ارشيف ل February, 2009

بيان بخصوص الأوضاع الأمنية الأخيرة في كندا

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه

الإسلام دعوة إلى السلام

قال الله تعالى ﴿ والله يدعو إلى دار السلام ﴾ القرآن الكريم

قد بلغنا من خلال وسائل الإعلام ما أعلن في دولة كندا من العثور على مجموعة إرهابية كانت تنوي القيام بأعمال تخريبية في كندا ، وقيل إن هذه المجموعة تنتمي إلى الديانة الإسلامية

 

ونود أن نؤكد على ما يلي:

أولاً: إننا نستنكر بشدة هذه الأعمال والأفكار والدوافع التي تنشأ عنها ونعلن أنها مخالفة للقيم الإسلامية التي تدعو إلى التعايش البشري والتسامح ، وتحرم تحريماً قاطعاً كل اعتداء على الأنفس والممتلكات.

ثانياً: ننوه بجهود الحكومة الكندية في تعاملها مع مواطني كندا من الديانة الإسلامية وتقدر لها ذلك.

ثالثاً: نشيد بالتعايش والتسامح الذي يطبع العلاقة بين مختلف مكونات الشعب الكندي من مسلمين وغير مسلمين في شعب ودولة واحدة وأمة واحدة لا تميز بين مواطنيها على أساس ديني أو عرقي كما لاحظنا خلال زياراتنا لكندا.

رابعاً: ندعو المسلمين أن يدينوا هذه الأفكار والأعمال والسلوك بكل قوة ، وأن يقفوا صفاً واحداً ضد هذه الأقلية الإرهابية الشاذة التي تشوه صورة الإسلام والمسلمين ، كما ندعو الحكومة والشعب الكنديين أن يتجنبوا التعميم في خطابهم ، وأن يتأكدوا أن المسلمين مواطنون جيدون باعتبار أن دينهم لا يشكل أي مشكلة في التعايش والاندماج في ظل القانون والاحترام المتبادل وأخيراً.. نعرب عن تضامننا مع الشعب الكندي بمختلف فئاته ومكوناته من كافة الديانات ضد أي سلوك يدعو إلى العنف والكراهية والإخلال بالأمن وبالسلام الاجتماعي.

 

عبد الله بن بيـّه

نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

 

 

نحو ترشيد الفتاوى على الإنترنت 2 ـ 2

 

تحدثنا في الحلقة الماضية من المقال عن نهي العلماء عن تسلق غير المؤهلين على جدار الفتوى، ونكمل فنقول انه من اجل ذلك ضمن العلماء غير المجتهد إن انتصب أي ضامناً لما أتلفه من نفس ومال قال الزرقاني في شرحه لخليل: لا شيء على مجتهد أتلف شيئا بفتواه ويضمن غيره إن انتصب وإلا فقولان وأغلظ الحاكم على غير المجتهد وإن أدبه فأهل إلا أن يكون تقدم له اشتغال فيسقط عنه الأدب وينهى عن الفتوى إذا لم يكن أهلا.


قال ابن القيم: الفائدة الحادية والأربعون: إذا عمل المستفتي بفتيا مفت في إتلاف نفس أو مال ثم بان خطؤه قال أبو إسحاق الاسفرائني من الشافعية: يضمن المفتي إن كان أهلا للفتوى وخالف القاطع وإن لم يكن أهلا فلا ضمان عليه لأن المستفتي قصر في استفتائه وتقليده. ووافقه على ذلك أبو عبد الله بن حمدان في كتاب: «آداب المفتى والمستفتي» له ولم أعرف هذا لأحد قبله من الأصحاب ثم حكى وجهاً آخر في تضمين من ليس بأهل قال: لأنه تصدّى لما ليس له بأهل وغر من استفتاه بتصديه لذلك.


وفي المسألة كلام طويل نكتفي منه بما ذكرنا وهو يدل على ما وراءه إلا أنه يمكن أن نستخلص:


أن المفتي لا بد أن يكون عالماً مستبصرا وأن يكون ذا ديانة.ومن شروط الكمال أن يكون ذا أناة وتؤدة متوخياً الوسطية بصيراً بالمصالح وعارفاً بالواقع متطلعاً إلى الكليات ومطلعاً على الجزئيات موازناً بين المقاصد والوسائل والنصوص الخاصة، ذلك هو الفقيه المستبصر.وأن على الجهات المختصة أن تردع وتمنع غير الأهل من الفتوى، وأن ضمان المفتي قد يكون وجيهاً، إذا أصر على الفتوى، وألحق الأذى بالناس، وكان لا يرجع إلى نص صريح بفهم صحيح، أو إجماع، أو قياس عار عن المعارضة، أو دليل راجح وليس مرجوحاً في حالة التعارض كما أشار إليه الأصوليون قال في مراقي السعود :


تَقْويةُ الشَِّق هِيَ التَّرْجيحُ   *********   وَأوْجَبَ الأَخْذَ بِهِ الصَّحيحُ


 وإذا عمل بالمرجوح فلا بد من توفر شروط العمل من مصلحة تبتغى أو مفسدة تنفى. فهل عرض مفتو الشاشات والمواقع ـ وما أبرئ نفسي ـ أنفسهم على هذه والآداب ؟


ثانيا ـ صفة المفتي المجتهد:


قال إمام الحرمين: المفتى مناط الأحكام وهو ملاذ الخلائق في تفاصيل الحرام والحلال ولم ينكر واحد ولو سبق إلى إنكاره من لا اعتبار به اتهم في دينه كيف والصحابة رضي الله عنهم كانوا يفتون فيتبعون ويقضون فينفذون وكذلك من لدن عصرهم إلى زماننا هذا. ثم مقاصد الكتاب يحصرها فصول.


فصل: في صفات المفتي والأوصاف التي يشترط استجماعه لها. وقد عدّ الأستاذ فيه أربعين خصلة ونحن نذكر ذلك في عبارات وجيزة فنقول:


يشترط أن يكون المفتي بالغاً فإن الصبي وإن بلغ رتبة الاجتهاد وتيسر عليه درك الأحكام فلا ثقة بنظره وطلبه فالبالغ هو الذي يعتمد قوله.


وينبغي أن يكون المفتي عالماً باللغة فإن الشريعة عربية وإنما يفهم أصولها من الكتاب والسنة من بفهمه يعرف اللغة ثم لا يشترط أن يكون غواصاً في بحور اللغة متعمقاً فيها لأن ما يتعلق بمآخذ الشريعة من اللغة محصور مضبوط. وقد قيل: لا غريب في القرآن من اللغة ولا غريب في اللغة إلا والقرآن يشتمل عليه لأن إعجازه في نظمه وكما لا يشترط معرفة الغرائب لا نكتفي بأن يعول في معرفة ما يحتاج إليه على الكتاب لأن اللغة استعارات قد يوافق ذلك مآخذ الشريعة وقد يختص به العرب بمذاق ينفردون به في فهم النظم والسياق ومراجعة كتب اللغة تدل على ترجمة الألفاظ فأما ما يدل على النظم والسياق فلا. ويشترط أن يكون المفتي عالماً بالنحو، والإعراب، فقد تختلف باختلافه معاني الألفاظ، ومقاصدها.

ويشترط أن يكون عالماً بالقرآن. فإنه أصل الأحكام، ومنبع تفاصيل الإسلام، ولا ينبغي أن يقنع فيه بما يفهمه من لغته. فإن معظم التفاسير يعتمد النقل. وليس له أن يعتمد في نقله على الكتب، والتصانيف. فينبغي أن يحصل لنفسه علماً بحقيقته. ومعرفة الناسخ والمنسوخ لا بد منه. وعلم الأصول أصل الباب. حتى لا يقدم مؤخراً، ولا يؤخر مقدماً، ويستبين مراتب الأدلة والحجج.


وعلم التواريخ مما تمس الحاجة إليه، في معرفة الناسخ والمنسوخ. وعلم الحديث، والميز بين الصحيح والسقيم، والمقبول والمطعون.


وعلم الفقه وهو معرفة الأحكام الثابتة، المستقرة الممهدة. ثم يشترط وراء ذلك كله، فقه النفس فهو رأس مال المجتهد. ولا يتأتى كسبه. فإن جُبل على ذلك فهو المراد ، وإلا فلا يتأتى تحصيله بحفظ الكتب.


ولكن لا يشترط أن تكون جميع الأحكام على ذهنه في حالة واحدة ولكن إذا تمكن من دركه فهو كاف.


ويشترط أن يكون المفتي عدلاً لأن الفاسق وإن أدرك فلا يصلح قوله للاعتماد كقول الصبي.


قال في الدر المختار: المفتي عند الأصوليين هو المجتهد أما من يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفتٍ وفتواه ليست بفتوى بل هو ناقل.


ثالثا ـ الفتوى صناعة مركبة من عناصر، كل عنصر منها يفتقر الي شروط وضوابط .


أولا ـ النازلة أو الواقعة: وهي الأمر المطلوب الحكم عليه، ماهي طبيعتها سياسية اقتصادية اجتماعية محلية دولية، ما هو زمانها ومكانها شخوصها مآلات حكم الفقيه. كل هذه العوامل تحدد نوع الحكم الذي يصدره المفتي ان ذلك هو العلم بالواقع.

ثانيا ـ الحكم الشرعي: الإباحة الكراهة الندب الوجوب والتحريم لكل واحد من هذه الاحكام تفريعاته فالواجب قد يكون لذاته وواجب لغيره، والحرام قد يكون محرما تحريم مقاصد اوتحريم وسائل ولكل هذه الانواع مرتبته ومسقطاته ومرجحاته.

ثالثا ـ الدليل: هل هو من دلالات الالفاظ نصا أو ظاهرا أو اشارة او مفهوما… الخ.أو هو من أدلة المقاصد قياس، مصلحة مرسلة استحسان استصحاب…. هل هو كلي او جزئي. المتصرف في هذه العناصر والمهندس لهذا البناء هو المفتي الذي يجب أن يكون واضح الفكرة دقيق الملاحظة مستوعباً بالإضافة إلى المادة الفقهية في تنوعها وثرائها تفاصيل الواقع وتضاريس خريطته ملاحظاً الطبقة التي تنتمي إليها فتواه محققاً مناط دعواه.


كل ذلك يدل على ان الفتوى صناعة اذ ان من يفتي على المواقع والشاشات قد لا يحترم المرجعيات وادبيات هذه الصناعة.


فمتى يقف مفتو المواقع المجهولون عند حدهم؟


*المصدر:جريدة الشرق الأوسط(الخميـس 19 جمـادى الاولـى 1427 هـ 15 يونيو 2006 العدد 10061)

 

وما هي الغاية من التواصل؟ (2)

 

تحدثنا في المقال السابق، وسنتحدث في بعض المقالات اللاحقة، عن هموم وشجون التواصل بين الحضارة الاسلامية والحضارات الاخرى.


