ارشيف ل ‘الحوارات’ القسم

لا نتـفق مع الغرب شـرعاً .. فلماذا لا نتفق عقلاً؟؟؟

 

حاوره: د. عبدالعزيز النهاري                   

23/9/1425                           

6/11/2004


الحديث الى معالي الشيخ الدكتور عبدالله بن بيه.. يجذبك الى عالم واسع من الثقافة .. والعلم .. والرؤية الناصعة للاسلام كعقيدة .. وفكر وسلوك .. ولقد شرفت كثيرا وانا أجلس الى هذه الشخصية الاسلامية العميقة .. واستمع الى العالم والمفكر الإسلامي .. والوزير الموريتاني الأسبق للعدل .. وأستاذ الثقافة الإسلامية وأصول الدين بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة ..

كان موعدي مع معاليه عقب عودته من مؤتمر لحوار الأديان عقد في برشلونة بحكم منصبه كنائب لرئيس المجلس الأعلى للعلماء المسلمين .. والذي مقره لندن .. وكان حوار الأديان هو بداية لقائي هذا بفضيلته.


*معالي الدكتور .. هل حان الان وقت الحوار بين المسلمين او بين الاسلام والديانات الاخرى ؟

** يبدو لي ان الحوار حان وقته منذ زمن طويل.. ووقت هذا الحوار لاينقطع.. فالحوار وقت اداء..وليس وقت قضاء.. ففي الشريعة نقول.. وقت اداء.. ووقت قضاء..فنحن عندما نصلي الصلاة في وقتها.. فهذا وقت اداء.. واذا صلينا في غير وقتها فهذا قضاء.. لكن وقت الحوار وقت دائم.. لان الله سبحانه وتعالى امر بالحوار .. ((وجادلهم بالتي هي احسن )) لان الحوار قيمة انسانية.. ولهذا يقول افلاطون كما ينقل ( وايت هد ) في كتابه( مغامرات الافكار) عن افلاطون انه قال.. ان الحوار قيمة إنسانية لتعريف الإنسان على البديل للحرب.. وان أي حضارة تستعمل القوة تعتبر حضارة فاشلة.. لان الانسان اعطيت له قيمة الحوار والاقناع..و من شان ذلك ان يعرفه على بدائل للحروب.. بدائل للمآسي التي تنسب للإنسانية ..


* هل يعني هذا ان يكون الحوار حالة دائمة ومستمرة .. وغير مرتبطة بزمن معين ؟

** نعم .. الحوار هو قيمة دائمة ..وبالتالي فهو لايرتبط بزمن دون زمن.. حوار في السلام.. حوار في التواصل الحضاري.. حوار في التعارف (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) .. فالحوار هو كما قلت قيمة دائمة .. طبعا هناك وقت يصبح الحوار فيه اشد الحاحا واشد الزامية اذا صح التعبير.. خصوصا في وقت الأزمات .. ولهذا فانا اعتبر ان الحوار في هذه الفترة واجب.. وانه يجب الا نيأس .. وان لا نقنط .. فالمؤمن لا ييأس.. والله سبحانه وتعالى يقول في شأن سيدنا ابرهيم.. ( من يقنط من رحمة ربه الا الضالون) ويقول عن سيدنا يعقوب( ولا تيأسوا من روح الله انه لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون) فاليأس والقنوط ليس من شان المؤمنين .. طبعا قد تعترض المؤمن عقبات ..وتقف في وجهه صعوبات.. فيجب عليه ان يحاول دائما التغلب على هذه الصعوبات.. لان الحوار هو نوع من الجهاد .. ونوع من الصراع.. الحوار ليس نزهة.. كما ان القتال والحروب ليست نزهة ايضا.. ويجب علينا ان نفهم الحوار على هذا الأساس .. وان نحاول دائما ان نستمر فيه..لاقناع الاخر ..ونقيم راينا بالحجة والبرهان.. الاسلام ينتصر بالبرهان لا بالسيف والسنان كما يقول القاضي ابو مكرم العربي الأ أندلسي


حوار ما بعد سبتمبر 

* طالما ان الحوار هو شيء مستمر ولن ينقطع.. كيف ينظر الغرب الان الى حوارنا معهم ..خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما يحدث الان من اعمال ارهابية.. يقوم بها المسلمون ؟

** الحوار ينقطع ..لكنه لاينبغي ان يتوقف.. والا سيكون هناك نوع من القطيعة بيننا وبين الغرب وفي ذلك نوع من عدم الفهم.. أو ( الفهم الاحادي) اذا صح التعبير.. ولهذا فالغرب ينظر الينا نظرة سلبية .. يرى فيها ان المسلمين هم مشاغبو الحضارة المعاصرة..وبالتالي فان موقف بعض الغربيين منهم هو موقف سلبي.. وفي المقابل فان المسلمين ايضا ينظرون الى الغربيين كأناس متوحشين .. لايعترفون بغير منطق القوة.. ومنطق الجبروت والقهر.. وبالتالي هذا المنطق يهيج عواطف المسلمين.. ولان الوضع وضع في غاية الصعوبة في بعض الاحيان.. وكما قلت اخيرا في برشلونة.. انه من الصعب على البريء ان يعتذر.. وهذا واقعنا ..نحن نقول ديننا براء من كل الاعمال العنيفة التي ليست مبررة.. وليست شرعية ونحن براء منها.. حتى ولو جاءت من طائفة تنتمي الى هذا الدين و قد تستنجد بالدين .. لكن ذلك لايعنى ان الذي تعمله هو من صلب الدين .. ولكنه استنجاد لتقوم باعمال خارج حدود الشرعية والقانون.. و هذا يجب ان لا يعمم على المسلمين.. لذلك فانه لايجب أن يفرض علينا جميعا ان نعتذر ونحن براء.من تلك الأعمال ..


النظرة السلبية 

* اذن كيف نعدل هذه النظرة السلبية من الغرب نحونا كمسلمين ؟ 

**بالامكان ان نعدل من هذه النظرة السلبية للغرب .. بكثير من الصبر وكثير من المثابرة.. وكثير من المنطق.. وكثير من الشجاعة ايضا ..وان نحاول ان نجد اطرافا من الغرب لها هذا التعقل.. لنضع اليد في اليد.. سواء على مستوى المثقفين او مستوى الهيئات البرلمانية.. فقد خبرت هذا بنفسي وذهبت الى البرلمان الاوروبي قبل اشهر والتقيت بالمساعد( رومانو برودي) وهو السفير النمساوي المسؤول عن شؤون ( حوار الديانات والفلسفة) فوجدت عنده تفاهما كبيرا جدا.. لاني انا عضو في المجلس الاوروبي للبحوث والافتاء.. بمقرهم بدبلن بايرلنده.. ورئيس لجنة الحوار.. فحاورتهم في مايسمى بالقيم الاوروبية لان الاوروبيين لديهم كلمات ينطلقون منها .. ويبنون تحليلاتهم عليها.. مثل كلمة النظام العام.. يقول احدهم مثلا .. هذا يخالف النظام العام ..الحجاب في فرنسا يخالف النظام العام.. يخالف القيم الاوروبية.. يخالف القيم العلمانية.. هذه كلمات غامضة .. نحن نحتاج الى حوار على المستوى الفلسفي والفكري ليحدد لنا مضمون هذه الكلمات.. ماهي القيم الاوروبية??.. العباءة الاوروبية لايمكن ان تشمل المسلمين ايضا .. دعونا نتحاور.. ليس فقط من منطلق ديني .. قد نختلف في الدين( لكم دينكم ولي دين) لكن من منطلق العقل.. يقول ديكارت ” ان العقل هو احسن الاشياء توزيعا على بني البشر” .. فدعونا نتحاور عن طريق العقل.. عندنا شاعر قديما قبل قرنين يقول: ((وحكم لها ياصاح من هن حكم ثلاثة هن الشرع والعقل والعرف )) فمرجع الاحكام ثلاثة اشياء..هي الشرع والعقل والعرف ..فنحن مع الغرب قد لانتفق شرعا .. لكن قد نتفق عقلا .. وعرفا .. هنا نحن نريد تكوين ماسميته لهم في مؤتمر حوار الديانات ((espace de tolerance بمعنى (فضاء التسامح) .


فضاء التسامح 

*وما الذي يحتويه هذا الفضاء ؟

** في هذا الفضاء ستجد امرأة محجبة…و امراة كاشفة .. ستجد رجلا بلحية .. وآخر بلا لحية.. ناس على دين..و ناس على غير دين .. هناك مئة وخمسون مليون مسلم على ضفة البحر االمتوسط الجنوبي.. واكثر من هذا العدد ربما على الضفة الاخرى من الاوروبيين.. هم يتحدثون عن التبادل التجاري .. ونحن معهم .. لكن ماهي قواعد هذا التبادل.. لايمكن ان تكون القواعد الا بالتسامح في الاختلاف الفكري والحضاري..لذلك فان علينا ان نتبنى مثل هذا المنطق .. لنؤكد للغربيين بالبرهان.. امكانية واسس التعايش التي تقوم على الاختلاف الحضاري.. لقد قلنا لهم انتم ليست لكم مهمة الهية في ان تفرضوا علينا بعض القيم.. ونحن ايضا لانملك هذه المهمة ..دعونا اذن نتعايش بسلام ..الارهاب منبوذ.. وكل ما يتصل بالعنف نحن لانوافق عليه.. و اذا كانت هناك فئة قليلة فقدت صوابها لسبب او لآخر.. فان الغالبية الكبرى من حكومات وشعوب ومثقفين لا يقرون ذلك .. بل يريدون ان نعيش بسلام معكم.. نريد ان نستفيد من التكنلوجيا.. وتستفيدون ايضا.. ان هذه الاسس في نظري يمكن ان تكون نافعة ومجدية في الحوار مع الغرب


حوار المسلمين اولا 

* لكن قد يكون لدى الغرب حجة في انكم تريدون ان تتحاوروا معنا .. لماذ انتم كمسلمين .. لا تتحاورون اولا مع انفسكم ؟.. وحقيقة فضيلة الدكتور نحن كمسلمين نعاني من انقسام كبير مع بعضنا البعض؟ 

** الانقسام والاختلاف طبيعة بشرية.. وينبه على هذا ابن القيم في كلام جميل جدا ..يقول: ان الاختلاف يرجع الى الارادات .. مادام البشر عندهم إرادات.. هذه الإرادات ستختلف مادام لهم عقول.. هذه العقول ستختلف.. لكن الاشكال هو كيف نحجم هذه الخلافات حتى لاتكون خلافات مضرة ..و حتى نجعلها من نوع الاختلاف الحميد و هذا النوع وهو موجود لا شك في ذلك.. لهذا عندنا في الشرعيات يقول ابن القيم .. وقد سماه الاختلاف السائغ بين اهل الحق.. هم كلهم على الحق لكنهم يختلفون.. انقسامات المسلمين يجب ايضا يجب التغلب عليها و ان نعمل معها في اتجاهين.. اتجاه للداخل.. واتجاه للخارج.. طبعا بالنسبة للغربيين .. لايمكن ان يكون هذا الانقسام حجة لهم ..


