعملية التجديدية، وفي هذا يقول حفظه الله: “نحن بحاجة إلى مراجعة الصورة المركبة التي قد تكون مصدر العجز، بل إن الفاعل[16] أيضا عليه قسط من المسؤولية، فكثير من الداعين إلى التجديد لديهم عجز وخصاصة علمية لا تسمح لهم باستيعاب الموجود، فكيف يبحثون عن الجديد؛ فإذا كانت الصورة هي مجال التجديد ومجرى عواليه ومجرى سوابقه”، فإن التركيب المتمثل في بناء الكليات الحاضنة للجزئيات، يمثل وجه الصورة التي إذا أميط عنه النقاب، يتعرف على حقيقة المطلوب، وينكشف عنه الحجاب”[17].

واستيحاء من موضوعات الاجتهاد الثلاثة عند أبي إسحاق الشاطبي، اختصر الشيخ بن بيه التجديد على مستوى الصورة في ثلاثة أجناس للتجديد تعد في حقيقتها أصول الفقه، وهي كذلك بؤرة استنباط الأحكام، وهي كما يلي[18]:

1. اجتهاد في دلالات الألفاظ، مرده إلى اللغة العربية.

2. اجتهاد يتعلق بما عقل من المصالح والمفاسد، مرجعه إلى المقاصد جملة وتفصيلا.

3. اجتهاد ثالث بتحقيق المناط، وهو اجتهاد لا ينقطع أبدا، وهو متاح للمقلد إلى جانب المجتهد؛ لأن علاقته بالواقع، ولا يعقل تطبيق الشريعة بدونه، ومنه ما سماه الشاطبي بتحقيق المناط في الأنواع والأشخاص.

ولا يخفى أن هذه الأجناس الثلاثة تشتمل على أنواع كثيرة هي لب التجديد، ومضطرب المجتهدين، ومراد مراداتهم. من أجل ذلك اختارها الشيخ بن بيه بلوذعيته المعهودة، وهي التي تجيب على الأسئلة المفاتيح، وهي بدورها ثلاثة: ماذا؟ ولماذا؟ وكيف؟ تشكلمنظومات ومجموعات، وفق تقسيم بديع جعل ماذا؟ لمدلول الدليل. ولماذا؟ لمنظومة التعليل. وكيف؟ لمباءة التنزيل؛ أي مسالك التنزيل على الواقع.

المجموعة الأولى: مدلول الدليل وشروط التأويل، أو الجواب عن لماذا؟

أو دلالات الألفاظ، وهو يسبر آفاق التجديد في هذا الجزء من الأصول الذي يمثل المرحلة الأولى للتعامل مع النص، وموضوعه دراسة الظاهرة اللغوية في علاقتها بالوحي.

وغاية الشيخ من هذا المحدد هو مراجعة ما أنتجه الفكر الأصولي لكي يتسنى البناء عليه من جديد صروح التجديد[19].

وكما هو معلوم فمجال دلالات الألفاظ، اهتمت به أجيال من العلماء في مختلف الحقول المعرفية، خاصة مجال التفسير، والبلاغة، وأصول الفقه، واللغة والنحو. بل إن دلالات الألفاظ كانت سببا لاختلاف المتكلمين في مسائل التأويل، يقول الإمام الغزالي: “ومعرفة ما يقبل التأويل، وما لا يقبل التأويل ليس بالهين، بل لا يستقل به إلا الماهر الحاذق في علم اللغة العارف بأصولها، ثم بعادة العرب في الاستعمال في استعاراتها، وتجوزاتها، ومنهاجها في ضروب الأمثال”[20].

وبعد أن أوضح الشيخ صنيع الجمهور، وصنيع الأحناف في تقسيمات الألفاظ، ورصد التفاوتات الحاصلة في عملية التوالد والتفاوت بين مولدي الدلالات، اقترح عملية تجديدية تتمثل في وضع مقدمة لدراسة الظاهرة اللغوية من كل جوانبها، ونواحيها، وزواياها، لاستخراج خباياها انطلاقا من ثلاثي: الوضع، والاستعمال، والحمل. نظرا لكون هذا الثلاثي “من أهم موضوعات دلالات الألفاظ التي حملت الشحنة الدلالية التي جرت ذيول الخلاف، وأجرت خيول حلبة الجدل بالإيجاف”[21].

وتبعا لذلك، يقرر الشيخ بن بيه أنه من الضروري أن تتضامن ثلاثة علوم في ضبط الظاهرة اللغوية في مختلف شياتها، وتنوع دلالاتها، وهي:

1. علم اللغة، نحوا وصرفا ومفردات.

2. علم البلاغة، وبخاصة علم المعاني والبيان في عوارض الإسناد، ومعاريض المجاز، والكناية والتشبيه.