وفي هذا المقال نسأل: ما الغاية من التواصل؟!


إن الغايةَ من هذَا التواصلِ هو البحثُ عن نقاطِ الالتقاءِ عن طريقِ المنطقِ والعقلِ والفهمِ ، للوصولِ إلى أرضيةٍ مشتركةٍ تعتمد على المصالح المتبادلة، تكشف عن زيف رواسب التعصب التي تشوه صورة الإسلامِ والمسلمين.


والغاية الأخرى هي المثاقفة، والتلاقح الفكري الذي يسمح بالتأثُّر والتأثير، وليحلَّ التسامح محلَّ نظرة الاستعلاءِ والتفوقِ لدى قطاعٍ كبيرٍ من قادةِ الفكر في الغرب، وهي نظرة تتلخص في إقصاء الآخر، كما شرحتها الكاتبة الفرنسية صوفي بسيس في كتابها «الغرب والآخر».


كما أن من شأنه أن يخفف غلواء دعاة صدام الحضارات ويزيل النظرة الغالية لدى قطاع من المسلمين يعتبر الغرب كله شيطاناً ميئوساً من صداقته مردوداً على كل أطروحاته حتى ولو كانت مفيدة للإنسانية.


ونتيجة لهذه النظرة الاستعلائية يحاول الغرب جاهدًا أن يفرض رؤيته على الآخرين، ولا يعترف بحقِّ التنوعِ والاختلافِ، ومن لم يقبلْ بذلكَ فهوَ من معسكر الشرِّ ، لأنَّ العالمَ ينقسم إلَى أخيار وأشرار.


وعلى هذا الأساس تقوم فكرة صراعِ الحضارات التي تعتبر الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي لا تزال العصيَّة على الاحتواء الغربي وعلى الحداثة. كما يقول فوكوياما، وهو لا يختلف في ذلك عن صاموئل هانتنغتون.


إنَّ الإيحاءَ بحتمية الصدامِ نتيجةَ تنوُّع الحضاراتِ إنما هو دليل على فشلِ إحدى الحضارتينِ في أنْ تدركَ أهميةَ الاعتراف بحّق التنوع وهو الحق الذي سيكونُ أساسًا للحوارِ ووسيلةَ التعارف.


وهكذا فإنَّ مفهومَ التواصل يتقدَّم ليواجه مفهوم الصِّدام، ولقد اخترعت بعض الدوائرِ الغربية ما سمَّته «الحوارِ النقدي» مع بعض الدول الأخرى.


فالهدف الأسمى من الحوار والتواصل هو إيجاد خرْقٍ في جدار هذا التصور الغالي المتطرف، الذي لن يؤدِّي إلاَّ إلى تطرِّف وغلوٍّ وصدام، ففي المثل: من يزرع الريح لن يحصد إلاَّ العاصفة.


إنَّ أوضح مثالٍ على هذا التباينِ هوَ موقفُ الكثيرِ منَ المثقفينَ في الغرب منَ الرسومِ الراميةِ إلى الإساءةِ إلى صورةِ سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإنَّهم إذَا لمْ يؤيدوا الإساءةَ صراحةً فإنَّهم يمتعضون منْ ردِّ فعل العالمِ الإسلاميِّ، ويعتبرون أنَّ ما تقوم به الصحيفة أمرٌ طبيعيٌّ يدخل في حرية التعبير.


كما أنَّ سلوك بعضِ المسلمين في هذه الحادثة المتسم بالعنف لا يخدم قضية التواصل.


إن عمليةَ التواصلِ ستحاول تجاوز الحاجزِ النفسيِّ والثقافيِّ ومدِّ الجسورِ بين الحضارات، لتقديم البدائل المتاحةَ عنِ الصراع الدائمِ والعقيمِ في نفسِ الوقت.


ما هي الخطوات: تتمثل هذه الخطوات في خمس، نتحدث عنها في المقال المقبل.


*المصدر:جريدة الشرق الأوسط(الخميـس 22 صفـر 1427 هـ 23 مارس 2006 العدد 9977)

 

من أجل فهم أعمق للحاجة والضرورة في الإسلام

إذا كنا قد نوهنا في مقالات سالفة عن حدود توظيف الحاجة في الفتوى، فينبغي أن نوضح اليوم أن بحث الحاجة يندرج تحت عنوان كبير هو اعتبار مقاصد الشريعة في صناعة الفتوى بإزاء دلالات الألفاظ؛ وهو موضوع له تداعياته على صناعة الفتوى.

ففي السنوات الأخيرة كثر الحديث عن أهمية مقاصد الشريعة لا في الفتوى بمعناها الاصطلاحي؛ وهو: تبيين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه.

بل في عملية تجديد الفكر وعلاقة الموروث بالمعاصرة.

ونكتفي هنا بالعمل بالمقاصد في الفتوى، منبهين على أنه محفوف بالمخاطر الراجعة إلى الضوابط التي لا يتمكن من تطبيقها إلا من ارتاض في الشريعة فعرف مصادرها ومواردها ومداخلها ومخارجها،

ذلك أن العلماء في تعاملهم مع نصوص الشريعة انقسموا إلى ثلاثة اتجاهات:

فأولاً: الاتجاه الظاهري الذي لا يهتمُّ بالمعانِي، وإنما يقتصر على ظواهر النصوص، وهم يحصرون مظانَّ العلم بمقاصد الشارع في الظواهر والنصوص، كموقف أهل الظاهر من الأصناف الزكوية والأنواع الربوية في المطعومات والنقود، فيقتصرون على مورد النص ولا يجرون حكم العلة على المماثل، فلا زكاة في الرز ولا في الذرة ولا ربوية في غير الأصناف المذكورة في الحديث.

والاتجاه الثاني: يرى أنَّ مقصدَ الشارع ليس في الظواهر، ويطردُ هذا في جميع الشريعة، فلا يبقى في ظاهرٍ متمسَّك، وهؤلاءِ همُ الباطنة، وظهر هذا الاتجاه في القرن الأول مع الجعد بن درهم أيام الخليفة هشام بن عبد الملك، فكان أول من أنكر خلة إبراهيم عليه السلام وتكليم موسى عليه السلام متمسكاً بالباطن، وهو أن ظاهر الآية ليس مقصوداً، وقد أقام عليه الحدَ خالد بن عبد الله القسري أمير العراقين من قبل هشام يوم الأضحى في القصة المشهورة، وألْحَقَ بهؤلاء مَن يُغرقُ في طلبِ المعنى بحيثُ لو خالفتِ النصوصُ المعنَى النظريَّ كانتْ مطَّرحة.

والذي نرتضيه هو الاتجاه الثالث الذي شرحه الشاطبي بقوله: «والثالث: أن يقالَ باعتبارِ الأمرينِ جميعاً، على وجهٍ لا يخلُّ فيه المعنى بالنَّص، ولا بالعكس؛ لتجريَ الشريعةُ على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض، وهو الذي أمّه أكثرُ العلماءِ الراسخين؛ فعليه الاعتماد».

قلت: وهو مذهب الأئمة الأربعة الذين أجروا علل الأحكام المعللة على أمثالها، فشبيه الحلال حلال وشبيه الحرام حرام، وفرقوا بين المعاملات والعبادات فتوسعوا في اعتبار المقاصد في الأولى وضيقوا حدود المقاصد في الثانية، وإن كان قد نقل عن بعضهم التعليل في العبادات كما أجاز الأحناف أخذ القيم في الزكاة والكفارات بدلاً من الأنواع المنصوصة اعتباراً للمعنى والمقصد. لكنَّ بحرَ المقاصدِ لاَ يزالُ زاخراً يتجددُّ عطاؤُه وبخاصة فِي القضايَا المتجدِّدة، وذلكَ فِي اتجاهينِ: قضايَا لمْ يقمْ موجبُها فِي الزمنِ الماضِي، ولمْ تظهرْ الحاجةُ إليهَا: فقامَ فِي هذَا الزمانِ كمَا أشارَ إليهِ الشاطبيُّ فِي إحداث الصحابةِ أحكاماً فِي قضايَا لمْ يكنْ مقتضاهَا قائماً فِي زمنِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ ولمْ يكنْ مِن نوازلِ زمانِه كمَا يقولُ الشاطبيُّ، كجمعِ المصحفِ وتدوينِ العلمِ وتضمينِ الصناع. حسبَ عبارتِه. وقضايَا قامَ موجبُها فاختلفَ فيهَا العلماءُ، لكنَّ مقتضياتِ رجحانِ المصالحِ أوِ ترجُّحِ المفاسدِ في هذَا الزمانِ اقتَضَت الأخذَ بالقولِ المرجوحِ.

وهذا مذهبٌ واضحٌ وطريقٌ لاحبٌ نجدُه عندَ العلماءَ مِن مختلفِ المذاهبِ يأخذونَ زماناً بقولٍ هوَ أرجحُ مِن حيثُ الدليلُ والأخذُ بهُ عزيمةٌ واحتياطٌ، ثمَّ يهجرونَه فِي وقتٍ لاحقٍ لعمومِ البلوَى وعسرِ الاحترازِ والمشقَّةِ وفواتِ المصلحةِ ودرءِ المفسدةِ.

كمَا فعلَ الأحنافُ فِي أخذِهم ردحاً مِن الزمنِ بقولِ الأئمةِ، وعدلُوا عنْ ذلكَ لمقتضياتِ الزمانِ، كجوازِ الاستئجارِ علَى تعليمِ القرآنِ والعلومِ الشرعيةِ، وإجازتِهم امتناعِ المرأةِ مِن الارتحالِ معَ زوجِها؛ لأنَّ أهلَ الزمانِ قدْ فسدُوا وكثيراً مِن قضاياهُم مِن هذَا النوعِ، وجعلوا بعضَ الخلافِ خلافَ زمانٍ لا اختلافَ دليلٍ وبرهانٍ. أمَّا المالكيةُ فإنَّهمْ أصَّلوا لقاعدةِ جريانِ العملِ فراجعُوا مذهبَ مالكٍ علَى ضوئِها فِي بلادِ الغربِ الإسلامِي، فكانَ لكلِّ قُطرٍ عملٌ يختلفُ فِيهِ عَنْ عملِ القطرِ المجاورِ كعملِ فاسٍ وقرطبةَ وتونُس، فأعملُوا ضعيفَ الأقوالِ وأهملُوا راجِحَها إذَا ترجَّحتِ المصالحُ وماسُوا مَعَ رياحِ المقاصدِ الغوادِي والروائحِ، وحكمُوا بتقديمِ الضعيفِ علَى القولِ الصحيحِ لعروضِ سببٍ مِن جلبِ مصلحةٍ أوْ درءِ مفسدةٍ.

وسنسوقُ أمثلةً لهذِه المجالاتِ:

أولاً: تفعيلُ النظرية المقاصدية فِي ميدانِ النظمِ؛ كالشورَى والديمقراطيةِ وانتخابِ المجالسِ النيابية وأنواع التمثيل المباشر وغير المباشر.