*كيف ؟

** يمكن ان نعتبر ان هذا مشوه للجانب الاسلامي.. ولقد طرح علينا مثل هذا السؤال في برشلونة.. طرحه واحد مقرب من البابا.. قال لنا : لقد عرفنا المحاور المسيحي .. فمن هو المحاور الاسلامي.. ? انتم مذاهب! فقال لي رئيس الجلسة (ماركو) وهو ايطالي مسيحي : نريد ان نسمع منك جوابا على ذلك السؤال.. قلت له بالنسبة للحوار مع المسلمين فحواركم مع المرجعيات.. و انتم ايضا تمثلون طرائق قددا.. انتم بروتستانت .. وكاثوليك.. وارثوذكس.. لستم شيئا واحد.. ولا لونا واحدا .. ونحن قد كوّنا ماسميناه بالاتحاد العالمي للعلماء المسلمين في لندن.. وهو يمثل صفوة من العلماء المسلمين.. كان منخرطا فيه حوالى مائة عالم.. لكن الان ربما توسعت القاعدة.. فهذا الاتحاد موجود الان معكم و يمكن ان يكون محاورا منطلقا من مرجعيات .. ونحن نرى بأنه لا اشكاليات هناك حول من هو الطرف المحاور.. انني اعتقد ان الاختلاف موجود حتى عندهم.. هم مختلفون ايضا .. ولذلك فان ما يعوز هنا هو عقلنة الخلاف.. بمعنى ان يكون هذا الخلاف في الحدود المقبولة ..الحدود الممكنة.. الحدود التي لا توصل الى التناحر .. فالحديث الشريف يقول (لا تباغضوا ولا تدابروا ) فالتباغض والتدابر داء.. ويجب ان نتغلب عليه


عقبة الحوار مع الغرب 

*لكن التباغض والتدابر موجود الان نتيجة هذا الاختلاف الذي يعيشه المسلمون .. فهناك من خرج على الجماعة, وعلى الاجماع.. وهناك تعصب للرأي الواحد ..فكيف يمكن لنا ان نقنع الغرب ..في حوارنا معه ؟ 

** في الواقع انا اتفق معك ..ان هذا يمثل معوقا في حوارنا مع الغرب ..لكنه لايمثل عقبة لايمكن التغلب عليها ..فكما قلت نحن نعمل في اتجاهين .. اتجاه داخل الاسلام لتعريف المسلمين بان الاختلاف مقبول.. وانه لا اشكال في الاختلاف.. أما مسألة الراي الواحد والعين الوحيدة .. فهذا خطا .. وهذا لايمثل شريعتنا الاسلامية.. وخاصة في القرون الاولى نشأت عشرات المذاهب.. وتعايشت في نطاق هذه الامة الاسلامية التي امتدت من جدار الصين الى جبال البرامس في فرنسا.. هذا ما اسميه بالحيز الآمن للعالم الاسلامي.. لان الصحابة رضوان الله عليهم .. كونوا خلال خمس وثمانين سنة حيزا لايمكن القضاء عليه ..مهما كانت قوة العدو.. يمكن ان يقضي على اجزاء بسيطة من اطرافه .. لكن الحيز كله منيع وصامد .. و في هذا الحيز ازدهرت المذاهب المختلفة ..فهناك ثوابت الايمان بالله وكتبه ورسله واليوم الاخر.. وهناك المتغيرات والاختلافات المقبولة والسائرة ..وهناك الاختلافات حتى وان كانت مقبولة فانه يمكن التعايش معها ..فصاحب الرجل العرجاء اذا قلت له هل تفضل ان نقطع رجلك.. أو أن تتعايش مع رجلك.. سيقول انا أفضل ان اتعايش مع رجلي.. فالعملية هنا .. هي عملية تأهيل ..هو سيؤهل رجله حتى يسير معها.. لماذا لا ننظر الى المسألة من هذه الزاوية.. ونحاول تأهيل ارجلنا العرجاء حتى نسير معها.. ولهذا قضية الاختلاف قضية في غاية الاهمية.. ويجب ان نحافظ على الاسلام.. وان ننظم الخلافات.. ونسيرها كما تسير القطارات.. هذا يسير ..وهذا يسير.. وكل واحد له وقته.. ننظم الخلافات حتى لاتصطدم القطارات.. والحمد لله بدأت الان.. أصوات تتكلم..و بدون هذا سيظل الصدام دائما.. اما ان تكون هناك مجموعة ولو قليلة.. تقول انها تحتكر الحق المطلق.. و تتكلم باسم الاله عز وجل .. والرسول صلى الله عليه وسلم.. وبالتالي تريد ان تقاتل الجميع.. فهي حرب على الجميع وتكون مثل اولئك الذين يقولون من ليس معنا فهو ضدنا.

قانون منع الحجاب في فرنسا

حاوره: ياسر باعامر                  

33/11/1424                        

25/01/2004


– قانون منع الحجاب سيضر بالاندماج الإيجابي الذي كنا ندعو إليه المسلمين.

– مجلس الإفتاء الأوروبي يعتبر المرجعية الإسلامية في الأوساط الأوروبية.

– الحكومة الفرنسية أحالت القانون إلى وزارة التعليم للتخفيف من وطأة القانون.

– ما نخشاه أن تتحول العلمانية الفرنسية إلى عقيدة إيديولوجية.

– العالم الإسلامي يخشى أن تكون هذه القضية بداية تمييز ديني ضد الإسلام.


العلامة الشيخ (عبد الله بن بيه) اسم تردد كثيراً في الأوساط الأوروبية، فقد تميز ضيفنا باحتكاكه المباشر بواقع الأقليات المسلمة في الدول الغربية، لذا أعتبر من المرجعيات الإسلامية الموثوقة في الوسط الأوروبي. يرأس الشيخ ابن بيه حالياً لجنة الحوار مع الحكومة الفرنسية المنبثقة من مجلس الإفتاء الأوروبي – إحدى المؤسسات الشرعية الأوروبية – للتباحث مع الجهات الفرنسية الرسمية بشأن قانون منع الحجاب، ويوضح الشيخ ابن بيه في لقائه مع (الإسلام اليوم) أن لجنة الحوار ستركز في حوارها مع الحكومة الفرنسية على الأثر السلبي من فرض هذا القانون الذي سيؤدى إلى تقوقع المسلمين في كنتونات خاصة بهم مما سيضر بالعلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الفرنسي، وستركز اللجنة أيضاً على أن إصدار هذا القانون سيُخسِّر فرنسا رصيد احترامها في العالم الإسلامي بمواقفها المشرفة سابقاً. واعتقد أن هناك احتمالات واردة ورسائل مبطنة قد تكون وراء هذا القانون. بالإضافة إلى بعض المحاور الأخرى.


موقع (الإسلام اليوم) يعتبر أول جهة إعلامية تحاور الشيخ عبد الله بن بيه قبل سفره إلى العاصمة البلجيكية (بروكسل) للتباحث مع رئيس اللجنة الدينية بمجلس الاتحاد الأوروبي.. فإلى الحوار:


* باعتباركم عضوًا بمجلس الإفتاء الأوروبي ورئيسًا للجنة الحوار مع الحكومة الفرنسية.. ما هي خطواتكم الأولية تجاه قضية الحجاب؟ وما هي الملامح الرئيسة لهذه اللجنة؟

كما تعلمون أن قضية الحجاب تعتبر من القضايا الساخنة على الساحة الإسلامية بصفة عامة وعلى الساحة الأوروبية بصفة خاصة، وبما أن مجلس الإفتاء الأوروبي يعتبر مرجعية إسلامية في الأوساط الأوروبية ويعتبر المجلس من الهيئات الأوروبية(مجلس الإفتاء الأوروبي مسجل رسميًّا في إيرلندا المنضوية تحت لواء الاتحاد الأوروبي)وكما تعلمون أن الحكومة الفرنسية ستصدر قرارًا بمنع الحجاب- خصوصاً وأن القانون لم يصدر بعد، وإنما هو في طور الصدور، والقانون في النظام الفرنسي لا يصبح قانونًا حتى تصدق عليه الجمعية الوطنية الفرنسية-رأى المجلس أن يشكل لجنة للحوار مع الحكومة الفرنسية كرد فعل على سن مثل هذا القانون، و اللجنة بادرت قبل أن يسن هذا القانون بإعلان موقفها من هذا القانون لاعتبارات كثيرة ..


* عفواً معالي الشيخ أريد توضيحاً لهذه الاعتبارات؟

الاعتبارات هنا كثيرة ولعلي أوجزها في التالي: أولها: مخالفتها للشريعة الإسلامية بالنسبة للمسلمين. وثانيها: حفاظاً على العلاقات بين مكونات المجتمع الفرنسي من جهة، وبين فرنسا و العالم الإسلامي من جهة. ثالثها: المحافظة على حقوق الإنسان و الحريات الشخصية .. كذلك إذا أُصدر القرار فإنه سيضر بحقوق المسلمين في الديار الأوروبية؛ فلهذه الاعتبارات قالت اللجنة التي هي جزء من المجلس كلمتها من الناحية الشرعية والإنسانية.


* أعود إلى ملامح التأثير والضغط من قبل اللجنة على اقتراح الحكومة الفرنسية لقانون منع الحجاب؟

التواصل مع الجهات الغير حكومية في فرنسا كالمجلس الوطني للديانة الفرنسية ومجلس الكنائس الفرنسي التي كان موقفها مناسبًا ومؤيدًا لاحترام حقوق المسلمين، أيضاً التواصل مع منظمات حقوق الإنسان التي تؤيد احترام الحقوق الدينية للمسلمين.


* شيخ عبد الله عقدتم لقاءً مع المجلس الوطني للديانة الإسلامية في فرنسا وهي جهة رسمية فرنسية، السؤال عن ماذا تمخض عن هذا اللقاء؟

فعلاً قمنا بالاتصال بالمجلس الوطني للديانة الإسلامية وعقدنا معهم اجتماعاً في باريس، استمعوا إلى آرائنا واستمعنا إلى آرائهم، ووجدناهم في حيرة من أمرهم واختلاف في الموقف الذي ينبغي أن يتخذوه في هذا الصدد، خاصة مع تزايد الاحتجاجات المناهضة لسن مثل هذه القوانين، ووجدنا تفاعلاً وشكرونا على ذلك، وقالوا إن هذا يبين أن المسلمين ليسوا أيتاماً وأن هناك جهات تتولى أمورهم وتعتني بقضاياهم .


* وماذا عن المنافذ السياسية الحاكمة في فرنسا؟

سنجري مستقبلاً لقاءات مع رموز الدولة الفرنسية: مع الرئاسة الفرنسية، والخارجية الفرنسية، والداخلية الفرنسية، ومع رئيس البرلمان و المجموعات البرلمانية للأحزاب الفرنسية المختلفة.


*  تستعدون حالياً لمغادرة السعودية نحو العاصمة البلجيكية بروكسل، فإلى ماذا تهدف هذه الزيارة؟

تتلخص هذه الزيارة في اللقاء برئيس اللجنة الدينية بمنظمة الإتحاد الأوروبي للتباحث معه بشأن خلفيات إصدار مثل هذا القانون ومدى الأثر السلبي الذي سيعود من خلال سن مثل هذا القانون على اندماج الجالية المسلمة اندماجاً إيجابيًّا.