3. علم الأصول في مسلكه في دلالات الألفاظ، لتحرير الدلالات الأصلية والتبعية والإضافية، والدلالات الأولية والثانوية، مع التأكيد على معهود العرب في خطابها.

وبذلك يتسع صدر الأصولي للتأويل، ويفرق بين التأويل الصحيح والفاسد، ذلك أن التأويل من شروطه أن يكون موافقا لوضع اللغة أو عرف الاستعمال، أو عادة صاحب الشرع، وكل تأويل خرج عن هذا فعير صحيح[22].

وقد ختم الشيخ بن بيه حديثه عن دلالات الألفاظ بتوجيه متبصر، قال فيه: “كانت هذه إثارة لمراجعة نظرية لكل زمرة من أبواب الدلالات، عنوانه الظهور، وميدانه الاحتمال والبطون. أما الجزئيات المبنية على ذلك الكلي، فقد تكفل الفقهاء، رحمهم الله، بتقرير أحكامها حيث أسفرت جهودهم عن وفاق في بعضها واختلاف في الكثير منها، واستقر الفقه على ذلك. فلا أدعوا إلى تنفيره وإنما أدعوا إلى استنفاره؛ لمواجهة الجديد وليس لمنابذة القديم، وهو سبحانه ولي التوفيق”[23].

المجموعة الثانية: منظومة التعليل: الجواب عن لمَ؟

يعد التعليل في الأحكام من أهم موارد الاجتهاد، وأعظم قواعد الاعتماد، فعليه اعتمد الفقهاء في وردهم وصدرهم، ووجهوا إلى غايته سهام نظرهم، فمن مستكثر اللجأ والتعويل على التعليل ما وجد إليه من سبيل، حتى لو كان في أبواب العبادات التي هي مظنة التحكمات والتعبدات، كما هو دأب الحنفية في مسائل القيم، ومن مقتصد متحر للمناسبات المتقاضية للتعليل، محكما سيفه في رقاب العادات مبرأ ساحات العبادات في أغلب الأحوال والأوقات. كالشافعية والمالكية والحنابلة على تفاوت كبير في منازع الأخذ والرد والجذب والإرخاء والشد[24].

والتعليل هو المرحلة الثانية بعد تفسير النص، فبعد المعرفة والحكم، يظهر سؤال العلة، ذلك أن التعليل هو مفتاح التعامل خارج دلالة اللفظ. والتعليل المراد عند المؤلف هو بمعناه الأعم؛ أي قد يكون بكلي أو جزئي، وقد يكون عن طريق المسالك المعهودة في القياس، لقياس جزئي على جزئي لاشتراكهما في علة، وقد يكون عن طريق الاستقراء.

وقد اشترط الشيخ بن بيه أن يقدم للتعليل بمقدمتين:

المقدمة الأولى: عن مقاصد الشريعة الكلية والجزئية، الأصلية والتبعية، ومقاصد الشارع ومقاصد المكلفين؛ لأنها بيئة التعليل كليها وجزئيها، ليستبين الدارس أصول التعليل.

ولا يخفى أن بين المقاصد وبين العلل عموم وخصوص من وجه، فغالب العلل مقاصد، إلا أنه توجد علل ليست فيها رائحة ولا روح المقصدية، وذلك في العلة المستنبطة من مسلك الدوران طردا وعكسا، فإن الوصف المدار ليس مقصدا بل هو أمارة.

من هنا يدعو فضيلة الشيخ بين بيه إلى التعامل مع المقاصد تعاملا جديدا باعتبارها أدوات فاعلة في مختلف أبواب أصول الفقه، معممات محل الحكم في حال خصوص اللفظ، ومخصصات في حال العموم، ومقيدات ومطلقات في عكس كل منهما ومبينات في حالة الإجمال، سواء كان المقصد صالحا للعلية بالمعنى الخاص، أو منطويا على حكمة يلجأ إليها ذوو الاختصاص؛ إذ سيكون تفعيل المقاصد من خلال أدوات الإنتاج والاستثمار، موسعا لأوعية الاستنباط، وجهاز استشعار في مجال الالتقاط[25].

وقد شرح الشيخ بن بيه بإبداعية في الرؤية والمنهج، على عادته، شرحا مستفيضا في أكثر من ثلاثين منحى اندماج المقاصد في مختلف أبواب الأصول، وألقى بدليل قاطع ودليل ناصع مقولة استقلال المقاصد عن علم الأصول للحاجة المتبادلة بينهما. فالمقاصد بلا فروع عقيمة، والأصول وما ينبني عليها من الفروع بلا مقاصد يتيمة[26]. وقد ذكر، حفظه الله، أمثلة من كلام الأولين في جملة من الأبواب.