وفي القضايا الاجتماعية والسياسية؛ كمشاركة المرأة في الحياة السياسية والاجتماعية،

وفي القضايا الاقتصادية: كالاشتراك في الشركات العملاقة عابرة للقارات، مع ما يشوبُ معاملاتِها من أوجه الفساد الشرعية، والانخراط في اتفاقات التجارة العالمية.

وذلك من خلال ميزان المصالح والمفاسد، وهو ميزانٌ قد يجورُ ويحيفُ إذا لم نحسنْ وضعَ الصنجةِ فِي الكفَّة.

ثانياً: ترجيحُ قولٍ ضعيفٍ علَى قولٍ قويٍّ بسبب ظهور دليله أو كثرة القائلين به، فيرجح عليه القول الضعيف وهذَا الترجيحُ يعتمدُ علَى قوَّةِ المقصدِ فِي الوقتِ الحاضرِ.

ولهذَا فإنَّي أقولُ لطلبتِي إنَّ مكانةَ القولِ الراجحِ محفوظةٌ، وحقوقُه مصونةٌ؛ لكنَّ المقاصدَ تحكُم عليهِ بالذهابِ فِي إجازةٍ، ولاَ تحيلُه إلَى التقاعدِ، ريثمَا تختفِي المصلحةُ التِي مِن أجلِها تبوَّأ القولُ الضعيفُ مكانَه. ولكنَّ الأمرَ يحتاجُ إلَى ميزانٍ يتمثَّلُ فِي النظرِ فِي الدليلِ الذِي يستندُ إليهِ القولُ الراجحُ الذِي قدْ لاَ يكونُ إلاَّ ظاهراً أوْ قياساً أوْ فعلاً محتملاً. هذا مِن جهةِ الدلالةِ.

وأيضاً مِن جهةِ الثبوتِ قدْ يكونُ خبرَ آحادٍ ونحوَه. ثمَّ إنَّ القائلَ بالقولِ الضعيفِ يجبُ أنْ يكونَ مِن أهلِ العلمِ الذينَ عُرفتْ مكانتُهم، وأنَّهم أهلٌ لأنْ يُقتدَى بهِم. وبذلكَ يكونُ الترجيحُ بالمقصَد متاحاً، بلْ ومعيناً.

ولدينا عشراتُ المسائلِ مِن هذَا النوعِ فِي مختلف أبوابِ الفقهِ، ولا سيَّما فيمَا نسمِّيه بفقهِ الأقلياتِ الذِي يستندُ إلى الضروراتِ والحاجات المنزَّلةِ منزلةَ الضروراتِ.

ولأطبَّقَ هذِه المعاييرَ سأضربُ أمثلةً مِن عدةِ أبوابٍ.

لأبدأَ بالعباداتِ: ففِي الحجِّ مثلاً مسألةُ الرمِي قبلَ الزوالِ قولٌ مخالفٌ لقولِ أكثرِ أهلِ العلمِ، وقدْ قالَ بهِ بعضُ العلماءِ مِن الصحابةِ والتابعينَ والفقهاءِ الآخرينَ؛ فهوَ منقولٌ عَن ابنِ عباسٍ عندَ ابنِ أبِي شيبة، وعنْ ابنِ الزبيرِ عندَ الفاكِهي، وقولُ طاووس وعطاءٍ فِي إحدَى الروايتين، والإمامِ محمدِ الباقرِ رضيَ اللهُ عنه، والروايةُ المرجوحةُ عَن أبِي حنيفةَ، وهوَ قولُ ابنِ عقيلٍ وابنِ الجوزيِّ مِن الحنابلةِ، والرافعيِّ من الشافعية. القولُ الراجحُ يستندُ إلى فعلِ الشارعِ الذِي يدلُّ على الوجوبِ فِي هذا الوقت؛ أيْ بعدِ الزوالِ.

وفعلُ الشارعِ مجملٌ؛ لأنَّ أفعالَ الحجِّ منها الواجبُ، ومنها السنَّة، ومنها الجائزُ، كالتحصيبِ مثلاً، وقدْ خالفَ بعضُهم أفعالَه عليهِ الصلاةُ والسلامُ فِي الترتيبِ، وأقرَّهم علَى ذلكَ قائلاً: افعلْ ولاَ حرجْ. بالإضافة إلى أن الرمي سنَّةٌ عندَ بعضِهم نسبه ابن جرير إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. ودلالةُ «خذوا عني مناسككم» علَى وجوبِ الأفعالِ ضعيفةٌ مِن وجهينِ أولاً: لمَا فِي دلالةِ الأمرِ مِن الخلافِ ففيهِ اثنا عشرَ قولاً: الوجوبُ والندبُ والوقفُ والقدرُ المشتركُ والتفصيلُ.. إلخ.

و«مناسككم» عامٌّ مخصوصٌ بسننِ الحجِّ ومستحباتِه.

أما الواقع: فكثرةُ الحجاجِ فِي عصرِ وسائلِ المواصلاتِ فيهِ ضيقتِ المكانَ وقاربتِ الزمانَ فأدَّت لزحامٍ هلكتْ فيهِ الأنفسُ وتضاعفتْ المشقةُ.

المقصدُ الشرعيُّ: المحافظةُ علَى الأنفسِ إحدى الضرورات «ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما».

المقصدُ الشرعيُّ الآخرُ: التيسيرُ «ومَا جعلَ عليكُم فِي الدينِ مِن حرَج» الآيةُ مِن سورةِ الحجِّ، ولا سيَّما فِي فريضةِ الحجِّ بدليلِ «افعل ولا حرج» وأدلةٌ كثيرةٌ لا تحصى. النتيجةُ: القول المرجوح عند الأحناف جَعله المقصدُ الشرعيُّ راجحاً ومتعيناً فيجوزُ الرميُ قبلَ الزوال. هذَا هوَ الفقـه.

*المصدر:جريدة الشرق الأوسط( الخميـس 30 رجـب 1427 هـ 24 اغسطس 2006 العدد 10131)

نحو ترشيد الفتاوى على الإنترنت 1 ـ 2

 

في هذا الأسبوع فرضت مرجعية الفتوى نفسها على برنامجي أولا برنامج حواري في قناة «المجد» مساء الأحد، وثانيا في الكويت يوم الاثنين مع مستخدمي شبكة الانترنت حيث اشتركت اهم المواقع الخاصة الى جانب مواقع القنوات بالإضافة الى مواقع بعض الوزارات الاسلامية وكان الهم المشترك هو ترشيد المواقع من خلال تحديد مرجعية، حتى ولو كانت فضفاضة، لكنها ضرورية لعزل المواقع «الطفيلية» التي لا تلتزم بمنهجية المذاهب الفقهية المعتمدة بدعوى الاجتهاد واللامذهبية التي اتخذت جسرا يعبر عليه من يريد ان يفتي بما شاء متعلقا بظاهر آية او حديث ضاربا عرض الحائط بأقوال العلماء العارفين وتأويل الفقهاء الراسخين ومرجعيات الإفتاء المعتبرة.


ولهذا فيجب، لإرساء عملية الترشيد على أسس صحيحة، أن تترسخ لدى الجمهور والخاصة ايضا ثلاثة أمور:


اولا ـ التشديد على ان الفتوى وظيفة خطيرة دينا ودنيا حتى تستقر في النفوس هيبتها وفي القلوب رهبتها.


ثانيا ـ صفات المفتي المجتهد، لأن من يريد أن يتجاوز أقوال علماء سلف الأمة ليفتي برأي يخصه عليه ان يكون متصفا بتلك الصفات.


ثالثا ـ ان الفتوى صناعة، فمن لا يحسن هذه الصناعة لا يمكن أن يتعاطاها.


وسنشير هنا بشيء من الإيجاز الى كل واحد من هذه الامور الثلاثة.


اولا ـ خطر الفتوى ومسؤولية المفتي: حكم الفتوى الوجوب كفائياً فهي فرض كفاية إذا قام به بعض الناس سقط عن البعض الآخر شأن فروض الكفاية ولكنها تجب عيناً إذا كان الفقيه مؤهلا ولم يوجد مفت غيره.


قال السيوطي في كتاب آداب الفتيا: باب وجوب الفتيا على من يتأهل لذلك وتحريم أخذ العوض عنه، أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون أكثر أبو هريرة وإنه لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت ؟إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاّعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم?. فالفتوى لها شأن عظيم في الإسلام، فهي خلافة للنبي صلى الله عليه وسلم في وظيفة من وظائفه في البيان عن الله تعالى، فبقدر شرفها وأجرها يكون خطرها ووزرها لمن يتولاها بغير علم ولهذا ورد الوعيد.


ففي حديث رواه «الدارمي» عن عبيد الله بن جعفر مرسلاً: «أجْرَؤُكُمْ عَلَى الفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى النَّارِ».


وأخرج الدارمي ايضا والحاكم عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «مَنْ أَفْتَى بِفُتْيا مِنْ غَيرِ تَثَبُتِ فَإِنَمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ».


وأخرج البيهقي عن مسلم بن يسار قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوأْ بَيْتاً فِي جَهَنَم ومَنْ أَفْتَى بِغَيَّرِ عِلْمِ كَانَ إِثْمُه عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ ومَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرِ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ» سنن البيهقي الكبرى.


وأخرج الشيخان عن ابن عمرو، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ الله لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ حَتَّى إذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمُ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُساً جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيرِ علْمِ فَضَلُّوا وأَضَلُّوا».


وأخرج سعيد بن منصور في سننه و الدارمي و البيهقي في المدخل عن ابن عباس قال: «مَنْ أفْتَى بِفُتْيا وهُو يٌعْمِي فيها كان إِثْمُها عَلَيه».


وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَشَدُ النَّاسِ عَذَاباً يَومَ القِيامَةِ رَجُلُ قَتلَ نَبِياً أو قَتَلَهُ نَبِيُّ أو رَجُلُ يُضِلُ النَّاسَ بِغَيرِ عِلْمِ أو مُصَورُ يُصَورُ التَّمَاثِيلَ».


وفي أثر مرفوع ذكره أبو الفرج وغيره «مَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِغَيرِ عِلْمِ لَعَنَتْهُ مَلائِكَةُ السَّمَاءِ ومَلائِكَةُ الأَرْضِ».