* خصوص الاندماج.. دائماً لا تخلو مؤتمرات مجلس الإفتاء الأوروبي وغيره من المؤتمرات الإسلامية الأخرى من حث المسلمين على الاندماج الإيجابي في الغرب، ماذا تتوقعون من رد فعل الجالية المسلمة على هذا الاندماج الذي تدعون إليه؟

فعلاً ففي كل دورات مجلس الإفتاء الأوروبي ندعو المسلمين إلى التفاعل و التناغم مع البيئة التي يعيشون فيها في الغرب ، وهذه الدعوة قد تتضرر مع هذا القرار.

المسلمون قد يرون أنه ليس هناك اندماج إيجابي، بل دمج بالقوة لهم، فالاندماج عبارة عن قبول الآخر، وعبارة عن تعايش طوعي يقوم به الإنسان ملء إرادته، وهو اندماج يحترم التنوع الثقافي للمجتمع ، وبالتالي يتعاطى المجتمع فوق خلافاته ويمد جسور التعاون و المحبة، وجسور المواطنة فوق الاختلافات الإثنية و العرقية و الدينية، هذا هو الاندماج الذي نفهمه، ومثل هذا القرار سيؤدي إلى عزلة المسلمين وتقوقعهم على أنفسهم إذا هم قرروا إنشاء مؤسسات خاصة بهم، ومثل هذا القرار سيكون ذريعة إلى الانكماش، وهذا ما نحذره من جراء هذا القرار منها ما هو على مستوى الفرد ومنها ما هو على الجالية الإسلامية في فرنسا، ومنها ما هو على مستوى العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الفرنسي، ومنها ما هو على مستوى علاقات فرنسا بالعالم الإسلامي، وفرنسا هي من كانت تدعو إلى التنوع الحضاري، وخطب الرئيس شيراك في السنوات كانت تدعو وتشدد على هذا التنوع الحضاري و التعددية الفكرية و الثقافية وكان بطلها الفعلي، فعندما تناقض فرنسا نفسها بهذا السلوك فإنها تكذِّب نفسها، ولست أنا من يقول هذا إنما صحيفة كبرى “الوموند” الفرنسية في مقالات لها أظهرت هذا التناقض.


* فرنسا كسبت رصيداً كبيراً في احترام العالم الإسلامي لها من خلال مواقفها الجيدة مع قضايا العرب والمسلمين في معارضة العولمة على الطريقة الأمريكية، ومعارضة الحرب على العراق. ألا تعتقد أن مثل هذا القانون يضر بعلاقة فرنسا مع العالم العربي والإسلامي ؟

من هذا المنطلق ، ومن أجل أن تحافظ فرنسا على هذا الرصيد مع العالمَين العربي والإسلامي، عليها أن ترجع عن هذا القرار، وأن تترك للمسلمين ممارسة حقوقهم؛ لأن ذلك يزيد رصيد فرنسا. وعلى العكس من ذلك إذا اتخذ هذا القرار وفي هذا الوقت تحديداً؛ فإن فرنسا ستخسر هذا الرصيد تدريجيًّا.


* معالي الشيخ هناك سؤال قد يكون جوهريًّا في فهم أبعاد هذا الموضوع ، ألا وهو ما الفرق بين العلمانية الفرنسية الفرانكفونية، و العلمانية الأمريكية (الأنجلوـ سكسونية) ؟

العلمانية بصفة عامة عبارة عن تخلي الدولة عن الدين، وجعل الدين أمراً يخص الإنسان، لكن هذا يختلف من بيئة إلى بيئة ، ومن فلسفة إلى فلسفة، فلفلسفة الأنجلوـ سكسونية لا تجعل العلمانية منافية للدين؛ بل على العكس يمكن أن يكون الدين عاملاً مهمًّا في بناء المجتمع. أما الفلسفة الفرنسية فمن المعروف أن لها تاريخًا عدائيًّا مع الكنيسة. وهناك كلمة معبرة عن العلمانية الفرنسية تقول: ” اللامبالاة في الاختلاف مع الآخر” بمعنى: اتركه يتدين يفعل ما يشاء. لكن المشكلة الآن لدى العلمانية الفرنسية أنها تحولت إلى إيديولوجية، وهذه مشكلة كبرى، المفروض أن تكون العلمانية محايدة، ولكن ما نراه اليوم بأنها تحولت إلى دين ، وهذا ما نفهمه من الوضع الحالي. ونحن في مجلس الإفتاء الأوروبي لا نريد أن نسيء إلى الحكومة الفرنسية؛ فقد تكون اتخذت هذا القرار بحسن نية، لذلك نود التعاطي بصورة عقلانية وهادئة مع هذه القضية.


*  هل هناك رسائل مبطنة تريد الحكومة الفرنسية إرسالها من خلال سن قانون منع الحجاب؟

القانون قد يحمل في طياته بعض الاحتمالات، وقد يكون يشتمل على خب لم نطلع بعد لنكتشف أسراره حتى الآن، فمن جهة القانون لا يتحدث عن حجاب إسلامي، بل يتحدث عن رموز دينية، وهذه الكلمة (رمز) لا تزال غامضة على حد رأي رئيس الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي يعد ثاني حزب في البلاد بعد الحزب الديغولي، لكن من الواضح أن القانون موجه فقط إلى الحجاب الإسلامي، لكن هل هو موجّه فقط إلى الحجاب، أم أنه يرمي إلى فتح باب من التنازلات في المستقبل، قد تمس أمورًا أخرى غير الحجاب، قد تكون سبباً لانتشار العدوى ضد الإسلام؟ وهل يحمل نوعاً من التمييز الديني ضد المسلمين؟ هذا هو ما نخافه، وهي احتمالات واردة.


* لماذا أحالت الحكومة الفرنسية هذا القانون إلى وزارة التعليم؟

الحكومة تهدف من خلال ذلك إلى التخفيف من وطأة القانون ، فهي تريد أن تقول إنه ليس قانوناً أمنيًّا، بل هو تنظيم للتعليم ، وبالتالي وزارة التعليم هي المسؤولة عن هذا القانون.


* الملفت للنظر أن هناك مجموعات من المسلمين قد تقف عائقاً أمام أهداف اللجنة، و التي بدورها تؤيد قرار الحكومة الفرنسية وتدعو إلى عدم معارضته أو تصعيد الرأي العام ضده، فكيف تتعاملون مع هذه المجموعات؟

كما ذكرت أن هناك مجموعات تدعو إلى ذلك ، لكن السؤال ما نسبة هذه المجموعات في إطار المجتمع المسلم الفرنسي؟ الإجابة بالتأكيد هي مجموعات محدودة. وبصورة عامة؛ الرأي العام المسلم في فرنسا يقول إنه يجب محاولة رد أو ثني الحكومة الفرنسية عن إصدار هذا القانون وهذا في حد ذاته إيجابي.


* كيف تجدون تفاعل الصحف الفرنسية مع قضية قانون منع الحجاب؟

الصحافة الفرنسية منقسمة في هذا الاتجاه؛ فنجد صحيفة “الوموند” الفرنسية تقف إلى جانب المسلمين في حقوقهم التعبدية وتشريعاتهم السماوية، ويظهر ذلك في مقالات كبار الكتّاب الفرنسيين, وفي المقابل نجد صحيفة “لوفيغارو” اليمينية المتطرفة تؤيد قانون منع الحجاب؛ بل وتحث عليه بأنه يجب على المسلمين التأقلم مع النمط الأوروبي، وأن يقبل ما قبلته المسيحية من قبل، وعلى المسلمين أن يتنازلوا بناءً على هذه التنازلات. إذاً وفي الإجمال العام فإن الصحافة الفرنسية و الرأي العام الفرنسي منقسم إزاء هذا القانون.


* لاحظنا تفاعلاً إسلاميًا واسعًا مع هذه القضية، في حين أن هناك قضايا كثيرة وهامة، ومع ذلك لم نجد هذا التفاعل مقارنة بقضية منع الحجاب في فرنسا، فما هو السر في ذلك؟

قضية الحجاب تمثل اعتداءً على دين المسلمات في فرنسا، وتمثل أيضاً عدواناً على الحريات في فرنسا، وأن هذه القضية يمكن أن يكون لها ما بعدها، فيمكن أن تقول إن هذه الشحنة التي تحملها هذه القضية جعلت الناس يستجيبون بسرعة للرد على هذا الأمر، وهم يعبرون عن ذكرياتهم التاريخية؛ لأنهم يخافون أن يكون هذا بداية عصر تمييز ضد الإسلام ، ونحن نعرف ماذا صنعت أسبانيا في محاكم التفتيش ضد المسلمين، أعتقد أن هذا هو السر في ذلك.

 

مقابلة العلامة ابن بيّـه مع مجلة الجسور

 

 

حاوره: د.عادل با ناعمة

                    

العلامة ابن بيّـه للجسور: أرفض النظرة العدائية المطلقة للغرب



* في سورة آل عمران قوّم الله مسيرة النصر والهزيمةِ على ملأٍ فلم ترفض الصحوةُ أن تقوّم مسيرتُها علناً؟


قال بعض السلفِ: إنّما العلمُ الرّخصةُ من ثقةٍ، أمّا التشديدُ فكلّ أحدٍ يحسنُهُ.. طالما تمثّلتُ هذه العبارةَ وأنا أصغي إلى الشيخ الجليل العلامة معالي الدكتور عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيّه. هذا الرجلُ الفريدُ الذي جمعَ في إهابِهِ نسك العابدِ، واستيعابَ الحافظ، وعقليّة الفقيه، وخبرةَ السياسيّ، وروحَ المربّي، وإشراقةَ الربّانيّ.. كذلك أحسبه والله حسيبُهُ.

ولقد امتاز الشيخ ابن بيّه بأنّه جمع بين العمقِ الشرعيّ الذي يجعله في مصافّ كبار علماء العصر، وبين الممارسة العمليّة للسياسةِ إذْ تولى خمس وزاراتٍ في بلده موريتانيا، وبين الاحتكاك المباشرِ بواقع الأقليات المسلمة ولا سيّما في أوروبا وأمريكا.. ومن كل هذا المزيج خريج الشيخ بنكهةٍ مختلفةٍ، وشخصيّة علميّة تربويّة سياسيّة متفرّدة.

في هذه القراءة لفكر الشيخِ تطرّقنا معه إلى مشكلة الأقليّات المسلمة، ولا سيّما من حيث التكييف الفقهيّ لقضاياها ونوازلها، حيث بيّن الشيخ أسباب اهتمامه بالأقليات واعتنائه بقضاياها، وأوضح بجلاءٍ أنّ للأقليّات فقهاً خاصاً بهم، لأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، وأنّ هذا الفقه ينبغي أن يبنى على التيسير والرخص التي ثبتت عن الأئمة، وقد أفاض الشيخ في بيان رؤيته لهذا التيسير وضوابطِهِ لئلا يتحوّل إلى اتباع للهوى.