المقدمة الثانية[27]: منطقية أصولية تشرح التصورات من خلال قول شارح، لتصل إلى التصديقات من خلال الحجة بنوعيها النقلية والعقلية. وهنا تبرز أهمية البرهان الذي يقوم على المقدمات اليقينية عند المناطقة، للولوج إلى ثلاثي القياس:

ـ القياس الشمولي، وهو استنباط جزئي أخفى من كلي أعرف، وشروطه وأشكاله المنتجة.

ـ قياس الاستقراء.

ـ قياس التمثيل.

وقد أجاد الشيخ بن بيه في عرض دوائر التعليل، وأفاض في مناقشتها من مختلف الأوجه، مستحضرا اختيارات الرواد الأوائل من أهل الأصول والمقاصد[28]، مستشهدا بأقوالهم، ولم يكتف بإيراد الأقوال، بل كانت له ترجيحات وتعقيبات، وتوجيهات، أهمها ما اقترحه من توسيع لدوائر التعليل من خلال الاستنجاد بالمقاصد، واستنطاق للمنطق لتركيب المفاهيم وترميمها من جديد، ولا تحقق لهذا المبتغى دون النزول إلى مدرج التنزيل، وهو في حقيقته نوع من الرقي في التعليل.

المجموعة الثالثة: مباءة التنزيل: الجواب على كيف؟

يقصد الشيخ بن بيه بمباءة التنزيل الواقع، والتنزيل غير التنازل، وهنا يتبادر إلى ذهن القارئ ناهيك عن الفقيه والأصولي مصطلحات من قبيل: تحقيق المناط: الواقع والمتوقع بتقلباته وغلباته، والحال، والمآل، والمصالح والمفاسد، ومعيار الكلي والجزئي…

ولا يخفى أن مصطلح التنزيل، هو “اختصار لجملة هي: تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع، باعتبار أن الأحكام الشرعية معلقة بعد النزول على وجود مشخص هو الواقع؛ أي الوجود الخارجي كما يسميه المناطقة”[29].

وحيث إن العنوان الاصطلاحي لهذا النوع من الاجتهاد هو تحقيق المناط، خصص الشيخ بن بيه حيزا كبيرا للتفصيل فيه على طريقة أهل الصنعة. وقد حدد له صورتان:

الصورة الأولى: تطبيق القاعدة العامة في آحاد صورها، وحينئذ يكون تحقيق المناط بعيدا عن القياس كل البعد. وقد قدم له تطبيقا على قاعدة العدل[30].

الصورة الثانية: إثبات علة متفق عليها في الأصل في الفرع لإلحاق الفرع بها، وهذا ما أشار إليه صاحب مراقي السعود بقوله:

تحقيق علة عليها ائتلفا في الفرع تحقيق مناط ألفا[31]

وهذا التعريف الثاني أدق من الأول، فالعلة المتفق عليها في الأصل إذا أثبتناها في الفرع، فهذا هو تحقيق المناط[32].

لقد رصد الشيخ بن بيه في جولة علمية مع أبي حامد الغزالي ومع أبي إسحاق الشاطبي وغيرهما من الفحول معاني تحقيق المناط، وخلص إلى أنه ثالث أنواع الاجتهاد، وأنه ليس خاصا بالمجتهد الفقيه، بل يسوغ لأصحاب الصنائع والأطباء والباعة، بل لكل مكلف في خاصة نفسه.

ولهذا فتحقيق المناط عام وخاص؛ فتحقيق المناط في الأنواع من نوع العام، وتحقيق المناط في الأشخاص من نوع الخاص[33].

ونظرا لأهمية موضوع تحقيق المناط في قضايا الاجتهاد والتجديد عموما، ومجال علم أصول الفقه خصوصا، أولاه الشيخ بن بيه أهمية خاصة، وتوضيحا زائدا، تحت العناوين الآتية:

أ. بيئة تحقيق المناط تأصيلا وتنزيلا

والمراد بالتأصيل الأحكام والأدلة، والمراد بالتنزيل الواقع المشخص، ووسائل التعرف عليه[34]. يقول الشيخ بن بيه: “نحن اليوم بحاجة إلى قراءة جديدة للواقع في ضوء الشرع للتذكير بالكليات التي مثلت لبنات الاستنباط بربط العلاقة بين الكليات وبين الجزئيات، وهي جزئيات تنتظر الإلحاق بكلي أو استنتاج كلي جديد من تعاملات الزمان، وإكراهات المكان والأوان، أو توضيح علاقة كلي كان غائما أو غائبا في ركام العصور وغابر الدهور”[35].

وإن القرآن الكريم والسنة النبوية يظلان النبراس الدائم، والينبوع الدافق، بهما يستضاء في ظلمة الدياجير، ومنهما يستقى في ظمإ الهواجر، بأدوات أصولية مجربة، وعيون معاصرة مستبصرة[36].