وكان المفتون الصالحون يخافون الفتوى فيستخيرون ويدعون قبل أن يفتوا. ذكر ابن بشكوال في كتابه الصلة في تاريخ أئمة الأندلس أن عبد الله بن عتاب كان يهاب الفتوى ويخاف عاقبتها في الآخرة ويقول:


من يحسدني فيها جعله الله مفتياً، وإذ رُغِب في ثوابها وغبط بالأجر عليها يقول: وددت أني أنجو منها كفافاً لا علي ولا لي ويتمثل بقول الشاعر:


تُمَنُونِيَّ الأَجْرَ الجَزِيلَ ولَيْتَنِي نَجَوْتُ كَفَافاً لا عَلَيَّ ولا لِيَا


وقال أحمد بابا التنبكتي عن نفسه إنه في فترة مقامه بمراكش بعد محنته: .. وأفتيت بها لفظاً وكتباً بحيث لا تتوجه الفتوى فيها غالباً إلا إليَّ وعينت إلي مراراً فابتهلت إلى الله تعالى أن يصرفها عني. وكان ثابت البناني يقول إذا أفتى: قد جعلت رقبتي جسراً للناس. ثم ترك الفتوى. ذكر ذلك الزمخشري في ربيع الأبرار.


أخرج سعيد بن منصور في سننه والبيهقي عن ابن مسعود قال: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون. وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: من أفتى الناس في كل ما يسألونه فهو مجنون.


قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله عن المفتين الجهلة: ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبُّ الناس بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مُداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟


قال ابن القيم: الفائدة الثالثة والثلاثون: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً.


وكان شيخنا رضي الله عنه شديد الإنكار على هؤلاء فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجعلت محتسباً على الفتوى؟ فقلت له يكون على الخبازين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتوى محتسب؟


ولهذا قال العلامة ابن نجيم ما نصه: ومن هنا يعلم كما قال ابن الغرس رحمه الله تعالى إن فهم المسائل على وجه التحقيق يحتاج إلى معرفة أصلين:


أحدهما: أن اطلاقات الفقهاء في الغالب مقيدة بقيود يعرفها صاحب الفهم المستقيم الممارس للأصول والفروع وإنما يسكتون عنها اعتماداً على صحة فهم الطالب.


والثاني: أن هذه المسائل اجتهادية معقولة المعنى لا يعرف الحكم فيها على الوجه التام إلا بمعرفة وجه الحكم الذي بني عليه وتفرع عنه وإلا فتشتبه المسائل على الطالب ويحار ذهنه فيها لعدم معرفة المعنى ومن أهمل ما ذكرناه حار في الخطأ والغلط.


وقال في البحر من كتاب القضاء عن التتارخانية: وكره بعضهم الإفتاء والصحيح عدم الكراهة للأهل ولا ينبغي الإفتاء إلا لمن عرف أقاويل العلماء وعرف من أين قالوا فإن كان في المسألة خلاف لا يختار قولاً يجيب به حتى يعرف حجته وينبغي السؤال من أفقه أهل زمانه فإن اختلفوا تحرى.


*المصدر:جريدة الشرق الأوسط(الخميـس 12 جمـادى الاولـى 1427 هـ 8 يونيو 2006 العدد 10054)

 

.. وماذا عن فقه الأقليات المسلمة؟!

 

حضرت في هذا الأسبوع في العاصمة البريطانية لندن مؤتمر الوسطية الذي دعت إليه وزارة الأوقاف الكويتية والمركز العالمي للوسطية بالكويت، وهو مؤتمر تميز بتنوع المشاركين فيه جغرافياً وفكرياً حيث وفدوا من مختلف مناطق أوروبا الشرقية والغربية من مختلف المراكز


والجمعيات، وكان الهدف تدارس أوضاع المسلمين الثقافية على ضوء مبدأ الوسطية الذي يجب أن يحكم حياة المسلم بعيدا عن الغلو والانحلال والإفراط والتفريط.


ومن بين المحاور التي عرضت للبحث تأصيل فقه الأقليات، وهو فقه ينكره البعض ويتجاوز به البعض حدوده، فهو إذن مجال للوسطية ولهذا احتاج إلى تأصيل، فتأصيل فقه الأقليات ينقسم إلى مقاصد وقواعد.


أما المقاصد فهي:


أولاً: مقصد عام وهو المحافظة على الحياة الدينية للأقلية المسلمة على مستوى الفرد أو الجماعة.


ثانياً: التطلع إلى نشر دعوة الإسلام في صفوف الأكثرية مع ما يستتبع ذلك من تمكين تدريجي للإسلام في الأرض.


ثالثاً: التأصيل لفقه العلاقة مع الغير في الواقع الحضاري والعالمي، وهو أمر قد لا يختص بالأقلية لتداخل الأوضاع العالمية لإيجاد حالة من الثقة المتبادلة والقبول.


رابعاً: التأصيل لفقه الجماعة في حياة الأقلية بمعنى الانتقال من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية.


أما القواعد فإنها لا تعني إحداث قواعد أصولية أو فقهية بقدر ما تعني التركيز في الاتجاه البحثي على قواعد موجودة في الموروث الأصولي والفقهي أكثر التصاقاً وأقرب وشيجة بواقع الأقليات لتمحيصه من جديد واستكشاف إمكاناتها في التعامل مع أوضاع الأقليات.


فقه الأقليات كسائر فروع الفقه يرجع إلى مصدري الشريعة: الكتاب والسنة إلا أنه عند التفصيل يرجع أولا: إلى كليات الشريعة القاضية برفع الحرج وتنزيل أحكام الحاجات على أحكام الضرورات، واعتبار عموم البلوى في العبادات والمعاملات وتنزيل حكم تغير المكان على حكم تغير الزمان ودرء المفاسد وارتكاب أخف الضررين وأضعف الشرين مما يسميه البعض فقه الموازنات والمصالح المعتبرة والمرسلة دون الملغاة.


«فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد». كما يقول ابن القيم في إعلام الموقعين.


وهي كليات شهدت الشريعة باعتبار جنسها فيما لا يحصر ولا يحصى من النصوص.


ثانياً: يرجع فقه الأقليات إلى نصوص جزئية تنطبق على قضايا وموضوعات ماثلة في ديار الأقليات وتشاركهم في حكمها الأكثريات المسلمة.


ثالثاً: يرجع فقه الأقليات إلى أصل خاص ببعض العلماء يعتبر حالة المسلمين في أرض غير المسلمين سبباً لسقوط بعض الأحكام الشرعية مما عرف بمسألة الدار التي نعبر عنها بحكم المكان وهو منقول عن عمرو بن العاص من الصحابة وعن أئمة كالنخعي والثوري وأبي حنيفة ومحمد ورواية عن أحمد وعبد الملك بن حبيب من المالكية.


وهو مؤصل من أحاديث كالنهي عن إقامة الحدود في أرض غير المسلمين أصله حديث أبي داود والترمذي وأحمد بإسناد قوي: «لا تقطع الأيدي في السفر».


فانطلاقا من هذه الأسس ومن الأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية وآراء أهل العلم يكون اجتهاد العلماء ترجيحاً انتقائياً أو إبداعياً إنشائياً، وإن كنت شخصياً أميل إلى النوع الأول ولا أجسر على النوع الثاني إلا بشاهد أي بنوع من التخريج لأن النوع الأول اختيار من أقوال العلماء لمصلحة اقتضت هذا الاختيار أو لدرء مفسدة قد يؤدي إليها تطبيق القول المتروك وبصفة أكثر دقة فسيكون الاجتهاد هنا على ثلاثة أضرب: اجتهاد جديد لإحداث قول في قضية جديدة قياسا على المنصوص في الأصلين؛ الكتاب والسنة. واجتهاد في تحقيق المناط، وهو اجتهاد لا ينقطع أبدا كما يقول الشاطبي لأنه تطبيق القاعدة المتفق عليها على واقع جديد تنطبق عليه هذه القاعدة وليس كالاجتهاد الأول الذي يختص به المجتهدون بل يستوي فيه المجتهد والمقلد.


أما النوع الثالث، فهو اجتهاد ترجيحي، وهو اختيار قول قد يكون مرجوحاً في وقت من الأوقات، إما لضعف المستند ـ وليس لانعدامه ـ فيختاره العلماء لمصلحة اقتضت ذلك، وهذا ما يسمى عند المالكية جريان العمل.


ولهذا فتسليط الأنواع الثلاثة للاجتهاد يكون في ضوء العناصر الثلاثة التي تحكم الفتوى، وهي واقع الأقلية والأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية.


من كل ذلك، تنشأ الفتوى في جدلية وتداخل وتكامل وتفاعل ينتج منه توازن بين الدليل والواقع يضبط به الفقيه طبيعة الفتوى ويرى به الحكم من خلال مرتبة الحاجة ومرتبة الدليل ومرتبة الحكم وكذلك من خلال التعامل بين الكلي والجزئي وهو تعامل دقيق لا يجوز فيه إهمال أي منهما بل يعطى كلا منهما قدر ما يستحق من الحكم، ولذا أصل المالكية لما سموه بالقاعدة البينية وهي إعطاء قضية واحدة ذات وجهين حكمين مختلفين باعتبار وجود دليلين.


وسترى هذه الأنواع من الاجتهاد من خلال مطالعة مشهد أوضاع الأقليات فيما يتعلق بأنكحتهم ومعاملتهم المالية وعوائدهم في الأكل واللباس والتعامل مع الناس في تهاني الأفراح والتعازي في الأحزان والأتراح والانخراط في الأحزاب والترشح والانتخاب إلى آخر القائمة.


فالأقليات تواجه تحديات عنيدة على مستوى الفرد الذي يعيش وسط بيئة لها فلسفتها المادية التي لا مجال فيها للوازع الديني وعلى المستوى الأسرة التي تحاول التماسك في خضم مجتمع تفككت فيه الروابط الأسرية واستحالت فيه العلاقة الزوجية بين الزوجين والأبوية بين الأبناء والأبوين علاقة غير قائمة على أسس من القوامة الإيجابية.


أما على مستوى المجتمع المسلم الصغير الذي يساكن هذه المجتمعات فهو مبعثر لا ينتظمه ناظم ولا يجمع شتاته جامع فالتحديات تطال العقيدة التي نعني بها أن يكون المرء مسلماً مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله وليس بالضرورة أشعرياً ولا سلفياً ولا معتزلياً وغير ذلك من التفسيرات التي تشوش على العامي.


ولعل العقيدة التي كتبها محمد بن أبي زيد القيرواني في صدر الرسالة والتي ترجع إلى نصوص الكتاب والسنة لا تختلف عليها طوائف أهل السنة هي أفضل شيء يتعلمه المسلمون في المهاجر لبساطتها وسلامتها من الجدل والتشويش.


كما تطال ممارسة العبادة مع ما يتطلبه من تكوين الجماعة المسلمة والمؤسسات الإسلامية من مساجد ومدارس ومراكز.


كما تطال العلاقة بالآخر وإيجاد وسائل التعايش التي تجنب المسلم الذوبان الثقافي. وكذلك تحرسه من التقوقع والعزلة ليصبح في النهاية عضواً فعالاً في المجتمع، أسوة بنبي الله يوسف عليه السلام عندما خاطب ملك مصر بقوله؟ اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم؟.


كل ذلك، يحتاج إلى فقه نفس يوازن بين الدليل والواقع مع ورع لا تشوبه وسوسة وجسارة لا ينغصها تهتك ولا جرأة.


