ارشيف ل

ندوة علمية بنواكشوط حول إعلان مراكش وفكر العلامة بن بيه

في إطار متابعته للمشروع الفكري و التجديدي للشيخ العلامة عبد الله بن بيه نظم المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الإنسانية –مبدأ ندوة عليمة حول وثيقة مراكش لحقوق الاقليات في المجتمعات المسلمة قراءة في المحتوى و الدلالات .

الندوة التي احتضنها فندق موريسانتر في نواكشوط شهدت مشاركة مجموعة من العلماء و الباحثين في المجال كما القت الضوء على عديد الجوانب الفكرية و الثقافية في مسيرة العلامة عبد الله بن بيه .

وقد قدم المحاضران الدكتور الوزير إسلم ولد سيد المصطف و الأستاذ الأديب الخليل النحوي قراءات مهمة في الوثيقة و الرؤى الفقهية و الفكرية حولها و حول فكر الشيخ ، كما اسهم رئيس الجلسة الشيخ الفقيه بونا عمر لي في تأطير الندوة علميا من خلال بعض النقاط الاساسية التي قدم .

الدوة الرابعة في إطار مشروع الشيخ  بن بيه تم افتتاحها  من قبل رئيس المركز الدكتور محمد سيد أحمد فال بوياتي الذي أكد على ضرورة هذا النوع من الاهتمام بالفكر و المفكرين واعطاء الفرصة للجميع من اجل ان يتم نقاش افكارهم بمشاركة مباشرة منهم .

 

يذكر أن المشروع الفكري و التجديدي للعلامة ابن بيه الذي يقوم عليه المركز الموريتاني للبحوث و الدراسات الانسانية مبدأ قد نظمت فيه الى الان أربع ندوات كبرى اضافة الى  ثلاث حلقات نقاشية فيما يتوقع ان يختم بندوة كبرى يشارك فيها علماء و مفكرون من خارج موريتانيا .

العلامة عبدالله بن بيه يستقبل في بيته بجدة الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي

جدة –

استقبل العلامة عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيه في منزله بجدة معالي الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى الأمين العام لرابطة العالم الاسلامي. حيث نشر موقع الرابطة خبرا عن الزيارة التي قام بها الأمين العام وذكر انها تأتي ‏انسجاماً مع عالمية التواصل الإسلامي للرابطة  واستعرضا في جلسةٍ موسعة عدداً من الموضوعات العلمية.

“الموطأ للدراسات” يشارك ب22 عنواناً مقاصدياً بمعرض القاهرة الدولي للكتاب

أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة : يشارك مركز “الموطأ للدراسات والتعليم” الذي يرأسه معالي العلامة عبد الله بن بيه، في معرض القاهرة الدولي للكتاب (دورة 49 – 2018)، باثنين وعشرين عنوانا، هي باكورة إصداراته منذ البدء في تطبيق استراتيجيته البحثية العلمية في مطلع عام 2017.

وتتركز إصدارات “الموطأ للدراسات والتعليم” على الدراسات المقاصدية، وفقه الواقع والتوقع، وتعزيز ثقافة السلم ونشر قيم التسامح؛ بهدي فلسفة التعايش القرآني السعيد. ومن أهم إصدارات الموطأ، “تنبيه المراجع” و”مقاصد المعاملات”، و”إعمال المصلحة في الوقف” و”الإرهاب: التشخيص والحلول” والجذور المعرفية للتطرف” للعلامة الشيخ عبد الله بن بيه، و”الجهاد رافداً للسلم”، و”منهج الاجتهاد تأويلا وتعليلا وتنزيلا” للدكتور عبد الحميد عشاق، و”حفريات في أصول الفكر الغربي” للدكتور إبراهيم مشروح، و”اجتزاء النصوص والمفاهيم الشرعية وأثره في الواقع” للدكتور المصطفى سليمي وغيرها من الكتب، التي تؤسس لوعي إسلامي جديد يرفد قيم السلم والتسامح على المستوى العالمي؛ بغرض المساهمة في عمارة الأرض بالخير.

يذكر أن مركز “الموطأ للدراسات والتعليم ” هو صرح معرفي إماراتي، ينطلق من العاصمة أبوظبي، وينهض بنشر الثقافة الإسلامية والإنسانية الرصينة المعززة لقيم السلم والتسامح والعيش المشترك بالوسائل المختلفة. هذا إلى جانب إعداد البحوث والدراسات المتعلقة بالنصوص الشرعية وتنزيلها على الواقع، وتصحيح المفاهيم الشرعية المغلوطة. ثم صناعة علماء إماراتيين شباب يجمعون بين التكوين العلمي الشرعي الوسطي الأصيل، وبين الوعي بالواقع والقدرة على التفاعل الراشد معه والتأثير الإيجابي. هذا فضلاً عن دور الموطأ في تعزيز جهود دولة الإمارات العربية المتحدة ودرها في نشر قيم السلم والتسامح على الصعيدين المحلي والعالمي.

تقوم استراتيجية المركز على قراءة إسلامية معاصرة للدين الحنيف، وبيان فلسفة الإسلام الرحمانية؛ بضوء شرعة التعارف القرآنية الشريفة، وهدي السيرة النبوية العطرة. ويعمل المركز على إطفاء الحرائق، وتعزيز السلم العالمي، وتلاقح الثقافات على كل المستويات الإنسانية.

وتتضمن استراتيجة المركز خطة شاملة، تؤكد على أهمية الحوار في مجال تعزيز الخطاب الديني، الذي يعكس قيم وتعاليم الإسلام، في تعميق ثقافة السلم والتسامح وترسيخ قيم الحوار والمشاركة الإيجابية في عمارة الأرض بالخير والجمال والمسرة. هذا بالإضافة إلى الجهد العلمي في إطار بناء القدرات، من خلال مناهج تلبي احتياجات الشباب بمطالع الألفية الثالثة. وكذلك تدريب الشخصيات الدينية على رفد الخطاب السلمي العالمي بقيم التعارف الإسلامية المدهشة، ونبذ العنف والتطرف وإقصاء الغلاة والمتشددين أو المتطرفين.

جائزة الإمام الحسن بن علي الدولية للسلم لـ «بيت العائلة المصرية»

أبوظبي في 13 ديسمبر / وام / كرم سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي ومعالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح ومعالي العلامة الشيخ عبد الله بن بيه رئيس “منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة” مساء أمس مبادرة “بيت العائلة المصرية” الفائزة بـ “جائزة الحسن بن علي للسلم الدولية” لعام 2017 وذلك ضمن فعاليات الملتقى الرابع لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة.

تسلم التكريم الدكتور محمود حمدي زقزوق الأمين العام لمبادرة بيت العائلة المصرية والأنبا أرميا الأمين العام المساعد للمبادرة .

و أكد معالي العلامة الشيخ عبدالله بن بيه رئيس “منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة” – خلال حفل التكريم الذي شهده حشد كبير من العلماء والمفكرين وممثلي الأديان – إن هذه اللفتة الكريمة تعبير خالص الشفافية عن ثقافة التسامح والسلام والوئام التي أرساها القائد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – طيب الله ثراه.

واعتبر معاليه أن الجائزة تنطوي على دلالات بالغة الأهمية فهي ذات تاريخ طويل وسجل حافل و كبير حيث أن سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنه أصلح بين فئتين عظيمتين في الإسلام حيث كان المسلمون على وشك مواجهة دموية فأدرك سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطورة الموقف فتنازل عن حق وسمي ذلك العام بعام الجماعة لذلك جاء اختيارنا هذا الرمز العظيم في السلم والعافية.

وقال معالي الشيخ ابن بيه إن المنتدى قرر هذا العام أن يمنحها لمؤسسة عظيمة تابعة للأزهر و الكنيسة المصرية وهي “بيت العائلة” لما لها دور كبير في اللحمة الوطنية وتوحيد صفوف المصريين وغرس بذرة التسامح ورعاية غرسة التعايش ونبذ الأحقاد الطائفية المقيتة.

 

من جانبه توجه الدكتور محمود حمدي زقزوق الأمين العام لمبادرة بيت العائلة المصرية بالشكر إلى دولة الإمارات وقيادتها الرشيدة على هذه الجائزة مشيرا إلى أنه يوم مشهود يتضمن تكريم المعاني السامية القيم النبيلة الأخلاق العالية التي جاءت بها الأديان السماوية مجتمعة.

وقال إن الحديث عن بيت العائلة يعني أننا نتحدث عن المصريين مسيحيين ومسلمين الذين عاشوا وسيعيشون إلى أبد الآبدين بلحمة وطنية مشيرا إلى أن الايمان بالله و اليوم الآخرة والعمل الصالح يجمعنا والله لم يفوض أحدا بالتدخل في العقائد فلا يجوز أن يتدخل أحد بينه وبين عباده فجل جلاله هو صاحب الشأن بذلك.

من جهته قال الأنبا أرميا نائب أمين عام “بيت العائلة المصرية” في كلمته : ” إننا هنا بأرض الخير أرض المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – طيب الله ثراه – وبرعاية كريمة من أبناء زايد الخير نلتقي على المحبة والوئام وآيات السلام الممجدة في القرآن والانجيل”.

وأكد الدور العظيم لـ”منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة” في ترسيخ ثقافة السلم والتسامح برعاية القيادة الرشيدة لدولة الإمارات.

وأضاف : ” إننا نلتقي معا في أرض التسامح في واحة منتدى تعزيز السلم لقطع الطريق على الإرهاب وعرض العديد من الآيات القرآنية وفي الانجيل التي تكرم الإنسان” .

يشار إلى “بيت العائلة المصرية” مبادرة للتعايش تبناها الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر ورحب بها البابا تواضروس الثاني بابا الاسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية.

و يتكون بيت العائلة المصرية من علماء مسلمين ورجال الكنيسة القبطية وممثلين من مختلف الطوائف المسيحية بمصر وعدد من المفكرين المصريين.

وتتمثل أهداف “بيت العائلة المصرية ” في الحفاظ علي النسيج الوطني الواحد لأبناء مصر ويعمل من أجل تحقيق ذلك على محاور عدة منها تأكيد القيم العليا والقواسم المشتركة بين الأديان والثقافات والحضارات الإنسانية المتعددة وبلورة خطاب جديد ينبثق منه أسلوب من التربية الخلقية والفكري بما يناسب حاجات الشباب والنشء ويشجع على الانخراط العقلي في ثقافة السلام ونبذ الكراهية والعنف فضلا عن إرساء أسس التعاون والتعايش بين مواطني البلد الواحد ورصد واقتراح الوسائل الوقائية للحفاظ علي السلام المجتمعي وتدريب الأئمة والقساوسة في مختلف المحافظات علي التعريف بالآخر والحفاظ علي السلم المجتمعي.

كلمة العلامة ابن بيه التأطيرية لمنتدى تعزيز السلم 2017 بعنوان : السلم العالمي و الخوف من الإسلام

الكلمة التأطيرية للملتقى الرابع لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة بعنوان : السلم العالمي و الخوف من الاسلام 

الكلمة التأطيرية للملتقى الرابع لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة
بعنوان : السلم العالمي و الخوف من الاسلام

 

تمهيد :

  • المنتدى ومنجزاته
  • سياق الملتقى الرابع

المحور الأول : معالجة ظاهرة الخوف من الإسلام: الصورة والعوامل

  • التمظهرات
  • العوامل

المحور الثاني: رؤية علاجية لمواجهة ظاهرة الخوف من الإسلام

خاتمة: مبادرة حلف الفضول

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين،

وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين

أصحاب المعالي،

أصحاب السعادة،

أصحاب السماحة والفضيلة

الأخوات الكريمات، الإخوة الكرام

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

        لا تزال منن الله سبحانه وتعالى علينا تتوالى، فيشاء الله جل في علاه أن يمن علينا بعقد لقائنا الرابع، وكما عودنا جميل فضله دائما، أن يجمعنا في أبوظبي بدولة الإمارات العربية، أرض المغفور له الشيخ زايد في عام زايد الخير، برعاية أبناء زايد الخير، والخير لا يأتي إلا بخير، وقديما قيل:

فما كان من خير أتوه فإنما
وهل ينبتُ الخطيَّ إلا وشيجه
*

*

توارثهم آباء آبائهم قبلُ
وتُغرس إلا في منابتها النخلُ

 


أيها السادة والسيدات:

نذكر بأن الموضوع الدائم للمنتدى هو “السلم” والمبادئ التي ينطلق منها، والأهداف التي يضعها نصب عينيه، وقد عبرنا في مناسبات سابقة أننا غرسنا شجرة السلم منذ سنوات أربع، ولم ننقطع عن سقيها على مدار السنوات، ليقوى جذعها ويمتد فرعها، وتثمر أقناؤها وأغصانها السلم والسلام، وأملنا أن تستثمرها البشرية كلها، وتستظل بها الإنسانية كلها.

عند كل لقاء نتساءل: ماذا أنجزنا بين كل لقاء وآخر؟ وماذا سيضيف ملتقانا الرابع هذا للملتقيات الثلاث التي سبقته؟ والسؤال الأهم: لماذا اجتماعنا اليوم؟

منجزات المنتدى بين 2016 و2017

أما السؤال الأول، فبين الملتقى الثالث وملتقانا هذا بدأت لجان موسوعة السلم في عقد ورشاتها تنفيذا لتوصياتكم في الملتقيات السابقة، ومجلة السلم يصدر عددها الثاني، وسلاسل السلم أخذت مسارها.

 هذا في ما يتعلق بالجانب الفكري والتنظيري، أما العمل الميداني فبحمد الله كان المنتدى حاضرا في ملتقيات عالمية فقد شارك بدعوة كريمة من رابطة العالم الإسلامي في مؤتمر نيويورك حول “التواصل الحضاري بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي”، وقد أظهر هذا اللقاء كغيره من المناشط مدى الحضور والقبول الدولي الذي تتمتع به الرابطة بقيادة معالي الدكتور محمد عبد الكريم العيسى، كما شارك المنتدى في اجتماع دافوس لمكافحة الاتجار بالبشر بنيورك ، وبدعوة من الأمم المتحدة شارك المنتدى في مؤتمر مواجهة التحريض على العنف وخطاب الكراهية، كما لبّينا الدعوة التي وجهها إلينا رئيس أساقفة الكنيسة الأنجليكانية ببريطانيا حيث أجرينا محادثات مفيدة لخدمة السلام، ولعل من أهم ما ميّز سنتنا هذه استقبال المنتدى بأبوظبي عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة لأول قافلة أمريكية للسلام في محتطها الأولى، وفي محطتها الثانية بالرباط عاصمة المملكة المغربية.

وسنتحدّث عن هذه القافلة والدروس المستفادة لاحقاً.

أما ما سيضيفه ملتقانا الرابع، فهذا منوط بكم، ونعول عليكم أن تمدونا بآرائكم النيرة وتوصياتكم القيمة لنشترك جميعا في هذه المهمة، ولنتعامل مع هذه المرحلة التي تشتد أزماتها وتضيق حلقاتها، ولكن لا نيأس من روح الله، فهناك ما يدل على أن الشعوب سئمت من الحروب، ولم تعد الدعوات الأيديولوجية تحركها، ولا وعود الرفاهية المزعومة تغريها، إن الناس يحبون السلام. وهذا ما سيسعى ملتقانا هذا إلى الإسهام فيه.

وبخصوص لماذا نجتمع؟ فإن اجتماعنا يأتي في سياق البحث الدؤوب عن السلام، من خلال معالجة أمرين:

– الأول: المفاصلة الدينية التي اتسعت دائرتها في المجتمعات المسلمة، وقد تعامل المنتدى مع جانب منها في مؤتمر مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي في يناير 2016.

– الثاني: ظاهرة الخوف والتخويف من الإسلام التي أصبحت واقعا يطرح أسئلة قلقة ومقلقة في الآن ذاته.

وقد خلصنا في اجتماعات مجلس أمناء منتدى تعزيز السلم إلى ضرورة أن نستكمل العمل في ما يخص الدائرة الأولى، وأن نبدأ التعامل المباشر مع الدائرة الثانية، وفي هذا الصدد رأى مجلس الأمناء أن الأوضاع العالمية تدعو إلى الربط بين السلام الذي ندعو له وبين ظاهرة الخوف من الإسلام، فاخترنا أن يكون موضوع الملتقى الرابع هو: “السلم العالمي والخوف من الإسلام:  قطع الطريق أمام التطرف”، فنرجو من الله تعالى التوفيق والسداد.

سياق الملتقى الرابع:

 نحاول اليوم في هذا الملتقى الرابع أن نقف وقفة تأمل مع العالم من حولنا، وقفة لن تلفتنا عن بحثنا الواصب، وحراكنا الدائب في سبيل السلم، وقفة تتمثل في العنوان الذي اختير هذه السنة “السلم العالمي والخوف من الإسلام: قطع الطريق أمام المتطرفين”.

ومما يرشح هذا الموضوع الوعيُ بدرجة الاهتمام بالعلاقة بين السلم العالمي والإسلام، والتي أصبحت إلى حد ما ملموسة ومحسوسة في أوربا وأمريكا. كما أننا في المنتدى نؤمن بأنه في سياق العالم المعولم الذي انتظمته ديناميكة واحدة، هي ديناميكية العولمة في أبعادها وتمظهراتها المختلفة، من حركة رؤوس الأموال والبضائع، وعملية التثاقف، وتيارات الهجرة الدؤوبة في عالمنا الذي تقاربت أركانه وصار كالقرية الواحدة، لم يعد بوسع أي مجتمع أن يبقى خالصا نقيا دينا أو عرقا، وهذا التنوع في المنطق الديني والإنساني يحتم الوعي بوحدة المصير والمسار، وبضرورة العمل الإيجابي والتعارف والتعايش بدل التنافر والتنابذ والكراهية والتمييز.

وعلى صعيد آخر، يمكن القولُ إن تنامي خطابات الكراهية وسياسات التمييز، يرفد التطرُّف في الضفة الأخرى بأسباب يتمسَّك بها في اكتساب نوع من الشرعية الموهومة ويمدُّه بأوعية متجدّدة لتجنيد المزيد من الأتباع والدماء الجديدة.

ولهذا، فإننا عندما نتحدث عن خطاب “الخوف من الإسلام”، لسنا نُعنى به لمجرد ما فيه من البعد عن الميزان العقلي والميزان الأخلاقي؛ أو ما يؤدي إليه من الأضرار العظيمة والشروخ الجسيمة داخلَ نسيج المجتمعات المركّبة، وما يحتويه من مجانفة لمبادئ نموذج العقد الاجتماعي القائم على أسس المواطنة المتساوية، كل ذلك مهم ولكن مقصدنا الأصلي في تناول هذه القضية هو  قطع الطريق على التطرف بتجفيف أحد منابعه وفك الارتباط بينه وبين أحد روافده المتمثل في إعلان المفاصلة النهائية بين المسلمين والعالم كله، لإشعال الحرب الأبدية واللانهائية والعبثية حرب الجميع ضد الجميع، تلك هي المأساة التي تتخادم فيها الإسلاموفبيا والمتطرفون.

ومنتدى تعزيز السلم وإن اختص في توصيفه بالمجتمعات المسلمة، إلا أنه يرى علاقة المسلمين بغيرهم في المجتمعات ذات الأغلبية غير المسلمة باعتبارها موضوعا داخلة في اهتماماته وصميم انشغالاته، لما لهذه العلاقة المتوترة من انعكاسات سَلبية على السلم الاجتماعي في المجتمعات المسلمة وغير المسلمة على حد سواء، لأننا نعتقد أن وسائل تعزيز السلم التي نتبناها في المجتمعات المسلمة هي نفسُ الوسائل التي تنشر السلام في كل المجتمعات الإنسانية، لأن منغصات السلم وعوائقه السلم واحدة في كل مكان،  وهي جزء من ظاهرة الرهاب والخوف من الإسلام.


 

المحور الأول

 معالجة ظاهرة الخوف من الإسلام: الصورة والعوامل

ينبغي بادئ ذي بدء أن نؤكد أننا لسنا هنا في مقام محاكمة أو سياق مرافعة قانونية ولا حتى حقوقية حول ما يمسى بالإسلامفوبيا، لأننا -كما اخترنا منذ أول ملتقى- إطفائيون يبحثون عن وسائل السلام والعافية للمجتمعات المسلمة والإنسانية العالمية، فذكر أسباب الظاهرة لا يعني أننا نحاكم أناسا آخرين قانونيا وأخلاقيا، ولا نريد أن نجعل من الملتقى منصة اتهام أو تبرئة، وإنما نبحث عن المقاربة الإيجابية التي تعيد الثقة بين المسلمين وغيرهم، والتي تجلي الصورة الحقيقية والصحيحة للإسلام.