ووفق هذا المنهج يقرر الشيخ بن بيه أن كثيرا من القضايا التي ينظر إليها من خلال الأدلة الفرعية بنظر جزئي، وهي قضايا تتعلق بكلي الأمة؛ كمسألة جهاد الطلب، وتصنيف الدار، والعلاقات الدولية المالية، التي لا تحترم أحيانا من ماهية العقد إلا ركن التراضي… فالواقع الجديد يقترح صورة مغايرة للصورة التي نزلت فيها الأحكام الجزئية، ومعنى قولنا الجزئية أن الأحكام الكلية التي يستند إليها التنزيل تشمل الصورة القديمة والحديثة.

فجهاد الطلب، يضيف الدكتور بن بيه، كان في وقت لا توجد فيه معاهدات دولية، ولا حدود إلا تلك الثابتة بقوة السلاح أو بعد المسافة، ولم تكن فيه إمكانية إيصال الدعوة لأكثر الأقاليم دون إسناد حربي، ولم تكن أسلحة نووية فتاكة يمكن أن تقضي على الجنس البشري. ذلك هو الواقع اليوم، والواقع القديم مختلف.

الحكم الكلي يحكم على الجزئي، وذلك دون مناقشة أصل وجوب جهاد الطلب اختصارا على الباحث. كما أن واقع الحريات في عالم أصبحت فيه السيادة شبه ناقصة، والمعاهدات والمواثيق الدولية شبه حاكمة يمثل واقعا مؤثرا في مسألة الحدود الشرعية، وبخاصة في قضايا الاعتقاد، وجرائم الأخلاق، ومسألة التعددية الدينية… إنه واقع يؤثر في النظم والقوانين ومدى ملاءمتها للنصوص الشرعية مجردة عن مقاصد التعليل وقواعد التنزيل[37].

ولما كان تحقيق المناط انطباق وتطابق بين الواقع وبين الحكم المنزل فيه، يبرز سؤال: ما هو الواقع؟

وقبل الإجابة عن هذا السؤال يستشهد العلامة ابن بيه بنصين لعلمين شامخين؛ الأول لابن قيم الجوزية، في “إعلام الموقعين”، يقول فيه: “لا يتمكن المفتي ولا الحاكم (القاضي) من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما؛ فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علما. والنوع الثاني؛ فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر. فمن بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرا. فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان، صلى الله عليه وسلم، بقوله: ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما إلى معرفة من الأم”[38].

والنص الثاني للإمام القرافي، في الفرق الثامن والعشرين، بين قاعدة العرف القولي؛ يقضي به على الألفاظ ويخصصها وبين قاعدة العرف الفعلي لا يقضي به على الألفاظ ولا يخصصها، يقول فيه: “وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تحدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك واسأله عن عرف بلده وأجره عليه، وافته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين”[39].

فحسب عبارات ابن القيم، والقرافي، رحمهما الله، الواقع الذي يجب فهمه والفقه فيه والاستنباط يعني من ضمن ما يعنيه، الإحاطة بحقيقة ما يحكم عليه من فعل أو ذات، أو علاقة، أو نسبة ليكون المحكوم به، وهو الحكم الشرعي، المشار إليه بالواجب في الواقع، مطابقا لتفاصيل هذا الواقع ومنطبقا عليه[40].

ب. لكن ما هو نوع الواقع الذي يبحث عنه الفقيه؟ ولماذا يبحث؟

إنه الواقع الذي يحقق العلاقة بين الأحكام وبين الوجود المشخص، لتكون كينونتها حاقة فيه، أي ثابتة ثبوتا حقيقيا يتيح تنزيل خطاب الشارع على هذا الوجود سواء كان جزئيا أو كليا، فرديا أو جماعيا، وذلك يفترض مراحل تبدأ من ثبوت حكم موصوف لتنزيله على واقع مشخص معروف[41].

وهكذا يكون هذا الواقع مفتاحا لتعامل الفقيه مع الأشياء والأشخاص؛ وعليه يكون من واجب الفقيه أن يدرس الواقع دراسة علمية موضوعية، بكل أبعاده وعناصره ومؤثراته، بإيجابياته وسلبياته، ما له وما عليه.

ج. وسائل تحقيق المناط

فإذا كان الحكم يعرف من خلال النصوص الشرعية وما يستنبط منها، فإن الواقع بحاجة إلى معرفات، وهي الموازين الخمسة عند أبي حامد الغزالي، وقد جعلها معيارا للتحقق من الواقع المؤثر في الأحكام، ويمكن تسميتها بمسالك التحقيق؛ اللغوية، والعرفية، والحسية، والعقلية، والطبيعية[42].