*المصدر:جريدة الشرق الأوسط( الخميـس 05 جمـادى الاولـى 1427 هـ 1 يونيو 2006 العدد 10047)

 

التكفير.. لماذا وكيف الخلاص؟! (2 ـ 2)

كنا قد أشرنا في المقال السابق الى النقاش حول تعريفات التكفير، واستعرضنا شطرا منها،

ونكمل فنقول ان من هذه التعريفات تبرز العناصر التالية:

أولها: وهو أساس التعريف وحقيقة الحد المتمثل في الجنس والفصل هو ما عرف به ابن عرفة المالكي، فإن قوله: «كفر» هو جنس للردة، ويدخل فيه الكفر الأصلي والطارئ، وقوله: «بعد إسلام تقرر» هو الفصل أخرج به الكفر الأصلي، وما إذا لم يتقرر الإسلام أي لم يثبت.

أما تعريف صاحب تنوير الأبصار وصاحب المغنى فهو تعريف لاسم الفاعل وهو المرتد أي الراجع، فالرجوع هو الجنس وكونه عن «دين الإسلام إلى الكفر»، هو الفصل، وهذه التعريفات متقاربة إلا أنها لا توضح كيفية الخروج، غير أن ملحقات الحد بينت ذلك.

فقال تنوير الأبصار: «وركنها إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد الإيمان»، ويجعل التعريف مركبًا إذ كونه ركنًا يدل على أنه جزء لماهية، ولكن ابن عابدين قال: «هذا بالنسبة للظاهر الذي يحكم به الحاكم وإلا فقد تكون بدونه، كما لو عرض له اعتقاد باطل أو نوي أن يكفر بعد حين».

وهذا الكلام يجعل الاعتقاد ركنًا إلى جانب الكلام. أما ابن عرفة فقد جعل الكلام ونحوه وسيلة فقط لظهور الردة وليس جزءًا من الماهية فقال: عن ابن شاش: «ظهور الردة إما بتصريح بالكفر أو بلفظ يقتضيه أو فعل يتضمنه».

وهكذا فإن هذه الثلاثة هي مظاهر الردة، وقد نقل ابن عرفة كلام ابن شاش في عقد الجواهر الثمينة فيما تظهر به الردة ولكنه لم يتبعه في التعريف، فابن شاش عرّف الردة بأنها: «عبارة عن قطع الإسلام من مكلف»، وبهذا تكون الردة أمرًا قلبيًا مظهرها الخارجي الذي يحكم به قول صريح أو مقتض أو فعل متضمن.

وقد اقتصرت الأحناف على القول فيما مر إلا أنهم أضافوا الفعل، فقد قال ابن عابدين في الحاشية: «وكما لو سجد لصنم ووضع مصحفًا في قاذورة فإنه يكفر وإن كان مصدقًا؛ لأن ذلك في حكم التكذيب، كما أفاده في شرح العقائد».

أما تعريف الزركشي الذي نقلنا فهو تعريف للكفر وهو أعلم من الردة وجعل الجنس فيه الإنكار والفصل فيه هو ما عظم من الدين ضرورة، وهذا التعريف للرازي وهو مثل تعريف الأحناف الذي يعتبر إجراء كلمة الكفر عن اللسان ركنًا للردة، وقد ناقشه الزنجاني قائلا: «إن الإنكار يختص بالقول والفكر قد يقع بالفعل».

ولكن الزركشي بعد نقله لاعتراض الزنجاني على الرازي ناقشة قائلاً: «وما أورده من التكفير بالأفعال كلبس الزنار ونحوه على الضابط فجوابه أنه ليس على الحقيقية كفرًا لكن لما كان عدم التصديق باطنًا جعل الشرع له معروفات يدور الحكم الشرعي عليها. والظاهر أن من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتي بهذا ونحوه فلم يخرج الكفر عن أول التصديق».

بعد هذه المناقشات يبدو أن الردة مردها إلى القلب وأن وسيلته هي اللسان، أما الأفعال فقد تعطي حكم التصريح إذا كانت واضحة، وقد بالغ بعض العلماء بالتمسك بالعقد القلبي كأساس فريد للكفر،

فقال الشوكاني: «فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه، فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر، لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام، ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر، ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه». وإذا كان الأمر مردودًا إلى القلب لأن الكفر نقيض الإيمان، والإيمان محله القلب، فإن العلامات التي تترجم عن القلب يجب أن تكون واضحة شارحة غير غامضة ولا مشتبهة ولا محتملة لخطورة أمر الردة.

لما تقدم نرى أن ترسيخ ثقافة التسامح وقبول الاختلاف أمر ضروري لإطفاء نار فتنة التكفير التي تحرق الأخضر واليابس وتصيب القائم والجالس.

*المصدر:جريدة الشرق الأوسط(الخميـس 27 ربيـع الثانـى 1427 هـ 25 مايو 2006 العدد 10040)

التكفير.. لماذا وكيف الخلاص؟! (1-2)

 

 

التكفير لا يجوز أن يكون حكما جماعياً على جماعة من الناس من أجل أن شيخهم قال كذا أو الكتاب الفلاني من كتبهم اشتمل على مخالفات، قد تكون خطيرة، لما يؤدي إليه مثل ذلك من الأحقاد والفتن كما يقول أبوحامد الغزالي في كتابه «الاقتصاد في الاعتقاد»: فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ.

والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم.


وقد قال صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فإذا قالوا فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها.


وهذه الفرق منقسمون إلى مسرفين وغلاة، وإلى مقتصدين بالإضافة إليهم، ثم المجتهد يرى تكفيرهم وقد يكون ظنه في بعض المسائل وعلى بعض الفرق أظهر.

وتفصيل آحاد تلك المسائل يطول ثم يثير الفتن والأحقاد، فإن أكثر الخائضين في هذا إنما يحركهم التعصب واتباع تكفير المكذب للرسول، وهؤلاء ليسوا مكذبين أصلاً ولم يثبت لنا أن الخطأ في التأويل موجب للتكفير، فلا بد من دليل عليه ، وثبت أن العصمة مستفادة من قول لا إله إلا الله قطعاً، فلا يدفع ذلك إلا بقاطع.

وهذا القدر كاف في التنبيه على أن إسراف من بالغ في التكفير ليس عن برهان فإن البرهان إما أصل أو قياس على أصل، والأصل هو التكذيب الصريح ومن ليس بمكذب فليس في معنى الكذب أصلاً فيبقى تحت عموم العصمة بكلمة الشهادة.


فالردة أمر شخصي يحكم به قاض عالم مستكمل الشروط على شخص معين بإقراره أو بينة وليست فتوى تصدر ضد جماعة أو طائفة فإذا كان الأمر كما ذكر فما هو تعريف الردة ـ أعاذنا الله منها ـ قال في القاموس ـ ممزوجًا بالتاج ـ: والردة بالكسر اسم من الارتداد، وقد ارتدَّ عنه تحول، والاسم منه الرِّدِّة”.


وذكر العلماء عدة تعريفات منها قول ابن عرفة المالكي: الردة كفر بعد إسلام تقرر. وقال في تنوير الأبصار: المرتد هو الراجع عن دين الإسلام، وركنها إجراء كلمة الكفر على اللسان بعد الإيمان.


قال ابن قدامة: المرتد هو الرجع عن دين الإسلام إلى الكفر.

وقال الزركشي الشافعي في المنثور في تعريفه للكفر: هو إنكار ما علم ضرورة من دين محمد (صلى الله عليه وسلم)، كإنكار وجود الصانع، ونبوته، وحرمة الزنى ونحوه، وهذا كما أن الإيمان تصديق الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ في كل ما عليم بالضرورة مجيئه به.


وإنكار ما يثبت بالإجماع قد يخرج عن الضروريات، وهو كفر في الأصح، وأيضًا فإننا قد نكفر المجسم والخارجي وبطلان قولهم ليس من الضروريات، وأيضًا فالطاعن في عائشة ـ رضي الله عنها ـ بالقذف كافر إجماعًا وبراءاتها تثبت بالقرآن، والأدلة اللفظية عنده غير موجبة للعلم فضلاً عن الضروري، وشرط الحد أن يكون منعكسًا. قال: ولا يخفي أن بعض الأقوال والأفعال صريح في الكفر وبعضها في محل الاجتهاد.


ومن الأئمة من بالغ فيه وجعل يعد ألفاظًا جرت بها عادت العوام سيما الشطار منها ما يساعد عليه ومنها ما لا.


وفي الجملة تعداد الصور مما يتعذر أو يتعسر حتى قالوا: من أنكر مسألة الشرع فهو كافر، وهو خطأ عظيم وجهل ظاهر، وأما المسائل المجتهد فيها ينكرها المخالفون فلا شك أنّ أحد الطرفين شرع فليزم أن يكن أحد المجتهدين كذلك بالجملة، فالتكفير والتضليل والتبديع خطر والواجب الاحتياط، وعلى المكلف الاحتراز عن مواقع الشبهة ومكان الزلل ومواضع الخلاف.


 

*المصدر:جريدة الشرق الأوسط(الخميـس 20 ربيـع الثانـى 1427 هـ 18 مايو 2006 العدد 10033)

 

التكفير: الوجه الثاني للحرب على الأمة الإسلامية (2 ـ 2)

 

وقع التكفير لطوائف من المسلمين يكّفر بعضها بعضًا، فالأشعري يكفّر المعتزلي زاعمًا أنه كذّب الرسول في رؤية الله تعالى وفي إثبات العلم والقدرة والصفات وفي القول بخلق القرآن، والمعتزلي يكفّر الأشعري زاعمًا أنه كّذب الرسول في التوحيد، فإن إثبات الصفات يستلزم تعدد القدماء.


قال: والسبب في هذه الورطة الجهل بموقع التكذيب والتصديق، ووجهه أن كل من نزل قولاً من أقوال الشرع على شيء من الدرجات العقلية التي لا تحقق نقصًا فهو من التعبد، وإنما الكذب أن ينفي جميع هذه المعائر ويزعم أن ما قاله لا معنى له إنما هو كذب محض، وذلك هو الكفر المحض، ولهذا لا يكفر المبتدع المتأول ما دام ملازمًا لقانون التأويل؛ لقيام البرهان عنده على استحالة الظواهر».


وكلام الغزالي الذي لا يسلمه له بعض من العلماء هو نموذج من التشديد على من يستسهل إطلاق الكفر على الناس.


«وفي جامع الفصوليين روي الطحاوي عن أصحابنا: لا يخرج الرجل من الإيمان إلا جحود ما أدخله فيه، ثم ما تيقن أنه ردة يحكم بها، وما يشك أنه ردة لا يحكم بها؛ إذا الإسلام الثابت لا يزول بالشك، مع أن الإسلام يعلو وينبغي للعالم إذا رُفع إليه هذا أن لا يبادر بتكفير أهل الإسلام مع أنه يقضي بصحة إسلام المُكره».


أقول: قدمت هذا ليصير ميزانًا فيما نقلته في هذا الفصل من المسائل، فإنه قد ذكر في بعضها أنه كفر مع أنه لا يكفر على قياس هذه المقدمة، فليتأمل أحد ما في جامع الفصوليين.


وفي الفتاوى الصغرى: «الكفر شيء عظيم فلا أجعل المؤمن كافرًا متى وجدت رواية أنه لا يكفر».


وفي الخلاصة وغيرها: إذا كان في المسألة وجوه توجب الكفر ووجه واحد يمنعه، فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسينًا للظن بالمسلم، زاد في البزازية: «إلا إذا صرح بإرادة موجب الكفر فلا ينفعه التأويل، وفي التتار خانية: لا يكفر بالمحتمل؛ لأن الكفر نهاية في العقوبة فيستدعي نهاية في الجناية والاحتمال لا نهاية معه».


«والذي تحرر أنه لا يفتي بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة، فعلى هذا فأكثر ألفاظ التكفير المذكور لا يفتى بالتكفير فيها، ولقد ألزمت نفسي أن لا أفتي بشيء منها». أ.هـ كلام البحر ـ باختصار ـ .


ومثله نص عليه في تنوير الأبصار مع شرحه رد المحتار، وعلق ابن عابدين على قوله: ولو رواية ضعيفة بقوله: قال الخير الرملي: أقول: ولو كانت الرواية في غير أهل مذهبنا، ويدل على ذلك اشتراط كون ما يوجب الكفر مجمعًا عليه».


وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: وأجمع الصحابة وسائر أئمة المسلمين على أن ليس كل من قال قولاً أخطأ فيه أنه يكفر بذلك وإن كان قوله مخالفًا للسنة، فتكفير كل مخطئ خلاف الإجماع، لكن للناس نزاعا في مسائل التكفير قد بسطت في غير هذا الموضع ـ والمقصود هنا ـ أن ليس لكل من الطوائف المنتسبين إلى شيخ من الشيوخ أو لإمام من الأئمة أن يكفروا من عداهم، بل في الصحيح عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما».


 

*المصدر:جريدة الشرق الأوسط( الخميس 13 ربيـع الثانـى 1427 هـ 11 مايو 2006 العدد 10026)

 

التكفير: الوجه الثاني للحرب على الأمة الإسلامية (1 ـ 2)

 

لقد ابتليت الأمة بحروب يشنها عليها أعداؤها متذرعين بمختلف الذرائع ومتوسلين بشتى الوسائل، تارة بسبب جريمة سفيه ـ لم تثبت ـ يهلك من أجلها فئات من الناس، وتارة من أجل دعوة أسلحة دمار لم توجد، وتارة من أجل إيجاد ديمقراطية بالإكراه تشن حرب يحرق فيها الأخضر واليابس. إنها حرب أو حروب تفتقر إلى حد أدنى من المنطق وقد أوضحنا ذلك في مناسبات عدة وفي حوارات عديدة في أكثر من عاصمة غربية.

لكن الذي يهمنا اليوم هو حرب أخرى تشنها طوائف من هذه الأمة على الأمة الإسلامية لتخريب بيوتها من الداخل ليست أقل ضراوة ولا أقل منطقية من تلك التي تأتي من وراء البحار، تارة تحت عنوان الاختلاف في المذهب، وتارة تحت عنوان الولاء والبراء والعلاقة مع الكفار إلى غير ذلك من العناوين التي لا تقيم وزناً للمصالح والمفاسد ومآلات الأفعال ولا تدرك خطورة التكفير في الشرع الحنيف.


وفي هذه المقالة اليوم نستعرض بعض النصوص في خطورة التكفير:

قال تعالى: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[النساء: 94]. وفي الأحاديث الصحيحة النهي الشديد والوعيد لمن يرمي غيره بالكفر، فقد روى البخاري وأحمد: «من رمي مؤمنًا بكفر فهو كقتله». «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما».

والأحاديث بمثل هذا المعني كثيرة، وما ذلك إلا لما يستلزمه الكفر من النتائج الخطيرة التي من جملتها إباحة الدم، والمال، وفسخ عصمة الزوجية، وامتناع التوارث، وعدم الصلاة عليه، ومنع دفنه في مقابر المسلمين، وغيرها من البلايا والرزايا نعوذ بالله تعالى منها.

هذا وقد اختلف العلماء في مسائل التكفير وتبادلت الطوائف تهمته بحق أو بغير حق، إلا أنه بسبب ما ورد فيه من الوعيد حذّر أشد التحذير من التكفير جماعة من العلماء حتى قال الإمام السبكي: «ما دام الإنسان يعتقد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فتكفيره صعب».


وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني: «لا أكفر إلا من كفرني».

قال الشيخ: وربما خفي لسبب ما هذا القول على بعض الناس وحمله على غير محمله الصحيح، والذي ينبغي أن يحمل عليه أنه لمح هذا الحديث الذي يقتضي أن من دعا رجلاً بالكفر وليس كذلك، رجع عليه الكفر، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من قال لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما»، وكأن هذا المتكلّم يقول: الحديث دلّ على أنه يحصل الكفر لأحد الشخصين إما المكفِّر أو المكفَّر، فإذا كفرني بعض الناس فالكفر واقع بأحدنا، وأنا قاطع بأني لست بكافر فالكفر راجع إليه.

وقد بالغ الإمام أبو حامد الغزالي حتى نفى الكفر عن كل الطوائف فقال: هؤلاء أمرهم في محل الاجتهاد، والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم.


*المصدر:جريدة الشرق الأوسط(الخميـس 06 ربيـع الثانـى 1427 هـ 4 مايو 2006 العدد10019 )

جسر المصالح حينما يكون جسرا للحوار الحضاري

 

 

كنا تحدثنا في المقال السابق عن وجوب التركيز على دوائر الاشتراك بين حضارتنا الإسلامية والحضارات الأخرى، ومن ذلك دائرةُ القيمِ الدينية معَ أصحابِ الرسالاتِ السماويةِ «قلْ يَا أهلَ الكتابِ تعالَوا إلَى كلمةٍ سواء بينَنا وبينَكم», «وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون».


وقلنا ان الحضارة الغربية مسيحية، كما يرى هنتر ميد قائلاً: وحينَ نقولُ: المسيحيُّ فإننا نعني بالنسبة للفلسفة «التوحيدي»، فالإيمان بإلهٍ واحدٍ يحكمُ الكونَ الذِي خلقَه أساسٌ للتفكيرِ الدينِي للغربِ.. وهذهِ الأوامرُ أوامرُ الإلهِ شاملةٌ تنطبقُ على الناسِ جميعًا في كلِّ مكان.


وهذا الإيمانُ مشتركٌ، كما نبه عليه بعضُ رجالِ الدينِ المسيحيين المنصفينَ مثل هانس كيونج عندما يقولُ: بالنسبةِ لليهودِ والمسيحيين والمسلمين، فإنَّ الإيمانَ يعنِى أنَّ الإنسانَ هنا معَ كل ما أوتي من قوة ومن فكر، ملتزمٌ بدونِ قيدٍ أو شرطٍ بالتسليمِ والثقةِ باللهِ وكلماتِه.


ونختم هذه السلسلة عن أصول التحاور والالتقاء الحضاري بدائرة المصالح المتبادلة: كقضايا التجارةِ في الموادِ الأوَّليةِ والمصنَّعةِ والطاقةِ وحرية التبادل في نطاق منظمة التجارة والاتفاقات الدولية.


ولهذا فإنَّ التواصل سيكون متعدد الأبعاد متشعب الغايات، فمنه قيمي وثقافي ومنه مصلحي واقتصادي وسياسي، وقد يرفُد السياسيُّ الثقافيَّ، وقد تتضامن كل هذه الأبعاد للوصول إلى تفاهم حقيقي.


الخطوة الخامسة: التمرن على أساليب التخاطب وترتيب الحجاج:


إنَّ أهمَّ شيءٍ هوَ العقلانيةُ في الحوار. ولهذا يجبُ أنْ يكونَ كلٌّ من المتحاورينَ على درايةٍ بثقافةِ الآخرِ ومنطلقاتِه العقديةِ والفكريَّةِ. ليحسُنَ توظيفُ الكلمات، ولا نعنى باللغة ترجمةَ المفردات بمُرادفاتها وهو مهم حيث يتيه المتحاورون أحياناً في دهاليز المصطلحات، بل نعنى باللغة ما هو أبعد إنه الرسوخ في الثقافة التي تتجاوزُ الكلمات إلى رُوح تلك الحضارة ومبادئها الفلسفية وتطورها الاجتماعي والتاريخي. أذكر أني مرة في حوار مع بعض مسؤولي الغرب استشهدت على أهمية الشراكة «برقصة غربية» اعتقدت أن منشأها إيطاليا وأعجبهم الاستشهاد ولم يبدو أي اعتراض، لكني راجعت الموسوعة فيما بعد لأجد أن أصلها اسباني. إنها تفاصيل تافهة في حس المحاور العربي، وقد تكون كذلك لكنها نوع من التواصل الشكلي الذي قد يتطور إلى تواصل فعلي. إن إيجاد لغة تواصل تستوعب الخلفيات الثقافية والفلسفية ليس ترفاً بل ضرورة.


وهنا أشيرُ منْ واقعِ التجربةِ إلى أنَّ الطرفَ الإسلاميِّ غالباً ما يفتقرُ إلى الكفاءةِ فِي القضايا الفلسفيةِ والقانونيةِ، لإيصالِ رؤيتِه إلى الطرفِ الآخَر. وكذلكَ فإنَّ الاطلاعَ على الأسسِ الدينيةِ مِن مصادرها لدى الآخرِ، قدْ يكونُ مفيداً في جولاتِ الحوارِ الديني.


 

*المصدر:جريدة الشرق الأوسط( الخميـس 29 ربيـع الاول 1427 هـ 27 ابريل 2006 العدد 10012)

 

 

بحثا عن المشترك مع الآخرين(6)

 

اذا كان عقلاء العالم اليوم يشكون من غلبة منهج المواجهة بين الحضارات على منهج الاتصال، وتهدم الجسور، فإن من ضمن ما يجب ابرازه، والتأكيد عليه، قطعا لنهج الصدام، هو جلاء مشتركات الحضارات. وهي الخطوة التي نتحدث عنها هنا، ضمن احاديثنا السابقة عن مشكلة التواصل والانقطاع بين الحضارة الاسلامية وغيرها.

وهنا نقول إن من اسباب هذا الاتصال الحضاري هو إبراز المشترك بين الطرفين الذي قد يكونُ خافياً أو خافتاً أو قد يكونُ إطلاعُ الطرفين بعضِهم بعضاً عليه يسهِّل عمليةَ التواصل والانطلاق منه إلى آفاق المختلف فيه لتسهيل عملية التواصل.