ومع ذلك فإننا لا ندعي الوصاية على مواطني الدول الأخرى فيما يلجئون إليه من الوسائل القانوينة المتاحة لهم للتصدي لخطاب العنف والكراهية ولنيل حقوقهم، فلكل سياق خصوصيته ولكل مجتمع تنزيلاته الملائمة لأطر نظامه العام.

إن بحثنا ليس بحثا تقليديا، وإنما هو تشخيص لتلمس العلاج لهذه الظاهرة، من خلال رصد تمظهراتها، وسبر عواملها. فما هي هذه التمظهرات؟ وما هي هذه العوامل والأسباب؟

1- التمظهرات:

التمظهرات لا تخطئها العين، ولا يحتاج إبرازها إلى كبير عناء، فهي معروفة ليس فقط من خلال ما يكشفه الإعلام، بل بحسب الباحث أن يجدها بارزة وجلية على أعلى مستويات التصريحات الرسمية العالمية.

فتمظهرات الظاهرة تتمثَّل في نمو خطابات الكراهية والتمييز التي بدأت تغزو المشهد العمومي في المجتمعات الغربية من أطرافه، من خلال تنامي حركات كانت إلى وقت قريب هامشية، كأحزاب اليمين المتطرف والأحزاب النازية الجديدة، والتي تبني خطابها الإيديولوجي على فرض التناقض بينها وبين الغير. مع الإشارة إلى أن الكراهية لم تعد خصيصة غريبة بل إن مناطق في العالم الشرقي أصيبت بلوثة الكراهية الإسلام والعنصرية ضد المسلمين من طرف بعض البوذيين وغيرهم.

لا شكّ أن هذه الأفكار قديمة بالجنس في الخطاب التقليدي للحركات الوطنية أو الشعوبية، ولكنها جديدة بالنوع في تشكلاتها الراهنة، حيث إن عنصر الجدة ومظهر الأزمة هو تمكُّن الخطابات الإقصائية ذات النبرة العالية والتعابير الساخطة من جذب قطاعات واسعة من الجمهور في دول كبرى لها إمكاناتها ومكانتها في العالم؛ فأصبحت هذه الخطابات تسهم في صناعة السياسات الكبرى في هذه الدول، فيما يتعلق بالهجرة، وبتحديد الموقف من الأقليات المسلمة، بل وحتّى في توجيه السياسة الخارجية أحيانا.

على أنَّ هذا المشهد المتفاقم لا يمكن أن ينسينا المواقف الحكيمة لحكومات غربية ولأحزاب لها وزنها وثقلها، ولغالبية هيئات المجتمع المدني التي تصدَّت لخطاب العنف والكراهية ضد المسلمين بالمبادرات القانونية وحملات التوعية والتضامن.

2– ما هي الأسباب والعوامل؟

إن من شأن الظواهر البشرية أنها ترجع إلى شبكة عوامل متعددة متداخلة ومتضامنة، وهذه العوامل منها ما هو موضوعي، ومنها ما هو ذاتي، ومنها الحقيقي، ومنها الوهمي، وهذا التعدد هو ما يجعل البحث في الظاهرة متشعبا، ويلزم الباحث حينما يعالج الظاهرة أن يسبُر شبكة الأسباب، ويفحص قوة تأثيرها ليخلص إلى انتقاء العامل المهيمن الذي ينبغي أن يُخص بمعظم المعالجة.

وقد أحصى الدارسون عدة عوامل لكل واحد منها نصيب في تشكيل بناء الظاهرة وتكوين الإشكالية المؤسسة لمفهوم الإسلاموفومبيا.

فمن الباحثين من أناط المشكل بأبعاده النفسية التي يوحي بها استعمال كلمة رهاب phobia، بما تحمله من دلالات وجدانية.

ومنهم من أبرز العوامل الاقتصادية، مشدِّدا على سياق الكساد الذي تمر به الاقتصادات العالمية، ودور المنافسة الأجنبية في سوق العمل في تأزيم وضع البطالة وتدني مستويات الأجور.

ويفضل آخرون الحفر والكشف عن الجذور التاريخية للظاهرة، من خلال إبراز دور الذاكرة في صناعة التصوّرات النمطية السلبية، التي ما تزال موجودة في الذهنيات والوعي العمومي، وتؤطّر البنية الاستباقية للبحث لدى بعض المستشرقين والباحثين.

باعتبار هذا الفكر من رواسب مرحلة تاريخية خلت، حيث نشأ في سياقات تاريخية تتعلّق بالحروب الصليبية وحروب استعادة شبه الجزيرة الإيبرية، أو في سياق بسط أوروبا نفوذها الاستعماري على العوالم الأخرى، وتهيؤها لاحتلال شمال افريقيا، ولنذكر خطاب أرنست رينان الذي ألقاه في كوليج دي فرانس في 23فبراير1862حيث يقول: (في هذا الوقت المناسب، إن الشرط الأساسي لتمكين الحضارة الأوربية من الإنشاء هو تدمير كل ماله علاقة بالسامية الحقة، بتدمير سلطة الإسلام التيوقراطية، لأن الإسلام لا يستطيع أن يعتبر إلا كدين رسمي، وعندما يختزل إلى وضع دين فردي فإنه سينقرض، هذه الحرب الدائمة الحرب التي لن تتوقف إلا عند ما يموت آخر أولاد إسماعيل  بؤسا أو يرغمه الإرهاب على أن ينتبذ في الصحراء مكانا قصيا…إن الإسلام هو التعصب، إن الإسلام هو احتقار العلم، هو القضاء على المجتمع المدني، إنه سذاجة الفكر السامي المرعبة، إنه يضيق الفكر الإنساني، يغلقه دون كل فكرة دقيقة، دون كل عاطفة لطيفة، ودون كل بحث عقلاني…إلى آخر كلامه).

 إنه تصريح لا يحتاج إلى تفسير، وإن كل تعقيب من شأنه إضعاف النص كما يقول المستشرق الفرنسي المنصف فنسان مونتاي.

ولكن الإنصاف يقتضي أن نؤكّد أن هذا الخطاب كان يمثل فقط أفكار بعض النخبة في تلك الحقبة، ولا يمكن أن نعمّمه، ففي المقابل فالكثير من المستشرقين والباحثين المنصفين عارضوا هذا التناقض بين الإسلام والغرب، ومن أكثرهم إنصافا المستشرق توماس أنرولد في كتابه دعوة الإسلام، فكما أن الإرهاب لا يمثل رأي المسلمين أجمعين، فكذلك خطاب الكراهية لا يمثل رأي  الغرب أجمعه.

بدون أن ننفي العوامل الأخرى، نقول إن العامل المسيطر والسبب المهيمن هو العلاقة المزعومة بين الإسلام والإرهاب وبما أن البعد التاريخي الذي يختزل الذاكرة التاريخية في البعد الصدامي ويحاول البعض أن يؤسس عليه حتمية الصدام الحضاري، قد أصبح رغم فعاليته يتوارى وراء العامل المسيطر وهو مسألة الإرهاب، حيث انضاف خلال العقود الأخيرة إلى السخيمة التاريخية ركام حوادث تحولت إلى أحداث مدوية، افتات فيها أفراد على الغالبية العظمى من المسلمين، فصدَّق كهانُ صدام الحضارة ظنهم وتحولت الكهانة إلى كارثة.

ومن المفارقات أن المسلمين في الإرهاب ضحايا من جهتين، فإن أكثر ضحايا الإرهاب من جهة هم المسلمون أنفسُهم، ومن جهة أخرى يظل المسلمون هم  المتهمين الدائمين في جميع قضايا الإرهاب.

تلك التهمة الناشئة عن جهل بالإسلام وتحريف للمفاهيم.

ولا يزال المنتدى على عهده ووعده، سائرا في دربه في التصدي لدعوى الربط بين الدين والعنف، والاضطلاع بدوره في تفكيك منظومة المفاهيم التي يتوسل بها المتطرفون في تبرير العنف بالدين.

تحدث فرنسيس فوكوياما عن الأيديولوجيات المجنونة، وعن الديانات المجنونة، وخلص إلى أنه كما ماتت الأيديولوجيات المجنونة ستموت الأديان المجنونة كذلك، وإذا اتفقنا معه في إمكانية أن تكون هناك أيديولوجيات مجنونة، فإننا لا نسلم له بوجود ديانات مجنونة، لكن ينبغي أن نقر أن صناعة التدين التي هي صناعة بشرية، أحالت الدين هو في أصله طاقة تصنع السلام إلى طاقة تصنع منها القنابل المميتة المبيدة للبشرية المهلكة للحرث والنسل، حين جعلت الدين وقودا لنزاعات في أصلها دنيوية وسياسية، وجعلته يتفاعل كيميائيا مع تاريخ متخيل معسكر، وهذا ما يعني أن صناعة التدين إذا لم نحسن إتقانها، ولم ندرك أبعادها، فإنها يمكن أن تنفرط، وتتحول من رحمة إلى عذاب.

وقد عانت المجتمعات المسلمة من صناع هذا النوع من التدين من أهل الثقافة المأزومة الذين حكموا بالجزئي على الكلي، وتجاهلوا الواقع وعاشوا في القواقع، فقدموا فتاوى تتضمن فروعا بلا قواعد، وجزئيات بل مقاصد، تجانب المصالح وتجلب المفاسد، فخلقوا فوضى فكرية سرعان ما استحالت دماء مسفوكة رغم عصمتها، وأعراضا منتهكة رغم حرمتها، وعمدوا إلى مجموعة من المفاهيم كالجهاد ، وكالولاء والبراء، وكتقسيم الدار، وكالجزية وأهل الذمة، فانحرفوا بها عن سياقاتها اللغوية والشرعية والتاريخية، وخرجوا بها عن مقاصدها، ونسفوا كل شروط النظر الفقهي فيها، ولبَّسوا على المُغرَّر بهم مضامينها، وقفزوا على كل عناصر منهجية التعامل مع المفاهيم والنصوص الشرعية، وقد كان هذا الفكر ومنهجه ومخرجاته مادة عمل المنتدى في ملتقياته السابقة، حيث صححنا كثيرا من هاته المفاهيم، وبينا عناصر المنهجية التي تموقع نصوص الشريعة ومفاهيمها وتموضعها بتأويل تقره الأدلة ومقاصد الشرع.

أما في المجتمعات ذات الأغلبية غير المسلمة، فقد طفت على السطح ظاهرة الخوف من الإسلام أو على الأصح التخويف من الإسلام، اعتمادا على أحداث سيئة، أو اعتمادا على الواقع المستشري في الكثير من المجتمعات المسلمة، تنمط صورة الإسلام والمسلمين، خاصة بعد تمكن الجماعات المتطرفة والمأزومة من استقطاب شباب ولدوا في الغرب، ونشأوا في الغرب، ولم يعرفوا لهم وطنا إلا بلدان الغرب، وإقحام هؤلاء الشباب في أتون الحروب التدميرية في منطقة الشرق الأوسط وغيرها، وإقدامهم على ارتكاب أعمال إجرامية في البلدان التي ينتمون إليها سواء كانوا أصليين في تلك البلاد، أو كانوا من الأجيال الثالثة والرابعة من المهاجرين الذين هاجروا إليها.

 وتنميط صورة الإسلام والمسلمين مرده في تصورنا إلى مجموعة من العناصر من بينها:

– التصورات الزائفة عن الإسلام النابعة من الجهل به، والقاعدة تقول: من جهل شيئا عاداه، فمن يعادي الإسلام ينطلق من نفس المفاهيم التي تنطلق منها الفئة المتطرفة كالجهاد، والولاء والبراء…

وهذا التصور الزائف مؤسس على مفاهيم اجتثت من سياقاتها اللغوية والشرعية والتاريخية، وبتنزيلها المنحرف أحدثت أذى وإضرارا بالإسلام والمسلمين قبل غيرهم، وقبل الديانات الأخرى، وما تفجير المساجد والمعابد إلا دليل على ذلك. وهذا هو سبب الأسباب، وأس الأساس، الفكر المشوه، والثقافة المألوسة المأزومة. ولا يعدو الأمر أن يكون فهماً خاطئاً، وتصوراً منحرفاً لأفراد، ومجموعات لا تمثل السواد الأعظم، ولا الرأي المعتمد.

– فكرة صدام الحضارات وصراع الأديان، واعتبار قيم الحياة الاجتماعية الإسلامية غير قابلة للتواؤم والتعايش مع غير المسلمين، وينظّر لها مفكرون وخبراء استراتيجيون، وفاعلون سياسيون، ومؤسسات إعلامية وفنانون، وهى قاعدة “صدام الحضارات” التي أعلنها هانتغتون والتي ألح فيها على أن الصدام قائم منذ قرون وأنه لن ينحسر، وبذلك اكتملت الصورة التي دشنها فوكوياما بنهاية التاريخ وأعلن فيها انتصار الحضارة الغربية.

  إن الإيحاء بحتمية الصدام نتيجة تنوع الحضارات، إنما هو دليل على فشل كل حضارة في أن تدرك أهمية الاعتراف بحق التنوع، وهو الحق الذي سنبني عليه رؤيتنا في العلاج باعتباره أساسا للحوار ووسيلة للتعارف.

– سلبية بعض المجموعات المسلمة في المجتمعات ذات الأغلبية غير المسلمة، وتخوفها من الاندماج في المجتمعات المحتضنة لها، إما كرد فعل على واقع التمييز والكراهية، وإما لاعتبارات ترجع إلى فهم ضبابي لمسألة الولاء للدين والوطن الأم، دون إدراك لأن الولاءات لم تعد دينية، بل صارت ولاءات مركبة ومعقدة تتحكم فيها عوامل متداخلة لا تنفصل عن بعضها، وينظر إليها باعتبارها دوائر ومراتب بإمكانها أن تتواصل وتتفاعل بدلا من أن تتصادم وتتقاتل.

إن المرعب في هذا الواقع، سواء تعلق بالتطرف الديني والمذهبي العقائدي، أو تعلق بظاهرة الخوف من الإسلام  أنه يواكب فترة زمنية تمتلك فيها البشرية أسلحة دمار شامل في إطار نظام عالمي قائم على توازن الرعب مع غياب الضمانات الكافية لعدم استعمالها؛ وخروج بعضها عن مراقبة الدول وسلطتها. وقد كنا من عهد قريب نسعى إلى إطفاء حرائق جسد المجتمعات المسلمة، لكن يبدو أننا في حاجة إلى العمل الشاق على إطفاء حرائق جسد العالم وخفض حرارته التي يزيد منها التنازع على السيادة في بعض المناطق أو على الثروات الطبيعية والمياه، والمطالب الانفصالية، والجريمة المنظمة، والمجاعات، والهجرات الجماعية غير المقننة، دون أن ننسى مخاطر التلوث البيئي على المستوى العالمي، والحديث عن الهويات الدينية والمذهبية والعرقية التي انتفخت، وعن ذاكرة السوء التاريخية التي استيقظت تجر موكباً من المتعصبين والإيديولوجيات المتحاربة في الشرق والغرب، في عالم معولم تشيع فيه الأفكار والثقافات المختلفة، وتروج فيه المبادلات الاقتصادية والابتكارات التكنولوجية، ومن المفارقات أن وسائل التواصل والمواصلات زادت الهوّة اتساعاً بين البشر بدلا من أن تقرب العقول والأفكار.

كل ذلك يقدم أسئلة ويستدعي بحثا عن الأجوبة.

هل يجوز للأديان أن تكون طرفا في هذه الصراعات، تحش نيرانها حينا، وتكون أداة فيها حينا، وتخوف من بعضها البعض، أم ينبغي أن تجعل من نفسها المخلص المنقذ للإنسان والأوطان، فتكون عامل بناء لا هدم، عامل وقاية لا عدوى؟

هل من الضروري أن يخلق كل عصر “إسلاموفوبيا” خاصة به؟

هل من الضروري أن تنطبق على الواقع مقولة هيجل: “إن كل ما نتعلمه من درس التاريخ أنه لا أحد تعلم من هذا التاريخ” أم إنه ينبغي أن نتعلم من هذا التاريخ حتى يستقر السلم العالمي؟

أليس من الواجب تفعيل مقولة هانس كيونج: لا سلام بين الأمم ما لم يكن هناك سلام بين الأديان؟


 

المحور الثاني

رؤية علاجية لمواجهة ظاهرة الخوف من الإسلام حفظا للسلم العالمي

تَتَرَتُّب رؤيتنا العلاجية على طبيعة المعالجة الآنفة وعلى ما جلّيناه من هيمنة العامل المتعلّق بالإشكال الحضاري والديني، والذي يستبطن في عمقه سؤال الاختلاف والعلاقة مع الآخر، فيكون العلاج من جنس المضادات الحيوية التي ترتكز على المقاربات التالية:

  • مبادئ العلاقة الإنسانية في بالإسلام
  • تنمية المشتركات وتعزيز ثقافة الحوار
  • ختام

مبادئ العلاقة الإنسانية في الإسلام

من عناصر الرواية الصحيحة للإسلام أن نعلم:

أولا : أن الإسلام يعتبر البشر جميعا إخوة، فيسد الباب أمام الحروب الكثيرة التي عرفها التاريخ الإنساني بسبب الاختلاف العرقي.

 والإسلام يعترف للبشر  بحقهم في الاختلاف، ﴿ولا يزالون مختلفين﴾.

ثانياً: اعترف الإسلام للآخرين بحقهم في ممارسة دينهم، فسد الباب أمام الحروب الدينية التي كاد التاريخ البشري أن يكون مجرد سجل لها.

ثالثاً: اعتبر الإسلام الحوار والإقناع الوسيلة المثلى﴿وجادلهم بالتي هي أحسن﴾.

رابعاً: اعتبر الإسلام أصل العلاقة مع الآخرين المسالمة التي تقدم على بساط البرّ والقسط والإقساط.

إننا نؤمن أن الاختلاف من نتائجه التعددية الدينية، ونؤمن أن التعددية الدينية في كل الأوطان اليوم صارت واقعا عالميا، والقبول بهذه التعددية من خلال تنزيل مقصد التعارف، وتفعيل المشترك هو أمر تشهد له نصوص الدين الإسلامي، فإننا نزعم أنه لم يعرف التاريخ دينا ولا أمة قبلت بالتعددية الدينية واحتوتها كالدين الإسلامي والأمة المنتسبة إليه، ولقد كانت “صحيفة المدينة” التي تأسس عليها إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي إطارا ناظما لترسيخ ثقافة قبول الاختلاف والتعددية الدينية والعرقية في المجتمع الواحد، كتاب يصرح بالتعددية الاختيارية، ويبني العقد على أساسها متجاوزا ما يمكن أن تسببه من عوائق بتقديم مصالح التضامن والتعاون في شكل حقوق وواجبات.

وكان من أهم ملامح حقوق الإنسان في الصحيفة الاعتراف بالتعددية، وإقرار حرية العقيدة بإقرار أهل كل معتقد على ما يعتقدونه، وأسست لقاعدة المساواة في الحقوق والواجبات، ضمن بنية المجتمع المدني حين نصت على مكونات الأنساق البشرية والقبلية والمساواة بينها ضمن الإطار الذي تستقيم به سيرورة المجتمع؛ بحيث كل جزء منها مساو للأجزاء الأخرى ومكافئ لها في ما يقبل التكافؤ، لا مكان فيها لمنطق التابع والمتبوع، وبينت واجبات كل جزء تجاه مكوناته أولا، وثانيا تجاه باقي المكونات المشكلة لعموم المجتمع ضمن نسق العدل والمصلحة سلما وحربا، ثم ثالثا تجاه المكونات المحيطة به، استيعابا من الصحيفة للتعدد الديني والعرقي والقبلي ضمن سياقين مرتبطين هما: سياق العدل كأدنى حد مطلوب، وسياق البر الذي هو أعلى المراتب المطلوبة في التعامل مع الإنسان، والذي يقتضي مع مقام العدل ألا يكون هناك حديث عن أقلية وسط وطن، وإنما الحديث عن أمة واحدة.

وقد انطلقت موسوعة السلم التي أنشأها منتداكم بإصدار الجزء المتعلق بالتصور لتكون سياجا للسلم دون العنف، وذلك لاستعادة منهجية الخطاب الإسلامي، انطلاقا من الفهم الصحيح والمقاربة الأصيلة المبنية على المنهج الأصولي المجمع عليه في الجملة.

وكذلك صدر العدد الثاني من مجلة السلم التي تعنى بنشر الرواية الصحيحة للإسلام وإبراز الرؤية العملية للسلم، من خلال البحث في الإمكانات المتاحة في الثقافة الإسلامية والتراث البشري جميعه لتجديد الخطاب، ومن خلال التأكيد على مشروعية الاختلاف السائغ، وقيم التعارف والحوار والتعاون المؤطرة له، وكذلك من خلال الاستفادة من المنظور التكاملي بين المعارف والثقافات لتأكيد مبادئ السلم وضرورة التعايش السعيد.