ونظرا لصعوبة تحقيق المناط في العديد من القضايا، أحيط هذا النوع بوسائل ضبط تجلت في علاقة بتنقيح المناط وتخريجه، وبدليل الاستحسان، ودليل الاستصلاح، ودليل الذرائع؛ إذ هي في حقيقتها ترجع في أغلب فروعها إلى تحقيق المناط، إلا أن لكل واحد منها مميزات هي في حقيقتها ضابطة. وهذا ما يفضي إلى سؤال لمعرفة من يحقق المناط؟

يقول الشيخ بن بيه: “لقد أجاب الشاطبي، رحمه الله، عن سؤال: من يحقق المناط؟ بأنه العالم الرباني العاقل الحكيم، الذي ينظر في كل حالة. والظاهر أنه هنا يشير إلى تحقيق المناط الخاص، الذي يمكن أن نضعه في دائرة الإحسان، والذي هو “مسحة ملك”، وعلم أورثه تقى ونور. وبصفة خاصة هو تعامل مشايخ التربية في تسليك المريدين، وتهذيب المنتسبين (…)، إلا أنه فيما يتعلق ببيان الواقع لتحقيق المناط، فقد قرر الشاطبي نفسه بأنه متاح لأصحاب الصنائع والعوام، وليس حكرا على الفقيه. وللإجابة عن هذا السؤال لابد أن نقرر أولا أن خطاب الشارع مستويات ومراتب، فمنه ما هو موجه إلى الفرد في خاصة نفسه، كما أنه بإمكان الجماعة، ممثلة في الجهات الولائية، إذا لاحظت حيفا أو تحققت من مفسدة غير مرجوحة أن تحقق المناط. وكذلك كل القضايا العامة للأمة إنما يحقق المناط فيها الجهة الولائية المختصة، كإنزال العقوبات، وكفرض الضرائب…”[43].

د. مجالات تحقيق المناط

يقرر الشيخ بن بيه أن تحقيق المناط يجب أن يكون في كل المجالات؛ كالمجال السياسي “الأحكام السلطانية”، والمجال الاقتصادي “المعاملات”، والمجال الاجتماعي، ومجال العلاقات الدولية… ففي كل هذه المجالات نحتاج اليوم إلى نظر كلي يلاحظ الواقع المستجد لتركيب الدليل مع تفاصيله، وترتيب الأحكام على مقتضياتها[44].

المحور الثالث: الغاية

وتمثل الغاية البوصلة الحقيقية لمحاكمة دعاوى التجديد، وهي عند الشيخ ابن بيه، حفظه الله، ترد باعتبارين: أولهما الفكر، ويسمى الباعث، ويسمى المبدأ. والثاني: المنتهى، ويسمى الفائدة؛ ولهذا قالوا: مبدأ العلم منتهى العمل؛ فالباعث على إنشاء علم الأصول، هو البحث والتوسل إلى استنباط الأحكام، والفائدة هي الوصول إلى الأحكام[45].

وبهذا التفسير الذي قدمه الشيخ بن بيه، حفظه الله، للغاية، ندرك أن أصول الفقه وسيلة لاستنباط الأحكام، وأن وظيفته هي الوصول إلى الأحكام بطرق منضبطة، ولهذا اختار له اسم: الاستنباط والانضباط. وبناء على كل ذلك يقرر الشيخ أن لا مجال للتجديد في الغاية[46].

المحور الرابع: الفاعل

وهو المجدد أو المجتهد، وفي نظر الشيخ العلامة بن بيه فيشترط في المجدد “أن يكون قد قدم إبداعات ما في مجال من المجالات، اعترف بها العلماء، وأثنوا عليها، كما دلت عليها أسماء أولئك النفر الذين نالوا جائزة التجديد”[47].

وارتباطا بسياقنا المعاصر اقترح الشيخ ابن بيه أنه من المناسب “أن يكون التجديد في هذا العصر، عصر المؤسسات جماعيا تتضمن فيه مختلف الخبرات والتخصصات، ليكون مرآة لسمات العصر، وعاكسا لتحولات العالم، ويشترك فيه الخبراء إلى جانب الفقهاء، في شتى المجالات المستهدفة…”[48].

عود على بدء

يعتبر علم أصول الفقه علم مركزي في علوم الشرع؛ لما له من وظيفة إنتاج الأدوات المثمرة للأحكام من جهة، وضبط النظر والفكر من جهة أخرى، بحيث أمسى بمثابة الوسيط بين الوحي والفهم البشري، والوسيلة للتعامل معه.