ولهذا يجب توظيف المشترك في ثلاث دوائر:

دائرة القيم الإنسانية: فكلُّ الناسِ يبحثونَ عن العدلِ والسلامِ ويبغضونَ الجورَ والطغيانَ فما لا يرضاهُ لنفسِه لا يرضاه لغيرِه، إنَّه الضميرُ الإنسانيّ الذي يجب أن ننبهه من خلال القيمِ التي يؤمنُ بها الناسُ ـ كل الناس ـ فهناك معايير لا يختلف عليها الناس لأنها ترجع إلى العقل وهو كما يقول ديكارت أفضل الأشياء توزيعاً بين الناس ومبادئ الفطرة التي فطر الله الناس عليها وهي المسألة المعروفة في الفلسفة الإسلامية بالتحسين والتقبيح فقد قالَ القاضي عبدُ الجبار المعتزلي: إنَّ قبحَ القبيحِ وحسنَ الحسنِ مِن العلومِ الضروريةِ التِي يخلقها اللهُ في الإنسان».


وقد قال ابنُ تيمية وتلميذُه ابنُ القيم: إنَّ الأفعالَ حسنةٌ في نفسها أو قبيحة، وإن العقلَ يدركُ هذا الحسنَ والقبحَ في بعضِها دونَ الآخر.

فقد قال ابن القيم في مدارج السالكين: إنَّ قولَه تعالى: (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) الأعراف:157.

يؤكدُ أنَّ هذا الدينَ الذي جاءَ بهِ يأمرُ بما تشهدُ العقولُ الصحيحةُ بحسنِه، وينهَى عمَّا تشهدُ بقبحِه.


واختارَ القولَ بالحسن والقبح العقليين الأحنافُ، وهو مرويٌّ عن أبي حنيفةَ نفسِه، واختارَه أبو الخطابِ الكلوذانيِّ وأبو الحسنِ التميميِّ منَ الحنابلة، ومنَ الشافعيةِ أبو علي بنُ أبي هريرةَ وأبو بكر القفالُ الشاشيُّ الكبير.


واختارَ إمامُ الحرمينِ القولَ بالتحسينِ والتقبيحِ العقليينِ في أفعالِ العبادِ دونَ أفعالِ اللهِ تعالَى، وتبعَه الغزاليُّ، ويتداخلُ في نظرةِ المسلمينَ إلَى حدٍّ كبيرٍ الحسنُ والخيرُ.

وبالجملة: فإنَّ مَن يقولُ بالتحسينِ والتقبيحِ العقليينِ يجعلُ أساسَ القيمِ العقلَ، وهو أمرٌ مشتركٌ بينَ الإنسانيةِ جمعاء: فالعدلُ حسنٌ، والجورُ قبيحٌ … إلى آخر قائمة القيم. فكما قالَ ديكارت: إنَّ العقلَ هوَ أحسنُ الأشياءِ توزُّعًا بالتساوي بينَ البشرِ كلهم».


والوثيقةُ الدولية لحقوق الإنسان تمثِّلُ أهمَّ محاولةٍ لتوظيفِ المشتركِ الإنسانِي.

دائرةُ القيمِ الدينية: معَ أصحابِ الرسالاتِ السماويةِ ؟ قلْ يَا أهلَ الكتابِ تعالَوا إلَى كلمةٍ سواء بينَنا وبينَكم؟؟ وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون؟.


والحضارة الغربية مسيحية كما يرى هنتر ميد قائلاً: وحينَ نقولُ: المسيحيُّ فإننا نعني بالنسبة للفلسفة «التوحيدي»، فالإيمان بإلهٍ واحدٍ يحكمُ الكونَ الذِي خلقَه أساسٌ للتفكيرِ الدينِي للغربِ.. وهذهِ الأوامرُ أوامرُ الإلهِ شاملةٌ تنطبقُ على الناسِ جميعًا في كلِّ مكان».

وهذا الإيمانُ مشتركٌ، كما نبه عليه بعضُ رجالِ الدينِ المسيحيين المنصفينَ مثل هانس كيونج عندما يقولُ: بالنسبةِ لليهودِ والمسيحيين والمسلمين فإنَّ الإيمانَ يعنِي أنَّ الإنسانَ هنا مع كل ما أوتي من قوة ومن فكر ملتزمٌ بدونِ قيدٍ أو شرطٍ بالتسليمِ والثقةِ باللهِ وكلماتِه (بنقل جاك نيرنيك في حواره مع طارق «هل يمكن أن نعيش مع الإسلام؟» ص14 ).

وللحديث صلة…


 

*المصدر:جريدة الشرق الأوسط

(الخميـس 22 ربيـع الاول 1427 هـ 20 ابريل 2006 العدد 10005)

 

 

نظام مفهومي موحد للبشر(5)

 

 استكمالا للحديث حول حدود الحرية في التعبير، وفلسفة الحرية، واثر هذه الحرية في دعم أو عدم دعم مسألة الحوار بين الحضارات، والتي أشرنا الى طرف منها اثناء نقاشنا لفكرة وجود نظام عام للحريات بين البشر، نقول: إن مجموعَ الحريات لا يمكنُ أن تكونَ مطلقة، فلو كانتْ كذلكَ لأدَّت إلى فوضَى منْ كلِّ نوع. ومن هنا تبرزُ فكرةُ «النظام العام».

ووظيفةَ النظامِ تنحصرُ في ثلاثة أمور: أداة لتحديدِ الحرياتِ ـ هذه هي وظيفتها ـ ومعيار لأهليةِ السلطات للتدخل، ووَسيلة لرقابةِ المجلسِ الدستوري.

ولهذا فالنظامُ العام يختلفُ بحسبِ الحضاراتِ والمصالحِ والأخلاقياتِ لكلِّ قوم، فمِن الطبيعيِّ أنْ يختلفَ بين الإسلام وبين الحضارة الغربية.

ولأزيد الأمر وضوحاً أقدِّم مثالاً هو منعُ الحكومةِ البريطانيةِ عرضَ فيلمٍ يمسُّ شخصيةَ المسيحِ عليه السلام في بريطانيا بحجةِ أنَّه يسيءُ إلى النظامِ العامِ؛ حمايةً لمشاعرِ المسيحيينَ منَ الإساءة. وعندما رَفعتْ بعضُ الجهات المهتمة بحقوق الإنسان دعوى أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية ضد قرارِ الحكومةِ البريطانيةِ باعتبارِ هذا الحظرِ منافيًا لحقِّ الإنسان في التعبير عن رأيِه ونشر رأيه…إلى آخر الحقوق المكفولة؛ أصدرت المحكمةُ قرارَها في القضيةِ المعروفة «وفقروف والمملكة المتحدة» أيدت المحكمة موقف الحكومة البريطانية، وذلكَ في 25 نوفمبر 1996 لاشتمالِ الفيلمِ على الشتمِ والوقاحة. ومحكمةُ حقوقِ الإنسانِ الأوروبية أيدتْ قرارَ السلطاتِ التركيةِ الذي يحظرُ حزبَ الرفاهِ الإسلامي، وذكرتْ في حيثياتِها أنَّه يدعو إلى تطبيقِ الشريعةِ الإسلاميةِ، وذلكَ ما لا يتفقُ ومنظومةَ القيمِ الأوروبية، وبمعنى آخر «النظام العام الغربي».

والمحكمة في كلتا الحالتين تحترمُ منظومةَ القيم الغربية التي تعتبر المسيحَ مقدسًا، وبالتالِي فإنَّ التضييقَ على حريةِ التعبيرِ مشروعٌ إذا كانَ يمسُّ تلك القدسية، انطلاقًا من مبدأِ النظامِ العام، بينما تُعتبر شريعةُ الإسلامِ غيرَ مقدسةٍ طبقًا لنفسِ القيم الغربية، فيجبُ تضييقُ نطاقِ حريةِ التعبيرِ على منْ يطالب بها.

وما موقفُ كثير من قادة الرأي في الغرب من الرسومِ السيئةِ السمعةِ ببعيدٍ.

ذلك هو منطق النظام العام الغربي، ولا يعنينا هنا أن نناقش الغربيين أو نبرز تناقض موقفهم نتيجةَ التعصُّب والاستعلاءِ، بلْ نعتبرُ أنَّ موقفهم ينسجمُ مع نظرتهم الخاصة؛ ولكن عليهم أنْ يحترموا الآخرَ، وإذا كانوا قد مارسوا حقَّهم في التعامل مع مبدأِ نظامِهم العامِّ، فلا أقلَّ من أنْ يعترفوا لغيرهم بحقه في ممارسة نفس المبدأِ، وأن يعترفوا في النهاية بالنسبية في مبدأِ النظام العام، فلكلِّ أمةٍ نظامُها العام ومنظومتها القيمية.

وهكذا فإنَّ المادةَ «27» من الإعلانِ العالمِيِّ لحقوقِ الإنسانِ عندما تنصُّ على تقييدِ الحرياتِ المنصوصِ عليها في الإعلانِ، عندما تتعارضُ مع «النظام العام» وهو يختلفُ من بيئةٍ إلى بيئةٍ وثقافةٍ إلى ثقافةٍ؛ قد يعتبرُ ذلكَ اعترافًا ضمنيًّا بتأثير التنوع الثقافي في حقوق الإنسان.

وهناكَ اختلافاتٌ في قوانينِ الأسرةِ، وفي البيوع والمعاملات، وتجريم بعض السلوكيات؛ ترجع إلى اختلاف القيم.

إنَّ الاعترافَ بالاختلافِ يشعرُ الفرقاءَ بجديِّة الحوارِ، وأنَّه ليسَ استحواذاً يُنكرُ فيهِ الآخرُ على مقابِله حقَّه الطبيعيَّ في الاختلافِ، ويطلبُ منه أنْ يتماهَى معهُ وكأنَّه يشترطُ ذلكَ مسبقاً لقبولِ التواصلِ معَه.

إنَّ شعارَ التواصلِ هو أنْ يقبلَ الفرقاءُ كلُّ واحدٍ منهما الآخرَ كما هو، لا كما يتمناه.

ولعلنا نختم بهذه الفقرات لفيلسوف غربي، فأفضلُ ما يعبِّرُ عن النسبيةِ واعتمادِ القيم على البيئةِ هذه الفقراتُ لوايتهيد في كتابه «مغامرات الأفكارِ» حيثُ يقولُ: «وتفاصيلُ هذه المقاييسِ الخلقية تتعلقُ بالظروفِ الاجتماعيةِ الخاصَّةِ بالمحيطِ المرافقِ للحياةِ في زمنِ معيَّن على الجانبِ الخصبِ منَ الصحراءِ العربيةِ، والحياةِ على المنحدراتِ السُّفلَى منْ جبالِ الهملايا، والحياةِ في سهولِ الصينِ أوْ سهولِ الهندِ، والحياةِ في دلتا أي نهر عظيم.