تنمية المشتركات وتعزيز ثقافة الحوار:

إن لدى الإنسانية مشتركات كثيرة أدَّى تجاهلها وإذكاء الخصوصيات بدلها إلى كثير من الحروب والدمار، وإلى ابتعاد البشرية عن القيم التي أرسى الأنبياء، قيم الخير والمحبة والتراحم.

المشتركات على مستويات مختلفة، منها المشتركات على مستوى الدين الواحد ومنمها أخرى على مستوى الديانات ومشتركات عليا يجتمع فيها جميع البشر تتجسد في القيم الإنسانية التي تجمع عليها البشرية بدياناتها المختلفة وفلسفاتها الكونية المتنوعة. إن تفعيل هذه الدوائر والوصل بينها في تناغم وانسجام، هو الذي من شأنه أن يرأب الصدع ويزيل سوء الفهم ويخفِّف من غلواء الاختلاف.

إننا أمام فشل حضاري، يحطُّ من قيمة الإنسان، فما جدوى أن يغزو الإنسان الفضاء ويبلغ أقصى الكواكب، بينما يظلُّ عاجزا عن التفاهم مع أخيه ونظيره ومثيله.

في الإسلام ليس الآخر هو اللاوجود أو المعدوم كما لدى أرسطو، إذ هو المقابل الفلسفي للموجود etre / autre، كما أنه ليس  -كما لدى هيغل- النقيض الذي ينبغي الهيمنة عليه لتستكمل “الذات” وعيها بنفسها في صراع حتمي لإثبات الذات، ولا هو قطعا – كما لدى سارتر – الجحيم الذي يسلب الذات كمالها الأصلي.

إن الآخر في رؤية الإسلام قد أجمل التعبير عنه الإمام علي رضي الله عنه بقوله ” الناس صنفان: أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”، فالآخر هو الأخُ الذي يشترك معك في المعتقد أو يجتمع معك في الإنسانية.

ويتجلى هذا بسُمُوٍّ في تقديم الإسلام الكرامة الإنسانية بوصفها أول مشترك إنساني، لأن البشر جميعا على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ومعتقداتهم كرمهم الله عز وجل بنفخة من روحه في أبيهم آدم عليه السلام ، ولقد كرمنا بني آدم. إن الكرامة الإنسانية سابقة على الكرامة الإيمانية.

وهكذا ، يُشَدِّد الإسلام في  التصور الكلي للآخر على وحدة النوع والمساواة في الكرامة الإنسانية، والبحث عن تنمية المشتركات ونبذ معايير التفاضل إلا بالخير والتقوى، وهو ما عبّر عنه الإمام علي أيضا بقوله: “قيمة كل امرء ما يحسنه”.

المشترك الإنساني هو  القيم الكونية التي  لا تختلف فيها العقول، ولا تتأثر بتغير الزمان، أو محددات المكان، أو نوازع الإنسان، لأن لها منابت وأصولا تحفظها من عوادي الدهر وتعسفات البشر.

اختلف الفلاسفة في وجود هذه القيم المتشركة،   فذهب ألفريد نورث وايت هيد  ALFRED NORTH WHITE HIDE‏ إلى القول بأنه: لا توجد قيم مشتركة، وإن القيم ليست مطلقة وإنما هي نسبية، وإن لكل عصر قيمه، والقيم التي تعتبر راقية سامية في زمان ، هي منحطة في زمن آخر، وكذلك يقول إن المبدأ الذي يقول إنه يوجد أصل واحد للكمال الكوني أو نمط واحد هو مبدأ جدير بالإهمال.

أما أكثر الفلاسفة تحت قيادة “كانت” رئيس المذهب المطلق يرون أن الحق والخير والجمال هي قيم أزلية، لا علاقة لها بالزمان ولا بالمكان، فما كان قيمة في الماضي هو قيمة في الحاضر، وسيظل قيمة في المستقبل، وأن هذه القيمة بالنسبة للصيني بالنسبة للأوروبي وبالنسبة للعربي هي قيمة واحدة ولو كانوا يجهلون ذلك.

 وهذا المذهب المطلق أرى أنه هو الذي تؤيده الديانات السماوية وتقدمه أوعية اللغة ومفاهيمها، فالعدل في كل لغة وفي كل مكان كلمة جميلة، وعندما ننطق كلمة الوفاء فإنها كلمة جميلة. عندما ننطق بالظلم وبالغدر نجدها في كل اللغات والثقافات  كلمات ممقوتة. بل حتى الظالم والغادر لا يريد أن يكون كذلك، ويود لو كان عادلا وفيا صادقا.

 هذه القيم مشتركة تجب إعادتها في حياة الناس، وهي مبثوثة في كل رسائل ودعوات الأنبياء، والإنسانية كلها اليوم محتاجة إليها حاجة الفطيم إلى الحنو والحنان والعطف بعد أن أحال السفهاء والمجانين مجالات حركتها إلى حقول ألغام؛ إنها قيم السلم الثابتة التي لا تتغير، وهي الأمر الكلي الذي لا تتخلف جزئياته، ولا تخص جنسا دون جنس، أو دينا دون دين.

لقد شهدت القيم في الحضارة الغربية تطورين في غاية الأهمية والتأثير على مسار البشرية. التطور الأول وقع خلال عصر الأنوار، حيث كانت القيم سماوية، فأنزلتها فلسفة الأنوار إلى الأرض فانقطعت أوروبا عن نور الوحي – بشكل مختلف من منطقة إلى أخرى، فجاءت قيم حقوق الإنسان، والحريات، والديمقراطية، وأصبح الإنسان مرجع نفسه.

بلغت هذه القيم الإنسانية أوجها بعد الحرب العالمية الثانية، في لحظة صحوة من الضمير البشري المصدوم بهول الكارثة، فجاء إعلان حقوق الإنسان. لكن اللجنة التي كانت تحرر هذا الإعلان اتفقت  على استبعاد الله سبحانه وتعالى، واستبعاد الخلق وما يشتق منه، كما يقول شارل مالك الذي كان العضو العربي الوحيد مع رينيه كاسان وجون همفري. يقول استبعدوا الله سبحانه وتعالى حتى كأن الإنسان هو الله- تعالى الله عن ما يقولون علوا كبيرا-.

أما التطور الثاني، فهو في العصر الذي نعيشه وهو ما بعد الحداثة حيث أعلنوا في سياق فلاسفة الشك الثلاثة  (ماركس -نيتشه -فرويد)، أعلنوا موت الإنسان أيضا، فأصبحت هذه القيم لا وجود لها، واستعيض منها بتكنولوجيا بلا روح، وجمع للثروات بلا رائحة. أصبح العنف سائدا، وأصبحت الأنانية سيدة. هذا العصر الجديد الذي أصبحت فيه التكنولوجيا تحرك الإنسان في اتجاهات لا يحسب لها حسابا.

وهنا دق الفلاسفة والسياسيون أجراس الخطر، فلأذكر بعض العناوين التي توحي بهذا البعد،فقد عنون الفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو Gianni Vattimo أحد أهم بحوثه بعنوان: Crépuscule des valeurs شفق القيم أو غروب القيم، -بحسب الترجمة التي نراها في هذه المسألة-، وهو في ذلك يومئُ إلى عنوان الفيلسوف الألماني أوزوالد شبنغلر Oswald Spengler في كتاب سماه Le déclin de l’occident ” أي: أفول الغرب أو دلوك الغرب، وكذلك كتب المرشح للرئاسة الأمريكية باتريك جيه بوكانن  Patrick J. Buchanan كتابا بعنوان موت الغرب The Death of the West.

إنها عناوين متشائمة، تدل على أن القيم وصلت إلى الحضيض وأن الناس في حاجة إلى أن يعودوا إلى السماء، وأن هذه القيم التي استنبتوها في الأرض ثم تخلوا عنها أصبحت تدعوهم إلى أن أن يرفعوا رؤوسهم إلى السماء، ليروا ضياء من نور، أو يروا بارقة في أفق رحمة الله سبحانه وتعالى.

لقد أصبح من الضروري المستعجل أن نتجاوز الشجب والتحذير لنبادر إلى الفعل في الوقت المناسب، فلن يكون للأجيال الآتية أي وقت للفعل، ويخشى أن تصبح هذه الأجيال أسيرة سيرورات ليس لها عليها سلطانٌ كالنمو السكاني وتدهور البيئي والتفاوت بين الشمال والجنوب أو المييز الاجتماعي.

أن ننتظر إلى الغد، يعني أن نصل دائما متأخرين، فثمة شيء في غاية الهشاشة نحن مؤتمنون عليه: إنه الحياة في هذا الكوكب الأرضي.

على هذا الشعور بالمأزق تتأسس المسؤولية المشتركة التي ضرب لها النبي صلى الله عليه وسلم مثال السفينة، قال عليه الصلاة والسلام: (مَثَلُ القَائِم في حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذي في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا).

إن البشرية الآن في سفينة واحدة، على وشك الجنوح، فلا بد لأهل القيم أن يأخذوا على أيدي الذين يريدون خرق السفينة،

ينبغي الانطلاق من الرغبة المشتركة النابعة عن المسؤولية المشتركة في إحلال السلم محل الحرب والمحبة مكان الكراهية والوئام بدل الاختصام، إذ من شأن ذلك أن يعبئ طاقات رجال الدين والمثقفين والأكادميين -من أولي بقية  من كل الأديان والثقافات، للتحالف في حلف فضول لإزالة هذا الخطر الحضاري.

يقوم هذا الحلف على تعزيز قيمة الحوار، فالحوار واجب ديني  وضرورة إنسانية، وليس أمرا موسميا، الحوار من أصل الدين ومن مقتضيات العلاقات البشرية، ولذا أمر به الباري عز وجل فقال وجادلهم باللتي هي أحسن، وقال :ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم.

بالحوار يتحقَق التعارف والتعريف، والحوار يشهد للاستعداد الحاصل لدى جميع الأطراف لتقديم وجهات النظر النافعة والصالحة لحل مشاكل الكوكب الأرضي الذي نعيش عليه،

الحوار قيمة والحوار مفتاح لحل مشاكل العالم، الحوار احترام الاختلاف، فصاحب الحوار يحترم الاختلاف بل يحب الاختلاف، بحيث ينظر إليه كإثراء، كجمال كأساس لتكوين المركب الإنساني.

الحوار يدخل في قوله تعالى  ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، فهل لنا أن نأمل بالحوار اليوم في تنمية جوانب الخير والقيم الإنسانية الخيرة المشتركة؟.

الأصل في الحوار هو الاختلاف: إننا لا ندخل في الحوار إلا ونحن مختلفان بل إننا لا نتحاور إلا ونحن ضدان؛ لأن الضدين هما المختلفان المتقابلان، والحوار لا يكون إلا بين مختلفين متقابلين أحدهما يُطلق عليه اسم “المُدَّعِي” وهو الذي يقول برأي مخصوص ويعتقده. والثاني يُطلق عليه اسم “المعترض” وهو الذي لا يقول بهذا الرأي ولا يعتقده”.

وأساليب الحوار عديدة، وصيغه متنوعة، فالحوار في الصحافة والقنوات وداخل الأندية والمؤتمرات ومجالس الشورى والبرلمانات، والمفاوضات التجارية في المنظمات الدولية للتجارة وبين الأفراد في الأسواق والبرصات وخصومات الأزواج في البيوت.

وكل نوع من هذه الأنواع له طرقه وأساليبه.

ويكون داخل الشعب الواحد حيث تتسع دائرة المشترك، وبين الشعوب المختلفة كالحوار بين الشرق والغرب، وبين الأديان والملل المختلفة، فيكون المنظور الإنساني يشكل آفاق الحوار.

والحوار يقدم كما يقول أفلاطون البدائل عن العنف؛ لأنه بالحوار يُبحث عن المشترك وعن الحل الوسط الذي يضمن مصالح الطرفين، وعن تأجيل الحسم العنيف، وعن الملائمات والمواءمات، التي هي من طبيعة الوجود، ولهذا أقرها الإسلام، وأتاح الحلول التوفيقية التي تراعي السياقات، وفق موازين لمصالح والمفاسد المعتبرة.

إن اعتماد وسيلة الحوار لحل المشكلات القائمة يوصل إلى إدراك أن الكثير منها وهمي لا تنبني عليه مصالح حقيقية، وبهذه الحلول التوفيقية التي يثمرها الحوار، تفقد كثير من القطائع والمفاصلات والأسئلة الحدّية مغزاها.

ويبنغي أن يكون الحوار عميقا عمق الإشكال الذي يعالجه، حوارا يطول جميع المستويات ويتجسد في كافة القطاعات، ينطلق من أبسط مستويات الحياة المجتمعية إلى أكثرها تعقيدا وتركيبا، من البيت إلى الجامعة.  فلنغرس ثقافة التسامح في النفوس، يجب اتخاذ السبل بكل الوسائل التثقيفية، وفي مقدتمها التعليم والتربية، والإعلام الجماهيري، لإيجاد تلك القيم والتصوُّرات، لضبط وكبح جماح النفوس الميالة إلى العنف، وترجيح كفَّة التسامح وحسن تقبُّل الآخر، وباختصار إيجاد الروح الاجتماعية، والتعايش البناء بين أفراد المجتمع.

ومعنى ذلك أنَّ المثل والقيم التي يتلقّاها، ويلقنها أفراد المجتمع، عن طريق القنوات والأدوات التثقيفية، في مختلف مراحل التعليم، ووسائل الإعلام بشتّى أشكالها، وغيرها من وسائل الاتصال الجماهيري ذات مضمون رصين متسامح، ومتعقّل، لا يخرج على النّهج العام السائد، والأعراف المقبولة، لشحن العواطف، وإلهاب المشاعر، دون وزن للعواقب، ولا مبالاة بالنتائج.

وباختصار فلا بدّ من علاج بالمضادّات، ونعني بالمضادّات الحيوية ذلك الخطاب الحيّ الواعي الذي يقوم على نبذ العنف وزرع ثقافة السّلام والتّسامح والمحبّة، وتقديم البدائل أمام الشباب اقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً، ومحاولة صرف جهودهم ونشاطهم في قنوات لصالح المجتمع ولصالح التنمية وجَسر العلاقة بين مختلف الفئات وتجديد الفكر التوفيقي والمنهج الوسطي في النّفوس وحشد جهود الطبقة المثقفة في الجامعات والمدارس ووسائل الإعلام لذلك.

سادتي سيداتي،

إننا في منتدى تعزيز السلم نؤمن بأنه على الرغم مما يلاحظ ببادي النظر من فشو الإسلامفوبيا وكافة أنواع التمييز والعنصرية وجنوح المشهد السياسي في الديمقراطيات الغربية نحو النزعات اليمينية المتطرفة المنابذة لقيم التعاون والحرية والاعتراف بالآخر، ما يزال هنالك لحسن حظ الإنسانية أغلبية من أولي بقية من محبي السّلم ترنو إلى الخير وتحكِّم العقل والمصلحة والقيم المشتركة وروح البحث عن التعايش السعيد بين الديانات والحرص على مبادئ التسامح والتعارف.

وفي هذا السياق كان من التوفيق أن احتضن المنتدى مبادرة قافلة السلام الأمريكية، التي يقودها رجال آمنوا بضرورة التعاون الإيجابي بين أتباع الديانات الكبرى، من أجل التخفيف من النبرة العدمية وإبعاد شبح الكراهية والعنصرية الذي أصبح يلقي بظلاله القاتمة على مجتمعاتهم، القس بوب روبرت والإمام محمد ماجد والحاخام بروس لستق، والعشرات من الحاخامات والقسس والأئمة من مختلف الولايات الأمريكية انخرطوا في هذه المبادرة ليكوّنوا تيارا للسلام والوئام والأخوة باعتبار أن ذلك يمثل الروح الحقيقية للرسالات السماوية، وهكذا فإننا نطمح إلى أن تنتهي هذه المسيرة بتجمع كبير لرجال الدين يمثل حلف فضول.

إن نموذج قوافل السلام يمكن أن يكون نموذجا لنوع جديد من الحوار التعارفي، إنَّه حضور الذوات في الحيّز المكاني والزماني، ولو لمدّة محدودة، حضور يتمثل في التشارك في العيش في الحركة معا والأكل معا والنوم معا والسفر معا – والسفر سمي لأنه يُسْفِرُ عن أخلاق الرجال -كما يقول بعضهم، وكلُّهم يقوم بشعائر دينه التي هي جزء من حياته اليومية بمرأى ومسمع من الآخر… إنهم يتكلمون ويبحثون، ولكِنَّ الأهم أنهم يشاهدون ويشهدون، ويكتشفون في النهاية إنهم إخوة، يشتركون في أكثر مما كانوا يتصورون.

ولهذا سعينا باحتضاننا لها ومواكبتنا لجميع مراحله إلى ترسيخ هذا النموذج ليصبح آلية عملية ناجعة للتعاون والتعايش وجعلها أكثر عملية ونجاعة، وتقليدا ينبغي العمل على تعميمه والاستفادة منه.

نعتقد أنه سيبقى نموذجا للتعارف لعملية الحوار بل لعملية التعارف الإيجابي والتعاون على البر في حركة نرجو أن تكون فاتحة عهد جديد في العلاقات بين ديانات العائلة الإبراهيمية وبالتالي أن تكون فاتحة عهد في التعاون بين أصحاب العقول النيرة وذوي النهى لتصحيح مسيرة الانسانية.

وترتكز قوافل السلام ،من حيث الإطار المرجعي على إعلان مراكش لحقوق الأقليات باعتبار أن إعلان مراكش قد وضع الأسس المعرفية والشرعية لإمكانية خطاب التعايش المؤصل في أفق المواطنة بين مختلف الديانات داخل المجتمعات المسلمة.

وتنطلق المبادرة من الوعي العميق بالحاجة الماسة إلى تبني مقاربة السلم واضطلاع عقلاء العالم من القيادات الدينية بدورهم في صناعة جبهة فكرية موحّدة وصياغة تحالف إنساني يقوم على تفعيل دوائر المشتركات، التي أدَّى تجاهلها وإذكاء الخصوصيات عوضها إلى ما هو مشاهد من الحروب والاقتتال.

وأهم هذه الدوائر وأولاها بالاهتمام هي دائرة المشترك الديني بين أتباع ديانات العائلة الإبراهيمة، بحيث يمكن أن تشكل منطلقا سليما ديانة وعقلا ومصلحة، فإنّ اليوم الذي يجتمع فيه أبناء هذه العائلة الإبراهيمية على المشترك الذي بينهم، وينبذون التصورات النمطية ومشاعر الكره لتجمعهم مشاعر الأخوة الإنسانية وحب الخير والصداقة، سيكون يوما مشرقا في تاريخ الإنسانية.

فعندما تتصالح  الأديان وتتصافح فإن من شأن ذلك أن يعزز روح السلام في العالم ويسهِّل الولوج إلى طريق العدالة والخير ومعالجة المظالم والمظلوميات. وكما قال اللاهوتي السويسري هنس كونج لا يمكن للسلام العالمي أن يتحقق بدون أن يتحقق السلام بين الأديان.

لقد آن لقادة الديانات أن يبرهنوا على فعالية أفضل وانخراط أكبر لهموم اللمجتمعات البشرية لإعادة الرشد وإبعاد شبح الحروب والفتن المهلكة إذا كان البعض ينظر إلى الدين كعامل تفرقة وتمزيق لنسبج الشعوب فنحن في المبادرة القوافل نريد أن نبرهن عمليا على أن الدين يمكن ويجب أن يكون سبيلا للالتئتام الامجتمعات البشرية والقضاء على أمراض الحقد والكراهية المستحكمة، تلك هي العبرة والدعوة والرسالة التي نوجهها من خلال هذه القوافل \إن جهودا كبيرة تبذل في نطاق كل الديانات من أجل السلام تقام الصلوات وترفع الدعوات من أجل ذلك لكن تيار التضامن والتعاون يجب في النهاية أن يبرز وأن ينجز أعمالا ميدانية تبرهن للعالم كله أن الدين في أصله هو عامل خلاص ورحمة للعالمين

إن ذلك يحمِّل رجال الدين عبءا في ما يتعلق بكل ديانة لمعالجة التطرف والغلو وطرد النعاج الجرب كما يقول المثل من القطيع وإعادة التوازن في نطاق كل ديانة لبناء الجسور بين الديانات عغلىى أسس صلبة ودعائم قوية قابلة للاستمرار والاستقرار بل للازدهار والانتشار لإعلان الانتصار على الشر وعلى جيش الشيطان (إنَّ الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا).