 

كما تحدث فضيلتُه عنا الموقف من الآخر الغربيّ، وصرح بأنه يرى الغرب مناخاً مناسباً جدّاً للاستثمار الدعويّ، وأنّ النظرة العدائية المطلقة للغربِ مذهبٌ مرفوضٌ؛ لأنه يفوت فرصاً كبيرة لتوطين الإسلام هناك. وقال الشيخ: علينا أن نقدّم أنفسنا للغرب وللعالم كدعاة سلام وإسلامٍ لا كغزاةٍ‍. وأشار ابن بيّه إلى أنّ الحوار مع الغرب مطلوبٌ، وأنّ هذا الحوار إنما هو حوار تعايش وتحاور، ونعى على أولئك الذين يتصوّرون أنّ مجرّد الجلوس مع النصارى على مائدة الحوار معناه التنازلُ عن الثوابتِ أو المبادئ. وقد حاول معاليه أنْ يبيّن الأسس الكبرى التي تنبني عليها لغة خطابنا مع الآخر.

كما نبّه الشيخ إلى نقطة مهمّة جداً وهي إمكانيّة استثمار أحكام العصر المكيّ واستدعائها إلى واقعنا، واقع الضعف والذلّة، ونقل قول شيخ الإسلام بأنّ أحكام العصر المكيّ ليست منسوخة، وإنما كل شيء مرتهنٌ بوقتِهِ.

وعلى كلٍّ فقد جلنا مع الشيخ في نقاط كثيرةٍ مهمّة وساخنة كتقنين الفقه، واستضافة المطبوعات الإسلاميّة لرموز علمانيّة، ونقد الصحوةِ علناً عبر وسائل الإعلام من أجل تقويم مسيرتها، والنزاع بين مدرسة الفقه ومدرسة الحديث.

ويقيني قارئي العزيز أنك ستجد في هذا الحوارِ كثيراً من المتعةِ والعمقِ وحسن الفهم والتحليل، فإلى إجابات الشيخ حفظه الله.

 

* عرف عن معاليكم كثرة اهتمامكم بشؤون الأقليات المسلمة و لكم من الجهود في هذا الباب الشيء الكثير. ما سرُّ هذا الاهتمام؟ 

ربما يكون سبب هذا الاهتمام هو معرفتي الشخصية بأوضاع هذه الجاليات فهي بحكم وضعها تفتقر إلى كثير من العناية التي قد لا يفتقر إليها المسلمون في ديار الأغلبية المسلمة أو في ديار الإسلام، فالمسلمون هناك مهددون في هويتهم و في ثقافتهم و في أصالتهم وفي دينهم و عقيدتهم. وثمتَ سببٌ ثالث للاهتمام بالأقليات هو أنّ وجودهم هناك يعتبر كسباً عظيماً للإسلام، إذ لم يكن أحدٌ يتصور قبل قرن من الزّمن أن توجد أقلية مسلمة كبيرة في ديار الغرب؛ لأن الغرب كان منغلقا على نفسه منشغلا بالحروب التي كانت بين الكاثوليك و البروتستانت حتى إن إعلان حقوق الإنسان في الثورة الفرنسية كان عبارة عن مصالحة بين البروتستانت و الكاثوليك حتى يستطيعوا التعايش، و كثير من البروتستانت هربوا إلى أمريكا خوفاً من إخوانهم الكاثوليك ، في تلك الأجواء المتوترة بدأ في القرن الثامن عشر البحث عن التعايش هذا البحث عن التعايش اتّسع شيئاً فشيئاً حتى شمل اليهود ثم هو يتّسع ليشمل المسلمين، و من هنا نشأت أقليات مسلمة لها تأثيرها في قلب الغرب النصراني، و على قادة الفكر في العالم الإسلامي أن يهتموا بهذه الظاهرة -ظاهرة التعايش- في الغرب و أن ينموها و أن يرسخوها ، و أن يوطنوا الإسلام في ديار الغرب فإن هذا كسب كبير. لقد كان الأجداد يذهبون بخيلهم و رجلهم و أسلحتهم إلى البلاد البعيدة تارة ليكفّوا الغارات و تارةً ليُسمعوا الناس كلمة الله، و نحن اليوم بحمد الله نستطيع بالكلمة الطيبة و بالمنطق و بالعمل الصالح من خلال هذه الأقليات أن نسمع كلمة الله تعالى في ديار الغرب. 

لهذه الأسباب مجتمعة و لعوامل أخرى نفسية و شخصية أرى أنه يجب علي أن أعتني شخصيا و يعتني الإخوان بالمسلمين في ديار الغرب.


* و لكننا نلاحظ أن تركيزكم منصب على الأقليات المسلمة في أوروبا و أمريكا.

نعم؛ لأن هذه المناطق يسكنها كثير من مواطنينا من شمال أفريقيا و العلاقة بها قديمة جداً، ثم إنّ اللغة بيننا مشتركة فنحن كنا مستعمرة فرنسية، وقد نشأت على تقاليد وأعراف ولغة مشتركة مع هذه المناطق.


الغربُ ليس عدوّاً كله


* ظاهر كلامكم يا فضيلة الشيخ أنكم ترفضون النظرة العدائية المطلقة للغرب، تلك النظرة التي ترى أنّ كل ما في الغرب عبارة عن مظاهر مختلفة للعداء مع المسلمين لا تتيح للمسلم أن يتحدث أو ينشر دينه.

نعم أنا لا أرى ذلك، أنا أرى أن في الغرب مناخا يجب أن نغتنمه و نتعامل معه ونستفيد منه كما استفاد غيرنا. لا شك أنّ الطّريق ليست مفروشة بالزهور و الرياحين ككل طريقٍ للعمل، و أنّ بعض الشرائح في الغرب ما تزال تحكمها العقلية الصليبية، وأنّ ثمت عقول أخرى يحكمها الجهل و من جهل شيئا عاداه، لكن بصفة عامة هناك جوٌّ يمكن الاستفادة منه في أوروبا و أمريكا. ويمكننا في إطار هذا الجوّ أن نقدم الكثير.

وأعتقد أننا في هذا المجال ـ أي مجال التعريف بديننا و بيان قيمنا للغرب ـ لم نبذل جهودا كافية مع أن الأبواب هناك شبه مفتوحة .


* عفواً شيخي .. ألا ترى أن الغرب يرى نفسه أستاذ القيم الإنسانية، ومعلم البشرية في هذا المجال، فكيف لنا أن نعرض رؤيتنا وقيمنا؟ أعني بأي منطق وأي طريقة؟ وكيف لنا أن نقنعه أن قيمنا خيرٌ من قيمه التي يتشدق بها؟

يمكننا حقيقة أن نتقدم برؤيتنا ، وأن نؤصل حق الاختلاف و حق التنوع الحضاري و أن ما تمتاز به حضارتنا المسلمة و حقوق الإنسان فيها هو على مستوى المصدر و الموضوع والقيم، فمن حيث المصدر نحن لنا مصدر إلهي و مصادر غيرنا بشرية، و من حيث الموضوع و هو الإنسان لنا رؤيتنا و هي أن الله خلق الإنسان بيده، و نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وكرّمه بالنطق و العقل، أما الغرب فقد جرى طويلاً وراء نظرية دارون الذي يقول: إنّ الإنسان الأول كان حيواناً يمشي على أربع في الغابة ثم تطور حتى صار إلى ما عليه الإنسان اليوم! 

ومن حيث القيم نجد أننا نشترك معهم في قيم الحرية والمساواة، و لكن هذه القيم عندنا مقيدة بالعدالة: حرّية مع العدل، ومساواة مع العدل، فقيمة العدل تقوم دائما بتقييد القيم.

مثلا : الإنسان له حق في الحياة لكنه إذا اعتدى على أحد فقتله فالعدالة تقول له: لا حقّ له في الحياة و هكذا.

أقول مرة أخرى: إن تأصيل حقوق الإنسان، واختلاف القيم، يؤمّن قاعدة جيّدة للحوار حول هذه القيم، ومن ثم الوصول إلى نظرة مشتركة للعدالة. 

ولأجل هذا ومن خلال مجلّتكم نرى أنه لا مناص من إنشاء مراكز في الغرب، وأنا مستعدّ لأن أنشئ مركزاً و اختياري قد يقع على فرنسا للدفاع عن قيم الإسلام و الحوار حول القيم، نحن نريد أن نكون عنصرا فعالا في هذه البشرية.

أهم شيء بالنسبة لي –كما أسلفت- هو قضية حقوق الإنسان وحق المسلمين في التنوع الحضاري، وهذا أمر أهتم به كثيراً لما رأيت من تحامل في بعض الأحيان من الغرب على الإسلام والحدود والقيم الإسلامية؛ لذلك كانت محاضرتي في كاليفورنيا عن حقوق الإسلام مشهودة، وقد حضرها بعض أعضاء جماعات حقوق الإنسان، وقدموا إلي أنفسهم بعد المحاضرة حتى إنّ امرأة منهم صارت تحضر بعد ذلك محاضراتي الشرعية والفقهية و الأصولية.


لابأس بحوار النصارى


* لعل هذا الحوار الذي تدعون إليه حوار التعايش و ليس هو حوار التقارب الذي يصطدم مع قوله تعالى : {و لن ترضى عنك اليهود و لا النصارى حتى تتبع ملتهم }؟

نعم، هو حوار تعايش، ولكنّه أيضا حوار تعارف فهم لا يعرفون عنا الكثير و لا سيما الشعب الأمريكي فهو شعب مشغول بنفسه وليس له ماض استعماري في ديار الإسلام فلا يعرف عنه الكثير، و لذلك إذا عرفوا أسلموا. 

نحن لا نيأس ، ونحن نقدم أنفسنا للغرب كدعاة يريدون إنقاذه حتى من نفسه، ونحن نساعد هذه الحضارة على أن تكون عادلة و إنسانية و نعطيها قيم الإسلام.

وحتى أزيد الأمر وضوحاً ـ لكثرة من يشغب على قضية الحوار وأهلها ـ أذكر هذه القصة، مرة كنت في فرنسا وأجروا معي مقابلةً في التلفاز، فأظهرت مرونةً في التعايش مع غير المسلمين، حتى طمع المذيع وقال: لم لاتقول: إنهم على حق، والمسلمون على حق؟ فقلت: أما هذا فلا، فأنا أعتقد أني على الحقّ الوحيد، لكن أقبلُ أن أتعايشَ معهم بالعدل والحسنى. وبعض الناس يختلط عليه الأمر فلا يفرق بين التعايش وبين القبول، ومن هذا الباب الحوارات التي تقع مع النصارى وقد اشتركت فيها في روما ومدريد وباريس ولم يكن من المطروح مطلقاً أن نتنازل عن شيء من ديننا ولا حتى عن مندوب أو مكروه، وإنما كان الحوار حوار تعايشٍ وعرض للدين الحق، وفي الحديبية كان الحوار مع قريش حول هذه القضايا، قضايا التعايش وكف اليد والهدنة وغيرها مما يحقق الصالح العام.


* ولكننا يا شيخنا الجليل لا نجد في القرآن شيئاً عن ( محاورة ) الكافرين، وإنما نجدُ (المجادلة) كما في قوله تعالى: (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)).