كما أن معنى المقاييس متغيرٌ وغامضٌ، فهناكَ مثلاً مفاهيمُ الملكيةِ والعائلةِ والزواجِ والعقل والله سبحانه وتعالى، فالسلوكُ الذي ينتجُ في محيطٍ ما وفي مرحلةٍ ما مقياسُه المناسبُ من الإشباعِ المتوافقِ، قد يكونُ في محيطٍ آخرَ وفي مرحلةٍ أخرَى منحطًّا انحطاطًا مدمِّرًا، ولكلِّ مجتمعٍ نمطُه الخاصُّ من الكمال، وهو يحتملُ صعوبات معينة حتمية في مرحلته.

وهكذا، فإنَّ المفهومَ القائلَ بوجودِ مفاهيمَ تنظيميةٍ معينةٍ مضبوطةٍ ضبطًا كافيًا لإيضاح تفاصيلِ السلوكِ لكلِّ الكائناتِ العاقلةِ على الأرض، وفي كلِّ كوكبٍ آخر، وفي كلِّ مجموعةٍ شمسية، هوَ مفهومٌ يستحقُّ الإهمالَ، فذلكَ هوَ مفهومُ نمطٍ واحدٍ منَ الكمالِ يهدفُ إليهِ الكونُ كلُّه»( مغامرات الأفكار: وايتهيد، ترجمة أنيس زكي حسن، ص439). وللحديث صلة.


*المصدر:جريدة الشرق الأوسط( الخميس 15 ربيـع الاول 1427 هـ 13 ابريل 2006 العدد 9998)

هل هناك نظرية قيمية عامة تصلح للجميع؟ (4)

تحدثنا في المقال السباق عن الخطوة الثالثة من خطوات نجاح التواصل وهي : الاعترافُ بالاختلافِ للوصولِ إلى التعارفِ والائتلاف ِ واشرنا الى بعض نقاط الاختلاف القيمي كاختلاف المصدر ووعدنا بشرح «نظرية النظام العام» في القضايا الفكرية المتنازع فيها وما يترتب عليه من نتائج .


فنقول: إن النظام العام يُعتبر مبدأ قانونياً غامضاً وفلسفياً وقد لا يبعد عن هذا المفهوم ما نسميه في الإسلام بـ«المعروف»، أو «قاعدة المصلحة» على اختلاف في المدلولين، وقد أشار إليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كشرطٍ من شروط التطبيقِ الميدانِي لمقتضياتِ الإعلانِ في المادة التاسعة والعشرين: «يخضع الفرد في ممارسة حقوقهِ وحرياتهِ لتلكَ القيودِ التي يقررها القانونُ فقط ؛ لضمانِ الاعترافِ بحقوقِ الغيرِ وحرياتهِ واحترامها، ولتحقيقِ المقتضياتِ العادلةِ للنظامِ العامِ والمصلحةِ العامةِ والأخلاقِ في مجتمع ديمقراطي».


وقد فسر القانونيون النظامَ العامَّ بأنَّه :«أمرٌ يتعلقُ بتحقيقِ مصلحةٍ عامةٍ سياسيةٍ أو اقتصاديةٍ أوْ اجتماعيةٍ تتعلقُ بنظامِ المجتمعِ الأعلى، ولا نستطيعُ أنْ نحصرَ النظامَ العامَّ في دائرةٍ دونَ أخرى، فهو أمرٌ متغيرٌ يضيقُ ويتسعُ حسبما يعدُّه الناسُ في حضارةٍ معينةٍ مصلحةً عامةً، ولا توجد قاعدةٌ ثابتةٌ تحدِّد النظامَ العامَّ تحديدًا مطلقًا يتماشَى معَ كلِّ زمانٍ ومكانٍ؛ لأنَّ النظامَ العامَّ شيءٌ نسبيٌ، وكلّ ما نستطيعُه هو أن نضعَ معيارًا مَرِنًا يكونُ معيارًا للمصلحة العامة، وتطبيق هذا المعيارِ في حضارةٍ معينةٍ يؤدِّي إلى نتائجَ غيرِ التِي نصلُ إليها في حضارةٍ أخرى».. هذا ما يراه السنهوري.


إن تعريفَ السنهوري هو تعريفٌ دقيق للنظام العام مِن كونِه مبدأً يختلفُ من نظامٍ إلى آخر، ومن حضارةٍ إلى أخرى؛ باعتبارِه راجعًا إلى النظامِ الأعلى للمجتمع؛ ولهذا عبَّر عنه بعضُ القانونيين الغربيين بأنَّه مبدأٌ غامض، وأنَّ هذا الغموض متعمَّد ليتيحَ للسلطاتِ المعنيَّة تقديرَ الحاجةِ إلى التدخل مثلاً، فهو غموضٌ يؤسِّس للمرونة التي يَقصدُ المقننُ إليها لتحقيقِ المصلحةِ المتوخَّاة.


ويرَى السنهوريٌّ في كتابه «مصادر الحق» أنَّ النظامَ العامَ يرادفُه في الفقهِ الإسلامي «حقُّ اللهِ تعالى» في مقابلِ الحقِّ الخاص، وهو حق لا يمكن إسقاطُه ولا العفوُ، وبني على ذلك كثير من المسائل الفقهية والقانونية مقارنة .


ومن أمثلةِ ذلكَ في الشريعةِ أنَّه لا يمكنُ أنْ يتنازلَ الشخصُ عنْ نسبِه ليُنسبَ إلى غيرِ أبيهِ، وكلُّ العقودِ التي يعترض فيها الشرعُ على إرادة المتعاقدين: كالعقودِ الربويةِ، والعقدِ على المحرمات: كالخمر ، والخنزير. (1/86 ).


إنَّ النظامَ العامَّ قد يرادفُ العرفَ، وهذا حيثُ يوجدُ فراغٌ تشريعي، وهو أكثرُ «النظام العام» عند الغربيين؛ ولكنَّه قد يكون تطبيقاً لنصٍّ أو قاعدة ، وحينئذٍ يكونُ قريبًا من حقِّ اللهِ تعالى، الذي أشار إليه العلامةُ السنهوري .


وقدْ أشارَ القانونيُّ الفرنسي هنري كابتان إلى أنَّ «النظام العام» قد يكونُ ناشئًا عن مبادئَ غير مكتوبةٍ، ومبادئ مكتوبة ؛ حيثُ يقولُ: إنَّ النظامَ العام هوَ مجموعةُ المبادئِ المكتوبةِ وغيرِ المكتوبة، التي تُعتبرُ في النظامِ القضائيِ أساسيةً؛ ولهذَا فإنَّها تلغِي أثرَ الإرادةِ الفرديةِ ومفعولَ القوانينِ الأجنبية».


ويقولُ كريستوفُ فينبر أيضاً، وهو المحاضرُ في جامعة روان بفرنسا،: إنَّ مبدأَ النظامِ العام مبدأٌ غامضٌ لأنَّه يختلفُ بحسبِ الوقائعِ والظروفِ والوضعِ المجتمعِي وأصولِ وأهدافِ المجموعةِ تبعاً للفلسفاتِ والأخلاقياتِ والسياسيات».

( راجع بحثه القيم في دورية القانون الدستوري تحت عنوان: النظام العام في فقه قضاء المجلس الدستوري ـ باللغة الفرنسية)

وللحديث صلة.


*المصدر:جريدة الشرق الأوسط(لخميـس 07 ربيـع الاول 1427 هـ 6 ابريل 2006 العدد 9991)

هذه شروط النجاح للتواصل (3)

 

كنا قد تحدثنا في المقال السابق عن أن عملية التواصلِ تحاول تجاوز الحاجزِ النفسي والثقافي ومدِّ الجسور بين الحضارات ؛ لتقديم البدائل المتاحةَ عنِ الصراعِ الدائمِ والعقيمِ في نفسِ الوقت.

وأشرنا الى ان ذلك يحتاج الى خطوات خمس، نمر على بعضها في هذه الحلقة، من المقالات المخصصة لعلاج مشكلة التواصل بين الحضارة الاسلامية وغيرها من الحضارات.

ما هي الخطوات ؟ نجملها في التالي:

ـ الخطوة الأولى: إيجاد قناعة لدى الأطراف الراغبة في التواصل أو التي لا تزال مترددة بأنه لا بديل عن التواصل والحوار وأن الحروب والكراهية المتبادلة يمكن أن تكون فرصة للسلام والوئام إذا أحسن الحكماء التصرف إزاءها وصرف نتائجها في قنوات التواصل عندما تستيقظ الضمائر من الطغيان وتصحو النفوس من الغرور لتستغل العولمة أفضل استغلال في تبادل المنتجات المصنعة وغير المصنعة وكذلك المنتجات الفكرية والأدبية والقانونية والفلسفية.

وفي هذا العصر، عصر انكماش المسافات وعولمة وسائل الاتصال والمواصلات وعولمة التقنية، لن يربح أحد من الحروب وعملية الزعزعة والتهديد، فالمنتصر هو أيضا منهزم.. إن الوعي بهذه الحقيقة سيكون الخطوة الأولى للحوار.

ـ الخطوة الثانية: الأهداف والغايات.. إنَّ ضبطَ وربطَ التواصلِ والحوارِ بأهدافٍ وغاياتٍ يضبطُ المسيرة ويوضح الدرب حتى ولو التوت السبل وتعرجتْ المسالك، وبالعكس؛ فإنَّ الحوار الهائمِ العائمِ الذي ليس له هدفٌ ولا غايةٌ هو حوار من أجلِ الحوارِ قد يكون مقبولاً في بداياتِ الطريقِ لاستكشاف ساحات التواصل واستيضاحِ مناحِي المشاكلِ، ولكنَّه لا يجوز أن يكون أبدياً بل لا بد أن يضع المتحاورون نصب أعينهم محطات يسعون للوصول إليها وتجذبهم إلى الأمام وتشدهم إلى الأهداف فتهون في سبيلها الصعاب وتذلل العقبات.

ولهذا فإنَّ هذا الضابط يعتبر مركزياً في عملية التواصلِ والتبادلِ التي تسود على الساحة العالمية.

ـ الخطوة الثالثة: الاعتراف بالاختلاف للوصولِ إلى التعارفِ والائتلاف، إنَّ الاعتراف بالاختلاف يمثل أهم منطلق لحل الخلاف، ولهذا فقد يكون من المناسب الإشارة إلى بعض نقاط الاختلاف القيمي كاختلاف المصدر، واختلافِ مفهومِ النظامِ العام، وهو المعروف أو العرف الذي يتلقَّى الرضا العامَّ أو النكير المطلق في أيِّ مجتمع.

ولأهمية نظرية النظام العام في القضايا الفكرية المتنازع فيها وما يترتب عليه من نتائج فسنشرحها بإيجاز في المناسبة المقبلة إضافة لبقية الخطوات.


*المصدر: جريدة الشرق الأوسط

(الخميـس 29 صفـر 1427 هـ 30 مارس 2006 العدد 9984)