وفي الختام، فإنه يتعيّن:

أن تحملوا جميعا رسالة السلام، ومعنى ذلك:

  • أن تدركوا حقائق المفاهيم المؤطرة للسلام وأن تدركوا في نفس الوقت زيف تأويل المتطرفين وتحريف الغالين
  • أن تنشروا هذا الفهم من خلال كل الوسائل المتاحة في الصحافة والتعليم
  • أن تقدموا مبادرات ميدانية لإفشاء السلام في المجتمعات التي تعيشون فيها.
  • أن نشجع برامج التسامح والتعايش
  • أن نقدم القراءة الصحيحة للشريعة, وأن نؤطر الأحكام التكليفية بخطاب الوضع ومعنى ذلك أن ننزل النصوص في بيئة الواقع ليكون التنزيل متوخيا لمقاصد الشريعة.
  • أن تتضامن مع أولي بقية في كل مكان لنشر قيم السلام.

السير في ثلاثة اتجاهات :

أولاً: ترتيب البيت الإسلام من خلال تفكيك منظومة الفكر المتطرف وإظهار عوار طرق الاستدلال لدى هؤلاء وضحالة منازعهم في الاستنباط بإبراز المناهج الصحيحة والمئاخذ السليمة في التعامل مع نصوص الكتاب والسنة، وهكذا فيكون الكلي حاكماً على الجزئي، وسيكون الجمع بين الأدلة بديلاً عن التجزئة، وتصبح المقاصد مترجمة لمغزى النصوص ومبينة مدى تطبيقها ومبرزة سبيل انسجامها وتنسيقها.

لنبين بحق أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلهم وآجلهم، وأن الرسالة الخاتمة إنما جاءت رحمة للعالمين، وأنه لا تعارض بين العقل والنقل إلى غير ذلك حتى يقضى على أفكار التطرف وآراء المتطرفين بالحجة والبرهان.

وهذا الجهد داخل البيت الإسلامي ضروري لهزيمة الفكر المتطرف الذي يشوه الإسلام ويقدم الذرائع للكراهية والبغضاء، لأن العلاقة بين متطرفي الإرهاب ومروجي الكراهية علاقة تلازمية، فكل منهما يمد الآخر، ويؤثر كلاهما على الآخر تأثيراً طردياً وعكسياً.

أما الاتجاه الثاني: فإنه نقل الحوار إلى الدائرة الثانية، وهي الدخول في حوار على مستوى عالمي لتقديم الرواية الصحيحة عن الإسلام والتعايش مع المسلمين من خلال التأكيد على الصورة المنفتحة والمتسامحة للإسلام، والمصالح المتبادلة والمتداخلة بين المسلمين وغيرهم في المجتمعات، وتأكيد قيمة المواطنة والقيم الإنسانية النبيلة.

أما الاتجاه الثالث: فالانتقال إلى مرحلة التضامن مع أولي بقية يلتزمون بالقيم والمثل المشتركة للأخوة الإنسانية، ل، لتكوين “حلف فضول” ينبذ التمييز والكراهية، ولا يحمل ديناً ولا حضارة جريرة السفهاء، على قاعدة ]وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[، حلف يدعو إلى السلام والإخاء بين أبناء البشر كافة، ذلك هو التيار الذي يجب أن تشكله النخبة من رجال الدين والفلسفة ورجال الفكر والأكاديميين من كل الديانات ومن كل الفلسفات، ذلك ما يسعي إليه منتداكم، ذلك ما نسعى إليه جميعاً.

700 عالم ومفكر يجتمعون في أبوظبي لمواجهة ظاهرة الخوف والكراهية للإسلام «الإسلاموفوبيا»

يناقش غداً في أبوظبي 700 من علماء الدين ونخبة من الشخصيات تمثل مختلف الاتجاهات الفكرية والدينية والثقافية على مستوى العالم، سبل مواجهة ظاهرة الخوف من الإسلام، المعروفة باسم «الإسلاموفوبيا»، وذلك خلال فعاليات الملتقى السنوي الرابع لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، الذي تنطلق أعماله تحت رعاية سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية والتعاون الدولي.

ومن المقرر أن يشهد الملتقى، الذي سيعقد على مدى ثلاثة أيام، تحت عنوان «السلم العالمي والخوف من الإسلام.. قطع الطريق أمام المتطرف» تسع ورش عمل يقدّم خلالها الباحثون 50 ورقة عمل، تناقش أربعة محاور رئيسة: أولها الدين والهوية والسلم العالمي، والثاني الخوف من الإسلام الأسباب والسياقات، والثالث الإسلام والعالم.. رؤية إسلامية للسلم العالمي، والرابع الإسلام والعالم.. مسارات التعارف والتضامن.

وقال الأمين العام للمنتدى رئيس الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، الدكتور محمد مطر الكعبي، خلال مؤتمر صحافي عقده أمس، إن المنتدى يواصل برئاسة فضيلة الشيخ عبدالله بن بيه، البحث في المخاطر التي تعصف بالسلم العالمي، وإمكانية وضع حد للنزاعات التي تهدد مستقبل البشرية على كوكب الأرض، كما سيعمل على توضيح العلاقة بين المسلم والآخر في شتى بقاع الدنيا، بالإضافة إلى تأصيل مفهوم الشراكة الكونية على أساس المشتركات الإنسانية من أجل عمارة الأرض بقيم الخير والجمال، وذلك تحت عنوان رئيس هو السلم العالمي والخوف من الإسلام – قطع الطريق أمام التطرف.

وأضاف أن اختيار المنتدى هذا العام لموضوع السلم العالمي والخوف من الإسلام يأتي مراعاة للسياق العالمي من خطورة استفحال وانتشار ظاهرة التخويف من الإسلام، وتسارع وتيرة الاتهامات الموجهة للإسلام والمسلمين، لاسيما في ظل اتساع دائرة الخوف من المسلمين لدى الغرب، وهو الأمر الذي يضعف الثقة بين الأقليات المسلمة ومجتمعاتها، ما يساعد على انتشار الفكر المعادي للغرب على أساس المفاصلة الدينية.

وأشار إلى أن تنامي ظاهرة «الإسلاموفوبيا» يزيد من الأوهام التي تقول بأن الإسلام يعادى السلم، وهو ما يستدعي المواجهة بالبحث والتأصيل وتقديم رؤية الإسلام للسلم، مؤكداً أن منتدى تعزيز السلم يطمح لأن يكون ملتقى هذا العام بمثابة «فرصة لتلاقي الأفكار من أجل تقديم تحليل علمي موضوعي لجذور وأسباب المخاوف المتبادلة بين المسلمين وغيرهم»، بالإضافة إلى الوصول إلى مقاربات جديدة تسهم في دعم جهود الحكماء لخدمة السلم العالمي من جهة أخرى.

الجذور المعرفية والفكرية للتطرف الفكري والانحراف الأخلاقي

 

قمة أقدر العالمية – ورقة حول:

الجذور المعرفية والفكرية للتطرف الفكري والانحراف الأخلاقي

معالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة – أبوظبي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه

 

أيها السادة والسيدات ،

أود في هذه الكلمة:

1-      أن أشير إلى أهمية الموضوع وصعوبة مواجهته في هذا العصر.

2-      أن أتحدث عن التطرف تعريفاً، وعن جذوره بصفة عامة، وبصفة خاصة عن جذره المتلبس بلبوس الدين.

3-      عن الانحراف الأخلاقي وعن تعريف الأخلاق، والجذور الفلسفية للانحراف الخلقي.

4-      أن نختم بمقاربة ثقافة التسامح والوسطية فكراً وسلوكاً في مواجهة المحورين: التطرف والانحراف.

1-     أهمية الموضوع وصعوبته:

إن الساحة في هذه المنطقة الوسطى من العالم- التي يسمونها بالشرق الأوسط- بخاصة والعالم كله عامة مصابة بقلق تتفاوت درجاته، فيَصِل في بعض المناطق إلى التدمير والإفناء المتبادل نتيجةَ تصورات حادة تتحول إلى مقولات جامحة، وتنتهي إلى عنف جسدي لا هوادة فيه، تحيل إمكانية العيش المشترك على ظهر هذه الأرض.

كما أن مشكلة الانحراف عن أخلاق الفضيلة تشكل الوجه الآخر للجموح الفكري والنفسي.

ومن المفارقات أنه يوجد بين المحورين، -التطرف من جهة، والانحراف الأخلاقي من جهة أخرى-ترابط إذا لم يمكن وصفه بالسببية التلازمية، فإنه يمكن وصفه بالتأثير المتبادل. فأكثر من انتقل إلى التطرف يكون قادماً من أفق الانحراف الأخلاقي، يَعْبُر إليه بعد أن عاش الضياع النفسي باحثاً عن المعنى، تلقفه المتطرفون مباشرة ليسلكوا به سبيل التيه.

ولقد تحدث بعض هؤلاء التائبين عن رحلتهم من عالم الجريمة الأخلاقية إلى عالم التطرف العنيف، ولهذا فإن من الضرورة أن نستوقف شبابنا لنريهم الطريق الأوسط والمنهج الأعدل، وهو طريق الوسطية والاعتدال الجامعُ بين الأخلاق الفاضلة والفكر المستنير المعتدل المتفتح؛ حتى لا ينتقلوا من تطرف إلى تطرف، ومن تعسُّف إلى تعسُّف، وهكذا يضيعون بين تطرفين -كالمستجير من الرمضاء بالنار.

إن المشكلة التي نعانيها في هذا الجهد ترجع إلى صعوبات مادية وفكرية ومنهجية لتقديم البديل وترسيخ المنهج الأصيل.

أولاً: ظاهرة استثمار إمكانات التكنولوجيا في نقل الجرائم بالصوت والصورة، وتسهيل التواصل بين المجرمين وإعطائهم وسائل ارتكاب الجريمة، كل ذلك خلق أفكار الإجرام وعزَّز نوازع الشر، على حدّ رأي من يرى أن الأفكار إنما هي انعكاس لما تلتقطه الحواس من العالم الخارجي كالفيلسوف جان لوك: (هذه الأفكار لم يخلقها الذهن نفسُه، وإنما استمدها من الأشياء الخارجية، ومن ثم فأسباب “أفكار” الموضوعات النفسية هي الأشياء الموجودة في العالم، والمستقلة عن الذهن: هذه الورقة، وتلك الوردة”).

ثانياً: الدعاية الممنهجة للجماعات المتطرفة، سواء كانت العصابة الغالية الإرهابية التي تُقدِّم حججها الزائفة لتبرير القتل والاعتداء، أو المجموعة المنحرفة العدمية التي تَعرِض ممارساتها لإغراء الشباب.

ثالثاً: عدم وجود جهود تربوية جذّابةٍ في الشكل، مقنعةٍ في المحتوى، متماسكةٍ في المنهج، تسد الثغرات، وتعالج مكامن الداء -وتضع الهَناء موضع النقب.

لهذا، فإن هذا العنوان الذي اخترتموه لهذا اللقاء كان موفقاً كل التوفيق، فأرجو أن تقدر “أَقْدَرْ” على ما لم يقدر عليه من لم ينجز ولم يبصر.

2-      الجذور المعرفية والفكرية للتطرف والانحراف الأخلاقي

إنّ الجُذور المعرفية والفكرية للتّطرف والانحراف الأخلاقي موضوع مجال تَساؤل فَلسفي في الماضي والحاضر، وميدان تعامل فِعليٍّ للمصلحين والمربين قديماً وحديثاً.

ذلك أن الأسئلة القديمة هي تقريباً نفس الأسئلة الحديثة، فهي متحدة بالذات وإن كانت مختلفة بالاعتبار؛ إلا أن الأجوبة هي التي تختلف في الزمان والمكان نظراً للتفاعل بين الكون والإنسان.

فالأسئلة هي: هل الإنسان مجبول على الانحراف وعلى الخطإ والخطيئة؟ أو أنه مفطور على الخير؟ أم أنه ورقة بيضاء تسطر فيها البيئة التي تحوطه والوسط هو الذي يكتب عناوين سلوكه وبرامج عمله وتعامله؟ أم أنه نتيجة عاملين هما البيئة من جهة والوراثة من جهة أخرى؟

وأنا أرجح النظرية الأخيرة التي تقول: إن السلوك هو نتيجة الوراثة، أي أن الإنسان كما يرث الخصائص الفيزيولوجية فإنه يرث الخصائص النفسية والسجايا الخلقية؛ كما أنه يتأثَّر بالبيئة التي تحوطه فتملي عليه أفكاره وسلوكه ومماراسته؛ ولا يتسع البحث هنا لسرد الأدلة الدينية أو العقلية على هذه النظرية، فلْنُؤجِّله.

أولاً: قبل البحث عن جذور التطرف ينبغي البحث عن تعريف مفهوم التطرف.

1.2-  فما هو التطرف (L’extrémisme) ؟

التطرف هو الخروج عن الوسط إلى الأطراف وهو الميل، واسم الفاعل متطرف..

إنه مفهوم لا يزال محل أخذ ورد في تقارير الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو، إلا أنه حرفياً يعني: “تبني أفكار أو سلوك أو الدفاع عن أفكار أو سلوك يبتعد كثيراً عما يراه أكثر الناس صوابا“.

هذا هو التعريف الذي تشير إليه وثيقة منظمة اليونسكو حول التربية (2030 ص19)، لكنه سيظل مبهماً وشخصيا(subjective)؛ لأن المعايير المشار إليها غير محددة، وتختلف من بلد إلى آخر، ولهذا فلا بد من الإشارة إلى أهمية إضافة البعد المحلي، ومعناه: البيئة المعينة التي عليها أن تُحدِّد طبقاً لمعاييرها وشروطها وصفَ الفعل والفاعل.

إذا أخذنا التعريف المستفاد من تعريف المجلس الفدرالي السويسري سنة 1992، فإن التطرف يعني “التوجهات السياسية الرافضة لقيم الديمقراطية الليبرالية ودولة القانون“.

ويمكن أن نعيد صياغة هذا التعريف ليكون: “التَّوَجُّهات السياسية الرافضة للقيم المجتمعية السائدة“، وبهذا  يكون مناسباً لسياق مجتمعاتنا.

لقد ناقشت التقارير الغربية التي اطلعنا عليها (باللغة الفرنسية) مفهوم التطرف، حيث اعتبرت الحركات والأحزاب والأفكار والآراء والسلوك الرافضة للدولة الدستورية الديمقراطية، وما ينشأ عنها من قيم ومؤسسات وسُلط؛ اعتبرت كل هؤلاء في خانة التطرف.

وناقشت هذه التقارير الممارسات العنيفة أو التحريض أو السلوك السلبي، كما ناقشت العلاقة بين مفهوم التطرف والراديكالية، وإن كانت الراديكالية تعني في الغالب الوسائل التي يستعملها المتطرف لفرض هدفه، بينما التطرف يعني في الغالب الفكرة نفسها والهدف ذاته، حسب هذه التقارير.

وناقشت أيضا العلاقة بين مفهوم التطرف ومفهوم الإرهاب، فإذا كان الإرهاب هو مظهر  التطرف المحاربَ، فيمكن اعتبار الإرهاب النتيجة القصوى للتطرف.

والتطرف هو بمعنى من المعاني مرادف للأصولية Fondamentalisme عند الغرب التي هي: “نزعة محافظة عند أوساط من البروتستانتية الذين لا يقبلون إلا تفسيراً حرفياً للكتاب، ويعارضون كل قراءة تاريخية أو علمية للكتاب؛ وبمعنى آخر: نزعة لبعض أتباع الديانات للرجوع إلى ما يعتبرونه أساسياً وأصلياً لا يجوز المساس به في النصوص المقدسة”.( larousse 2015)

والتطرف ليس مفهوما علمياً في الثقافة العربية الإسلامية، بمعنى أنه لم يستعمل في وصف الأفكار والآراء والممارسات والسلوك، بل استعمل مقابله، وهو الوسط، لوصف حالة الاعتدال الفكري والسلوكي والاتزان. واستعمل كذلك نظيره، وهو: الغلو الذي يعني الخروج عن الاعتدال، والتجاوز عن المعهود والمطلوب في الأقوال والأفعال.

كما استُعمل مصطلح التنطّع وهو: نوع من المبالغة والشدة والتجاوز عن حدود المطلوب.

كما استُعملت كلمة التّشدد وهو إظهار الشّدّة في الدّين.

وهذه المصطلحات المرادفة والمجاورة للتّطرّف وردت كلها في سياق الذّم والتّنديد في أحاديث معروفة وهي كالتالي:

فقد نهى عن التّشدّد في حديث أنس: “لا تشدّدوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم“.[1]

ونهى عن الغلوّ في الدّين وهو المعبّر عنه بـ(التطرّف) ففي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عنه عليه الصلاة والسلام:” إياكم والغلوّ في الدّين فإنّما هلك من كان قبلكم بالغلوّ في الدين“.[2]

ونهى عن التنطّع وهو كالغلوّ التّجاوز للحدود في الأقوال والأفعال ففي حديث ابن مسعود (مرفوعاً): “هلك المُتنَطّعون قالها ثَلاثاً[3].

 لهذا، فإن الإسلام براء من كل تطرف، مع أن التاريخ الإسلامي قد عرف غلاةً ومتطرفين ومتنطعين، إلا أن تيار أهل السنة والجماعة ظل متمسكاً بالمنهج الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.

وما فتئ العلماء بالمرصاد لكل غلو في الاعتقاد، أو الأحكام العملية الفقهية؛ لتصويب الخطأ وتوضيح الجادة التي كان عليها سلف هذه الأمة كعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وغيرهم من كبار الصحابة الذين أدركوا عصر الخوارج وما سُجِّل على أحد منهم خروج؛ لشدة فقههم في الدين ويقظتهم للعواقب والمآلات ومعرفتهم بوجوب تعظيم شأن وليّ الأمر.

خلاصة القول: إن التطرف، سواء كان فكرياً أو سلوكياً، مفهوم يختلف باختلاف الزمان والمكان والإنسان، ويمكن تعريفه بأنه: خروج على النظام العام فكرياً وسلوكياً، يحمل إمكانية التحريض على العنف أو الإخلال بالأمن.

فالتطرف مذموم في الفقه الإسلامي، وكان من مآسيه في التاريخ حركات الخوارج والباطنية، وفي الزمن الحاضر حركات التكفير والعنف والشغب والقلق السياسي والاجتماعي.

أما الشريعة، فإنها تزكي الوسطية المنافية للتطرف والغلو.

2.2- ما هي جذور التطرف؟

أما الجذور فعنوانها الكبير هو النّزوع في الطّبيعة البشريّة إلى الجِماح والجُنوح إلى الإفراط والتّفريط. الذي عبّر عنه العالم الصّوفي ابن عبّاد النّفزي (شارح حكم ابن عطاء اللّه): ولا شيء أشدّ على النّفس من متابعة الشّرع وهو التّوسط في الأمور كلها، فهي أبداً مُتفلتَةٌ إلى أحد الطّرفين لوجود هَواها فيه”.

ويقول الشّاطبي: الشريعة جارية في التّكليف بمقتضاها على الطّريق الأوسط، الأعدل، الآخذ من الطّرفين بقسط لا مَيل فيه، الدّاخل تحت كسب العبد، من غير مشقة عليه، ولا انحلال، بل هو تكليف جَار على موازنة تقتضي في جميع المكلّفين غاية الاعتدال”[4].

ولهذا فالتطرّف هو جُزء من البَرمجة النّفسية لهذا الإنسان المتفرّد الذي يمثّل الانسجام والانفصام.

وجذور التطرف تنقسم حسب الباحثين المتخصصين في الدراسات الأمنية إلى صنفين، كل واحد منهما يحتوي مجموعة من العناوين تمثل في مجملها عوامل وحوافز التطرف. أما الصنف الأول فهو ما يسمى “العوامل الطاردة”(repulsive)، وهي عبارة عن البيئة المولدة للتطرف كالفقر، والجهل، وعدم المساواة، وفقدان العدالة، والعيش في الضواحي، والتمييز. ونحن في كلمتنا هذه لن نتعرض لهذا الصنف.

أما الصنف الثاني: فهو ما يسمى بالعوامل الجاذبة (attractive)، وهي العوامل التي تنتمي إلى الأفكار متمثلة في الإيديولوجية، وفي التفسير الديني الخاطئ، وحب الزعامة، والانتماء إلى المجموعات الناشطة، والاقتداء والتماهي مع الزعامات الكاريزماتية.

هذه الفئة، هي التي سنحاول التوقف عندها، باعتبار  أن معظم التطرف العنيف أو المحارب ينتمي إلى هذه الفئة.

 يجب الاعتراف بأن جذور هذه الفئة ليست حديثة ولا غريبة على بيئة التراث الإسلامي، فإن التطرف الحديث إنما هو إعادة إنتاج لحركات الشغب، ومحشي الحروب، والاضطرابات في التاريخ الإسلامي، الذين يتخذون في الغالب اسم الخوارج، وهم فئات كثيرة[5]، ظهرت جذورها وبذورها الأولى في وقت مبكر من تاريخ المسلمين، واشتهرت بمقولاتها وبمواقفها التكفيرية للحكام وللمجتمع، وتهييج العامة، ورفع السلاح في وجه المخالف، وقد أرهقت الأمةَ واجهضت الكثيرَ من مشاريعها، وأسْدَت خدمة مجانية لأعدائها.