يا أخي .. ما الحوار في اللغة؟ هو أن يدور كلام بينك وبين شخص.

وما الجدال في اللغة؟ هو كذلك أن يدور حديث بينك وبين شخص.

فحقيقتهما إذن واحدة.

وحسبي أن أذكرك بأن الله تعالى سمى الجدال تحاوراً .. ألم يقل سبحانه : (( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ))، فسمى حديثها مع النبي جدالاً، ثم قال سبحانه: ((والله يسمع تحاوركما)) فسمّاه تحاوراً ؟ وقال تعالى ( قال له صاحبه وهو يحاوره..) سورة الكهف 

إذن .. الجدال هو الحوار أو صورة من صوره على الأقل، وقد أذن الله لنا بجدال أهل الكتاب كما في الآية التي أسلفتَها، وكما في قوله تعالى: ((فإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون)).وأمرنا به في قوله تعالى ( وجالهم بالتي هي أحسن) سورة النحل 

وفوق ذلك كله علينا أن نتذكر أن الإقبال على الإسلام اليوم شائعٌ، وأنّ الدعاية المضادّة تريد أن تستغل نماذج بعينها لترويجها، وتنفير الناس من الإسلام قبل أن يسمعوه، ولا بد لنا أن نسلك كل طريق ممكن لإسماع أولئك كلام الله ((وإنْ أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله))، وأحسب أن الحوار بضوابطه الشرعيّة سبيل حسنٌ لإسماع أولئك كلام الله.


* ألا يشكل على ما تذكرون من دعوة للحوار ما امتلأت به كتب العقائد من نصوص تحذر من الجلوس إلى المبتدع والاستماع إليه بحجة أنه يلبس الحق بالباطل، ويتخذ لكل بدعة عنده شبهة قد تجوز على محاوره؟ وكتاب ابن بطة و غيره مليء بمثل هذه التحذيرات. كيف نوفق بين هذا و بين ما تدعون إليه من ضرورة الحوار مع الآخر الكافر؟

ما ذكرته صحيح، ولكن قال علماؤنا بعد ذلك: إن ذلك كان و راية الإسلام عالية، وصوته نديّ، و ساحته بريئة، أما اليوم و قد أصبح مخالفونا على المنابر فيجب أن نخاطبهم؛ لأننا إذا لم نفعل ذلك فسوف ننعزل. نحن الآن ننظر إلى أنفسنا كأكثرية في ديارنا لكننا أقلية بالنسبة لهذه القرية الكونية. 

العصر المكي ليس بعيدا منا، والنبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى عتبة و هو يتحدث ويقترح بعض المقترحات السخيفة بالنسبة للنبيصلى الله عليه وسلم ، لكنه مع ذلك قال: هل فرغت يا أبا الوليد فقال: نعم، فقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن. 

وينبغي أن نعلم أنهم هم الذين يضرّ بنحلتهم سماع ما عندنا، ((و قالوا قلوبنا في أكنة و في آذاننا وَقْرٌ ومن بيننا و بينك حجاب))، لا يريدون أن يسمعوا لأن لدينا الحجة البالغة، فلماذا نتهرب من تقديم الحجة البالغة للناس؟ هذا لا يصح، و إذا سلكنا هذا السلوك فإنه سيقضي علينا في ديارنا.

 

لغة الخطاب مع الآخر


* لفت نظري استشهادكم بالعصر المكّيّ وهذا موضع سؤالٍ سأعرض له لاحقاً .. ولكني أودّ الآن سؤالكم عن حصيلةِ زياراتكم الكثيرة و حواراتكم المتعددة مع الغرب، ترى هل توصلتم إلى لغة خطاب مثلى مع الآخر الغربيّ؟ وما معالم هذه اللغة؟

معالم هذه اللغة تتحدد في كل بيئة من خلال جملة من المعادلات يستطيع الإنسان الذي له بصيرة و بصر واستبصار أن يرى من خلالها كيف يتكلم مع من يقابله، أنا أعتقد أن هناك جملة من الجوانب تنبغي مراعاتها:

أولا: علينا أن نقدم أنفسنا ونقدم هذا الدين على أنه منحة ربانية، ونقدم أنفسنا كدعاة إسلام و سلام لا كغزاة، و لا كمن يريد فرض نفسه على الآخرين ((ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)). 

ثانيا: علينا أن نتعرف على الآخر، ونعرف ما هي المبادئ التي يؤمن بها، وما هي القيم التي يحترمها، وما هي القاعدة التي تحكمه؟ إذا عرفنا هذه المبادئ استطعنا من خلالها أن نتكلم. 

قد نجد قيما مشتركة كما في قوله تعال : ((قولوا آمنا بالله و ما أنزل إلينا و ما أنزل إلي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق والأسباط.. )( وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم و إلهنا وإلهكم واحد))، هذه قيم مشتركة بيننا و بينكم لماذا ننطلق إلى التفريعات؟ 

وأنا أقول: إننا نشترك مع الغرب حتى في لغتهم ! فاللغة الغربية فيها مفردات الصلاة والنبي والصوم فإذا قدمت له نفسك و مصطلحاتك فسيفهم هذه اللغة. و ليتضح الأمر أكثر أذكر أنّ أحد الغربين في القرن التاسع عشر كان يقول: إنّ الشيطان هو الذي علّم اليابانيين هذه اللغة حتى لا يدخلها الإنجيل! لأن لغة اليابانيين ليست فيها المفردات الدينية!


* نعود ياشيخنا إلى واجب المسلمين تجاه الأقليات .. ما صفات الداعية الذي يصلح للقيام بواجب البلاغ والإرشاد بين المسلمين هنا ك؟ و هل يمكن لكل داعية أن يقوم بهذا العبء؟

أنا أظنّ أن هذا الدور لا يستطيع أن يقوم به كل داعية و طالب علم لا بد أن يكون لهذا الداعية خلفية عن الواقع، و أن تكون له سعة أفق و اتساع نظرة، و أن يعرف أنّ الإسلام له عباءة واسعة يمكن أن تضم كثيراً من الأعراف و الأعراق و العوائد التي لا تنافي جوهر الإسلام و المتغيرات التي لا تنافي ثوابت الإسلام، و لهذا أنا أظنّ أنّ الداعية الذي يذهب إلى الغرب ينبغي أن تكون له مواصفات معينة، و أن يتلقى تكويناً معيّناً و أن يتكلم بلغة الغرب، و لست أعني باللغة لغة المفردات فقط، و إنما أعني أيضا لغة المنطق و لغة العقل التي يتحدث الناس بها في الغرب، أما الداعية الذي لا يتصف بهذه الصفات فإنه في كثير من الأحيان يضر أكثر مما ينفع.

و أحب أن أشير إلى قضية مهمة و هي أننا بحاجة إلى نوعين من الدعاة: من يعلّم الناس أمر دينها من صلاة و صيام و زكاة و ما إلى ذلك؛ لأن المسلمين في ديار الغرب يحتاجون إلى أن يتعلموا أحكام دينهم و أن يعمروا أوقاتهم بعبادة الله تعالى، لأنّ أكثرهم عمال يغدون صباحاً و يروحون مساءً فهم بحاجة إلى من يصرف معهم و يصرفون معه بعض الوقت ليتعلموا أمور دينهم. أما النوع الثاني من الدعاة فهم دعاة تثبيت العقيدة و الفكر والرؤية الاجتماعية و التعايش في ديار الغرب و هؤلاء يحتاجون إلى فقه كثير، و سمات خاصة تميزهم.


فقه الأقليّات


* سيدي .. مفاد حديثكم أنّ للقوم هناك فقهاً غير الفقه المألوف في ديار الإسلام، وفي حوار أجريناه في الجسور مع العلامة ابن جبرين قال عن فقه الأقليات: ” لا أصل له، فإنّ الأحكام متفقة والشريعة كاملة، وهؤلاء الأقلون يغلب عليهم التفرد بالأقوال الغريبة ومخالفة نصوص العلماء الموثوق بهم قديما وحديثاً”، وقال أيضاً: ” ولايجوز تكييف الفقه بحسب الزمان أو المكان أو ظرف العمل، وليس للإنسان أن يشكل مذهباً فقهيا، ولكن إذا جدّت مسألة يجتهد فيها”. هل توافقون على هذه الرؤية؟

أنا أرى أن الأقليات تعيش أوضاع الضرورة، أو الحاجة التي تلامس الضرورة، ولهذا فهي تحتاج إلى فقه فتوىً خاص، صحيح أن الفقه لا يتغير ولكن الفتوى تراعى فيها الضروريات والحاجات واختلاف الأحوال. فالأقليات في أوضاع تلامس الضرورة وبالتالي فإنّ هذه الأوضاع هي أوضاع رخصة وينبغي التيسير فيها.


* ولكن ما رؤيتكم لهذا التيسير؟ وماضابطه؟

أنا أرى أن الفقه يشتمل على أقوال كثيرةٍ، وينبغي أن نسلك بالأقليات السبيل الأسهل في نطاق الأدلّة، وقد وجدتُ أن ضبط المالكيّة للعمل بالقول الضعيف يصلح للأقليات، وبهذه الضوابط نحن لا ننفلت ولا نتتبع الرخص تتبعا مفرطاً ولكن نبقى في حدود المقبول عند العلماء. قال المالكيّة: إنّ الأصل في القول الضعيف ألا يعمل به إلا بشروط ثلاثة:

1ـ ألا يكون ضعيفا جداً.

2ـ أن يثبت عزوه لقائله.

3ـ أن تدعو الضرورة إلى العمل به.

بهذه الشروط يمكن أن نقلّد أبا حنيفة في بعض أقوالِهِ في دار الكفر، ونقلد الإمام أحمد في الجمع بين الصلاتين، وكذلك أشهب من أصحاب مالكٍ في جمع الظهر والعصر والمغرب والعشاءِ، وبهذه الشروط يمكن أن نؤخر الجمعة إلى العصر لتصلّى في وقتٍ متأخر كمذهب مالك، أو نقدّمها كما هو مذهب أحمد، يجب أن نتفقّه ولا نفتي للأقليات بدون فقهٍ، ولكن نرخص لهم في حدود ما هو متعارف عليه عند العلماء، وبذلك يمكن أن نريح الناس.

وينبغي أن نتذكر أن هذه الأقليات تعيش في أوضاعٍ اليد العليا فيه للطرف الآخر، ولذا يجب عليها القيام بمجهود كبير حتى تتعايش مع الآخرين، وبعض من لا يدرك هذا كان يقترح أن تَدْرُسَ الأقلياتُ كتاب (أحكام أهل الذمة)! وهذه مشكلة، إذ أهل الذمّة لنا عليهم اليد العليا، والوضع الآن هناك مختلف تماماً، ولهذا فأنا أرى ألا يفتي أولئك إلا من جمع الفقه الشرعيّ العميق والإدراك الصحيح لواقع القوم هناك، ولا يكفي العلم الشرعيّ دون إدراك الواقع، وقد أشار ابن القيّم مراتٍ إلى أنّ من لا يعرف الواقع يجني على الشرعِ.