ولئن كان من أهم مُشكلات العصر البحثُ عن الانسجام بين الضمير الديني والواقع المجتمعي، أو عن التساكن السعيد بين كليّ مقتضيات الزمان وكليّ الشريعة والإيمان، فإنّ أصولَ الفقه تُمثل أفضل منهجٍ اخترعته العبقرية الإسلامية للتعامل مع نصوص الوحي الإلهي، وهو منهج خالدٌ لأنه يستمد ينبوعَه ومادتَه من نصوص الوحي ومن لغة القرآن المحفوظ؛ مما كفلَ له البقاءَ وضمن له النقاءَ، وهو عملٌ إنساني رائع أُنتج في أواخر القرن الثاني الهجري والحضارة الإسلامية في أوج عطائها وقمة سنائها، والاختراعات والإبداعات تتداعى، وبخاصة في مجال اللغة وعلم الكلام والنحو والبلاغة والفلسفة، في بيئةٍ تمازجت فيها الأعراق وتزاوجت فيها المواريث الإنسانية، وكان السقف القرآني حافظاً لها في الجملة من الانفلات، وعلى الرغم من حدة الجدل إلا أنه ظل محكوماً بمعايير إسلامية[49].

من خلال إمعان النظر في المشروع التجديدي[50] لفضيلة الشيخ العلامة بن بيه سواء في مشاريعه الرائدة في مجال العلوم الإسلامية والفكر الإسلامي عامة، وفي علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة خاصة، يظهر أن لأصول الفقه عند فضيلة الشيخ وظيفتان متلازمتان؛ يمكن أنْ يُعبر عنهما بـ”الاستنباط والانضباط”، فهو من ناحية يسلط الفكر والنظر على النصوص، ألفاظاً وحكماً ومقاصد بنظر منضبط بقواعد وقوانين، فلا يصدر حكماً كلما لاحت لوائح المصالح أو كلما عنت سوانح الحاجات.

كما أن دراسة أصول الفقه من ناحية أخرى تدرب العقل المسلم على منهج التفكير الصحيح والنظر السديد؛ خاصة إذا ما استثمرنا المنهجية التي يستبطنها علم الأصول وتمكن فيه بالقوة بإبرازها إلى الفعل متمثلة في بناء الكليات وتوليد الجزئيات، وهي منهجية صالحة للتوظيف في كل المعارف، بل وكل مجالات المعايش، يقول الشيخ بن بيه: “إن دراسة أصول الفقه من الممكن أن تُدرب العقل المسلم على منهج التفكير الصحيح والنظر السديد، إذا استثمرنا المنهجية التي يستبطنها علم الأصول، وتكمن فيه القوة بإبرازها إلى الفعل متمثلة في بناء الكليات وتوليد الجزئيات، وهي منهجية صالحة للتوظيف في كل المعارف، بل وكل مجالات المعايش”[51].

بالإضافة إلى كل ما سبق، حرص الشيخ بن بيه، حفظه الله، على أن يذبج في مسك ختام هذا السفر المبارك، جملة مقترحات علمية، تعد مظاهر لإعادة التركيب، والترتيب، والتبويب:

ـ في المادة: إبدال عنوان التحسين بـ”مكانة العقل في التشريع”؛

ـ في مدلول الدليل: وضع مقدمة عن اللغة تتضامن فيها العلوم اللغوية، لغة ونحوا وبلاغة وصرفا، بالإضافة إلى الأصول، بما في ذلك دراسة مقارنة عن المنهج الغربي في اللسانيات والهيرمينوطيقا انطلاقا من ثلاثي الوضع والاستعمال والحمل لتوليد الدلالات.

ـ في منظومة التعليل: مقدمة منطقية تدرس فيها الأقيسة الثلاثة: الشمولي، والاستقرائي، والجزئي، تؤصل للتعليل، وتظهر مدى التواصل بين المنطق والأصول. مقدمة عن المقاصد، وضبط التعامل مع المقاصد بخمسة ضوابط لإدماجها في الأوعية الأصولية.

كما اقترح فضيلة الشيخ إحداث باب في هيكل الأصول بعد باب الاجتهاد لتمرين الباحثين على تطبيق القواعد الأصولية على المسائل الجزئية على غرار كتب التخريج، يقصد بذلك، حفظه الله، كتب تخريج الفروع على الأصول، من قبيل كتاب الإسنوي المسمى “التمهيد في تخريج الفروع على الأصول”، أو كتاب التلمساني الموسوم بـ”مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول”.

هذا على مستوى الصورة، أما على مستوى الفاعل، فقد اقترح الشيخ ابن بيه أن يكون التجديد في الشريعة جماعيا، تماشيا مع روح العصر، يشترك فيه الخبراء مع الفقهاء.

ومع ما ذكر، اختتم الشيخ بن بيه الحديث عن كل ما سلف بالقول: ” فإن مشاريع التجديد سواءً كانت جزئية تفصيلية تتعلق بأبواب أو بمسائل متفرقة للتخفف من الاختلاف، أو من البحوث النظرية التي لا جدوى منها علمياً، أو تتعلق بمجالات تطبيقية كالعلاقة مع القوانين أو بنظام الأسرة أو الفرد؛ فإني أعتبرها مفيدة في نتائج التجديد ولكن ليس في تجديد الآليات، وإنما في توليد الجزئيات، ولها مكانها في التفاصيل واختبار جدوائية المولدات التي تم حصرها في: تفسير النصوص، وتعليل النصوص، وتنزيل الأحكام.

فالتفسير: مدلول الألفاظ المفردة أو الأفعال، والتعليل؛ استنتاج العقول من مغزى النصوص الجزئية أو مجموع النصوص. والتنزيل؛ تفاعل بين واقع أو متوقع وبين أحكام ثابتة لنصوص واضحة أو مستنبطة بعلل من خلال كليات المصالح والمفاسد التي توسع مدى النصوص لتعميمها، وتطلق مقيداتها وتقلص مدى عمومها وتقيد مطلقاتها؛ طبقاً لمقاصد فهمت في محل النص أو خارجه عند تحقق المناط”[52].

الهوامش

 

 


[1]. عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه، إثارات تجديدية في حقول الأصول، جدة: دار التجديد، (1434ﻫ/2013م)، ص24.

[2]. المرجع نفسه.

[3]. المرجع نفسه، ص25.

[4]. المرجع نفسه، ص26.

[5]. المرجع نفسه، ص29-30، ولمزيد اطلاع ينظر: معيار العلم للغزالي، ص:107، البحر المحيط للزركشي: 1/21، والمنخول للغزالي ص4.

[6]. إثارات تجديدية، م، س، ص33.

[7]. المرجع نفسه.

[8]. أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: عبد الله دراز-محمد عبد الله دراز، دار الكتب العلمية، ط1، (1425ﻫ/2004م)، 2/10-12.

[9]. إثارات تجديدية، م، س، ص35.

[10]. المرجع نفسه.

[11]. المرجع نفسه.

[12]. المرجع نفسه.

[13]. المرجع نفسه.

[14]. المرجع نفسه، ص40. ولمزيد من التفصيل في شجرة الدلالات يراجع كتاب الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه، أمالي الدلالات ومجالي الاختلافات، المكتبة المكية – دار ابن حزم، ط1، 1999م.

[15]. إثارات تجديدية، م، س، ص41.

[16]. المراد بالفاعل المجتهد المجدد.

[17]. إثارات تجديدية، م، س، ص42.

[18]. المرجع نفسه، ص42-43.

[19]. المرجع نفسه، ص44.

[20]. انظر رسالة فيضل التفرقة، ص78. (ضمن مجموعة رسائل الإمام الغزالي).

[21]. إثارات تجديدية، م، س، ص50.

[22]. انظر إثارات تجديدية، م، س، ص51-57، وأضاف الشيخ بن بيه معقبا: “قلت: وهذه الموافقة لوضع اللغة لا تعني أن تدل عليه دلالة مطابقة، فهذا لا يسمى تأويلا، ولكنها موافقة بحيث تدل عليه تضمنا أو التزاما”. انظر: إثارات تجديدية، م، س، ص57.

[23]. إثارات تجديدية، م، س، ص61.

[24]. المرجع نفسه، ص63.

[25]. المرجع نفسه، ص67-68.

[26]. انظر كتاب: عبد الله بن الشيخ محفوظ بن بيه، مشاهد من المقاصد، الإسلام اليوم، ط1، 1431ﻫ.

[27]. المرجع نفسه، ص77.

[28]. المرجع نفسه، ص77-99.

[29]. المرجع نفسه، ص100.

[30]. المرجع نفسه، ص101.

[31]. نشر البنود على مراقي السعود، 2/207.

[32]. إثارات تجديدية، م، س، ص102. وقد مثل الشيخ بن بيه لتحقيق المناط في صورته الثانية بعلة الربا في المطعومات.

[33]. المرجع نفسه، ص121-122.

[34]. المرجع نفسه، ص122.

[35]. المرجع نفسه، ص124.

[36]. المرجع نفسه، ص124.

[37]. المرجع نفسه، ص126-127.

[38]. ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين، بيروت: دار الكتب العلمية، د. ط، (1417ﻫ/1996م)، 1/69.

[39]. إدريس القرافي، أنوار البروق في أنواء الفروق، صيدا-بيروت: المكتبة العصرية، ط (1424ﻫ/2003م)، 1/176-177.

[40]. إثارات تجديدية، م، س، ص131.

[41]. المرجع نفسه، ص136.

[42]. المرجع نفسه، ص140.

[43]. المرجع نفسه، ص142-146.

[44]. المرجع نفسه، ص146.

[45]. المرجع نفسه، ص156.

[46]. المرجع نفسه.

[47]. المرجع نفسه، ص158

[48]. المرجع نفسه.

[49]. المرجع نفسه، ص159.

[50]. يعرف العلامة عبد الله بن بيّه التجديد الأصولي: “بأنه تحريك المفاهيم التي تشكل المنظومة الأصولية، وتمثل الصورة المحددة لها لإبداع مفهوم جديد، أو إدراج مضمون حديث في مفهوم قديم في قراءة جديدة للأصول؛ قواعد ومقاصد وعلاقتها بالجزئيات الفقهية على ضوء مستجدات العصر؛ فهو ربط واصب بين الكلي والجزئي في ضوء ضرورات الواقع وحاجياته”. إثارات تجديدية، م، س، ص12.

[51]. المرجع نفسه، ص160.

[52]. المرجع نفسه، ص166.

العلامة عبدالله بن بيه في مؤتمر نواكشوط الإسلامي : إجتزاء النصوص نتج عنه تحريف مفاهيم كانت للسلم فأصبحت للحرب

واكشوط – القاسمية انفو/

 

ألقى رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة الامام الشيخ عبد الله بن بيه خلال الجلسة الرسمية لافتتاح مؤتمر نواكشوط الاسلامي الدولي الذي انطلقت فعالياته أمس الأربعاء وتتواصل جلساته العلمية اليوم ألقى كلمة اشاد في بدايتها بالمقاربة الموريتانية في مكافحة ظاهرة الغلو والتطرف العنيف على الصعيدين الأمني والفكري.

وأوضح الامام عبدالله بيه جوانب من الجهود الفكرية والعلمية للمنتدى الذي يرأسه في مكافحة هذه الظاهرة الجنونية، طبقا لوصفه.

كما تطرق العلامة عبدالله للاسباب الفكرية والنفسية والاجتماعية التي تتسبب في انتشار الظاهرة مضيفا ان المنتدى يعتمد المنهج الوسطي الذي يسعى الى تعزيز ثقافة التعايش السلمي في المجتمعات الانسانية والمسلمة واحياء القيم المشتركة كالسلم والرحمة والعدل والحكمة، متحدثا عن مبادرته حول “اعلان واشنطن” لإنشاء حلف فضول جديد يجمع الديانات الإبراهيمية لأول مرة وإطعام مليار جائع عبر العالم.

وبين الشيخ عبدالله بن بيه ان المنتدى في مقاربته الفكرية يسعى الى تصحيح المفاهيم الشرعية، مع الحفاظ على خصوصية النصوص واهمية المقاصد، باعتماد المنهجية العلمية الرصينة والأصيلة لمعالجة الفكر المأزوم وآثاره.

ودعا الشيخ عبدالله بن بيه العلماء والباحثين الى العمل على تصحيح المفاهيم المغلوطة وتوضيح المنهج مشيرا الى انه قدم في هذا السياق منهجية كاملة في التعامل مع نصوص الشريعة الاسلامية.

وفي سياق حديثه عن أسباب ظاهرة التطرف والغُلو قال الامام عبد الله ان هذه الظاهرة ناتجة عن قراءة مبتسرة ومجتزاة للنصوص.

وأضاف الامام عبدالله بن بيه قائلا ان تعقيد الواقع جعل الوصول إلى الحلول أو المقاربات أمرا صعبا، مضيفا انه عند دراسة ظاهرة التطرف لابد أن يختار الباحث السبب المهيمن حتى يتسنى له صياغة الحلول لتلك الظاهرة، “والتطرف ظاهرة ناشئة عن قراءة مبتسرة ومجتزاة للنصوص، مما نتج عنه تحريف مفاهيم كانت للسلم فأصبحت للحرب” يقول الامام عبدالله.

‏وقال العلامة عبدالله بن بية ان كل مفهوم يمكن ان ينقلب بفعل الانسان الى ضده، مبينا خطورة التعامل مع العام دون النظر في الخاص والجزئي دون الكلي، مضيفا ان المنهج الذي لا ينظر في تضامن النصوص، ولا يعتمد الجمع بين الادلة يؤدي الى مشكلة كبيرة.

وبين الامام عبدالله ان هناك فرقا بين النعم العامة والنعم الخاصة، ومن النعم الخاصة نعمة الأمن “ويقابلها شكر خاص هو العمل الذي نقوم به، وتقومون به الان ويقوم به امنكم وجيشكم”، طبقا لكلام الامام.

وأوضح الشيخ عبدالله ان سبب كل هذه الحروب اليوم هو الفهم الحرفي للنصوص والمنهجية الاجتزايية.

وخلص الامام عبدالله الى ان العالم اليوم يواجه سبع ازمات عالمية، ومنها أزمة التطرّف.