نتجاوز هذه الإشارة لنقول: إن المعارف المسببة للتطرف بعضها ليس جديداً، وإنما هو وريث لفكر كان في تراثنا وتاريخنا، وهو علاقة هذه الفئات الخارجة بالنص، باعتبار أنها فقدت الصواب في التعامل مع واقع النصوص، وجانبت الصدق في استشهادها بها وجهلت الحق.

إنَّ فكر الخوارج بفرقها الكثيرة، يتميز بحرفية في الفهم بلا تأويل ولا تعليل، واجتزائيةٍ في الدليل وفروع بلا أصول، والأخذِ بالجزئيات مع إهمال الكليات.

 لقد جر ذلك على الأمة منذ القرن الأول حروبا وتفرقا داخلياً لا تشفى منها حتى يَذُرَّ قرنُ فتنة أخرى، وتَبرُز جماعةٌ لتكرر نفس السلوكِ المتطرف مستنجدةً بنفس المنهج المجانب للحكمة- أي للصواب والصدق والحق.

 هذا عن الجذر المتعلق بالعلاقة مع النص الديني.

3-    محور الانحراف الأخلاقي:

فما هو الانحراف؟ إنه الخروج عن الجادة المستقيمة، كالتطرف من حيث كونُه ميلاً عن المنهج الصحيح، وعدولاً عن الجميل إلى القبيح.

أما الأخلاق، فهي تلك السجايا الكامنة في النفس، وهي أيضًا المظهر الخارجي لتلك السجايا. وقد رأى بعضهم: “أن الخلق هو صفة نفسية لا شيء خارجي، والمظهر الخارجي هو سلوك أو معاملة”.

والأخلاق تجاورها ثلاث كلمات: القيم – الفضيلة – المبادئ؛ إذا راجعنا ما يمكن أن يرادف هذه الكلمات في اللغات الغربية لوجدنا كلمة VALEURS باللغة الفرنسية، ومن معانيها ما يعتبر حقاً وجميلاً وخيراً طبقاً لمعايير شخصية أو اجتماعية، ويوظف كمعيار ومرجع لمبدأ خلقي.

وكذلك كلمة ETHIQUES التي تدل على ما يختص بالمبادئ الخلقية ومجموعة قواعد السلوك.

وكذلك أيضا كلمة vertu التي تدل على الفضيلة، وهي استعداد دائم لفعل الخير؛ فتدل على جزء من المعنى لأنها تدل على مكارم الأخلاق.

إن الأخلاق توفر الأمنَ النفسيّ للفرد، والأمنَ في العلاقات الاجتماعية، والأمنَ في المعاملات، والأمنَ في احترام النظام والتعليمات.

إن الصدق، والاستقامة، وحسن المعاملة، واحترام القيم، ويقظة الضمير الوازع عن الغش والخداع، العازف عن الاعتداء على الأعراض والأموال والدماء، المتصالح مع ذاته وبيئته؛ ذلك كله هو حسن الخلق: إيمان بالحق، وإحسان على الخلق.

هي الأخلاق تنبت كالنبات       إذا سقيت بما ء المكرمات

تقوم إذا تعهّدها  المربّي         على ساق الفضيلة مثمرات

للأخلاق مصادر أهمها مصدران: المصدر الديني، والمصدر المنطقي العقلاني، ولنبدأ بالأخير.

 المصدر المنطقي:

ربما كان “كانط” أشهر العقلانيين في ميدان الأخلاق، فقد كان “كانط” يعتقد أن التحليل يستطيع على الدوام أن يثبت أن خرق القانون الأخلاقي هو أيضًا خرق لقانون المنطق. فاللاأخلاقية تنطوي دائمًا على تناقض، ولنقتبس أشهر الأمثلة التي ضربها “كانت” في هذا الصدد.

“فعندما نعطي وعدًا دون أن يكون في نيّتنا الوفاء به فإنّ سلوكنا يكون شرًا؛ لأنّنا نتصرف على أساس مبدأين متناقضين في آنٍ واحد، أول هذين المبدأين هو أنّ الناس ينبغي أن يؤمنوا بالوعد ولكنّي أخلفت وعدي، فمعنى ذلك أنّ لكلّ شخصٍ الحقّ في أن يُخلف وعوده ما دام القانون الأخلاقي ينبغي أن يكون شاملاً، ولو أخلف كل شخصٍ وعوده لما عاد أحد يؤمن بالوعود ولكان لنا مبدأ آخر هو أنّ من الصحيح أنّ أحدًا لا ينبغي أن يؤمن بالوعد، وهو مبدأ يتناقض مع الأول”.[6]

وقد وسع كانط ميدان الأمر الكلي القطعي بقوله:

1- افعل كما لو كان يلزم للإرادة أن تقيم قاعدة فعلك في قانون كلي للطبيعة (البعد الشخصي لاستقلال الإرادة).

2- افعل بحيث تستطيع دائماً وفي الوقت نفسه أن تعامل الإنسانية في شخصك وفي أي شخص آخر ليس فقط كأداة وإنما أيضا كغاية (البعد الجماعي لاستقلال الإرادة).

لقد آمن كانط بأن إرادة الخير التي تهتدي في وجودها بمبدإ معين هي الشيء الوحيد الذي يعتبر خيرا في ذاته، إن الإرادة الخيرة التي تريد الخير لنفسها ولغيرها هي الخير في ذاته.

ويذكرنا كانط في مكان آخر أن هذه المبادئ الكانطية الإنسانية لا تمكن مراعاتها إلا بالدين، وذلك في النص التالي: “الأخلاق إذن تقود ولا بدّ (unumgänglich) إلى الدين، الذي بواسطته ترقى إلى فكرة مُشرّع (Gesetzgebers) أخلاقيّ خارج الإنسان، بحيث تكمن في إرادته تلك الغاية القصوى (خلق العالم)، التي يمكن ويجب  في نفس الوقت أن تكون الغاية القصوى للإنسان’’ . يجب التذكير أن الفيلسوف كانت أهم مؤسس لنظرية الأخلاق في الغرب.

يمكن تصنيف النظريات الأخلاقية المختلفة انطلاقاً من موقفها تجاه المبادئ الأخلاقية، بحيث يمكن التمييز بين الأخلاق النسبية والأخلاق المطلقة، فبينما تعني الأولى اختلاف المبادئ والقيم الأخلاقية بحسب المكان والزمان، يعني النوع الثاني وجود مبادئ أخلاقية عامة تُطبق على جميع الناس في كل زمان ومكان مهما اختلفت ظروفهم وآراؤهم.

إن نظرية المبدأ المطلق كما يقول هنتر ميد تجد سندها في الديانات السماوية وخصوصًا تلك التي تؤمن بالشمولية، وهو بذلك يعترف أن الحضارة الغربية أصلها مسيحي، قائلا: “وحين نقول المسيحي فإننا نعني بالنسبة للفلسفة “التوحيدي”، فالإيمان بإله واحد يحكم الكون الذي خلقه أساس للتفكير الديني للغرب. وهذه الأوامر -أوامر الإله- شاملة تنطبق على الناس جميعًا في كل مكان”.

أما الجذر المتعلق بالانحراف الخلقي -ونحن في عالم الأفكار والمعرفة، فإن أهم موجة شرَّعت فلسفياً للانحراف الخلقي قد كانت فلسفة ما يسمى بـ(التنوير)، وأذكر على الخصوص الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم [7]  الذي ألغى دور الوحي، بل ودور العقل نفسه في إنتاج القيم منطلقاً من المحسوس المتمثل في الانفعال والعواطف، مدعياً أن المؤثر هو الأثر نفسه، فلا قيم عليا ولا شيء يحكم سلوك الإنسان إلا ما ينتجه هو بناء على رغباته ونزواته.

ومن هؤلاء (فرويد) [8]  الذي كان مُغرقاً في “الجنسية” ومُرجعاً معظم السلوكيات الإنسانية إلى ما تختزنه النفس البشرية من غريزة الجنس.

 و”داروين” [9] ، في مذهب النشوء والارتقاء باعتباره أن الإنسان إنما هو من نوع البريمات المتميزة بكمال الأسنان.

 ورغم أن هذه النظريات التي حطت من قيمة الإنسان، فهو عند فرويد في سلوكياته، وعند داروين في أصله ونسبته، قد أظهر العشرات من الفلاسفة عُوارها والثغرات التي تبين عدم علميتها، فقد استهوت الكثير من المدارس المعاصرة، واحتكرت المنابِر في الكثير من الجامعات، “فقد راح الفرد يحطم سلسلة المعتقدات حلقة بعد حلقة، وكذلك المعايير الأخلاقية، ونظم الفكر، والتنظيمات السياسية التي تربطه برفاقه من البشر، وانطلق في عزلة الحيوان الأعجم الذي لا يعرف سوى إحساساته الخاصة، ولا يطيع سوى نزواته الذاتية. وهكذا تحطم الجانب المقابل من الصورة وأعني به الكلي، الذي يتمثل في المجتمع ونُظُمه وقواعده ومبادئ الأخلاق…إلخ”.

4-    الحلول والمقاربات:

كيف يُعالَج هذا الوضع المعرفي والفكري في ظل ما أشرنا إليه من الصعوبات؟ وأهمها وجود ثقافة مأزومة اختل فيها ميزان المعرفة والسلوك، وغابت فيها الوسطية والحكمة.

إنَّ الأمر يتعلق بمعالجة ثقافية شاملة وتجديد فكري كامل، ولهذا فسنقدم مقاربة مجملة تعتمد على قيمة التسامح والوسطية والحوار.

ثقافة التسامح والتصالح في مواجهة ثقافة التطرف الفكري والانحراف الخلقي:

أحصى الباحثان ألفرد كروبر Kroeber وكلايد كلوكون Kluckhohn سنة 1952 في بحثهما” الثقافة: عرض نقدي للمفاهيم والتعريفات” (Culture : A critical review of concepts and definitions)  ما يربو على مائة وستين تعريفا للثقافة.

وعرفها لاروس الفرنسي بأنها هي: “مجموعة النظم الاجتماعية، والمظاهر الفنية، والدينية، والفكرية التي تتميز بها مجموعة أو مجتمع بالنسبة للآخر”.

وتقول موسوعة دار الشروق: “إن مفهوم الثقافة يشير إلى كل ما يصدر عن الإنسان من إبداع، أو إنجاز فكري، أو أدبي أو فني أو علمي”.

وأولى المعاني بالاعتبار في سياق هذا البحث هو الإطلاق الإنثربولوجي الواسع الباحث عن المعتقدات والمؤسسات والعوائد والتقاليد لكل مجتمع وعلاقات الكائنات البشرية بعضها ببعض.

ولعل كل واحد من التعريفات السابقة يشكل جزءاً من الصورة الذهنية للثقافة، وحيث إن التعريف الأخير يهتم بسلوكيات الإنسان وعلاقاته وأنماط القيم الموجِّهة للسلوك فهو بالتأكيد ما نعالجه هنا.

 أما التسامح: فهو مصدر مقيس لتَسامَحَ بمعنى تساهل.

يقول ابن منظور: في مادة”سمح”: “التسامح والسماحة الجود… يقال: سمح وأسمح إذا جاد وأعطى عن كرم وسخاء…. وفي الكلام المشهور: السماح رَباح. أي المساهلة في الأشياء تربح صاحبها.”.

تأصيل التسامح في الإسلام     

في الحديث عن أبي أمامة: بعثتُ بالحنيفيّة السّمحة أي السّهلة الميسّرة رواه أحمد في المُسند وله شاهد من حديث عائشة: لتعلم اليهود أنّ في ديننا فُسحة إنّي أرسلت بحنيفيّة سَمحة وعلّق عليه ابن القيم: ”إنّها حنيفيّة في التّوحيد، سَمحة في العمل“.

 وذكره البخاري بقوله: “باب الدين يسر وقول النبي: أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة” . وورد في مصنف عبد الرزاق تفسيره مرفوعاً بأنها الإسلام الواسع.

فهذه الأحاديث تعطي للسماحة معنى اليسر والسهولة والسعة مما يدل على رفع الإصر والحرج والبعد عن التشدد.

وقد يعبر عن التسامح في القرآن الكريم بأربعة مصطلحات: العفو والصفح والغفران والإحسان؛ حيث يقول سبحانه وتعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾.

إن التسامح هو التسامي عن السفاسف، إنه عفة اللسان عن الأعراض، وسكون اليد عن الأذى. “فالمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله” .

أما لدى الغربيين فيقابل كلمة التسامح في اللغتين الإنجليزية والفرنسية (Tolerance) والتي تعني احترام حرية الآخر وطريقة تفكيره وتصرفاته وآرائه السياسية والدينية.

وصدر إعلان منظمة اليونسكو المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة في دورتها الثامنة والعشرين لمؤتمرها العام المنعقد في باريس من 25اكتوبر حتى 6 نوفمبر 1995م ، حيث تم الإمضاء على هذا البيان من طرف جميع دول العالم واختيار يوم 16 نوفمبر يوماً للتسامح ورفض التعصب.

وهذا الإعلان مكوّن من مقدمة وستة فصول.

أما المقدّمة فكانت تذكيراً بما ورد في ميثاق الأمم والإعلان العالمي لحقوق الإنسان وغيرهما من المواثيق والاتفاقات وعددها خمس عشرة وثيقة.

وأشارت المقدّمة إلى الجزع الذي يسبّبه تصاعد التّعصبّ والإرهاب والعنف وكره الأغيار والقوميّة العدوانيّة والعنصريّة واللاساميّة والإقصاء والتّهميش والتّمييز ضدّ الأقليّات القوميّة والعرقيّة والدينيّة واللغويّة واللاجئين والعمّال المهاجرين والفئات الهشّة وممارسة العنف ضدّ من يعبّر عن رأيه.

يتكون الإعلان من ستة فصول:

الفصل الأول: مفهوم التسامح باعتباره احتراماً وقبولاً وتقديراً للثروة والتنوع لثقافات عالمنا هذا.

الفصل الثاني: دور الدولة، فعلى مستوى الدولة تلزم العدالة والنزاهة في سن النظم والقوانين وكذلك في تطبيقها وممارسة السلطة القضائية والإدارية.

الفصل الثالث: الأبعاد الاجتماعيّة، ذكّر بضرورة التّسامح في العالم المعاصر؛ حيث نعيش في عصر تميّز بعولمة في الاقتصاد، وبسرعة في الحركة والاتصالات، وبالاندماج والاعتماد المتبادل، وبالنّـزوح والتّنقل للمجموعات على نطاق واسع، والتمدّن والتغيّر في أشكال النّظم الاجتماعية، فلم يبق جزء من العالم غير متأثر بالتّنوع.

فتصاعدُ التعصب والمواجهة يشكل تهديداً محتملاً لكل منطقة، فالتسامح ضرورة للأفراد وفي نطاق الأسرة والجماعة.

فتنمية التسامح والتدرب والتمرن على الانفتاح الذهني وحسن الاستماع والإنصات المتبادل والتضامن يجب أن تسود كل هذه المعاني في المدارس والجامعات ووسائل التربية.

يجب تكوين مجموعات للدراسة والبحث والتنسيق لتقديم إجابة للمجموعة الدولية على هذا التحدي العالمي(عدم التسامح).

الفصل الرابع: كُرّس هذا الفصل للتربية والتعليم؛ باعتبار التربية والتعليم أفضل وسيلة لمحاصرة عدم التسامح والتعصب، وضرورة التزام الدول بالقيام بما يلزم في هذا الصدد بما في ذلك وسائل البحث العلمي والاجتماعي للتربية.

الفصل الخامس: تلتزم الدول بتنمية التسامح.

الفصل السادس: تقرير يوم للتسامح من أجل تعبئة الرأي العام.

أشير إلى أن هذه شذرات فقط من إعلان التسامح الصادر من منظمة اليونسكو اقتبسته من الأصل الفرنسي للإعلان وأردت من خلاله أن أنبه إلى الإلحاح الذي اتسم به هذا الإعلان.

والكثير من هذه المضامين الحديثة التي تتأسس عليها مبادئ الحكم الرشيد وحقوق الإنسان، نجد لها جذورا في التنظير الفكري للتسامح منذ بدايته قبل أزيد من ثلاثة قرون؛ حيث إن العديد من المفكرين مثل (لوك) و(منتيسكيو) و(فولتير) يعتبرون أن التسامح بمثابة دعامة أساسية لتنظيم الحكم.

قدم كارل بوبر تحليلاً معمقاً لمفهوم التسامح، وانطلق في ذلك من التعبير الذي قدمه ( فولتير ) 1694-1778 للتسامح؛ إذ يقول: إنه ما من أحد بأوضح مما فعله فولتير، ولا أحد ضاهى فولتير في روعة التعبير عنه؛ حيث يكتب: (وما هو التسامح؟ إنه نتيجة ملازمة لكينونتنا البشرية، إننا جميعاً من نتاج الضعف، كلنا هشون وميالون للخطأ، لذا دعونا نسامح بعضنا، ونتسامح مع جنون بعضنا، بشكل متبادل. وذلك هو المبدأ الأول لقانون الطبيعة، المبدأ الأول لحقوق الإنسان كافة).

فثقافة التسامح: تعني وجودَ قِيَم وتصورات، تفرز ضوابط سلوكيّة، من شأنها أن تشيع الأمن في النفوس، وتجافي الجنوح إلى العنف.

ولنغرس ثقافة التسامح في النفوس، يجب اتخاذ السبل بكل الوسائل التثقيفية، وفي مقدمتها التعليم والتربية، والإعلام الجماهيري، لإيجاد تلك القيم، والتصورات، لضبط وكبح جماح النفوس الميالة إلى العنف، وترجيح كفة التسامح، وحسن تقبل الغير، وباختصار إيجاد الروح الاجتماعية، والتعايش البناء بين أفراد المجتمع.

وهي بذلك تقابل ما يسمى بثقافة العنف.

ومعنى ذلك أنّ المُثل والقيم التي يتلقّاها، ويُلقّنها أفراد المجتمع، عن طريق القنوات والأدوات التثقيفية، في مختلف مراحل التّعليم، ووسائل الإعلام بشتّى أشكالها، وغيرها من وسائل الاتصال الجماهيري، كالخطب، والأناشيد ذات مضمون رصين متسامح، ومتعقّل، لا يخرج على النّهج العام السائد، والأعراف المقبولة، لشحن العواطف، وإلهاب المشاعر، دون وزن للعواقب، ولا مبالاة بالنتائج.

إن هذا الكلام عام في كل مجتمع، مهما كانت فلسفته الحياتية.

أما بالنسبة للمجتمع الإسلامي، فإن الميزان الشرعي هو ميزان الوسطية التي لا إفراط فيها ولا تفريط.

ميزان الشرع هو نبذ المبالغة والمغالاة، والنظر في العواقب والمآلات. “فالدين واسطة بين الغلو والتقصير” كما يقول التابعي الجليل الحسن البصري.

وميزان الشرع هو ميزان المصالح والمفاسد، يضعها في كفتيه، فيرجح الأصلح، ويدرأ المفسدة، فكما يقول العلامة ابن القيم: “الشريعة مصلحة كلها، وعدل كلها، ورحمة كلها، فما خرج عن المصلحة إلى المفسدة، وعن العدل إلى الجور، وعن الحكمة إلى العبث، وعن الرحمة إلى ضدها، فليس من الشريعة“.

كما يرسخ الإسلام المحبة بين الناس، ففي الحديث:” لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتى يُحِبَّ لأَخِيه مَا يُحِبُّ لنَفْسِه” . يقول الحافظ ابن رجب في شرحه لهذا الحديث: “إن الأخوة الواردة في هذا الحديث تشمل الأخوة في الإنسانية”.

 وقرر الإسلام العدل بين الأفراد والأمم ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾، وقرر بذل المعروف، وإطعام الطعام، ودَفْعَ جزء من المال للفقراء، تكريساً للتكافل والتضامن في المجتمع.

وأمر الإسلام بالرفق:”إِنَّ الرِّفْقَ لا يَكُونُ فِي شَيءِ إلاَّ زَانَهُ ولا يُنْزَعُ مِنْ شيءِ إِلاَّ شَانَهُ”.

وشرع الإسلام الحوار وسيلة للمناقشة، حول قضايا الاختلاف، حتى مع المخالف في الدين، قال تعالى:﴿وجادلهم بالتي هي أحسنُ﴾ ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم﴾.

مظاهر التسامح:

 أولا: إن الإسلام يعتبر البشر جميعا إخوة، فيسد الباب أمام الحروب الكثيرة التي عرفها التاريخ الإنساني بسبب الاختلاف العرقي.