ومما أراه أيضاً في شأن الأقلياتِ أنه يجب علينا أن نقدّم لها ملخصات من الفقه تكون في متناول أيديهم بعيداً عن اضطراب الأقوالِ واختلاف الآراءِ؛ لأن الناس هناك يبحثون عن حلولٍ إسلاميّةٍ، وقد خرجت مرة من أمريكا بعد عشرة أيام ولم أستطع الإجابة على كل الأسئلة لكثرتها.


استثمار أحكام العصر المكي


* أشرتم من قبل إلى قضية مهمة و هي استثمار أحكام العصر المكي في جوانب من واقعنا المعاصر، ما نظرتكم إلى هذه المسألة ؟ وهل يسوغ لنا أن نستفيد من جوانب أخرى من أحكام هذا العصر؟ بمعنى هل يمكننا أن نستدعي ذلك العصر بأحكامه الخاصّة في زمان ضعفنا وعجزنا هذا؟

سؤال كبير جداً، و أعتقد أنّ السؤال في ديار الغرب قد يكون مطروحاً، لأنّ الأحكام السلطانية ليست مطلوبة من الأقليات الإسلامية، ويجب على الأقليات أن تفهم هذا، المناداة بتطبيق الحدود في الغرب ليست أمراً صحيحاً و ليست قضية مسلمةً، و المسلمون في أرض الحبشة لم ينادوا بتطبيق الأحكام، و لهذا فالعهد المكي هنا له أهميته، وشيخ الإسلام ابن تيمية قال: إن ّأحكام العهد المكي ليست منسوخة و كل شيء مرتهن بوقته.

ففي ديار الإسلام و في ديار الأكثيرية المسلمة في أوطانها التي تسمح لها القوانين بأن تتعامل مع دينها تُطبّق أحكام الله و حدوده، ولعلها أن تكون قدوة لغيرها حتى تطبق هذه الحدود، والمسلمون متمسكون بالحدود وبكل أحكام الله تعالى، وكلما لاحت لائحة الحرية ينادي الناس بتطبيق الحدود، و انظر إلى نيجيريا مثلاً كيف دعت منذ سنواتٍ قلائل إلى تطبيق الحدود.


* حديثكم هذا يقودنا إلى مسألة اختلاف الفتوى باختلاف الزمان و المكان والأحوال، هل نظفر منكم بكلمة شافية حول هذه القضية الشائكة؟

** أسئلتكم يا شيخ عادل طويلة الذيل كثيرة النيل! هذه المسألة مسألة كبيرة جداً، نحن نعرف أنّ كثيرا من العلماء أكّد على هذا و بخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم الذي أكد على الاهتمام بالعرف و بالبيئة التي تطبق فيها هذه الأحكام. الفتوى لا شك أنها تتغير و الشاطبي يقول: تتغير الفتوى في النازلة الواحدة باختلاف الشخص. هذا أصل لا نشك فيه لكنه أصل له حدوده. هناك ما نسيمه جدار الإجماع إذا وقف أمامي جدار الإجماع الذي يستند إلى نصّ و هو ما يسمى بالإجماع القطعي و النطقي هنا أتوقف. و كذا إذا كان أمامي النصّ الذي لم يكن مبنياً على عرفٍ معيّن؛ لأن النص المبني على عرف معين اختلف العلماء في دوارنه مع العرف ذكره السيوطي و غيره، أي أنّه نصّ بالمعنى الدقيق عند الجمهور وهو ما لا يحتمل تأويلاً إذا وقف أمامي دون معارض فأقول سمعنا وأطعنا و هذا دأب المؤمن. لكن إذا كانت ظواهر ولهذه الظواهر أعراض، و إذا كان وجد خلاف بين العلماء في مسألة معينة فهنا لا بأس بالترجيح، و أرى أن يكون الترجيح في جانب التيسير، و هنا تختلف الفتوى من بلد إلى بلدٍ و من مكان إلى مكان، وهنا يدخل فقه الأقليات، ويدخل التعامل مع الحاجات بمعناها الفقهيّ الدقيق، إذ بين الحاجة و الضرورة فرق و لكل منهما مساحة لا يتخطاها، فالضرورة هي الشيءُ الذي إذا لم يرتكبّه المكلف المضطر هلك أو قارب الهلاك، أما الحاجة فهي ما يشق على المكلف عدم فعله، وهنا تدخل الحاجة العامّة التي تنزل منزلة الضرورة فيما ليس بقطعي. وفي هذا الباب كلام طيب لابن القيم لم أجده لغيره وهو قوله: “إنّ الحاجة تبيح محرم الوسائل ولا تبيح محرّم المقاصد”، و قد كرر ذلك ثلاث مرات في إعلام الموقعين و في زاد المعاد. 

وفي هذا السياق وبهذه الاعتبارات تباحُ كثيرٌ من محرمات الوسائل بسبب الحاجة، ويُعدَلُ في كثير من مسائل الاختلاف إلى الشق الذي كان ضعيفاً،كمسألة شراء البيوت بالربا في ديار الكفر و قد أفتينا بجوازه.


* عفوا ، هل لكم أن تبينوا لنا الفرق بين محرم الوسائل و محرم المقاصد ؟

محرم الوسائل: ما حُرّم لكونه وسيلة إلى محرم، و الفعل في نفسه كان مباحاً، كما في قوله تعال : ((و لا يضربْنَ بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن)) فالضرب بالرجل جائز أصلاً، ومنه ما في قوله تعالى: ((لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدْواً بغير علم))، وابن القيّم يقولُ عن ربا الفضل: إنّه من باب ربا الوسائل؛ لأنّ ربا المقاصد هو ربا النسيئة. وعندك كثير من المسائل في ديار الغرب كغيبة البَدَلَيْنِ في البورصات، و كثير من المسائل التي تحتاج إلى نبش في الفقه لإخراج مسائل الخلاف فيها، و تعضيدِ جانبٍ من جوانب الخلاف على حساب جانب آخر بناء على قاعدة التيسير، وبناء على اختلاف الزّمان و المكان، ولا ينكر تغيّر الأحكام بتغير الزمان و المكان.

 

تقنين الفقه


* شيخ عبد الله .. سأخرج عن إطار فقه الأقليات وإن كنت لن أخرج عن أبعاد الفقه والفتيا، ما رأيكم فيما يدعو إليه بعض الداعين اليوم من تقنين الفقه؟

في الحقيقة المسألة كما تعلم فيها أخذ و رد، من العلماء من يعارضها خيفة أن تكون وسيلة لتبديلِ الأحكام و تغييرها من منطلق بشريّ بحت، و منهم من لا يرى مانعاً من جعل هذه الأحكام في مدونة ـ ولنقل تدوين الفقه ـ يكون فيها مشهور المذهب الذي يحكم به، فنحن هنا في المملكة العربية السعوديّة نحكم بمشهور مذهب الإمام أحمد، و هذا هو الذي تجري عليه المحاكم، ومن أراد أن يعدل عنه فعليه أن يخبر لمحاكم العليا و مجلس القضاء الأعلى بنيّته تلك، ويقدم الحيثيات التي على أساسها خرج عن المذهب. 

ومعنى هذا أنّ هناك فعليّاً نوعاً من التقنين للفقه في هذه المحاكم.

وبعض الكتب كالمقنع و غيره هي محاولات لتلخيص مشهور المذهب، فتدوين مشهور المذهب قد لا يكون أمرا إدّاً، وعليه فأنا أقترح أن نبتعد عن مصطلح (تقنين الفقه) ونستبدل به مصطلح (تدوين الفقه) أو تدوين المشهور من المذهب.

في هذا الإطار ليس ثمت مانع من أن يدوّن مشهور المذهب ويوضع بين يدي الفقهاء بشكل واضح بناء على أنهم في الغالب ليسوا مجتهدين، والحق أنّ المحاكم في هذا الزمان تحتاج إلى تدوين الفقه حتى لا يميل القاضي، و حتى نتمكّن في المحاكمات الدوليّة وعند الاتصال بمحامين دوليين أنْ نقول: راجع في مدونتنا الصفحة الفلانية و اقرأها بتمعن. 

وينبغي أن تتضمَّنَ هذه المدونة فصولاً حول كيفية تقديم المرافعات إلى القاضي، وكيفية نظر القاضي في الدعاوى بحيث يفهم المحامي كيف يقدم الدعوى، ومارد الفعل الذي سيكون من القاضي، و يعرف أن الدعوى إذا كانت لها حيثيات مقبولة شرعاً فإن القفاضي سيقبلها، و يأمر الكاتب بتسجيلها، و سيوجه المدعي لتقديم البينات، وسيستجلب المدَّعَى عليه، ثم نَصِلُ إِلى مرحلة القرائن والأدلة و الأيمان ثم تصل إلى مرحلة البت و تدوين الحكم، هذا طيب جداً.


* إذن أنتم تؤيّدون (تقنين الفقه) على أن يسمّى (تدويناً) خروجاً من المحاذير.

نعم، أنا مع تغيير المصطلح، ومع تغيير المفهوم أيضاً؛ لأنه في الحقيقة تدوين كما فعل فقهاؤنا الأوائل عندما قاموا بتدوين المشهور من مذهب الإمام أحمد، وأحصوا الروايات والوجوه عارية عن الدليل.


* ألا تقودُ هذه التدوينات المذهبية إلى نزعةٍ إقليمية؟

لا أتصوّر هذا، لأن المسألة لا تعدو نوعاً من التقنين والتهذيب لما هو موجود أصلاً، فالمحاكم الشرعية في كل بلدٍ تحكم بمذهب من المذاهب، ولن يختلف شيءٌ إذا قلنا: اصنعوا مدوّنة قضائيّة لهذا المذهب أو ذاك.

ودعني أضيف لك بعداً جديداً من فوائد هذه المدوّنات، عندما تعلن بلادٌ ما رغبتها في تطبيق الشريعة فستكون هذه المدوّنات خير معين لها.

وقد أشرفت يوم كنت وزيراً للعدل على مدوناتٍ كتبت في موريتانيا في الأحوال الشخصية.

نحن نفهم الخشية التي عند العلماء من تحول الفقه إلى أمر تعمل فيه المراسيم و النظم، ولكننا نفهم أيضا أهمية أن تكون لدى المحاكم في هذا الزمان مدوّنات حاصرة نظراً لاتساع نظرها، وكثرة أعمالها، وقلة إحاطةِ بعضٍ من قضاتها بالفروع.


مدرسة الحديث ومدرسة الفقه


* حديثكم عن المدوّناتِ وما قد تحدثه من اتفاق الكلمة القضائيّة يذكّرني بما تشهده الساحة الفقهيّة من تشرذمٍ وتنابزٍ بسبب اختلاف الآراء، ولاسيما بين مدرستي: الحديث والرأي. أو بين المحدّثين والفقهاء، هل تؤمنون بهذه الانفصاليّة بين الجانبين؟ وهل الخلاف بينهما أمرٌ حتميّ؟

هذ الشقاق مشكلة كبيرة، ونرجو أن يتجاوزها الإخوة جيمعاً بالروح التي تجاوزها بها الأوّلون. كان أحمد محدثاً وفقيهاً، و لا يرى بأساً بالتقائه بابن معين و غيرِهِ من المحدثين، وكان الشافعيّ فقيهاً ويجالس المحدّثين. المحدّث يحتاج إلى الفقه، والفقيه يحتاج إلى الحديث، وهناك تكامل بين المدرستين لا بدّ منه. المحدّث إذا لم يكن فقيها لا يمكن الاعتماد عليه، والفقيه أيضاً إذا لم يكن له بصرٌ في الحديث وأصول الدّليل من كتاب وسنة فإنّه فقيهٌ ناقص، فلابد من التصالح والتضامن والتفاعل بين المدرستين حتى نستطيع مواجهة المشاكل الواسعة العريضة التي تواجهنا في هذا الزّمان والتي لا يمكن أن نتغلّب عليها إلا بصفٍّ مرصوصٍ، وفكر ثاقب، وفهمٍ واسع، والعباءة الإسلامية تسع الجميع.


* من المسائل التي دار فيها خلافٌ وجدلٌ بين الإسلاميين مسألة استضافةِ الوسائل الإعلامية الإسلاميّة لبعض من يصنّف في خانة العداء للإسلاميين، ما رأيكم في هذه القضية؟

الإنسان عليه دائماً أن يكون له ضمير حيّ. التمييعُ وهو ألا نعرف معروفاً، ولا ننكر منكراً هذا ليس صحيحاً. عندنا ثوابت دائمة، والحقّ حقّ وسيظلّ حقّاً، والباطل باطلٌ وسيظل باطلاً. نعم، قد يكون التعايش مع هذا الباطل ضرورة من باب ارتكاب أخف الضررين بتفويت أكبرهما، و اقتراف أهون الشرين لتفويت أعظمهما، أو من باب تفويت أصغر المصلحتين لتحصيل الكبرى. الإسلام مبنيٌّ على تحصيل المصالح و تكثيرها، وعلى درء المفاسد و تقليلها. 

هذه المعادلة من خلالها يجب أن ننظر إلى هذه اللقاءات.. إذا كان فيها مصالح يمكن تحصيلها أو مفاسد يمكن درؤها، كأن نتجاوز بعض النزاعات التي قد تكون دامية فلا بأس بها. أما أن تكون لقاءات لغرض اللقاء فحسب، ولبهرجة الباطل، وخلط الأوراق فهذا ليس صحيحاً أبداً، والأمر دقيق.


* قد يكون من أهداف هذه اللقاءاتِ التأكيدُ على أنّ حملةَ الإسلام وورّاث الرسالة ليسوا منغلقين ولا خائفين من أحدٍ، وأنهم أوسع الناس صدراً للحوار ثقةً منهم بما عندهم.

نعم، نحن لسنا منغلقين، يمكن إشعار الآخر أننا نملك الحجة البالغة و البرهان و بالتالي لا نخشى شيئاً. هذه قاعدتنا.


* يلحق بهذه القضية قضية أخرى، وهي إتاحة بعض الوسائل الإعلامية الفرصة لنقدِ الصحوةِ ومسيرتِها ورموزِها نقداً يرى أصحابُهُ أنه لتقويم المسيرة، ويرى آخرون أنّه ضربٌ من معاونةِ شانئي الصحوة ومبغضيها. هل من تعليق؟

تقويم المسيرة شيء طيّب، و في سورة آل عمران قُوّمَتْ مسيرةُ ما بعد بدرٍ وأحدٍ، ومن ذلك قوله تعالى: ((ولقد صدقكم الله وعده إذْ تَحُسُّونهم بإذنِهِ حتى إذا فشلتم وتنازعتُم في الأمرِ وعصيتُم من بعد ما أراكم ما تحبّون منكم من يريد الدنيا ومنكم مَنْ يريدُ الآخرةَ ثمّ صرفكم عنهم ليبتليَكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضلٍ على المؤمنينَ (152) إذ تُصْعِدون ولا تَلْوون على أحدٍ والرسولُ يدعوكم في أخراكم فأثابكم غمّاً بغمٍّ لكي لا تحزنوا على مافاتكم ولا ما أصابكم والله خبيرٌ بما تعملون))، فها نحن نرى كيف قومت مسيرة المسلمين بعد الانتصار و بعد الهزيمة و على ملأ من خلال الوحي. فتقويم المسيرة شيء حسن .

لكن لابد من التنبيه على أنّ التقويم يختلف عن التجريح، ويختلف عن الشماتة ، نقوّم المسيرة أي نصحِّحُها، نلغي العنف من الحياة ونضع مكانه الدعوة الصحيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكلمة الواضحة. 

وأنا أشدّد على هذا المعنى لأنّ التجريح والشماتةَ باسمِ التقويم قد يفضيانِ إلى فتنة وفرقةٍ واختلافٍ وربما إلى تهارجٍ واقتتالٍ، والرسول  حذّر من ذلك تحذيراً شديداً ((لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض))، و قال عليه الصلاة والسلام لأبي ذرّ في شأن الطوائف التي تقتتل: ((إن بهرك السيف فاجعل الثوب على وجهك)). وهذا تحذير شديدٌ لا يفهمه إلا من رأى الاقتتال الداخليّ فعَرَفَ ضرورةَ تفويت أكبر الشرين بارتكاب أخفهما. 

أنا أعتقد أن مسيرة عشرين أو ثلاثين سنة رفعت فيها الصحوة أعلاماً، وتحرّكت في اتجاهات متعددة هي مسيرة لها أهميّتها، ولكنّها تحتاج إلى تقويم و إلى تقويم [الأولى بمعنى بيان القيمة، والثانية بمعنى تعديل العِوَج]، والأمر يحتاج إلى كلام طويل، والمهمّ ألا أفهم خطأً أنا أدعو إلى التقويم ولو علناً لكنّ التقويم عندي شيءٌ يختلف بالكليّة عن التجريح. 

 

بن بيه: توحيد المرجعيات يحد من تضارب الفتوى وتناقض الآراء

قال: من لايملك أدواتها لا يتسور بجدرانها

بن بيه: توحيد المرجعيات يحد من تضارب الفتوى وتناقض الآراء


أكد نائب رئيس الاتحاد الدولي لعلماء المسلمين الشيخ العلامة عبدالله بن بيه على أهمية وجود مرجعيات للحد من تضارب الفتاوى وتناقض الآراء والمواقف مشددا في الوقت ذاته على أنها تحتاج لمزيد من الجهد والبلورة لحماية أهل السنة بما يمكن ان تمس عقائدهم وأفكارهم التي تخالف المصادر من القرآن الكريم والسنة المطهرة. وقال في حديث لـ”الدين والحياة” إن أهل السنة لديهم مرجعيات ومصادر متحدة كالمجمع الفقهي الدولي والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الاسلامي والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. وتطرق الشيخ ابن بيه إلى عدد من الموضوعات الحيوية التي تهم المسلمين في الوقت الراهن, وإلى نص الحديث:



توحيد المرجعيات

البعض يرى  بضرورة وجود مرجعية سنية فما رأيكم؟ 


أهل السنة عندهم مرجعيات ومصادرها متحدة ولو أنها متعددة، والحمد لله يوجد الآن المجمع الفقهي الدولي الذي يعتبر مرجعية لكل المسلمين والمجمع الفقهي التابع للرابطة وهيئة كبار العلماء والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فتوحيد المرجعيات أمر مهم للحد من تضارب الفتاوى وتناقض الآراء والمواقف ولكنها تحتاج لمزيد من الجهد وبلورة مجهود مشترك لحماية أهل السنة بما يمكن أن يتطرق لعقائدهم وأفكارهم التي تخالف المصادر السنية من القرآن والسنة ويمكننا أن ننظم الخلافات حتى لا يكون هناك تصادم ودون أن نشن حربا شعواء على الآخرين مع الاحتفاظ بالخصائص والمميزات التي لا يجوز بحالة من الأحوال التنازل عنها.



صناعة الفتوى

المصطلح الذي أطلقته صناعة الفتوى ما المراد به؟


– المصطلح الذي أطلقته صناعة الفتوى أردت به أن أنبه وأيقظ ضمائر العلماء وحتى المستفتين أيضا من العامة بأن الفتوى صناعة وليست أمرا بسيطا وبالتالي الاعتراف بمبدأ صناعة الفتوى يقتضى صناعة ومصنوعا وأدوات لهذه الصناعة فلا يجوز لمن لم يتدرب على هذه الصناعة أو من لا يملك أدواتها أن يتسور جدارها وأن يبيح حماها بل عليه أن يسأل أهل الصناعة وهم أهل الذكر “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون” هذا السر والحكمة في هذا الاسم  الذي  أعطيناه اسما لكتابنا صناعة الفتوى.


استقراء النصوص

هناك من يتجاوز النصوص بحجة أن هناك مقاصد شرعية فما تعليقكم؟


– هذا يدخل في صناعة الفتوى الذي ذكرناه آنفا، العلاقة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية هي علاقة حميمة لأن المقاصد إنما كانت مقاصد من خلال استقراء النصوص الجزئية وبالتالي هي مقاصد للشريعة استقراء من نصوص الشرعية وليست خارجا عن الشريعة حتى ندعي نوعا من التضارب بينها وهذا لا يفقهه إلا العالمون الذين يعرفون النصوص الجزئية ومدى تطبيقها وعرفوا المقاصد الكلية ومجالات تطبيقها والجدلية قائمة بين المقاصد والنصوص الجزئية، فمذهب الراسخين إعمال المقاصد مع إعمال النصوص الجزئية فالعالم يجب أن لا تغيب عن بصره  النصوص الجزئية وأن لا تغيب عن بصيرته المقاصد الكلية ولا يجمع بين الاثنين الإ العالم فالذي ينظر إلى ظاهر النصوص الجزئية فهو مفرط وليس على سنن وعلى هدي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكما أن من ادعى الاكتفاء بالمقاصد وألغى النصوص الجزئية فهو أيضا خارج عن منهج السلف فلا بد من التعامل مع الاثنين بالطرق التي سنها العلماء والتي توجد خلاصتها في أصول الفقه فهي خلاصة معايير الاستنباط والتعامل بينهما.


أصول الفقه

ذكرتم أن أصول الفقه فيها خلاصة معايير الاستنباط والتعامل بين مقاصد الشريعة والنصوص الجزئية وهناك من يقول إن أدوات أصول الفقه لم تعد كافية ونحن بحاجة إلى تجديد لأصول الفقه.. ما تعليقكم؟


– هذه الدعوات قائمة ولكنها دعوات تحتاج إلى شيء من التأمل والتوقف لأن من ينادون بتجديد أصول الفقه لم يستوعبوا الإمكانات المتاحة في أوعية أصول الفقه وأوعية الاستنباط فعليهم أولا أن يدرسوا أصول الفقه كما تركها الأولون من عهد الشافعي  إلى زمن الشاطبي ليروا مدى الامكانات المتاحة في أصول الفقه لاستنباط الأحكام ثم إذا كانت لديهم وسائل لاستنباط أوعية أخرى بالإضافة إلى أوعية دلالات الألفاظ ودلالات معقود النص بالإضافة إلى القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف بالإضافة إلى الأوعية الكبرى التي لا تترك شاردة ولا واردة والتي بالإمكان إذا أحسنا استعمالها  أن نقدم حلولا في كل القضايا المستجدة فإذا هم فعلوا ذلك ووجدوا قصورا ونقصا يقدموا لنا أدوات كافية لنتعامل معها ،أما مجرد الدعوى التي لا تستند إلى فهم  ومآلها هو أن نترك ما بين أيدينا من أدوات الاستنباط إلى المجهول ولنسير في عالم الغيب فهذا ليس مقبولا.



الفتاوى والضوابط

وهل ترى ضرورة وجود ضوابط للمفتين في الفضائيات؟


– نعم لقد أقيمت مؤتمرات حيال هذا الأمر وخصوصا مؤتمر الإفتاء بدولة الكويت ودرست هذا الموضوع وبالتالي فمن الضروري أن توضع معايير وحواجز دون الإفتاء المفلت بخاصة القضايا الكبرى كقضايا الجهاد والتكفير والقضايا التي تهم الأمة ولا ينبغي أن يترك فيه الحبل على الغارب لمن يتعرف على المقاصد الشرعية وعلى الواقع لأن الجدلية بين الواقع والنصوص جدلية يجب على الفقيه أن يحسنها وكذلك قضايا تهم الشركات والاقتصاد الإسلامي وهي قضايا لا يحسن الخوض فيها كل احد تبقى القضايا الجزئية التي تهم العبادات والمعاملات البسيطة فهي يمكن للفقيه المتمكن أن يفتي فيها فالأمر ليس على ميزان واحد كما يقول الشاطبي وليست على حد واحد فبعض القضايا فيها غرر وفيها خطر فبالتالي لا يفتي فيها من لا يبدئ ولا يعيد وهناك قضايا توجد حلولها في بطون الكتب بغض النظر عن الواقع لأن الواقع لا يختلف من زمن إلى زمن ومن مكان إلى مكان وهذه يمكن للفقيه العالم الذي له معرفة بما في الكتب أن يفتي فيها. 


البعض يقول إن الزمن زمن رخص وليس زمن عزائم؟


– التعامل مع الرخص والعزائم أساس من أسس الشريعة  الطاهرة وهذه الشريعة تنزيل من حكيم حميد وقد سبق في علم الله جل وعلا أن هذا الإنسان ضعيف وأخبر الله تعالى أن خلق الإنسان ضعيف وان الإنسان جزوع قال تعالى (إذا مسه الشر جزوعا).

أحوال الإنسان تقتضي بفطرته أن يتعامل مع الرخص والعزائم فهو بين الصحة والسقم والشباب والهرم واليسر والعسر مما جعل الشريعة تحسب لكل شيء حسابه وتقدم لكل شيء نصيبه ونصابه وهي شريعة الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها. فلا غنى عن التداول والتناوب بين العزائم والرخص فمن قبل عزائم الشريعة أعطته رخصها ومن رفض العزائم لم تنظر إليه ولا تقبل منه صرفا ولا عدلا.

فلا نقول إنه زمن يلغي العزائم بل العزائم موجودة وقائمة في حدودها وأن الرخص موجودة وميسورة في كل حالة فهذه سنة وشريعة الفطرة. 



الحوار مع الغرب

انشأتم مركزا عالميا للتجديد والترشيد مقره لندن  ما دوره؟ 


– هو مركز كإسمه للتجديد والترشيد وهو بحث عن إعادة الفهم في القضايا التي تعترض المسلمين فالتجديد ليس ابتداعا وإنما هو إبداع وهو محاولة لتجديد ما اندرس ربما لعدم الفهم وهو ربط بين النصوص وبين مقاصد الشريعة من جهة وبين النصوص والمقاصد وبين الواقع من جهة أخرى فهذا الربط الدائم من خلاله يتجدد فهمنا للقضايا ومن خلاله ندرك سعة الشريعة ويسرها والإمكانات المتاحة في هذا الدين ليس فقط للفهم الإيماني ولكن أيضا للتعامل مع قضايا الإنسان فالمعاملات الاقتصادية وقضايا التعايش مع الآخر والتساكن كل هذه القضايا تحتاج إلى التجديد أما  الترشيد هو عبارة عن الإرشاد للمسلمين في الغرب إلى السلوك الأقوم والهدي الأسلم ولهذا فالمركز ينظم دورات لقادة الفكر ورؤساء المراكز والأئمة ومن خلال هذه الدورات نقدم الخلاصات الفكرية والفقهية والشرعية ونجيب من خلالها على أسألتهم ونتناقش معهم لنفيد منهم أيضا فليس هو اتجاها واحدا وإنما هو اتجاهان فنسمع ونرد الصدى فهو عملية تفاعل مع المسلمين  في ديار الغرب أو حتى في بلاد الأكثرية المسلمة لأن العالم أصبح كما يقال قرية واحدة و من هذا المنطلق فلا يمكن عزل بلد عما يجري في العالم اليوم وبالتالي الفقه الذي نسميه فقه الأقليات ستحتاج اليه بعض الأكثريات في الواقع تعيشه ويحتاج الجميع الى الرخص والأمر محتمل. 


مطلب شرعي

أنتم من الداعمين لفكرة الحوار مع الغرب ولكن من نحاور الساسة أم الشعب أم رجال الدين؟


– لا إشكال لدينا أن نحاور الساسة أم رجال الدين أم رجال الفكر أم الشعب بالعموم  لأنه من جهه الدعوة واجب ومطلب شرعي ثم إن ديننا ليس فيه شيء يخالف الفطرة أول العقل فهو دين برهان  ولهذا يقول الحافظ بن العربي في تفسير قوله تعالى: “ودين الحق ليظهره على الدين كله” يقول بالحجة والبرهان لا بالسيف والسنان أي وسيلة إظهار الدين هو الحجة والبرهان وفي هذا الزمن الذي افترى فيه الناس على الإسلام وعلى المسلمين وحاولوا إلصاق التهمة الكبرى تهمة الإرهاب التي قدمها المحافظون الجدد لكي يدمروا بها العالم على ما سموه بإعادة نظام العالم والشرق الأوسط الكبير ونحن في هذه الفترة بحاجة إلى أن نظهر أن هذه الدعاوى كاذبة وان ديننا دين سلام وعدل وأن الآخر لا يستند إلى منطق صحيح مبدأ سليم: فالمسلمون في هذه الفترة وهذا لا يعني أن بعضهم قد ارتكب خطايا من المسلمين قد تتيح فرصه لهؤلاء ليقدموها كنماذج وسائل إيضاح لأفكارهم التي في نفوسهم والتي يبحثون عن وسيلة لتجسيدها ويستقطبون أمما أخرى للانضمام إليهم للانقضاض على الإسلام واستئصال شأفتهم وهذا لم يكون ولن يكن والمحافظون اليوم في بيوتهم وصلهم ما وصلهم فهم اليوم في متاعب اقتصادية وأمنية  كبيرة.وعلينا أن نقدم أنفسنا كما هي ناصعة وأن نقدم ديننا كما هو لصالح البشرية لأن الاسلام جاء رحمة للعالمين.

 

الإقتصاد الإسلامي

لماذا لم يقدم العلماء المسلمون الاقتصاد الإسلامي للعالم كحل في الأزمة المالية؟ 


– يبدو أننا لم نحسن عرضه بشكل كاف وإن كان هناك نماذج موجودة للاقتصاد الإسلامي والمصارف الإسلامية أعطت صورة ما وهي ليست سيئة الصورة وإن لم تكن كافية. والاقتصاد العالمي يشكو من جملة من الإمراض بعضها فلسفي وبعضها يرجع إلى التطبيق، في كلا الحالين للإسلام موقف رائع وبإمكان الاقتصاد الإسلامي أن يعالجها. فالجانب الفلسفي من الاقتصاد العالمي تحت مبدأ حرية المبادرة  (دعه يعمل دعه يمر) بأن يعمل دون دخل من أحد ويمر بالأموال والأشخاص دون قيود والإنسان هو المرجعية فيها، والجانب الفلسفي عند الشريعة أن المرجعية الأولى من الله عزوجل والاستخلاف كما قال تعالى (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) فجانب الاستخلاف لا يجعل الإنسان مطلق الحرية ولكن في اطار من جلب المصالح ودرء المفاسد لأنه مستخلف وليس اصلا , وبعد أزمة تسع وعشرين وضعوا بأنفسهم  قيودا، وجاءت مرحلة (التاتشرية والريجانية) بعدها ففككوا هذه القيود بحيث أنهم سمحوا للمبادرات الفردية بناء على مبدأ آدم سميث المنظر الاقتصادي الكبير بأن اليد الخفية في السوق تصلح ما أفسدته السوق فالسوق يصلح نفسه بنفسه تلقائيا وقد ظهر عورها.

والاقتصاد الإسلامي يؤيد المبادرة والحرية ولكن بقيود وضوابط من شأنها تسدد المسار الاقتصادي. أما من ناحية التطبيق فإننا نجد اقتصادا غير واقعي كيف ولا والثروة الحقيقية خمسة في المئة والباقية هي ما تقوم على المقامرات والتوقعات والثروات التي فيها ليست حقيقة والاقتصاد الإسلامي يقوم على مبدأ التداول كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وقال تعالى “تديرونها بينكم” والتداول هو للثروة الحقيقية وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (بع الجمع بالدراهم واشتري بالدراهم جنيبا) فالدراهم هي وسيط فقط . فعندنا مبدأ التداول كما يسميه ابن عاشور الرواج ومبدأ الشفافية ونسميها الوضوح فهم أنشأوا ثروة كبيرة تدور على الربا وهو مرفوض في الإسلام جملة وتفصيلا أن تبيع مالا بمال وعندهم في الغرب من رفضه والإسلام هدد بالحرق والمحق “فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله”.

وهم أيضا يتعاملون بالديون بيعا وشراء وجعلوها سلعة فالاسلام حذر منه فبيع الكالئ بالكالئ كما في الحديث الذي رواه البزار. 


العلاقة مع الشيعة


ليست هناك عبادة تقوم على السب واللعن

في رده على سؤال لـ”الدين والحياة” حول وجود تقارب بين أهل السنة والجماعة والشيعة قال العلامة عبدالله بن بيه إن التقارب أمر صعب لاختلاف المصادر فنحن نؤمن بالسنة التي وردت في كتبها وأيضا لنا طريقتنا في تفسيرها ولنا مصدريتنا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, نحن نأخذ من آل بيته صلى الله عليه وسلم ونأخذ من أصحابه ونرى أنه لا يوجد تعارض ولا تناقض بين محبة آل بيته صلى الله عليه وسلم وبين محبة أصحابه والاقتداء بهم فاختلاف المصادر قد يجعل التقارب المذهبي أمرا صعبا ومع ذلك نقول بتنظيم الاختلاف كمسيرة القطارات دون أن تصدم وأن الدائرة الكبرى دائرة لا إله إلا الله محمد رسول الله تجمعنا مع كل من يقول هذه الكلمة ولكن يجب أن لا نقصي الفروق ونرجو إلا تكون سببا للاحتراب والاضطراب فليس هناك عباة تقوم على السب واللعن.