 والإسلام يعترف للبشر  بحقهم في الاختلاف، ﴿ولا يزالون مختلفين﴾.

ثانياً: اعترف الإسلام للآخرين بحقهم في ممارسة دينهم، فسد الباب أمام الحروب الدينية التي كاد التاريخ البشري أن يكون مجرد سجل لها.

ثالثاً: اعتبر الإسلام الحوار والإقناع الوسيلة المثلى﴿وجادلهم بالتي هي أحسن﴾.

رابعاً: اعتبر الإسلام أصل العلاقة مع الآخرين المسالمة التي تقدم على بساط البرّ والقسط والإقساط.

لعلّه يتعيّن علينا أن نربّي ناشئتنا على القيم الأكثر مقاربة، كما يتعيّن على الحضارة الغربيّة أن تكون أكثر عدالة وتوازناً حتى نلتقي عند نقطة وسط.

وباختصار فلا بدّ من علاج بالمضادّات، ونعني بالمضادّات الحيوية ذلك الخطاب الحيّ الواعي الذي يقوم على نبذ العنف وزرع ثقافة السّلام والتّسامح والمحبّة، وتقديم البدائل أمام الشباب اقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً، ومحاولة صرف جهودهم ونشاطهم في قنوات لصالح المجتمع ولصالح التنمية وجَسر العلاقة بين مختلف الفئات وتجديد الفكر التوفيقي والمنهج الوسطي في النّفوس وحشد جهود الطبقة المثقفة في الجامعات والمدارس ووسائل الإعلام لذلك.

كما يجب تقديم الدّراسات الجادّة في المجالات الثقافية والاجتماعية والشرعية لإقامة الحجة المضادة بالبرهان الشرعي المفهوم.

ثم إنّ هذه الأدوات والآليات التي ترسّخ ثقافة التّسامح لا ينبغي أن تكون موسمية، بل يجب أن تكون دائمة ومستمرة لبلورة ثقافة تصالحيّة أصليّة ومتفتحة، تدمج العناصر الإيجابية المستوردة بالموروث الثقافي في تكامل وانسجام لا تصادمي – حسب الإمكان- في مواءمة بين العراقة والمعاصرة، وبين القديم والحديث؛ لتصل الأمة إلى تجديد ليس مرادفاً للتدمير، ولا للانسلاخ ولا للانسلاب، بل هو تطوّر إيجابي واعٍ بذاته ومرجعيته التاريخيّة، يحافظ على ثوابته، ويحاور من خلالها مستجدّات العصر في جدليّة رفيعة ومصلحيةّ براجماتيّة.

وهنا تطرح بإلحاح مسألة تغيير المناهج باعتبارها حجر الزاويّة في ثقافة التسامح؛ إذ إنّ مسألة المناهج مسألة دقيقة وحساسة، ولها وقع خاص؛ لأنّ معالجة المواد الدينيّة في المناهج الدراسيّة لا يمكن أن تتم بعقلية خارج إطار منظومة الفكر الإسلامي.

وبدون شك فإن الأمر يحتاج إلى رسم إستراتيجية ثقافية؛ وكل إستراتيجية لها غاياتها وأهدافها ووسائلها وآلياتها وبرمجتها الزمنية وخططها، وهي بالضرورة إستراتيجية فضفاضة ومرنة قابلة للتعديل طبقاً لنتائج التجارب الميدانية، تهدف إلى إنشاء جيل مستنير متصالح مع تاريخه، متعايش مع عصره؛ من خلال تقديم وصفة ثقافية ممزوجة بروح حضارتنا لعلاج الإشكالات المطروحة تقوم على الوسطية، وتفعيل فقه الاختلاف، والحوار مع الآخر ومع الذات، وتصحيح مفهوم الجهاد، وتصحيح مفهوم الولاء والبراء، ومفهوم التكفير… إلى آخر المفاهيم.

 وفي الختام فإن دولة الإمارات العربية المتحدة، بلدزايدومعدن المجد والأماجد، بإمكانها أن تقود هذا الجهد الدؤوب في مرحلة المراجعات والحوار مع الذات ومع الآخر، لفكِّ عقد التطرف وعلاج داء الانحراف والتعسُّف.

وهي فعلا تقدِّمُ المقاربات الحيَّةَ والمبادرات القوية على مختلف الصعد، وفي المحفال الدولية والإقليمية، بجسارة وكفاءة، فلن يكون ذلك صعبا على همّة قيادة برهنت على حسن الريادة، بوضوح الهدف وسعة الأفق وعمق الرؤية القائمة على دعائم الاستقرار والازدهار والابتكار.

[1] – أخرجه أبو يعلى في مسنده 6/ 365

[2] – قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. المستدرك على الصحيحين  1/ 637

[3] – أخرجه مسلم في صحيحه

[4] – الشاطبي      2/163

[5] – منها: ۱- المُحَكِّمة الأولى: يقال للخوارج: محكّمة وشُراة، وكان دينهم إكفار علي وعثمان، وأصحاب الجمل ومعاوية وأصحابه، والحكَمين ومن رضي بالتحكيم، وإكفار كل ذي ذنب ومعصية. 2- الأزارقة: هؤلاء أتباع نافع بن الأزرق الحنفي المكني بأبي راشد، من دينهم أشياء: منها: قولهم بأن مخالفيهم من هذه الأمة مشركون، وكانت المحكمة الأولى يقولون: إنهم كفرة لا مشركون. ومنها: قولهم إن القعدة -ممن كان على رأيهم- عن الهجرة إليهم مشركون وإن كانوا على رأيهم. ومنها: أنهم أوجبوا امتحان من قصد عسكرهم إذا ادعى أنه منهم. ومنها: أنهم استباحوا قتل نساء مخالفيهم وقتل أطفالهم، وزعموا أن الأطفال مشركون، وقطعوا بأن أطفال مخالفيهم مخلدون في النار.

3– النَّجَدات: هؤلاء أتباع نجدة بن عامر الحنفي. 4- الصُّفرية: أتباع زياد بن الأصفر، وقولهم في الجملة كقول الأزارقة في أن أصحاب الذنوب مشركون، غير أن الصفرية لا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم. ومن يقول: إن صاحب الذنب لا يحكم عليه بالكفر حتى يرفع إلى الوالي فيحده.  5-العَجاردة: أتباع عبد الكريم بن عجرد، وكانوا فرقاً يجمعهم القول بأن الطفل يُدعَى إذا بلغ، وتجب البراءة منه قبل ذلك حتى يُدعى إلى الإسلام. وفارقوا الأزارقة في شيء آخر، وهو أن الأزارقة استحلت أموال مخالفيهم بكل حال.

([6]) هنتر ميد: المرجع نفسه، ص267.

[7] – فقد حطم “هيوم” هوية الذات البشرية وأحالها إلى مجموعة من الانطباعات الحسية، وضاعت النفس البشرية لأننا لا نستطيع أن نصل إلى الانطباع الحسي “وجدتني لا أعثر عليها، يقول هيوم “إنني إذا ما توغلت إلى صميم ما أسميه “نفسي” وجدتني لا أعثر دائماً إلا على هذا الإدراك الجزئي أو ذاك. إنني لا أستطيع أبداً أن امسك بـــ”نفسي” في أي وقت بغير إدراك ما، كما أنني لا استطيع أبداً أنْ أرى شيئا فيما عدا هذا الإدراك”. وهكذا نجد أن فلسفة هيوم قد فككت أوصال الموجود البشري،(عبد الفتاح إمام  الهيجلية الجديدة ص195)

[8] – بإمكاني القول: إن الفرويد قد قام ببناء الغالبية العظمى من تحليلاته في شكل “هرم مقلوب”, ولهذا أصبح البناء بأكمله يرتكز على “حجر زاوية” واحد، وعندما يكون هذا “الحجر المحوري” عبارة عن حقيقة احدة مشكوك فيها, فإن كل الاستنتاجات تنهار عندما يثبت خطأ هذه الحقيقة، مثلما ينهار الهرم المقلوب، عندما نزيل حجر الزاوية منه, ولن يكون في استطاعة أي قدر من البلاغة أو المراوغة أو التلاعب بالألفاظ إخفاء حقيقة انهيار الهرم”.(هانز أيزينك: “تدهور امبراطورية فرويد وسقوطها” ص273)

[9] – نظرية داروين هذه نزعت عن الطبيعة آخر أسمال النظام والعقل، وتركت الكون كله، وليس فيه سوى الصدفة، والاتفاق، واللاعقل. كما يقول سترلنج. ويقول أيضا: -وهو يعيب على منهج داروين أنه لم يكن منهجاً علمياً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة- “فلم تكن طريقة داروين تعتمد على الاستقراء البطيء الحذر من عدد هائل من الوقائع التي لا يمكن دحضها، وهو ما يتطلبه المنهج التجريبي، بل كانت على العكس من ذلك، لقد كانت في الواقع تعتمد على الأخذ “بنظرية ! أو “تخمين ! ثم تجمع الوقائع المناسبة التي تؤيده متجاهلة بالطبع الوقائع الأخرى غير المناسبة! “(الهيجلية الجديدة ص231).

العلامة عبدالله بن بيه يزور بريطانيا ويلتقي بالقيادات الدينية المسيحية و المسلمة

التقى الشيخ عبد الله بن بيه، رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة رئيس مركز الموطأ، رئيس الكنيسة الإنجليكانية، جاستن ويلبي في العاصمة البريطانية لندن التي بدأ زيارة لها.

وأثنى ويلبي -التي تأتي الزيارة بدعوة منه- في كلمة ترحيبية برئيس المنتدى والوفد المرافق له على جهود المنتدى في تعزيز السلم وترسيخ ثقافة التعايش بين الأديان، وتقديم تنظيرات وحلول تنظر إلى الإنسان ولا تقتصر على الأديان في مواجهة التطرف الذي لا يرجع إلى أي دين، بل يرجع إلى عوامل نفسية واجتماعية وسوء فهم وجهل بالأديان.

من جانبه شكر الشيخ عبد الله بن بيه رئيس الكنيسة الإنجليكانية على دعوته له في تِلْكَ الظروف الصعبة وعبر عن تقديره لجهوده وأفكاره التي يحملها، والتي تشجع وتسهل الحديث عن التعايش والتعاون بين الأديان.

وفي هذا السياق عرّف رئيس المنتدى ببعض المشاريع العلمية التي شرع فيها المنتدى، تطبيقا لرؤيته بدعم ورعاية كريمة من دولة الإمارات العربية وفي مقدمة تِلْكَ المشاريع موسوعة السلم التي ستتناول المفاهيم التي كانت في الأصل سياجا للسلم، لكن تذرع بها الخطاب المتطرف لتبرير أفعاله.

كما التقى العلامة عبدالله بن بيه بقيادات المسلمين في بريطانيا حيث دار نقاش حول أفضل السبل للتعريف برسالة الاسلام الكريمة و تصحيح المفاهيم الخاطئة التي تروج حوله.كما أجاب معالي الشيخ عبدالله بن بيه على أسئلة الحضور و استفتاآتهم.

يرافق رئيس المنتدى في تِلْكَ الزيارة ، الدكتور محمد مطر الكعبي والشيخ حمزة يوسف هانسون نائب رئيس المنتدى، وعدد من أطر المنتدى ومركز الموطأ. وام

من هو الولي ؟ وهل يشترط عند كل العلماء لصحة الزواج؟

تنبيه : النص مفرغ من فتوى شفهية وردت ضمن برنامج تلفزيوني يمكن مشاهدتها من هنا

من هو الولي ؟

 هذا سؤال في محله وهومفيد بالنسبة لإخواننا في الغرب.

 لأن الولاية في الحديث ( لا نكاح الا بولي )

وان كان الاحناف رحمهم الله تعالى انكروا هذا الحديث. أنكروا ثلاثة أحاديث.

فقالوا إن هذا الحديث لا يثبت وذكروا عن يحي بن معين – (لا نكاح الا بولي وكل مسكر حرام ..) فبعض الأحاديث قالوا إنها لا تثبت.

 لكن هذا الحديث ثبت بطرق وأفتى به الجمهور.

وبالحديث الآخر (لا نكاح الا بولي وشاهدي عدل)

وبالحديث الآخر(أيما امرأة نكحت – او نُحكت – بغير اذن وليها فنكاحها باطل).

وهذا الحديث رواه جمع من العلماء والأحناف طعنوا فيه بأن الزهري الذي روي عنه كما يقول ابن علية لما سئل عنه قال إنه لم يعرفه.  فقالوا هذا نسيان لأن الراوي إذا نسي هذا لا يضر- واستدلوا بجملة من الادلة .منها حديث (الأيم أحق بنفسها)

 الولي هو : ولاية قرابة وولاية سلطان,

فولاية القرابة الأب أو الابن على اختلاف في أيهما يقدم. فمالك يقدم الإبن وأحمد يقدم الأب . وهما الأقرب فالأقرب . الاخ , الشقيق..

 والسلطان ولي من لا ولي له : (فان اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له)- كما جاء في الحديث

 وولاية عامة المسلمين أيضا (وصح بها في دنية مع خاص لم يجبر) كما يقول خليل المالكي رحمه الله تعالى.

ولاجل هذا المرأة تسلم على يد رجل , وهذا الرجل يصبح يتولى الطرفين في مذهب مالك . هو خاطب وولي  ايجاب قبول . يقول زوجتك نفسي ويتولى الطرفين .هناك اشكالات .

نحن في المجلس الاوربي , وافقنا وملنا على مذهب ابي حنيفة القائل بعدم اشتراط الولاية . قلنا “يستحب” و”يطلب” و”يرغب” باحضار الولي.

 لكن في الحقيقة في أوربا , وخوفا من الفساد والمرأة لها من الحرية – ما أنت تعرفه- , فقلنا لا بأس باتباع مذهب أبي حنيفة , لانه لا توجد أدلة قاطعة حاسمة.

 حتى قال ابن قدمة في المغني : ومن فعل ذلك مستحلا له فإنه لا إثم عليه ولا أدب.

 وهذا كثير من الانصاف , مع أنه حنبلي ويرى أن وجوب الولي كمذهب مالك والشافعي.

  • في مذهب مالك مسالة تولي الطرفين :

ادا كان وليا ابن عم : يقول خليل ولابن عم و نحوه تزويجها من نفسه ان عين بتزوجتك بكدا و ترضى وتولى الطرفين .

فيقول تزوجتك بألف او بألفين وتقول أنا راضية . فيتولى الايجاب والقبول.

وذكر العلماء تطبيق دلك على من أسلمت وليس عندها ولي. فبالامكان ان يتولى الطرفين أيضا بمعنى يكون لها وليا لانها تعين من شائت وليا لها .

فمسالة الولي اختلف العلماء فيها ومالك خفف فيها خاصة ما سماه ب “الدنية”. و”الدنية” قد تكون “علية”  و لكنها مهملة.

الأزمنة تتغير و الفتوى تتغير بتغير الازمنة .

شاهد الفتوى :

 

برعاية الملك محمد السادس , منتدى تعزيز السلم يستقبل قافلة السلام الأمركية في مدينة الرباط

برعاية كريمة من جلالة الملك محمد السادس احتضن فندق سوفيتل بالرباط، اليوم 24 أكتوبر الجولة الثانية من القافلة الأمريكية للسلام والتي ينظمها منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة بالتعاون مع وزارة الأوقاف المغربية .

 وقد اعتبر رئيس “منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة”، الشيخ عبد الله بن بيه  أن رعاية الملك محمد السادس للقافلة،  تؤكد « حرص عقلاء المسلمين على مد جسور السلام والوئام بين أبناء مختلف الأديان، من أجل عمارة الأرض بالخير والجمال وحماية حقوق الإنسان». وذلك،  حسب «إعلان مراكش التاريخي في يناير 2016».

وأضاف الشيخ أن تأمل الأزمات التي تهدد الإنسانية تزيد الاقتناع « بضرورة التعاون بين جميع أهل الأديان وحتميته واستعجاليته. وهو التعاون على كلمة سواء قائمة لا على مجرد التسامح والاحترام بل على الالتزام بالحقوق والحريات التي لا بد أن يكفلها القانون ويضبطها على صعيد كل بلد. غير أن الأمر لا يكفي فيه مجرد التنصيص على قواعد التعامل، بل يقتضي قبل كل شيء التحلي بالسلوك الحضاري الذي يقصي كل أنواع الإكراه والتعصب والاستعلاء».

وقد ذكر  الشيخ ابن بيه بمقتضيات  إعلان مراكش، الذي أعلى كرامة الإنسان بوصفه أول مشترك إنساني ويدعو  مختلف الطوائف الدينية التي يجمعها نسيج وطني واحد إلى «معالجة صدمات الذاكرة الناشئة من التركيز على وقائع انتقائية، ونسيان قرون من العيش المشترك على أرض واحدة، وإلى إعادة بناء الماضي بإحياء تراث العيش المشترك، ومد جسور الثقة بعيداً عن الجور والإقصاء والعنف». ودعا ممثلي مختلف الملل والديانات والطوائف إلى التصدي لكافة أشكال ازدراء الأديان وإهانة المقدسات وكل خطابات التحريض على الكراهية والعنصرية.

و أكد العلامة عبد الله بن بيه  رئيس منتد تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة،  أن الإسلام صاغ عقائده وعباداته وشرائعه وأخلاقه وفق رؤية حضارية تنشد السلم في أسمى معانيه، باعتباره هو الأصل الذي يجب أن يحكم علاقة البشر ابتداء، والهدف الذي يتعين على الجميع التحرك لتحقيقه.

وشدد الشيخ “بن بيه” على أن تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، من شانه أن يعمل على سيادة حالة من الطمأنينة النفسية والروحية والسكينة بين أفراد المجتمع لتنعكس على العلاقات بين الأفراد والجماعات…وتتمظهر في التضامن والتعاون لإيصال النفع إلى الجميع ودرء الضرر عن الجميع.

واكد أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، خلال كلمته الإفتتاحية للقاء، على ان إعلان مراكش، شكل محطة مهمة لتعزيز والدفاع وإنصاف الأقليات الدينية في المجتمعات المسلمة ونشر الوعي بحقوقها، عبر الدعوة إلى تهيئ التربة الفكرية والثقافية والتربوية والإعلامية الحاضنة لهذا التيار، وعدم توظيف الدين في تبرير أي نيل من حقوق الأقليات الدينية في البلدان الإسلامية، كان مرجعا أساسيا في إنطلاق النقاش والدفاع عن حقوق الأقليات.

وأضاف التوفيق ان المملكة المغربية اختارت السير في تأطير بثوابت دينية عبر تفسير رحب يتجاوب مع مقاصد الدين، وإحترام الأخر عبر الكف عن مختلف أنواع واشكال الأذى.

ودعى وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، إلى تعزيز السلم في النفوس، عبر تشخيص مشاكل التطرف بكل أشكاله، الذي هو أصل الداء، وأن التفاهم من اجل التضامن هو سبيل حل المشاكل الإنسانية.

 

ومن جانبه، شدد كبير القساوسة في دالاس، القس بوب جين روبرتس، على ضرورة المرور إلى «مرحلة الفعل والعمل الحقيقيين في أفق مد الجسور بين الحضارات والثقافات والشعوب». وأضاف القس أن « إشاعة الحب المطلق بين الناس هو السبيل للخروج من التعصب القبلي والديني». وزاد قائلا :«حان الوقت لبناء الجسور وقد تعبنا من الخطابات».

وكذلك، تحدث أمين عام “منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة”، رئيس هيئة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة الإمارات، الدكتور محمد مطر الكعبي عن تميز العلاقات الرابطة بين المغرب والإمارات، وبخاصة في المجالين الديني والإنساني. و أضاف موضحا أنه « من الطبيعي أن يأتي  ملتقى القافلة الأمريكية للسلام في الرباط بعد لقاء ناجح ومثمر في أبوظبي مطلع ماي الماضي». وأشار إلى  أن «الحكماء والعقلاء الذين اجتمعوا في أبوظبي آمنوا بأهمية إنشاء حلف فضول عالمي يضم الديانات المختلفة، ويرتقي بالقيم الإنسانية إلى المستوى الذي أراده الله سبحانه وتعالى لخليفته في الأرض».

ويلتئم أعضاء “قافلة السلام الأمريكية” في الرباط، برعاية من  الملك محمد السادس، وبالتعاون مع “منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة” برئاسة  الشيخ عبد الله بن بيه. إذ انطلقت فعاليات المرحلة الثانية من استراتيجية “قافلة السلام الأميركية” في الرباط صباح أمس الثلاثاء 24أكتوبر  لتختتم يوم غد الخميس 26 أكتوبر 2017، بحضور ممثلي الأديان الإبراهيمية في أكثر من عشرين ولاية أميركية، إلى جانب كوكبة من العلماء والمفكرين والشخصيات الرسمية والثقافية، يتقدمهم أمين عام منتدى تعزيز السلم، رئيس هيئة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة الإمارات، الدكتور محمد مطر الكعبي، ووزير الأوقاف، أحمد التوفيق، و رئيس منظمة أديان من أجل السلام، وليام فندلي،

كلمة العلامة عبدالله بن بيه في افتتاح الجولة 2 من القافلة الأمريكية للسلام – مدينة الرباط

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين.

أيها السادة والسيدات،

نستقبل اليوم قافلتكم الموقرة في مدينة الرباط عاصمة المملكة المغربية الشريفة، أرض التسامح والمحبة والسلام، التي سبق لنا أن التقينا فيها على مائدة مؤتمر مراكش، برعاية سامية من أمير المؤمنين محمد السادس حفظه الله، وإشراف مباشر من معالي الأستاذ/ أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشئون الإسلامية وفقه الله، التي كنتم شهوداً على إعلان العلماء المسلمين لبيان يوضح شرعية حقوق الأقليات وقدسيتها استحضاراً لوثيقة المدينة النبوية التي كانت أول دستور ينص صراحة على المواطنة المتساوية لساكنة المدينة دون اعتبار للعرق أو الدين.

واستلهاماً لروح إعلان مراكش ودعوته الصريحة في الفقرة 19 التي تنص: “إننا كلما تأملنا مختلف الأزمات التي تهدد الإنسانية ازددنا اقتناعاً بضرورة التعاون بين جميع أهل الأديان وحتميته واستعجاليته. وهو التعاون على كلمة سواء قائمة لا على مجرد التسامح والاحترام بل على الالتزام بالحقوق والحريات التي لا بد أن يكفلها القانون ويضبطها على صعيد كل بلد. غير أن الأمر لا يكفي فيه مجرد التنصيص على قواعد التعامل، بل يقتضي قبل كل شيء التحلي بالسلوك الحضاري الذي يقصي كل أنواع الإكراه والتعصب والاستعلاء”.

إن إعلان مراكش يدعو : “مختلف الطوائف الدينية التي يجمعها نسيج وطني واحد إلى معالجة صدمات الذاكرة الناشئة من التركيز على وقائع انتقائية، ونسيان قرون من العيش المشترك على أرض واحدة، وإلى إعادة بناء الماضي بإحياء تراث العيش المشترك، ومد جسور الثقة بعيداً عن الجور والإقصاء والعنف.

ويدعو: “ممثلي مختلف الملل والديانات والطوائف إلى التصدي لكافة أشكال ازدراء الأديان وإهانة المقدسات وكل خطابات التحريض على الكراهية والعنصرية”.

إن هذه الفقرات من إعلان مراكش تستوجب منا البحث عن الطرق والوسائل الكفيلة بإنجازها.

وبدون شك فإن مبادرة قافلة السلام الأمريكية الإبراهيمية في الولايات المتحدة تمثل تجسيداً واستجابة لما يدعو إليه إعلان مراكش.

 أيها السادة والسيدات: لن يكون هذا اللقاء الا كما كان اللقاء الأول -في مدينة أبوظبي بالإمارات العربية المتحدة بلد زايد فضاء المحبة والتسامح، لقد لمستم تلك الروح- بحثاً وإحياء لروح التعايش السعيد بين الديانات، وحثاً على مبادئ التسامح والتعارف، لقد أكَّدَ ذلك اللقاء قناعتي بالاستعداد والإمكان لتحقيق ذلك الأمل المنشود للتحالف بين الديانات، لإنقاذ سفينة البشرية من الغرق في بحور الحروب والدمار.

  ومن ثمَّ فنحن نشجع مبادرتكم الرائدة لتنظيم هذه القافلة التي تضمُّ رجال دين من الولايات المتحدة الأمريكية ينتمون إلى العائلة الإبراهيمية، وهي مبادرة تمثّل أملا في هذا الوقت بإتاحتها الفرصة للتعايش والتعارف، وعقد أواصر الأخوة الروحية إلى مجتمعاتكم الخاصة وروجتم لها من خلال الأنشطة المشتركة .

لعلّ هذه الزيارة تكون فرصة للتذاكر حول تفعيل إعلان مراكش الذي أصدرناه يناير 2016 بمدينة مراكش بالمملكة المغربية، تتويجاً لمؤتمر “حقوق الأقليات الدينية في الديار الإسلامية: الإطار الشرعي والدعوة إلى المبادرة”. وقد شرفنا بعضكم بالحضور فيه.

لقد كانت مبادئ إعلان مراكش تستبطن دعوة للتعايش بين الديانات والثقافات، وهو بهذا يؤسّس لمرحلة جديدة من الفهم العميق للاستفادة من تراث الماضي لبناء تعايش في الحاضر والمستقبل؛ فإعلان مراكش لم يكن إعلانا عاديا بل هو عبارة عن فهم ووقفة مع النص الديني ومع التراث في تجلياته في التسامح والوئام والتعايش.

إن إعلان مراكش يبين واجب رجال الدين في البحث في نصوصهم الدينية وتاريخهم وتراثهم ليجدوا أساسا وينبوعا للتسامح والتعايش، وتفعيل المشتركات.

إعلان مراكش يعلي أول مشترك هو كرامة الإنسان:” إن البشر جميعاً على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ومعتقداتهم كرامهم الله عز وجل بنفخة من روحه في أبيهم آدم عليه السلام (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم).

إن تكريم الإنسان اقتضى منحه حرية  الاختيار: )لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ( )وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين(.

إن البشر بغض النظر عن كل الفوارق الطبيعية والاجتماعية والفكرية بينهم- إخوة في الإنسانية )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا(.

وفعلاً فإن مكانة الإنسان في الديانات العائلة الإبراهيمية ظلت محفوظة فهو القابل للإيمان بالغيب، والحامل بالفطرة للقيم العُليا، رغم النظريات التي حاولت في العصور الحديثة أن تُلغي الفرق بين الإنسان والحيوان مع فرويد (Freud) -والذي يسميه بول ريكور (Paul Ricœur) أستاذ الشك- في تحليله النفسي للسلوكيات، وداروين ((Darwin في تفسيره لأصول الإنسان.

ورغم المحاججة العلمية الوجيهة ضد تلك الآراء من طرف فلاسفة آخرين -والتي لا مجال لها هنا- فالذي نريد أن نقول: إنّ الديانات ظلت متمسكة بالأصل الإنساني للإنسان كمخلوقٍ متفرد، خلق بعناية الله العلي الأعلى، الذي هو المسبِّب، والذي بدأ خلق الكون، بعد أن لم يكن، وأن الكون لا يمكن أن يقفز إلى الوجود من العدم المحض إلا بقدرة خالق، أزلي قيوم، خلق المادة والزمان، فهو أعلى من المكان والزمان

فالعدم لا ينتج الوجود  – والجهل لا تنتج العلم – والفوضى لا تخلق النظام.

الكون بديع عظيم مصمم، له خالق مبدع مريد.

إذا لم يكن الكون أزلياً في ماضيه كما أثبته آرفيد بورد (Arvid Borde) والآن غوث (Alan Guth) والكسندر فيلنكن  (Alexander Vilenkin)سنة 2003م, فلا بد له من موجد، وإن من يدعي عكس ذلك لم يستطع اثبات دعواه، وقصارى الأمر أنه لم يجد، وعدم الوجدان ليس دليلا على عدم الوجود، وعدم العلم ليس دليلا على علم العدم.

إن العدم الذي معناه اللاوجود الخالي من القوى والخصائص والإمكانات لا يمكن أن ينشئ الكون بدون مكون.

فديانات العائلة الإبراهيمة تقوم على التفسير الغائي للكون, وليس على التفسير الآلي، والإنسان في صلب هذه الغاية.

فهو مكرم يرجع إلى أصل واحد مخاطب من قبل الباري جل وعلا مسخر له الكون.

إن فلسفة التعليل عند توما الإكويني ( (Tommaso d’Aquinoالتي تقوم على أن ممكن الوجود مفتقر إلى واجب الوجود، هي نفسها عند ابن سينا والفارابي وموسى بن ميمون، وهي قريبة مما عند بعض قدماء الفلاسفة، ورغم ما تعرضت له تلك البراهين من شغب ونقد فما زالت حسب رأينا صامدة، وبخاصة أنها مؤيِّدةٌ لما جاءت به الرسالات السماوية.

وهو ما نقوم به في منتدى تعزيز السلم حيث نقدم الرواية والرؤية، رواية الإسلام في دعوته للسلام والتسامح اعتماداً على نصوص أكيدة وعلى ممارسات تاريخية رشيدة، وعلى التأويل الصحيح، على عكس الرواية المحرّفة على يد الغلاة الخارجين عن الضبط الديني والضبط العقلي، والذين جعلوا الدين دعوة للعنف ومُشْعِلا للحروب ومصدرا للكراهية والبغضاء وطاقة تدمير وتفجير بدل أن يكون طاقة إيجابية في حياة الناس، طاقة سلام تحييهم ولا تقتلهم.

ولهذا فنحن نرى أن الرجوع إلى النصوص والتأويل المناسب والمقارب هو الذي سيسمح لنا بالرد على مروجي الكراهية والإسلامفوبيا وعلى الإرهابيين على حد سواء.

إن الديانات المنتمية للعائلة الإبراهيمية في نصوصها الكثير من الأسس التي تدعو إلى التعايش والتي لا تخطئها العين، وأن تعاليمها الأساسية حول السلام والتعايش وحول عالمية الكرامة الإنسانية، واحترام الاختلافات الدينية هي مضادات قوية للتطرف الديني العنيف.

وعلى تأكيدها تتضافر نصوص جميع الديانات السماوية، ونقتبس هنا من نصوصنا المقدسة هذه التوجيهات والأوامر الربانية:

– (فكما أن الله رحيم فيجب أن تكون أنت رحيماً, كما أنّ الله رؤوف فيجب أن تكون أنت أيضاً رؤوفاً) (مزمور 17:145). وغيره من النصوص المبثوثة.

– وكذلك نجد في الانجيل، ففي الصلاة الربانية: (اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا) (متى 6:12) وجاء في لوقا: (ومتى وقفتم تصلون فاغفروا إن كان لكم على أحد شيئٌ… إلخ).

– وفي القرآن الكريم وردت معاني العفو والغفران والصفح في آيات كثيرة: )خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ([الأعراف: 199]، )ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور(  (سورة الشورى: 43)،) وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم( [التغابن:14]، وفي الأحاديث النبوية الشريفة نصوص كثيرة في هذا المعنى.

أيها السادة والسيدات،

تلك هي المشتركات لبناء السلام والمحبة علينا التذكير بها وتقديمها للناس؛ إن إعلان مراكش الذي مثّل خطوة وانطلاقة عملية في التسامح يجب أن يظل حيا ليس في ذاكرتنا فقط وإنما في ممارساتنا، ولهذا فإنّنا نتطلع إلى ترسيخ نموذج مبادرتكم “قافلة السلام” ليصبح آلية عملية ناجعة للتعاون والتعايش، وتقليدا ينبغي العمل على تعميمه والاستفادة منه.

وبعد مقامكم في المملكة المغربية، سيكون من المناسب أن يكون لقاؤنا القادم في واشنطن لإظهار تضامننا، وتوسيع دائرة هذه القافلة لتتحوّل إلى صيغة تعاون ومجال مشترك للتفكير والعمل من أجل السلام والوئام ويمثل نوعاً من حلف الفضول، ينمو من أجل خير الإنسانية.

 إن تفعيل هذه المبادئ وتعزيز هذه المبادرات ضرورة ملحة لمواجهة الواقع العنيد والتحديات المختلفة على المستويات الفكرية والعملية؛ ذلك أن طموحنا في تعزيز التفاهم وبناء الصور الإيجابية بدل النمطية، يواجه بأوضاع من القتل والتدمير لا يقبلها عقل ولا يسوغها دين، تلك هي الممارسات الخاطئة المعززة للصورة النمطية والمشوهة.

وكما قلت في لقائنا في أبوظبي إن أيا من المجموعات لا تهدف إلى دعوة المجموعة الأخرى لاعتناق ديانتها، ولا تبشر بملتها، وإن كنت لا أستبعد أن البعض منا يتمنَّى عن حسن نية أن يشرك الآخرين فيما يعتقد أنه مفتاح النجاة في عالم الآخرة؛ ولكنَّ الذي يهدف إليه ويدعو إليه هو التعايش السعيد في عالم الدنيا الذي نعيش فيه اليوم، ونعتقد أن دياناتنا تدعونا إليه.

إن الديانات المنتمية إلى العائلة الإبراهيمية عندما تتصالح وتتصافح فإن من شأن ذلك أن يعزز روح السلام في العالم ويسهِّل الولوج إلى طريق العدالة والخير ومعالجة المظالم والمظلوميات.

ولا يعني لقاء هذه الديانات المنتمية إلى العائلة الإبراهيمية إقصاءً ولا تكتُّلا ضد الديانات والمذاهب الأخرى، وإنما يعني تعزيز المشتركات في دائرة العلاقات الخاصة التي تتواصل مع دائرة الإنسانية مع الديانات والفلسفات الكونية التي تعلي من شأن الحياة وحقوق الإنسان.

أتمنّى لكم مقاماً طيباً في الرباط واجتماعات موفَّقة.

للتأمل:إعلان مراكش للحقوق الدينية (والاسلام والشيخ بن بية)

في مدينة مراكش المغربية، حيث كنت الأسبوع المنصرم، التأم مؤتمر «إعلان مراكش حول حقوق الأقليات غير المسلمة في ديار الإسلام» الذي نظمه منتدى تعزيز السلم (مقره أبوظبي)، ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، برعاية الملك محمد السادس، وبحضور مئات الشخصيات الدينية والفكرية والسياسية من مختلف الديانات والقارات، في ما شكل حدثاً استثنائياً في مرحلة حرجة وحساسة من تاريخ العلاقات الإسلامية الغربية.
كان السياق الزمني الذي التأم فيه المؤتمر واضحاً، وهو أحداث الإرهاب الدموي الذي دمر دولاً بكاملها، وقوض الاستقرار والسكينة في بلدان أخرى، وضرب في قلب أوروبا، وكان السياق المكاني جلياً وهو مدينة مراكش العريقة التي ترمز لتجربة غنية من التعايش السلمي والتعاون بين الديانات والثقافات، في بلاد قدمت في السنوات الأخيرة تجربة ناجحة في تدبير الحقل الديني، ومواجهة التطرف والإرهاب، وتعزيز الحريات العامة.
وقد وضعت الوثيقة الفكرية للمؤتمر التي تقدم بها العلامة الشيخ «عبد الله بن بية» الإطار النظري والشرعي لمقاربة جديدة لبناء علاقات المسلمين بغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، في إطار مفهوم المواطنة التعاقديّة داخل الدول، ووفق مقاييس التعاون والتضامن والسلم في إطار العلاقات الدولية.
الشيخ بن بية الذي يمكن أن نطلق عليه دون تردد «فَقِيه السلم»، استند في ورقته التأطيرية إلى قراءة ثاقبة وإبداعية لصحيفة المدينة التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة لتنظيم مجتمع المدينة متعدد الديانات والأعراق والقبائل، بحسب اعتبارات التعاون والائتلاف والمودة، بحيث يشكل اليهود مع المسلمين أمة واحدة لا تمييز بين أفرادها على أي أساس ديني أو عرقي. ولقد بين الشيخ بن بية أن هذه الصحيفة ليست منسوخة، بل تعبر عن مقاصد الشريعة الثابتة في الأخوة الإنسانية والعدل الكوني والنزوع السلمي في علاقة البشر في ما بينهم، انسياقاً مع كليات الشريعة في الرحمة والعدل والحكمة والمصلحة.
وبالاستناد إلى هذه الرؤية الأصيلة التي طبعت أعمال المؤتمر، ظهر إجماع واسع على أن الكثير من اعتبارات التراث الفقهي في أحكام الجهاد والجزية والذمة، تأثرت بمناخ الحروب الدينية التي كانت السمة الغالبة للعلاقات الدولية في العصور الوسطى، ولم تكن إجمالاً من ثوابت الشرع، بل هي من محددات ومعايير النظام العالمي القائم أوانها، وقد تقبَّلها المسلمون مكرهين، وتعاملوا معها بواقعية، وحاولوا في أحيان كثيرة التأثير فيها إيجابياً بما يحقق قيم الإسلام في التسامح والسلم.
وقد اختتم المؤتمر بإعلان مراكش حول حقوق الأقليات الدينية الذي اعتبره أحد كبار رجال الدين المسيحيين الحاضرين حدثاً لا يقل في الأهمية عن الإعلانات العالمية الكبرى المكرسة لحقوق الإنسان والسلم الدولي، بما حمله من مبادئ صريحة ضامنة لحريات الاعتقاد والاختلاف الديني وللحقوق الدينية، ضمن مفهوم مكين وجلي للمواطنة المتساوية.
عندما كنت أتابع إعلان مراكش الذي قرأه وزير الأوقاف المغربي، المؤرخ والمفكر والروائي المعروف «أحمد التوفيق»، كان الكاتب اليهودي الفرنسي «اريك زمور» قد كتب في صحيفة «لفيغارو» أن «الإرهاب الجهادي» الذي ذاق العالم مآسيه على يد الجماعات الداعشية ليس سوى تعبير طبيعي عن النظرة الإسلامية الجوهرية للمغاير المختلف التي تقوم على النزوع العدائي، معتبراً أن الفرق بين الإسلام والديانتين اليهودية والمسيحية هو أنه دين قانون وتشريع لا مكان فيه للأخلاق الذاتية، ولا معنى فيه لمفهوم «الميثاق» مع الإنسان الذي هو الخلفية العميقة للنزعة الإنسانية الحديثة! لا شك أن أوراق المؤتمر ووثيقته التأصيلية قد أظهرت زيف هذا التصور السائد على نطاق واسع في الأدبيات الغربية هذه الأيام، بإبرازها الطابع الإنساني الكوني لرسالة الإسلام التي قامت «سلماً على العالم» ورحمة للعالمين.
لقد انطلق مشروع «فقه السلم» من أبوظبي قبل ثلاث سنوات برعاية كريمة من قيادة الإمارات العربية المتحدة، وأفضى اليوم بعد العديد من المبادرات الفكرية والسياسية، إلى بلورة خط تجديد الدين وإصلاح شأنه المؤسسي، وإعادة بناء علاقات الأمة بالعالم في مواجهة حركية التطرف الديني والإرهاب التي تفاقم خطرها في الآونة الأخيرة.
ما أبلغه إعلان مراكش الأخير هو أن الدين دعامة للسلم، وركن من أركان الاستقرار الاجتماعي، وهو يحتاج في وظائفه الروحية والقيمية إلى دول متماسكة ومجتمعات متعاضدة، بدل تحويله إلى معول لهدم المدنية، وترويع الناس، وتهديد سلم العالم وأمنه.
د.السيد ولد أباه

إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي

 

 

أكد المؤتمرون في إعلان مراكش، الذي تلاه السيد أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، يوم الأربعاء 16 ربيع الآخر 1437(27 يناير 2016) على ضرورة تأسيس تيار مجتمعي عريض لإنصاف الأقليات الدينية في المجتمعات المسلمة ونشر الوعي بحقوقها، وتهيئ التربة الفكرية والثقافية والتربوية والإعلامية الحاضنة لهذا التيار، وعدم توظيف الدين في تبرير أي نيل من حقوق الأقليات الدينية في البلدان الإسلامية.

ودعا الإعلان -الذي اعتبر “صحيفة المدينة “الأساس المرجعي المبدئي لضمان حقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي- دعا المؤسسات العلمية والمرجعيات الدينية للقيام بمراجعات شجاعة ومسؤولة للمناهج الدراسية للتصدي لأخلاق الثقافة المأزومة، التي تولد التطرف والعدوانية، وتغذي الحروب والفتن، وفيما يلي نص هذا الإعلان التاريخي

إعلان مراكش

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين

اعتبارا للأوضاع المتردية التي تعيشها مناطق مختلفة من العالم الإسلامي بسبب اللجوء إلى العنف والسلاح لحسم الخلافات وفرض الآراء والاختيارات.

ولكون هذه الأوضاع أدت إلى ضعف أو تلاشي السلطة المركزية في بعض المناطق وشكلت فرصة سانحة لاستقواء مجموعات إجرامية ليست لها أي شرعية علمية ولا سياسية؛ أعطت لنفسها حق إصدار أحكام تنسبها إلى الإسلام، وتطبيق مفاهيم أخرجتها عن سياقاتها ومقاصدها، وتوسلت بها إلى ممارسات اكتوت بنارها مختلف شرائح المجتمع.

 واعتبارا لما تعانيه الأقليات الدينية بسبب هذه الأوضاع من تقتيل واستعباد وتهجير وترويع وامتهان للكرامة مع أنها عاشت في كنف المسلمين وذمتهم قرونا، في جو من التسامح والتعارف والتآخي، سجل التاريخ تفاصيله وأقر به المنصفون من مؤرخي الأمم والحضارات.

ولكون هذه الجرائم ترتكب باسم الإسلام وشريعته؛ افتراء على الباري جل وعلا، وعلى رسول الرحمة عليه الصلاة والسلام، وافتياتا على أكثر من مليار من البشر؛ تعرض دينهم وسمعتهم للوصم والتشويه، وأصبحوا عرضة لسهام الاشمئزاز والنفور والكراهية؛ مع أنهم لم ينجوا من هذه الجرائم ولم يسلموا من ويلاتها.

ونهوضا بواجب البيان الذي طوق الله به أعناق العلماء وخاصة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة الإسلامية: إحياء للنفوس المعصومة وحفظا للأعراض المصونة، وحرصا على تحقيق السلم بين بني الإنسان، ومطالبة للنفس بأداء الحقوق، واسترجاعا للصورة الحقيقية لديننا الحنيف، ونصحا وتحذيرا لعموم الأمة من انعكاسات هذه الجرائم المتدثرة بلبوس الدين على وحدتها واستقرارها ومصالحها الكبرى في المدى القريب والبعيد.

وفي ذكرى مرور ما يزيد على ألف وأربعمائة (1400) سنة على صدور “صحيفة المدينة”.

وفي مدينة مراكش بالمملكة المغربية الشريفة، وتحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس ملك المغرب؛ هذا البلد الذي كان -ولا يزال-، قيادة وشعبا، نموذجا ملهما في رعاية حقوق الأقليات الدينية وراعيا لرصيد تاريخي غني بالتسامح والتعايش والتمازج بين المسلمين وغيرهم ممن اشتركوا معهم في الانتماء إلى الوطن أو ممن لجأوا إليهم خوفا من اضطهاد ديني أو جور اجتماعي،

وبتنظيم مشترك بين وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية ومنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة (الإمارات العربية المتحدة) أيام.14 إلى 16 ربيع الثاني 1437 هـ/ 25 إلى 27 يناير 2016م..

اجتمع حوالي ثلاثمائة (300) شخصية من علماء المسلمين ومفكريهم ووزرائهم ومفتيهم على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم من أكثر من مائة وعشرين (120) بلدا بحضور إخوانهم من ممثلي الأديان المعنية بالموضوع وغيرها، داخل العالم الإسلامي وخارجه، وممثلي الهيآت والمنظمات الإسلامية والدولية؛ إيمانا منهم جميعا بنبل المسعى وخطورة القضية.

وبعد تداول الرأي ومناقشة الرؤى والأفكار فإن العلماء والمفكرين المسلمين المشاركين في هذا المؤتمر يعلنون -مؤازرين بإخوانهم من بقية الأديان-ما يلي:

“إعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي”

أولا: في التذكير بالمبادئ الكلية والقيم الجامعة التي جاء بها الإسلام

1- إن البشر جميعا على اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ومعتقداتهم كرمهم الله عز وجل بنفخة من روحه في أبيهم آدم عليه السلام: (ولقد كرمنا بني آدم – الإسراء: 70).

2- أن تكريم الإنسان اقتضى منحه حرية الاختيار: (لا إكراه في الدين- البقرة: 256)، (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا؛ أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟! – يونس 99)

3- إن البشر -بغض النظر عن كل الفوارق الطبيعية والاجتماعية والفكرية بينهم- إخوة في الإنسانية: (ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا- الحجرات: 13).

4- إن الله عز وجل أقام السماوات والأرض على العدل، وجعله معيار التعامل بين البشر جميعا منعا للكراهية والحقد، ورغّب في الإحسان جلبا للمحبة والمودة (إن الله يامر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى-النحل:90)

5- إن السلم عنوان دين الإسلام، وأعلى مقصد من مقاصد الشريعة في الاجتماع البشري: (ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة-البقرة:208)، (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله- الأنفال-61)

6- إن الله عز وجل أرسل سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين- سورة الأنبياء:107)

 7- إن الإسلام يدعو إلى البِرّ بالآخرين وإيثارهم على النفس دون تفريق بين الموافق والمخالف في المعتقد (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم. إن الله يحب المقسطين- الممتحنة:08).

 8- إن الشريعة الإسلامية حريصة على الوفاء بالعقود والعهود والمواثيق التي تضمن السلم والتعايش بين بني البشر (ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود- المائدة: 01) (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم-النحل:91). “…أيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة”(أخرجه الإمام مسلم في صحيحه).

ثانيا: في اعتبار “صحيفة المدينة ” الأساس المرجعي المبدئي لضمان حقوق الأقليات الدينية في العالم الإسلامي

9- إن “صحيفة المدينة” التي أقرها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لتكون دستورا لمجتمع متعدد الأعراق والديانات كانت تجسيدا للكليات القرآنية والقيم الإسلامية الكبرى.

10- إن هذه الوثيقة ثابتة عند أئمة الأمة الأعلام.

11- إن تفرد “صحيفة المدينة” عما قبلها وما بعدها في تاريخ الإسلام والتاريخ الإنساني نابع من:

أ- نظرتها الكونية للإنسان باعتباره كائنا مكرما؛ فهي لا تتحدث عن أقلية وأكثرية بل تشير إلى مكونات مختلفة لأمة واحدة (أي عن مواطنين).

ب- كونها لم تترتب عن حروب وصراعات؛ بل هي نتيجة عقد بين جماعات متساكنة ومتسالمة ابتداء.

12- إن هذه الوثيقة لا تخالف نصا شرعيا وليست منسوخة؛ لأن مضامينها تجسيد للمقاصد العليا للشريعة والقيم الكبرى للدين؛ فكل بند منها إما رحمة أو حكمة أو عدل أو مصلحة للجميع.

13- إن السياق الحضاري المعاصر يرشح ” وثيقة المدينة” لتقدم للمسلمين الأساس المرجعي المبدئي للمواطنة؛ إنها صيغة مواطنة تعاقدية ودستور عادل لمجتمع تعددي أعراقا وديانة ولغة، متضامن، يتمتع أفراده بنفس الحقوق، ويتحملون نفس الواجبات، وينتمون -برغم اختلافهم-  إلى أمة واحدة.

14- إن مرجعية هذه الوثيقة لعصرنا وزماننا لا تعني أن أنظمة أخرى كانت غير عادلة في سياقاتها الزمنية.

15- إن “صحيفة المدينة” تضمنت بنودها كثيرا من مبادئ المواطنة التعاقدية كحرية التدين وحرية التنقل والتملك ومبدأ التكافل العام ومبدأ الدفاع المشترك، ومبدأ العدالة والمساواة أمام القانون (  …وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين؛ لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم؛ فإنه لا يوتغ [يهلك] إلا نفسه وأهل بيته…)، (وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.وأنه لا يأثم أمرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم.)

16- إن مقاصد “صحيفة المدينة” هي إطار مناسب للدساتير الوطنية في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، وينسجم معها ميثاق الأمم المتحدة ولواحقه كإعلان حقوق الإنسان مع مراعاة النظام العام.

ثالثا: في تصحيح المفاهيموبيان الأسس المنهجية للموقف الشرعي من حقوق الأقليات

17- إن الموقف الشرعي من هذا الموضوع -كما في غيره- مرده إلى مجموعة من الأسس المنهجية التي يسبب جهلها أو تجاهلها الخلط والالتباس وتشويه الحقائق؛ ومنها:

أ- اعتبار كليات الشريعة كالحكمة والرحمة والعدل والمصلحة، وتحكيم النظر الكلي الذي يربط النصوص الشرعية بعضها ببعض ولا يغفل النصوص الجزئية التي يتشكل الكلي من مجموعها.

ب- اعتبار الجهات المخولة بالاجتهاد للسياق الذي نزلت فيه الأحكام الشرعية الجزئية، وللسياقات المعاصرة، وملاحظة ما بينهما من تماثل وتغاير من أجل تكييف تنزيل الأحكام، ووضع كل منها في موضعه اللائق به، بحيث لا تنقلب المفاهيم إلى ضدها، ولا تختل مقاصدها.

ج-اعتبار الارتباط بين خطاب التكليف وخطاب الوضع: أي النظر إلى الأحكام التكليفية موصولة بالبيئة المادية والإنسانية لممارسة التكاليف. ولذلك أصل فقهاء الإسلام قاعدة ” لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان”.

د- اعتبار الارتباط بين الأوامر والنواهي ومنظومة المصالح والمفاسد: لأنه ما من أمر ولا نهي في الشريعة إلا وهو قاصد إلى جلب مصلحة أو درء مفسدة.

18- إن من الاجتهادات الفقهية في العلاقة مع الأقليات الدينية ما كان متأثرا بممارسات تاريخية في سياق واقع مختلف عن الواقع الراهن الذي سمته البارزة غلبة ثقافة الصراعات والحروب.

19- إننا ” كلما تأملنا مختلف الأزمات التي تهدد الإنسانية ازددنا اقتناعا بضرورة التعاون بين جميع أهل الأديان وحتميته واستعجاليته. وهو التعاون على كلمة سواء قائمة لا على مجرد التسامح والاحترام بل على الالتزام بالحقوق والحريات التي لا بد أن يكفلها القانون ويضبطها على صعيد كل بلد. غير أن الأمر لا يكفي فيه مجرد التنصيص على قواعد التعامل؛ بل يقتضي قبل كل شيء التحلي بالسلوك الحضاري الذي يقصي كل أنواع الإكراه والتعصب والاستعلاء”

وبناء على ما سبق؛ فإن المؤتمرين يدعون:

أ- علماء ومفكري المسلمين أن ينظروا لتأصيل مبدأ المواطنة الذي يستوعب مختلف الانتمـاءات، بالفهم الصحيح والتقويم السليم للموروث الفقهي والممارسات التاريخية وباستيعاب المتغيرات التي حدثت في العالم.

ب- المؤسسات العلمية والمرجعيات الدينية إلى القيام بمراجعات شجاعة ومسؤولة للمناهج الدراسية للتصدي لأخلال الثقافة المأزومة التي تولد التطرف والعدوانية، وتغذي الحروب والفتن، وتمزق وحدة المجتمعات.

ج-  الساسة وصناع القرار إلى اتخاذ التدابير السياسية والقانونية اللازمة لتحقيق المواطنة التعاقدية، وإلى دعم الصيغ والمبادرات الهادفة إلى توطيد أواصر التفاهم والتعايش بين الطوائف الدينية في الديار الإسلامية.

د- المثقفين والمبدعين وهيآت المجتمع المدني إلى تأسيس تيار مجتمعي عريض لإنصاف الأقليات الدينية في المجتمعات المسلمة ونشر الوعي بحقوقها، وتهييئ التربة الفكرية والثقافية والتربوية والإعلامية الحاضنة لهذا التيار.

هـ- مختلف الطوائف الدينية التي يجمعها نسيج وطني واحد إلى معالجة صدمات الذاكرة الناشئة من التركيز على وقائع انتقائية متبادلة، ونسيان قرون من العيش المشترك على أرض واحدة، وإلى إعادة بناء الماضي بإحياء تراث العيش المشترك، ومد جسور الثقة بعيدا عن الجور والإقصاء والعنف.

و- ممثلي مختلف الملل والديانات والطوائف إلى التصدي لكافة أشكال ازدراء الأديان وإهانة المقدسات وكل خطابات التحريض على الكراهية والعنصرية.

وختاما يؤكد المؤتمرون:

” لا يجوز توظيف الدين في تبرير أي نيل من حقوق الأقليات الدينية في البلدان الإسلامية”

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

وحرر بمدينة مراكش بالمملكة المغربية يوم 16 ربيع الثاني 1437 هـ الموافق ل27 يناير 2016م

رئيس مجلس الفتوى الموريتاني يحاضر عن كتاب مشاهد من المقاصد للعلامة عبدالله بن بيه

الأخبار (نواكشوط)

نظم المركز الموريتاني للبحوث والدراسات الإنسانية مساء الأحد بنواكشوط، ندوة لنقاش كتاب “مشاهد من المقاصد” للعلامة عبد الله بن بيه.

 

وقد حاضر في الندوة رئيس مجلس الفتوى والمظالم العلامة محمد المختار ولد امباله، فيما أدار الجلسة الباحث ددو ولد عبد الله.

 

وقد تحدث في بداية الندوة رئيس المركز محمد ولد سيد أحمد فال (بوياتي) عن مدرسة العلامة بين بيه، مبينا أنها تعد أهم المدارس الرائدة التي باتت تطرح أسئلة النهضة في الفكر الإسلامي الحديث.

 

 

ونبه إلى أن بن بيه قارب في مختلف أعماله مسالة التجديد والترشيد في الفكر الإسلامي انطلقا من الأصول الثابت للدين وبناء على روح الإنسانية التي لا تحيد عن الوسطية والاعتدال فهما وتفسيرا وتأصيلا وممارسة.

 

وأشار إلى أن مركزه مستمر في متابعة “المشروع التجديدي” للعلامة بن بيه، إضافة إلى العمل على إطلاق قراءات في مشاريع فكرية مغاربية وعربية أخرى.

 

بدوره قدم العلامة محمد المختار ولد امباله، عرضا تناوله في بدايتها شخصية العلامة الشيخ عبد الله بن بيه، لافتا إلى أنه يعد عالما بمناهج السلف قادرا على تنزيلها على الوقائع، بالإضافة لكونه سياسي واع لإشكالات، داعية سلام، وصوفي نقي وإمام في اللغة العربية قادر على توظيفها.

 

ثم تناول في محور آخر من محاضرته مقومات فكر العلامة بين بيه، لافتا إلى أنها ترتكز على جودة الفهم ومعرفة العصر وساعده في ذلك إتقان اللغتين العربية والفرنسية، بالإضافة للقدرة على استخلاص النتائج وحسن القراءة للنصوص وتنوع المعارف والقدرة عل معالجة الواقع.

 

وبخصوص كتاب “مشاهد من المقاصد” قال إن حجمه غير كبير لكن فائدته كبيرة، مضيفا أن المؤلف طرق في الكتاب الكثير من الأبواب وتحدث فيه عن أصناف المقاصد وبين وفصل وشرح.

نص كلمة العلامة عبدالله بن بيه حول الأشكال الجديدة للإتجار بالبشر – نيويورك-18-09-2017

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين  والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم وعلى إخوانه من النبيين.

السيدات والسادة،

نجتمع اليوم لمناقشة قضية من أهم القضايا في عصرنا، قضية ربما لا تحتاج للمزيد من المناقشة وإنما للمزيد من العمل.

لقد تمكن البشر في العصر الحديث من وضع الرق والاستعباد في شكله القديم وراء ظهورهم لكنهم لازالوا في حاجة لتكثيف الجهود من أجل مكافحة أشكاله الجديدة.

لقد شهدنا في القرن العشرين تَشكُّل أشكالٍ وأنماطٍ جديدة من العبودية والاتجار بالبشر، لقد انتقلنا من الاستعباد بسبب العرق والدين، إلى استعباد اقتصادي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية بسبب حاجة الدول المتحاربة إلى إعادة البناء فتم استجلاب العمال ليقوموا بتلك الأعمال الشاقة تحت ظروف صعبة، وتم ترسيخ أنظمة اقتصادية استهلاكية لا تراعي في أحيان عديدة القيم الأساسية لكرامة الإنسان وحقوقه. يضاف إلى ذلك تطور وتعقيد شبكات بيع الأعضاء وتهريبها، وظاهرة الاستغلال الجنسي وتشغيل الأطفال لغير ذلك من الممارسات الأخرى التي تختلف وسائلها وتشترك جميعها في منافاتها لكرامة للإنسان.

إنّ التقدّم العلمي لابد أن يسنده ويشد عضده دائماً تقدم أخلاقي، فالعقل البشري الذي اخترع الأدوية هو نفسه الذي اخترع القنبلة النووية. وهو نفسه الذي سهل للمهربين والمتاجرين بالبشر القيام بأفعالهم الدنيئة المجرّمة. إننا ندعو إلى استخدام التكنولوجيا في خدمة الخير والمساواة وقيم الحب والسلام.

الدين كالتكنولوجيا هو أيضاً طاقة هائلة، هذه الطاقة يمكن أن تبني وتعمّر لو استغلها الخيّرون وتولّى تأويلها الراسخون، ويمكن أن تهدم وتدّمر لو استخدمها الشعبويون والمتطرفون، وهنا سأذكر بمباديء موجودة في كل الأديان وخصوصاً لدى العائلة الإبراهيمية، سأذكر بها من خلال الدين الإسلامي الذي يقوم موقفه على ثلاث مباديء:

١- التكريم: كما في الآية الكريمة: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)*.

٢- المساواة: كما في الحديث الشريف: (ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم).

٣- الحرية: كما عبر عن ذلك الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بقوله: ”متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً“. قالها لواليه في مصر عندما أساء لمواطن قبطي وهذه الكلمة تماثلها أول فقرة من إعلان حقوق الإنسان والتي تقول: ” يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق“.

إذاً الأصل في الإنسان التكريم والمساواة والحرية، قيَمٌ تشمل كل البشر بدون استثناء للون ولا عرق ولا دين ولا لغة.

إنّ الممارسات التاريخية والتأويلات البشرية والسياقات الزمنية تؤثر بشكل وأو بآخر في تعامل الإنسان مع هذه المباديء، فعلى رجال الدين وعلماء اللاهوت أن يكونوا في مقدمة المدافعين عن كرامة الإنسان ومعارضين للإتجار بالبشر، وهنا لا بد أن نعترف بأن الأديان تأخرت في تحالفها في كثير من القضايا ومن بينها بدون شك قضية الاتجار بالبشر، لقد كان البيان الذي وقعه البابا فرانسيس ومجموعة من القيادات الدينية في الفاتيكان في ديسمبر سنة ٢٠١٤م، جهداً مهماً في اتجاه التحالف من أجل هذه القضية الهامة، وقد اختتم البيان المختصر بهذه الفقرة الواضحة: ( نتعهد هنا اليوم بأن نعمل معاً لنقوم بكل ما في وسعنا، في داخل مجتمعاتنا وخارجها، من أجل حرية كل المستعبدين والمتعرضين للإتّجار ليكون مستقبلهم أفضل).

السيدات والسادة،

للظاهرة التي نتحدث عنها اليوم أسباب كثيرة، كالبطالة والفقر والجهل، إلا أنّ هذه الممارسات تشيع وتبلغ مداها في فترات الحروب التي تسبب الهجرات وتشتت الأسر وتجعل الفئات الأكثر هشاشة في

وضع يسمح باستغلالهم وانتهاك حقوقهم  ويحولهم إلى بضاعة رخيصة وارواحٍ مهانة، حيث  تساء معاملة النساء ويجند الأطفال ويسخرون في الأعمال الشاقة بلا أجور أو بأجور زهيدة،  لهذا فإننا في منتدى تعزيز السلم نعتبر عملنا في محاولة إيقاف الحروب ومسبباتها إجراء وقائياً يمكن أن يساهم في تقليل هذه الظاهرة التي تقتات من أوجاع المستضعفين. حيث تزدهر عصابات الجريمة العابرة لحدود الدول دافعة بالضحايا إلى أتون الاستعباد وأحياناً إلى المجهول.

وغني عن القول أن الطريق الإنساني نحو العدل والمساواة للجميع هو طريق لازال طويلاً، لكن المهم هو أن نواصل السير فيه ونؤمن بأن كل خطوة للأمام وكل عمل ولو كان ضئيلاً هو نجاح وأمل يجب أن يحتفى بها. فلقد حصل تقدم ملموس في التشريعات التي أصبحت كثير من الدول ومنها الدول الإسلامية، تسنّها لمكافحة الاتجار بالبشر وتبذل جهوداً في هذا الصدد، ويمكن الإشارة هنا إلى القانون الاتحادي الذي أصدرته دولة الإمارات العربية المتحدة سنة ٢٠٠٦م في شأن مكافحة الإتجار بالبشر دولياً ومحلياً، ومع ذلك فلا بد مزيد من الجهد وخاصة للتنسيق في كثير من مناطق العالم للقضاء على هذه الظاهرة.

وختاماً فنحن نثمن اهتمام منتدى دافوس وعلى رأسه سعادة المحترم كلاوس شواب بإشراك رجال الدين في قضايا الحياة ومشكلات الإنسان، فالإيمان يجب ألا يفهم بصفته مختزلاً في البحث عن طريق النجاة في العالم الآخر ولكنه يمكن ويجب أن يكون عاملاً أساسياً في هذا العالم بما يملك من قيم الخير والتضامن والعطف والرحمة والحب وبذل المعروف وبخاصة للمستضعفين.

وتقبلوا تحياتي وتمنياتي بالتوفيق.

عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

رئيس منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة