ارشيف ل

” كلمة العلامة عبدالله بن بيه في مؤتمر الوقف وتنمية المجتمع “

     
   
     

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين الذي يسر لخلقه سُبل الخير وأبواب البر والفضل،
والصلاة والسلام على سيدنا محمد أكرم الخلق، وعلى آله وصحبه أجمعين،

معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان حفظه الله ورعاه
وزير التسامح والتعايش
معالي الدكتور عمر حبتور الدرعي
رئيس الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف والزكاة

أصحاب المعالي والسعادة،
أصحاب السماحة والفضيلة السادة ضيوف رئيس الدولة،
أيها المشاركون، كلٌّ باسمه وجميل وسمه،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

يطيب لي بداية أن أتوجّه إلى القائمين على تنظيم هذا المؤتمر بجزيل الشكر
على الدعوة الكريمة للمشاركة في هذا اللقاء الهامّ، كما أثني على جهودهم
الموفقة في الارتقاء بالعمل الديني والخيري.
واسمحوا لي بين يدي هذه الجلسة أن أسهم بكلمات قليلة حول موضوع هذا
اللقاء.
السادة العلماء، الحضور الكريم،
موضوع مؤتمرنا هو الوقف وسبل استدامته ودوره في تنمية المجتمع. وهو
موضوع جديد بالنوع قديم بالجنس. فالوقف مؤسسة معروفة عتيقة إلا أن التعامل
معه استثمارا واستدامة، والاستفادة من حاصله تنمية للمجتمع أمر متجدد.
وتزيد راهنيةُ هذا الموضوع بتزامنه مع عام “المجتمع” الذي أعلنه صاحب
السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة “حفظه الله”، فمؤسسة الوقف
مؤسسة أصيلة وراسخة يمكن أن تسهم بفاعلية في تَعزيزِ أواصرِ التَّعاونِ
المجتمعيِّ.
الوقف في اللغة – كما في كريم علمكم- هو الحبس، ولذلك فهما لفظان مترادفان
يُعبِّر بهما الفقهاء عن نفس المدلول، وبحسب السياق يطلق الوَقْف على المصدر،
أي فعل الإعطاء ذاته، وتارة يُطلق على الذوات الموقوفة، فيقال هذا وقف فلان
أي هذا ما وَقَفه فلان، فيكون الموقوف بمعنى الموقوف، من باب فعل التي بمعنى
مفعول، كنَسْجٍ بمعنى منسوج.
وقد عرفّ العلماء الوقف بتعريفات متعددة، ترجع كلّها إلى حبس الأصل وتسبيل
الثمرة، أي جعلها في سبيلِ الله، وسبيلُ الله هو كلّ أوجه الخير والبرّ، وهو أقرب
تعريف للحديث الذي رواه ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لعمر بن
الخطاب رضي الله عنه حين استشاره في صدقتِه: “إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أصْلَها،


وتَصَدَّقْتَ بها”، كما في البخاري، وفي رواية النسائي في سننه والدارقطني
والبيهقي: “حبّس أصلها وسبّل ثمرتها”.
هذه التوجيهات النبوية هي التي منها نشأت مؤسسة الأوقاف بأنواعها وتعدد
أغراضها، والتي كانت ولا زالت نموذجاً فريداً في استمرار النفع والعطاء،
واستدامة الثواب والجزاء.
وانتشرت الأوقاف في العالم الإسلامي في وقت مبكر حتى اقتضى الأمر في آخر
القرن الأول الهجري إنشاء ديوان خاص بالأوقاف، أنشأه القاضي ابن نمير في
أيام هشام بن عبد الملك، وتطورت مؤسسة الأوقاف، وتعددت صيغ الإشراف من
نظار وقضاة ومتولين.
وقد تَنوَّعت مجالاتُ استثمار ريع الوقف في التاريخ الإسلامي وشملت دعمَ
التعليم والصحة ورعاية الفقراء وغيرها من أوجه البرّ، استعمالا للمصلحة في
الوقف، وبلغت الكتاتيب التي تم تمويلها بأموال الوقف عدداً كبيراً، فقد ذكر
الجغرافي ابن حوقل: منها ثلاثمائة كُتّاب في مدينة واحدة من مدن صقلية
والكتّاب الواحد يتسع للمئات أو الآلاف من الطلبة. وذكر أبو القاسم البلخي
مدرسة في بلاد ما وراء النهر كانت تسع ثلاثة آلاف طالب ينفق عليهم وعلى
الدراسة فيها من أموال موقوفة لذلك الغرض ( 1 ) .
وفي مجال الصحة: مثال وقف مستشفى قلاوون، الذي أُنشِئَ لمداواة مرضى
المسلمين الرجال والنساء من الأغنياء المثرين والفقراء المحتاجين بالقاهرة
وضواحيها من المقيمين بها والواردين عليها على اختلاف أجناسهم وتباين
أمراضهم وأوصابهم، بتفاصيل دقيقة سابقة لعصرها.
والوقف مؤسسة عظيمة تتجلى فيها حكمة هذه الشريعة الربانية الخالدة في ترسيخ
أسس التعاون بين أفراد المجتمع ورعاية أهل الخصاصة والفاقة حتى قبل أن
يوجدوا، فهي في الدنيا رصيد للأجيال القادمة، وللواقفين صدقة جارية، يجرى
عليهم أجرها، ويدخر لهم ذخرها.

وتلك هي استدامة النفع، وقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم “صدقة
جارية” حيث جاء في الحديث الصحيح: “إذا مات ابنُ آدمَ انقطع عملُه إلا من
ثلاثٍ: صدقة جارية، وعلم ينتفعُ به، وولد صالحٍ يدعو له” أخرجه مسلم.
ومن خصائص الوقف ديمومة العين وصرف الريع في مصارف الخير التي
حددها الواقف ولهذا الغرض أحيطت الأوقاف بأحكام كثيرة يمكن اعتبارها حماية
وتفعيلا للوقف وعناية بالموقوف عليهم.
الاخوة والأخوات،
إن هذا المؤتمر وأمثاله من الجهود المباركة، ترمي إلى إتاحة الفرصة للأوقاف،
لتلج أبوباً من الخير، وتنمية المجتمعات، لا يمكن أن تلجها إلا عن طريق الدخول
في غمرة الاستثمارات الحديثة من صناعات ومضاربات وزراعة.
وهو أمر يبدو أن العقبة الأولى التي تواجهه من بين عقبات أخرى، هي النظرة
الفقهية الموروثة في بعض المذاهب، والتي تجعل الوقف ساكنا لا يتحرك، وواقفا
لا يسير، في وقت تنوّعت فيه المؤسسات والأوقاف الخيرية في العالم والعالم
الغربي خصوصاً، وتنافست في توفير الخدمات الإنسانية، متخذة من
الاستثمارات الضخمة وسيلة لجني الأرباح الطائلة التي أصبحت ريعاً فائضاً
يغطي احتياجات العمل الخيري دون أن تمس رأس المال بسوء.
وللحقيقة، فنحن أحق بذلك إذا فهمنا الحديث النبوي الصحيح “احبِسْ أصلَها وسبِّلْ
ثمرتَها”، فالثمرة ليست حبيسة، ولكنها حرة في سبيل الخير.
وهذه العقبة الفقهية جعلت كثيراً من العقارات الموقوفة منذ مئات السنين تفقد
قيمتها ولا تدر ريعا على جهاتها، لأنها خربت ولم تستبدل، وضاعت ولم
تستصلح، وضاق النظّار بها ذرعاً فلم يصرفوها في بعض أوجه البر التي لم
يذكرها هذا الواقف في ذلك الزمان، فبرزت مسائل الواقفين، واسئلة الباحثين:
عن جواز استثمار الغلات الفائضة؟ وعن جواز الاستبدال والمعاوضة للأوقاف
الخربة أو العديمة أو القليلة النفع؟ وعن جواز صرف ريع وقف في مصرف
غير الذي حدده الواقف؟

تلك بعض الأسئلة العملية التي تشغل أذهان العاملين على الأوقاف والجهات
المشرفة عليها.
وإحدى طرق التعامل مع هذه التساؤلات ما أوردناه في كتابنا “إعمال المصلحة
في الوقف”، وذلك من خلال قاعدة “المصالح” وأثرها الذي لا ينكر، حيث أبرزنا
تأثير المصلحة في الوقف سواء فيما يتعلق بطبيعة المال الموقوف او التصرف
في عينه وتغيير معالمه او فيما يتعلق بتحريك غلته للاستثمار أو التصرف بالغلة
بتوجيهها الى مصرف غير الذي حدده الواقف وتجاوز ألفاظ الواقف لفائدة قصده
الذي تُعَرّفه المصلحة أو فيما يتعلق بطبيعة النّظارة وأحكام النّاظر.

الحضور الكريم،
وفي سياقاتنا المعاصرة، فإن وزارات وهيئات الأوقاف في كثير من الأقطار
الإسلامية أصبحت هي الجهة التي تمثل ولي الأمر في رعاية شئون الأوقاف،
وتتمتع بصلاحيات واسعة إلى جانب القضاء في تقديم النظار وعزلهم.
ولهذا فإن التعاون بين هيئات الأوقاف والمؤسسات القضائية والجهات الخيرية
الواقفة والجهات المنتفعة سواء كان وقفا خيرياً أو “وقفا ذرياً” 2 ، يُمكّن من إعداد
برامج الاستثمار المراعية للناحيتين الشرعية والمصلحية، ويحافظ على الموازنة
الدقيقة بين انفتاح الوقف لمقتضيات “المصالح الراجحة” المحققة أو المظنونة،
وبين استدامة الوقفية التي تتمثل في بقاء العين أو ما يقوم مقامها في المحافظة
على طبيعة الانتفاع للمستفيد من الوقف بحيث لا تَكُرُّ مراعاة المصلحة بالإبطال
على أصل الديمومة والجريان المستمر اللذين يمثلان أساس الحكمة التي تميز
الوقف عن غيره من الصدقات والهبات.
هذه المعادلة بين ديمومة الوقف وتحقيق أفضل ريع وعائد وفائدة للوقف، يجب
أن توضع نصب أعين الأطراف المسئولة عن شؤون الأوقاف.

2 الوقف الذري: هو ما يوقِفُه الواقف على نفسه أو أولاده أو غيرهم من الأشخاص المُعيّنين بذواتهم أو أوصافهم، سواءً من الأقارب أو غيرهم.

إن ما سبق، غيض من فيض وإشارات وإثارات أردناها مُلمعة إلى ما ورائها
منبهة إلى بعض القضايا التي سيناقشها هذا المؤتمر المبارك.
أشكركم على أصغائكم، وأدعو الله أن يحفظ قيادتنا بحفظه، ويكلأها بكلاءته،
ويوفقها لكل خير، وأسأله سبحانه وتعالى أن يصلح أعمالنا وأن يجعل اجتماعنا
اجتماع خير وأن يكلله بالنجاح والتوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

……..

( 1 ) الدور الاجتماعي للوقف، للدكتور عبد الملك أحمد السيد ص 229 وما بعدها.

” بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية: نحو مؤتلفٍ إسلاميٍّ فاعل”

 

كلمة معالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس منتدى أبوظبي للسلم

بمناسبة المؤتمر الدولي

بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية: نحو مؤتلفٍ إسلاميٍّ فاعل

6-7 رمضان 1446هـ- 6-7 مارس 2025م

 
   

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،

سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ،

صاحب المعالي والفضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى،                  

أصحاب المعالي والفضيلة والسماحة، الحضور الكريم كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد،

يطيب لي في البداية أن أتوجّه إلى أخي صاحب المعالي والفضيلة أمين عام رابطة العالم الإسلامي بالشكر والتقدير على الدعوة الكريمة للمشاركة معكم في هذا المؤتمر الهام، الذي يجمع شرف الزمان، وقدسية المكان، وراهنية العنوان، فهو ينعقد في رحاب بيت الله الحرام قبلة المسلمين ومهوى أفئدتهم، وفي شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، تحت رعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز نسأل الله أن يجزل له ولسمو ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز المثوبة والأجر، إنه ولي ذلك والقادر عليه. 


السادة العلماء، الحضور الكريم،

إن الحديث عن بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية ليس تَرَفا ولا فضولاً، وإنما هو من صميم واجب الوقت، المتعين على الجميع النهوض به، على مختلف المستويات، وضمن دوائر التأثير المتعددة.

ويكتسي هذا الموضوع أهمية كبرى ويصبح ضرورة قصوى في عصرنا الحاضر الذي يتسم بالحركة السريعة والمفارقات الواضحة، عصر التواصل الكثيف والعزلة الشديدة، عصر العلم المتقدم والجهل المستشري، عصر الدقة والتضليل، عصر استكشاف المجرات والغياب عن الذات.

إن ما يتيحه هذا العصر من إمكانات تقنية، تشكل بمجموعها سياقا من الفرص والتحديات قد يكون أداة للتعارف والتآلف والحوار وبناء جسور التواصل، وقد يكون تحدياً في نشر الكراهية والأخبار الزائفة والأفكار المتطرفة والتنابذ والتَّدابر. 

الاخوة والأخوات،

إن العنوان العريض للمؤتمر حول “بناء الجسور للوصول إلى مؤتلف أو ائتلاف إسلامي فعّال” ينطلق من فرضية وجود جزر متفرقة منعزلة ينبغي بناء جسور بينها، والحق أن هذا هو حال كثير من المسلمين إذ يعيشون في جُزُرٍ مفصولة، تقوم بينها مناطق عازلة، وهي ليست جزراً جغرافية من تراب وماء، وإنما هي جزر متباعدة من الأفكار والتوجهات والقلوب، تجعل طوائف الإسلام في أمس الحاجة إلى جسورٍ تصل بينها، وطرقٍ تُقرب القلوب من بعضها. 

إن الوعي بهذا الواقع المشهود، واقع اليأس المتبادل، واستحكام العداء وتحكّم النزعات واستشراء النزاعات وخفوت صوت العقل، يحتّم على النّاصحين لأمّتهم والمُشفقين عليها، أن يتصدّوا له من خلال رفع شعار التواصل وبناء الجسور. 

إنها دعوة الدّين التي تزكّيها النّصوص وتؤيدها المقاصد ودعوة العقل التي تزكيها الحكمة وتؤكدها التجربة الإنسانية، ودعوة الواقع وما يحمله من موازين المصالح والمفاسد. وهي دعوة تنير الدرب وتضع الهناء مواضع النقب.

ولتفعيل هذه الدعوة، نقترح ثلاث أسس لبناء هذه الجسور:


  • الأساس الأول- بناء الجسور ضرورة دينية:

تستند الدعوة إلى بناء الجسور إلى أصل أصيل من أصول ديننا الحنيف، ومبدأ متين من مبادئه القطعية، وهو مبدأ الوحدة الإسلامية، والائتلاف ورفض الاختلاف والتنازع والفرقة.

وتلك ضرورة دينية، لا نحتاج إلى إطالة الرّشا في التأصيل لها، وإثباتها، فالآيات الدالة على وجوب الألفة والحث على الوحدة كثيرة، من ذلك قوله تعالى: “وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ”، وقوله سبحانه: ” وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ”. أي قوتكم وجماعتكم ونصركم. وقوله عز وجل: ” وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ”، وقوله سبحانه: “أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ”.
فهذه أوامر بالاعتصام بحبل الله تعالى وإقامة دينه، مقرونة بنواهٍ عن التفرق والنزاع، مع التنبيه إلى النتائج الحتمية المتمثلة في الفشل الذي يعنى العجز عن الوصول إلى غاية هداية الخلق، وعمارة الأرض بالحق.

  • الأساس الثاني- بناء الجسور مصلحة معتبرة:

 تنبثق ضرورة بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية من مبدأ المصلحة، فالمصلحة مبدأ مركزي في ديننا، ومعيار المصلحة هو المعيار الصحيح الذي لا يحيف، وميزانها هو ميزان العدل الذي لا يجور. فـ”وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً” كما بيّن الإمام الشاطبي من خلال استقراء نصوص الشريعة، وكما أثبت العز بن عبد السلام في كتابه “قواعد الأحكام في مصالح الأنام”، حيث صرّح بأنه لا تفاوت بين طلب وطلب، وإنما التفاوت بين المطلوبات من حيث جلب المصالح ودرء المفاسد، مدار الأوامر والنواهي في ديننا على اعتبار المصالح جلبا والمفاسد درءا،  وانطلاقا من التوافق التام بين النقل والعقل، جعل العز: “معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل وذلك معظم الشرائع”.

وأما المصالح الجليلة في التّواصل والتآلف والوئام فهو أمر لا يخطئه البصر ولا تنبو عنه البصيرة،  فقد منّ الله به على المسلمين إذ قال: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا)، وقال سبحانه وتعالى: (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم). 

  • الأساس الثالث- بناء الجسور حاجة يؤكدها الواقع العالمي:

إن أهمية بناء الجسور ترجع أيضا إلى فقه الواقع العالمي من خلال القراءة الواضحة والمدروسة لمعالمه، فهو واقع في طور إعادة التشكّل حول مفاهيم القوّة والمصلحة والغلبة، ولا يتأتّى لمن رام أسباب القوّة تحقٌّقُ مقصودِه إلا بحدّ أدنى من الألفة والتعاون والتضامن، تصرف به طاقات الأمة في قنوات البناء والعمل، بدلا من قنوات العبث والتدمير الذاتي. وهذا ما صرّح به القرآن الكريم: “وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ”.   تلك حقيقة أزلية، فبالاجتماع والتعاون تكون القوة، وبالتنازع والخلاف يكون الفشل والعجز. 


تلك هي أهم مسوغات هذه الدعوة وتلك هي مغازيها ومراميها. 

أما كيف ننطلق من هذه الأسس إلى جسور تجمع شمل الأمة وتلم شعثها؟

فلعل ذلك ببناء عدد من الجسور التي عرضنا في النسخة الأولى من هذا المؤتمر الجامع ومنها جسر أدب الخلاف وحسن التعامل مع المخالف، وإعمال سدّ الذرائع في بناء جسور الوحدة من خلال إغلاق الباب أمام المفاسد العظيمة الواقعة من كلام بعض المسلمين في بعضهم، وجسر القول اللين والشفقة على أهل الملة، وجسر تفعيل الحوار، وجسر تعزيز قيمة التسامح.

فلا بد من تقريب الشّقة بين مختلف طوائف المسلمين -حسب الإمكان- والتسامي عن التجريح والتنابز بالألقاب، وتجاوز كثير مما نحسب أنه بعضه كان اختلافات لفظية وعنوانية، أكثرَ منها جوهرية، وننصح بالتوقف عن التكفير والتبديع والتضليل، لأن نتيجة التنازع هي الفشل والتمانع.

وللشيخ تقي الدين بن تيمية كلامٌ نفيس في كتابه “درء تعارض العقل والنقل”، أسس فيه لقاعدة من القواعد المنهجية المهمة حيث قال في سياق كلامه عن قضايا من علم الكلام: “والذي نختاره أن لا نكفّر أحدا من أهل القبلة، والدليل عليه أن نقول: المسائل التي اختلف أهل القبلة فيها، …لا يخلو إما أن تتوقف صحة الدين على معرفة الحق فيها أو لا تتوقف، والأول باطل، إذ لو كانت معرفة هذه الأصول من الدين لكان الواجب على النبي صلي الله عليه وسلم أن يطالبهم بهذه المسائل، ويبحث عن كيفية اعتقادهم فيها، فلما لم يطالبهم بهذه المسائل، بل ما جري حديث في هذه المسائل في زمانه عليه السلام، ولا في زمان الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، علمنا أنه لا تتوقف صحة الإسلام على معرفة هذه الأصول”. وكذلك الإمام أبو الحسن الأشعري شهد أنه لا يكفر أحداً من المسلمين كما أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء. 

والنصوص كثيرة تلفت الانتباه إلى تطور المعرفة بعد عصر الصحابة، حيث تفجرت من معين الكتاب والسنة،  ينابيع الحكمة وسالت أودية العلوم وزهت رياض المعرفة، فسامت فيها العقول وتمايزت فيها الأذواق والفهوم، “قد علم كلّ أناس مشربهم”. 

وهم وإن تعدّدت مشاربهم، واختلفت مذاهبهم، فكعبتهم واحدة، وهدفهم متحد، هو تحقّق الإيمان بمقتضياته علماً وعملاً، والاجتهادات البشرية لا يمكن أن تكون متفقة أو متطابقة في مقارباتها ومنهجيتها إلا أنها بالتأكيد مجمعة على هدفها.

وَحَيْثُ كُنَّا معاً نَرْمِي إلى غَرَضٍ      فَحَبَّذا نَاضِلٌ منا وَمَنضُولُ

ولذلك فقد تعايشت هذه الطوائف والمذاهب في الغالب تعايشا سعيدا، وتساكنوا في ظل الكلمة الجامعة، تجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة. والعمدة في ذلك والقاعدة العظيمة هي ما جاء في الحديث الصحيح: ” مَن صَلَّى صَلَاتَنَا واسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذلكَ المُسْلِمُ الذي له ذِمَّةُ اللَّهِ وذِمَّةُ رَسولِهِ، فلا تُخْفِرُوا اللَّهَ في ذِمَّتِهِ” . فهذا الحديث حاكم في قبول الجميع وفيه تنبيه على أن “أمور الناس محمولة على الظاهر دون باطنها، فمن أظهر شعائر الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك”، كما ذكره الإمام بدر الدين العيني في تعليقه على هذا الحديث في عمدة القاري شرح البخاري. 




ختاما، فإننا نوصي بتوصيات: الأولى أن تنشر الرابطة كتاباً جامعاً للمسلمين يتضمن أهمية الألفة والمحافظة على الأخوة، كما ينبه على خطورة التكفير والتضليل شرعاً ومصلحة ببيان واضح وبرهان ناصح كما فصلت ذلك وثيقة مكة التاريخية. 

التوصية الثانية، تكوين مجموعة دائمة تقوم بالاتصال بمختلف أطراف النزاع بين المسلمين لرأب الصدع وجمع الشمل. 

التوصية الثالثة، إنشاء قسم في رابطة العالم الإسلامي لمتابعة ملفات النزاع ودراستها وتقديم المقاربات مع مختلف الأطراف بما في ذلك الدولية منها لتكون للدين كلمته عبر ما يسمى بالدبلوماسية الدينية. 


إن دعوتنا إلى بناء الجسور بين المسلمين لا ترْمي إلى استبعاد الآخر ولا استعداءه، وإنما هي دعوة في دائرة البيت المسلم إلى الامتناع عن الاحتراب الداخلي الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال “لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ”.

وهكذا، فالجسور التي نبنيها بيننا ليست جدراناً في وجه التفاعل الإيجابي مع الآخر، بل هي قناطر تصلنا بالإنسانية جمعاء، وتفتح فرصا أكبر للتعايش مع عموم البشر بمختلف أديانهم وأعراقهم على قاعدة المشتركات الإنسانية والسعي في الخير والبر ونشر السلام دون أن يعني ذلك تنازلاً عن العقيدة بل تنزيلاً للأحكام طبقا لسياقات الزمان والمكان.

يسرني مرة أخرى أن أحيي جهود رابطة العالم الإسلامي بقيادة معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى في التقريب بين المسلمين ومدّ جسور الوحدة والتعايش فيما بينهم، كما أتمنى لمؤتمرنا الذي يجمع بين شرف المكان والمكانة النجاح والتوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

العلامة ابن بيه يدعو من مكة المكرمة إلى إنشاء لجنة دائمة لرأب الصدع بين المسلمين

     
   
مكة المكرمة – 7 مارس 2025م

ألقى معالي الشيخ عبد الله بن بيه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي ورئيس منتدى أبوظبي للسلم، كلمة في المؤتمر الدولي “بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية: نحو مؤتلفٍ إسلاميٍّ فاعل”، الذي يُعقد في مكة المكرمة تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز.

وأكد الشيخ بن بيه في كلمته أن بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية ضرورة دينية ومصلحة معتبرة، مشيرًا إلى أهمية تجاوز الخلافات وتعزيز الوحدة الإسلامية في ظل التحديات العالمية الراهنة. كما شدد على ضرورة الحوار والتسامح، محذرًا من مخاطر الكراهية والتكفير والتضليل.

وقدم الشيخ عدة توصيات، منها إصدار كتاب جامع حول أهمية الألفة، وإنشاء لجنة دائمة لرأب الصدع بين المسلمين، وتفعيل الدبلوماسية الدينية لتعزيز السلام والتعايش. واختتم كلمته بالتأكيد على أن الوحدة بين المسلمين لا تعني الانعزال، بل تفتح آفاقًا أوسع للتفاعل الإيجابي مع العالم

حث الإسلام على العناية بالطفل

   
كلمة معالي الشيخ عبد الله بن بيه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس منتدى أبوظبي للسلم بمناسبة المنتدى الدولي السادس للشبكة العالمية للأديان من أجل الطفل 19 نوفمبر 2024 

 

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين،

معالي الشيخ / نهيان بن مبارك آل نهيان​​​​حفظه الله  وزير التسامح والتعايش أصحاب المعالي، أصحاب السعادة، أصحاب السماحة، أصحاب الغبطة والنيافة، أيها الحضور، كلٌّ باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

إن هذا المؤتمر بموضوعه الهام، وحضوره المتميزين، ورعاته السامين، جدير بالتنويه والإشادة، فشكراً للفريق سمو الشيخ سيف بن زايد آل نهيان، على رعاية هذه المبادرة وعلى دعوة سموه الكريمة، للمشاركة في هذا اللقاء الهام.

أهمية هذا المؤتمر: 

إن حماية الأطفال أولوية دائمة في كل وقت وحين، لأنه من تلك المواضيع التي تمس الإنسان (الفرد والعائلة) في أقرب البشر وأحبهم إليه وهم الأطفال، ومن ناحية أخرى فهي تمس وتخص المجتمع والدولة ككل لأنها تُعنى بالمستقبل بكل معانيه ومراميه، وتوقعاته الجميلة أو الأقل جمالا،

إنها تُعنى بالأجيال الناشئة التي تُعقد عليها آمال صناعة المستقبل، وقيادة المجتمع في العقود القادمة. كما أن مبادرات حماية الأطفال تصبح أكثر تعيناً وأعظم إلحاحاً في المناطق التي تشهد صراعات وحروباً مسلحة، والتي يتعرض جراءها الأطفال إلى أخطار كبرى تهدد حياتهم وتمزق كيانهم، إن هذه المناطق ينبغي أن تأخذ الأولوية في كل المشاريع الموجهة للأطفال.

إذا، فهذا الموضوع جدير بالتفكير والتأمل، محتاج إلى توحيد الجهود، واقتراح الحلول، وتفعيل الوسائل.

لقد اعتنى الدين الإسلامي بالطفل تربية لجسمه وعقله وتنمية لمواهبه ورعاية لجميع أحواله، وكانت التعاليم النبوية في شأن الأطفال مرجعاً للعلماء في تصنيف الكتب وتخصيص بنود كثيرة لمؤسسة حضانة الأطفال. فواجبات الأبوين والمجتمع تجاه الطفل من يوم خروجه إلى الدنيا مولودا صغيرا مرورا بكل أطوار نشأته، ومن أوضح ذلك رعاية الأيتام ومنع إيذائهم ومنع الاعتداء على الأطفال أو تجنيدهم في أوقات الحرب.

  وهنا نشيد بما تقوم به دولة الإمارات من رعاية للأيتام ووقفات إنسانية لمساعدة الأطفال وخصوصا في الدول التي تشهد نزاعات أو حروبا وهو أمر يتماشى مع القيم والتعاليم الدينية السمحة، وهي أول دولة عربية تنضم إلى الشراكة العالمية لـ “إنهاء العنف ضد الأطفال”. كما نشيد في هذا الصدد بما تقوم به أم الامارات سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك رئيس المجلس الأعلى للأمومة والطفولة من جهود كبيرة للعناية بالطفل على المستوى المحلي والدولي.

الفرص والتحديات في العصر الحاضر :

إننا في عصر يتسم بالحركة السريعة والمفارقات الواضحة، عصر التواصل الكثيف والعزلة الشديدة، عصر العلم المتقدم والجهل المستشري، عصر الدقة والتضليل، عصر استكشاف المجرات والغياب عن الذات، إنه عصر يشبه في مفارقاته ، إلى حد بعيد تلك الحقبة التي وصفها تشارلز ديكنز في مفتتح روايته “قصة مدينتين”: «كان أحسن الأزمان، وكان أسوأ الأزمان. كان عصر الحكمة، وكان عصر الجهالة. كان زمن النور، وكان زمن الظلمة. كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط». إن ما يتيحه هذا العصر من إمكانات تقنية، تشكل بمجموعها سياقا من الفرص والتحديات في حماية الأطفال. إن وسائل التواصل ومنصات المحتوى المتعددة، جعلت البشر يعيشون في عالم واحد بكل معنى الكلمة (مشاعرهم وأحلامهم، طموحاتهم ومظاهرهم كلها أصبحت مشتركة -إلى حد بعيد)، هذا التواصل الكثيف قد يكون أداة للتعارف والتآلف، وقد يكون تحدياً في ترسيخ الهوية والقيم على مستوى العائلة والمجتمع المحلي. إن هذا الواقع يتطلب تعاملا على مستويات عدة تشمل: مستوى القوانين، ومستوى التربية والتعليم، ومستوى العائلة والمجتمع، ومستوى الصحة النفسية والجسدية. وإذا كانت حماية الأطفال في الماضي مرتكزة على خارج المنزل أو خارج المحضن التربوي، فإنها اليوم -أكثر من أي وقت مضى- ترتكز على العالم الافتراضي حيث التخوف الكبير من تعرضهم للتنمر الالكتروني والاعتداءات بأنواعها، والاستغلال بأشكاله والتضليل ومخاطر التطرف أو التجنيد من قبل الشبكات الإجرامية، وأضرار العزلة والمعاناة النفسية. وهكذا، فحتى حين يكون الأطفال بيننا في بيوتنا، فإنهم عرضة لخطر داهم، وتحدي حمايتهم قائم. لذلك، تحتاج العوائل والمجتمعات إلى وعي جديد بهذه التحديات، لتطوير طرق مناسبة لمواجهتها بشكل شامل للحفاظ على رفاه الاطفال البدني والعقلي والعاطفي.

أخيرا، ما الذي يمكن لقادة الأديان أن يقوموا به؟

لقد أثبتت المجتمعات الدينية دورها البارز من خلال عملها الدؤوب في قضايا الحوار والتسامح، وقد ضاعف هذا الدور من واجب القيادات الدينية لأن تنجز أعمالا ميدانية تبرهن للعالم أن الدين في أصله رحمة للعالمين. ولذا فإن من واجب القيادات الدينية أن تعزز بين أتباعها الشعور الواعي بأهمية حماية الأطفال، وتحث المؤمنين على العمل الفعال لمواجهة هذا التحدي. إن الأديان -بصفتها مرجعا للفضائل والأخلاق والسلوك الحسن، مدعوة للعمل معاً للحد من المخاطر التي تواجه الأطفال في هذا العصر من خلال ما يلي: – ترسيخ القيم في الناشئة (قيم الرحمة واللين، والتعاطف والتضامن، والبذل والحكمة)، – تعزيز التكامل بين التربية والتعليم، – التعريف بنماذج القدوة الحسنة، – بناء الشراكات والتحالفات مع أصحاب المبادئ من رجال ونساء الأعمال لتطوير ميثاق أخلاقي يقوم على ضمان حماية الأطفال في جميع ما يُنتج ويُعرض ويُتداول في الفضائيين الحقيقي والافتراضي، -إيجاد منصة تفاعلية تشجع الشركات التي تلتزم بمعايير حماية الأطفال وتُعرّف بها لتكون نموذجا يحتذى من بقية المؤسسات التجارية حول العالم. إن هذا المؤتمر خطوة مهمة نحو تعزيز التعاون بين القيادات الدينية والشركاء من مختلف القطاعات الحكومية والخاصة. وعلينا معا صياغة حلول مبتكرة تعكس التزامنا المشترك بحماية الأطفال. أرجو أن تكلل جهودنا المشتركة بالنجاح لتظل براءة الطفولة حاضرة، والأمل في مستقبل البشرية مشرقا ومزدهرا.

أجدّد لكم الشكر على حسن الاستماع، وأتمنى لكم أوقاتا سعيدة في رحاب دولتنا.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بعض من ثمار الإيمان – العلامة عبدالله بن بيه

   

 

أيها السادة الكرام،

إن أول ثمار الإيمان وأعظمَها هي السّعادةُ الأخروية بتنعيم الأرواح في القبور والأجساد يومَ النشور بالنزول في دار الأفراح والسرور، حيث النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.

ومن ثمار الإيمان أيضا، أنه به يرتقي الانسان في إنسانيته، اتّصافا وتحقُّقا، بالكمالات الإنسانية، من صحة الاعتقاد، وحسن معاشرة العباد، وتزكية النفس وتهذيب غرائزها، فبالإيمان يهتدي الإنسان إلى فعل الخير وينقاد إلى الخير باطناً وظاهراً.

كما أن من ثمار الإيمان الحياة الطيبة، قال تعالى “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً” والحياة الطيبة هي السّعادة والطمأنينة ويمكن أن نعبر عنها بالمصطلح المعاصر “جودة الحياة”.

إن قيمة الإيمان تؤدّي الى الاطمئنان، فيكون الانسان مطمئناً إلى رؤية لهذا الكون العجيب والكوكب الفريد الذي يعيش عليه، رؤية تجيب عن سؤال من أين أتيتُ وإلى أين أصيرُ؟ وممّ خلقتُ ولم خلقتُ؟ تجيب على سؤال الأخلاق بربطها بالجزاء الأخروي فلا تستوي الحسنة والسيئة ولذلك فهو يقيم في النفس وازعاً وفي الضمير رادعاً، فكلّ أخلاق لم تستنبت في أرض الإيمان، ولم تسق بسحب الوحي الفياضة بالإحسان، تظلُّ معرّضة لزعازع الهوى، ضعيفة التّأثير، تتلاشى أمام الأزمات، وهذا ما تفتقر إليه النظريات الفلسفية الأخلاقية، كالتي في النظام الكانتي، حيث لا جزاء، فلا المجرم معاقب ولا المحسن مثاب إذا لم تنله يد القانون، فيستوي في هذا النظام البارُّ بوالدَيْه والعاقّ لهما، والمحسن على جاره والمسيء.

أما الأخلاق الإيمانية فتعزّز السلام مع العالم في دوائر متصلة، مع النّفس والوالدين ومع الأقربين، والجيران والناس أجمعين، “والمؤمنُ من أمنَهُ النَّاسُ علَى دمائِهِم وأموالِهِم“.  فمجتمع الإيمان مجتمع آمن، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ مجتمع يُمتَثل فيه للحقوق، وتؤدّى فيه الواجبات طواعية: “الذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ”، فالإيمان بالله والجزاء الآخروي يجعل الإنسان أكثر شفقة على الناس ورحمة بهم وأقل عدوانية وظلما، وأكثر مسئولية في علاقته مع الناس والمخلوقات ومع البيئة من حوله.

إن الإيمان يربط الإنسان بالكون من حوله في سلسلة علائق متكاملة، تمنح صاحبها ثباتا نفسيا، وتقيه من الضياع والتشتت، وتعيد انتماءه إلى العالم، إلى الكون الذي تشترك فيه البشرية بالوجود والوجدان، وهذا الذي تشير إليه الآيات: ﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ و﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾، و كما في الحديث الشريف “يا أيُّها النَّاسُ، ألَا إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألَا لا فَضْلَ لِعَربيٍّ على أعجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عرَبيٍّ، ولا أحمَرَ على أسوَدَ، ولا أسوَدَ على أحمَرَ إلَّا بالتَّقْوى”.

ومن ثمار الرؤية الإيمانية أنها تفتح آذان الإنسان ليسمع أصوات الكون الناطقة بحقائقه من حولنا، وترفع الغشاوة عن البصيرة لتدرك الإشارات البينات التي تدله من ذاته على ذاته.  

الصمت المطبق للكون، إنما هو شعور الإنسان المحجوب بالغمرة والسمود عن فهم لغة الآيات، التي استنطقها ذاتَ يوم ابن عطاء الله السكندري، فنطقت له بأسرارها العجيبة:

أيا صاح هذا الركب قد سار مسرعًا * ونحن قعود ما الذي أنت صانع

أترضى بأن تبقى المخلف بعدهم * صريع الأماني والغرامُ ينازع

وهذا لسان الكون ينطق جهرة *بأن جميع الكائنات قواطع

وألَّا يرى وجه السبيل سوى امرئ * رمى بالسِّوى لم تختدعه المطامع.

 

للاطلاع على النص كاملا : 

https://binbayyah.net/arabic/archives/5443

 

 

(more…)

كلمة معالي الشيخ عبد الله بن بيه في المؤتمر العلمي الدولي بجمهورية كازخستان

   

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين نحمده على رحمته لنا بالإسلام ونعمته علينا بالإيمان وتفضله علينا بالانتماء إلى دين سيد الأنام سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وعلى آله الأبرار وصحابته الكرام.

 

سعادة الدكتور مظفر كاملوف  -حفظه الله تعالى-

مستشار رئيس جمهورية أوزبكستان للشؤون الدينية

أصحاب المعالي والفضيلة والسماحة، أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه، السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

بداية أشكر القائمين على هذا المؤتمر العلمي الدولي على الدعوة الكريمة للمشاركة في هذا اللقاء، وأعتذر عن عدم التمكن من الحضور معكم شخصياً لارتباطات سابقة، لكن ما لا يُدرك كله لا يُترك جُله، فآثرت الاستجابة ولو بالمشاركة عن بعد.

ويسرني أن أُنَوِّه بعلاقات الصداقة المتميزة بين بلدينا الامارات العربية المتحدة وجمهورية أوزبكستان، إن قيادة دولتنا الرشيدة تشاطر دولتكم مَسَاعِيها الحميدة في نشر قيم التسامح والسلام.

في هذه الكلمة الموجزة سأقتصر على بعض المسائل ذات الصلة بعنوان المؤتمر ومحاوره، راجياً أن تكون مفيدة لكم إن شاء الله.

أولا: الإسلام-دين السلام والخير

إن اختياركم موفق لهذا العنوان ليكون شعاراً جامعاً للمؤتمر ولتنضوي تحته محاوره المتعددة ومواضيعه المتنوعة. إذا نحن نتحدث عن ديننا الحنيف الإسلام، ونخص بالذكر خصلتين من خصاله السامية وهما السلام والخير.

لقد جاء هذا الدين العظيم –الذي يدين به ربع البشرية اليوم أو نحو المليارين من البشر– لسعادة الناس في الدارين، وذلك من خلال توحيد الله وإفراده بالعبادة والإقرار بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. والدين الإسلامي يشمل الإسلام والإيمان والإحسان كما في حديث جبريل الشهير، ويمكن إيجازاً أن نعرف هذه المستويات الثلاثة المذكورة في الحديث؛ بأن الإسلام هو الأعمال الظاهرة، والإيمان هو الأعمال أو الاعتقادات القلبية، والإحسان هو الأعمال الروحية.

فالإسلام وفق هذا التعريف هو الأعمال الظاهرة الداخلة في أركان الإسلام كالصلاة والزكاة والصوم وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً وغيرها.

والإيمان بأركانه الستة المعروفة: الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.

والإحسان كمال لا حدود له، وتسامٍ لا سقف له، فهو شعور بالحضور والشهود مقارنا للعبادة. فلا العبادة في نفسها تمثل الإحسان، ولا ذلك الشعور المتسامي والشهود المتعالي يمثل الإحسان، حتى يجتمعا معا كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور بقوله: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك“.

 

فأرض الإيمان هي الأعمال وسماؤه الإحسان، فلا بد أن ينبت في تربة الأعمال ليرتقي إلى سماء الإحسان.

 

وتتفرع من هذه الشعب الثلاث سائر تكاليف الدين التي تهدف الى حفظ الكليات الخمس الدين والعقل والنفس والملكية والعائلة، من خلال منظومة المقاصد الكبرى الثلاثة الضروري والحاجي والتحسيني التي ترجع إليها الشريعة، وشبكة القواعد الخمس التي يرجع إليها الفقه، وروح القيم الناظمة للشريعةَ المطهرةَ وهي: الحكمة، والمصلحة، والعدل، والرحمة.

وجاء هذا الدين داعياً الى الخير والبر كما في قوله تعالى: ﴿ِإنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون﴾، كما جاء متمماً لمكارم الأخلاق كما في الحديث “إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ“.

وهكذا يزرع هذا الدين في الإنسان دافعاً لأفعال الخير والإحسان إلى القريب والغريب، كما يقيم في نفسه وازعاً وفي ضميره رادعا عن الوقوع في أذى الناس أو الإساءة إليهم، فالمسلم (مَن سَلِمَ الناس مِن لِسانِه ويَدِه).

إنَّ البشرية وهي تواجه تحديات وجودية من قبيل الحروب والأوبئة والمجاعات لفي أمس الحاجة إلى استلهام روح هذا الدين السامية ومقاصده الرفيعة لإنقاذ سفينة البشرية وحماية كوكب الأرض.

 

ثانيا: التربية على التسامح

إن التربية على قيم التعايش والتسامح أمر في غاية الأهمية وخاصة في العصر الحاضر الذي تمازجت فيه الحضارات وتزاوجت فيه الثقافات واشتبكت فيه المصالح والعلاقات وأصبح مصير البشرية مشتركاً وضرورة لا يخطئها البصر ولا تنبو عنها البصيرة.

وهكذا فالحاجة ماسة لبث روح جديدة هي روح الرحمة، وروح المحبة، وروح إفشاء السلام كما في حديث ” والَّذي نفسي بيدِه لا تدخلوا الجنَّةَ حتَّى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا أولا أدلُّكم علَى شيءٍ إذا فعلتُموهُ تحاببتُم أفشوا السَّلامَ بينَكم” وروح بذل السلام للعالم كما في صحيح البخاري من حديث عمار الموقوف المحكوم له بالرفع “ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من إقتار“. والسلام هنا ليس لفظ السلام فقط بل السلام هو الأخلاق وأسباب المحبة والمودة كما أشار إليه الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري.

كل ذلك يمثل منظومة يقتضي تنزيلها على حياة الناس، وتنزُّلها في قلوبهم، رحلة قد تكون شاقة لكنها مشوقة ومحمودة الغبّ، بالاستعانة والاعتماد على نور الوحي، والاستمداد من مشكاة أنوار النبوة، فبهما يمكن رسم خارطة طريق تهدي مسيرة البشرية.

إن صيدلية الإسلام تقدم لنا أنجع العلاج، وتضع لنا برامج لإعادة التأهيل النفسي والروحي، فمن القرآن الكريم ومن سيرة أفضل المرسلين يمكن أن نعمل مركبات الدواء التي تُحل السلم في النفوس وتصرف أعراض الكراهية والاحتراب.

ومن خلال ذلك يمكن وضع مناهج لتربية الأجيال على التعايش مع عموم البشر بمختلف أديانهم وأعراقهم بناء على المشتركات الإنسانية والسعي في الخير والبر ونشر السلام وإعلاء كرامة الإنسان، والتعارف بين الناس، طبقاً لقانون المصالح والمفاسد.

متمثلين روح رُكَّاب السفينة التي ضرب بها النبي صلى الله عليه وسلم المثل، هؤلاء الذين يؤمنون بالمسؤولية المشتركة وبالحرية المسؤولة المرشّدة وبواجب التّضامن والتعاون.

ختاماً، أشكركم على إصغائكم، متمنياً لأعمال هذا المؤتمر التوفيق والنجاح، وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ويوفقكم لكل خير، وأن يصرف عنا وعنكم كل شر، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

 

العلامةابن بيّه يدعو خلال مؤتمر بالرباط لإنشاء مراكز بحوث لتجديد الخطاب الإيماني

     
   

شارك معالي العلامة الشيخ عبد الله بن بيّه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس منتدى أبوظبي للسلم، في المؤتمر الدولي «الإيمان في عالم متغير»، الذي عقد في العاصمة المغربية الرباط، تحت رعاية الملك محمد السادس ملك المملكة المغربية الشقيقة وبتنظيم من رابطة العالم الإسلامي والرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية.

ودعا معاليه، في كلمته الافتتاحية، إلى إنشاء مراكز للبحوث لتجديد الخطاب الإيماني عن طريق تطوير أساليب البرهنة وطرق العرض واستثمار الإمكانات التي أتاحتها المعارف البشرية الجديدة في صياغة العقائد وعرضها عرضاً سليماً بطرائق الاستدلال المناسبة.

وأثنى على جهود رابطة العالم الإسلامي والرابطة المحمدية للعلماء في المملكة المغربية ودورهما في نشر قيم التسامح والتعايش حول العالم.
وأشاد بموضوع المؤتمر، الذي عقد يومي 15 و16 أكتوبر الجاري، كون أن التغير والتسارع أصبحا سمة هذا العصر ومبدأه الظاهر في كل مناحي الحياة.

فمن السرعة في المواصلات والاتصالات، إلى سرعة في انتقال السلع والأفكار والآراء والمعلومات والأخبار الصحيحة والزائفة، ومن خلال ذلك غدا الإنسان مبهوراً لسرعة الواردات إليه وتواليها المستمر.

وأشار إلى أنه أمام هذا التحدي يحسُّ الإنسان بضرورة استعادة معنى الحياة، التي تمنحه نقطة ارتكاز وثبات، وتظهر حاجة البشرية إلى رؤية للكون تقدم الاستقرار، مؤكداً أن الرؤية الإيمانية هي الكفيلة بتقديم ذلك؛ لأنها تغرس الوجود الإنساني في نسيج متّصل من المعنى، تقدم له رواية متسقة عن ذاته.

وذكر معاليه بأن الإيمان علم، وذلك العلم قائم على منظومة معرفية ثلاثية الأركان هي الحس والعقل والخبر، لافتاً إلى أن هذه المنظومة تتكامل وتتعاضد فيها مصادر المعرفة للدلالة على الإيمان والتوصيل إلى سبيل الاطمئنان، مشيراً إلى أنه من أهم ثمار الإيمان في الدنيا تأسيس الأخلاق تأسيساً متيناً.

واختتم معالي العلّامة الشيخ عبد الله بن بيّه كلمته في المؤتمر بجملة من التوصيات التي تدخل في إطار تجديد الإيمان بالذكر والفكر والفعل.

محاضرة العلامة عبدالله بن بيه:الإيمان في عالم متغير

   
 

كلمة معالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس منتدى أبوظبي للسلم

بمناسبة المؤتمر الدولي ” الإيمان في عالم متغير”

12-13 ربيع الثاني 1446- 15-16 أكتوبر 2024م
 

                                                                    بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين نحمده على رحمته لنا بالإسلام وتفضله علينا بالإيمان والانتماء إلى دين سيد الأنام سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وعلى آله الأبرار وصحابته الكرام

 صاحب المعالي الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين.  

صاحب السعادة الدكتور أحمد عبادي، الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية

أصحاب المعالي والفضيلة والسماحة، أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد،

كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في صلاته «اللهمَّ ربَّ جِبرائيل، ومِيكائيل، وإسرافيل، فاطرَ السماوات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنَّك تهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ».

يطيب لي أن أشكر لكم الدعوة الكريمة للمشاركة معكم في هذا اللقاء الهامّ، الذي يشرُف بالرعاية السامية، لجلالة الملك محمد السادس حفظه الله ونصره.

ولا يفوتني أن أحيي جهود رابطة العالم الإسلامي بقيادة معالي الشيخ الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى في نشر قيم التسامح والتعايش في أرجاء العالم انطلاقا من مبادئ وثيقة مكة المكرمة التاريخية، كما أثني على أعمال الرابطة المحمدية للعلماء وأمينها العام صاحب السعادة الدكتور أحمد عبادي في تعزيز قيم الاعتدال والمحبة والبحث العلمي داخل المغرب وخارجه.

إن موضوع هذا المؤتمر مهم وراهن وواسع ومنتشر يصعب حصره، يجعل المرء يتردد بين خشية الاختصار المخل، أو خوف الإطناب الممل، وهكذا جاءت هذه الكلمة بين التذكير والتفكير، محذوفة الشواهد، مطروحة الزوائد، مشيرة إلى جملة من القضايا الواصفة، والمسائل الكاشفة.

وستكون وفق العناوين التالية:

  1. الحاجة إلى الإيمان في عالم متغير
  2. معنى الإيمان
    1. مصادر المعرفة الإيمانية (الحس، العقل، والخبر)
  3. وقفات توضيحية
    1. الوقفة الأولى مع العلم بمعناه الحديث
    2. الوقفة الثانية مع الخبر
    3. الوقفة الثالثة مع النبوة
    4. وقفة رابعة وأخيرة مع الأدلة الموهومة
  4. تذكير ببعض ثمار الإيمان
  5. جملة من التوصيات
  6. الختام

 

  1. الحاجة إلى الإيمان في عالم متغير

أيها العلماء والسادة الفضلاء،

العنوان الجيّد للموضوع الجيد هو العنوان الذي يفتح آفاقا متشعبة للنظر، وإن عنوان مؤتمرنا هو من هذا النوع الكثيف، فقد ربط بين مفهومين شديدي الصلة ووثيقي العلاقة: التغير والإيمان.

وقديما ربط بينهما المتكلمون حين جعلوا ملاحظة التغير الملازم للعالم مقدمة صغرى لقياس “حملي” لإثبات حدوث العالم، فقالوا:

العالم متغير

وكل متغير حادث،

إذا العالم حادث.

أما اليوم فنحن نَفِر من التغيّر إلى ثبات الإيمان بطريق أخرى هي طريق سيدنا إبراهيم عليه السلام الذي استدل بالموجودات على الموجد، ﴿وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾، وفي نهاية مسار الاستدلال نجا إلى هداية الله (قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)، ثم انتهى إلى (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

.

كثيرون هم الفلاسفة وعلماء الاجتماع الذين عُنوا بوصف عالمنا الحديث، وتفنَّنُوا في الكشف عن سماته وأحواله، وكلُّهم يتفقون على وصفه بأنه عالم السيولة والتغير المتسارع.

التغير اليوم سمة الزمان وشيمة العصر والأوان، ومبدأ الحياة، لقد جعلت التكنولوجيا من السرعة واختزال اللحظة والمكان، والتجدّد المستمر معايير للقيمة والجودة. كل شيء في تغير متلاحق من الذّرة إلى المجّرة، كل شيء مُعَجّل وبلا مَهَل، وكأن الوجود يُعْرض بتقنية العرض السريع، صور تمرّ أمامَ أنظار المشاهد في تدفّق لا ينقطع، المشهد تلو الآخر، والحدث تلو الآخر.

السرعة غير مقصورة على الأسباب المادية من المواصلات والتواصل، بل تشمل سرعة انتقال الأفكار والآراء والمعلومات والأخبار (الصحيحة والزائفة)، فتلك كلها مناح مختلفة تتضامن لإحداث مفعول واحد وأثر متميز في صياغة بنية الفرد المعاصر، والتأثير في تماسك المجتمع.   

التغير السريع والحياة السائلة والشك الذي سرى في كل أوصالها، كل ذلك استتبع حالة من  الحيرة والانبهار، فغدا الإنسان مدهوشا مشدوها ومبهوراً لسرعة الواردات التي ترد عليه وتواليها المستمر، يعيش منغمسا في الأشياء عن ذاته، محتجبا بحُجُبِها الكثيفة عن الأسئلة التي تلحّ عليه، غارقا في غمرة اللحظة، التي تغمر عقله وقلبه، غمرة كغمرة البحر اللجي، تلك الغمرة التي وصفها القرآن الكريم ﴿بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ[1] وعبر عنها كذلك بالسُمُود[2] وهو اللهو والتلهي.

ولعل الفيلسوف الفرنسي باسكال كان يشير إلى شيء من هذا عندما تكلم عن حالة التلهي le divertissement ، التي يلجأ إليها الإنسان فراراً من نفسه ومواجهة حقائقه العميقة، حقيقة الفناء والضعف والجهل.

وإذا كان الإنسان هو الشاهد وهو المشهود، كما قال بعض المفسرين[3]، شاهد على نفسه من نفسه، ولخالقه، وعلى الكون من حوله، فإنّ الحياة قد تغمُره، فيتخلّى عن وضعه الإنساني الأصيل، وضع المسؤولية والأمانة، فيغدو في حالة من الذهول والانفعال، تتقاذفه أمواج الحياة، ما له من قرار، “يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا” كما في الحديث الصحيح.

في هذه الرحلة بالذات التي فيها غَمرةٌ وغياب للقدرة على الحضور والاستحضار والمواكبة، في هذا التهافت، والتفكّك، يحسُّ الإنسان بضرورة استعادة جاذبية المعنى، التي تمنحه نقطة ارتكاز وثبات، وتظهر الحاجة إلى رؤية للكون تقدم له الاستقرار.

هنا تبرز الرؤية الوحيدة الكفيلة بذلك، وهي الرؤية الإيمانية، التي تغرس الوجود الإنساني في نسيج متّصل من المعنى، تقدم له رواية متسقة عن ذاته، ممتدة من النشأة (السبب) ومتصلة إلى المصير (الغاية)، رواية يجملها قول المؤمن “إنا لله وإنا إليه راجعون”، وتقدم له العروة الوثقى التي لا انفصام لها، التي تمنح للمستمسك بها رسوخاً واستقراراً.

الإيمان يقدم للإنسان ثباتاً في هذا المشهد السيال، فيقدم له تصورا خارج العرض الذي يأسر الفكر ويستحوذ عليه، تصورا لا يتماهى مع العرض، ولكنه ليس بالضرورة مجانبا له.

بالإيمان يخضع الإنسان لجاذبية الحقيقة وليس الانجذاب وراء الوهم.

الإيمان يُخرج الإنسان من غمرته التي انعكست على سلوكه سلباً وتصرفاته فساداً بظلم نفسه وأبناء جنسه وبيئته الكونية بتلويث الفضاء وصنع المخترعات غير الآمنة التي استعملها في التدمير بدل التعمير والقتل بدل المحافظة على الحياة، وكل ذلك يرجع إلى ضمور الإيمان وغياب الأفق الأخلاقي، مما حاولت البشرية تداركه من خلال أنظمة الأمم المتحدة المختلفة ومنها الإعلان العالمي لحقوق الانسان، وهي مبادرات حسنة القصد والغاية، إلا أن غياب المرجعية الإيمانية لها-مع أسباب أخرى- أدّى إلى عدم فعّاليتها.


 

  1. معنى الإيمان

الحضور الكريم،

قد لا تنتظرون مني في هذا المقام أن أسرد عليكم التعاريف المعروفة للإيمان، فحديث جبريل واضح ومشهور، ومع ذلك أثار هذا المفهوم من الجدل واستثار من النظرِ وتطلَّب من التحرير الكثير، لا سيما في علاقته بمفهوم الإسلام، شمولا كما يفهم من عبارات بعض السلف، أو تمايزا كما استقر عليه القول لدى بعض المتأخرين.

ذلك خلافٌ طويل لسنا بوارده، وحسبنا أن نقول إن الإيمان والإسلام إذا اجتمعا في سياق افترقا حقيقة و”ماصدَقا”، وإذا انفرد أحدهما غطى مساحة الآخر، ونشبه تلك العلاقة بالشجرة، فالإيمان شجرة تستثمر في أرض الإسلام، وتثمر في سماء الإحسان، أي أن الاعتقاد الصحيح إنما يَنبت في تربة الأعمال، ليرتقي صعُدا في أفق العرفان. والإيمان علم والإسلام عمل، والإحسان روح. والعلم مقدمةُ العمل، كما قال أبو عبدالله البخاري في صحيحه، بابٌ العلم قبل العمل: (فاعلم أنه لا إله إلا الله).

لذاك قيل العلم يدعو العملا                 إن يلفه قر وإلا ارتحلا

فإذا كان الإيمان علماً، فذلك يعني من زاوية النظر الإسلامية التقليدية أنه انكشاف للمعلوم على ما هو عليه، وله ثلاث وسائل من مصادر المعرفة:

المصدر الأول هو الحسُّ، وهو مجموع ما ركب في الإنسان من وسائل الإدراك للمحسوسات، التي تنشأ بها لدى الإنسان معارف ضرورية عن الموجودات، لكنّ هذا المصدر محجوب في هذه الدار عن الإدراك للباري سبحانه وتعالى، ولذلك فإنه لا ينتج على وجه الاستقلال والتفرّد أي معرفة معتبرة في باب الإيمان، وإنما قد يصلح مقدمة صغرى.

المصدر الثاني هو العقل، وينقسم العلم الحاصل بالعقل إلى علم ضروري وآخر نَظَرِيّ:

  • فأما الضروري فهو المغروس في النفس البشرية من البدهيات، فيعرفه كل عاقل ويدركه كلُّ مميز بَداهةً، مثل: أن الواحد نصف الاثنين، والجزء أقل من الكل، واستحالة الجمع بين النقيضين..الخ.
  • وأما النظري فهو ما احتاج إلى تأمّل وإعمال للعقل، وهو ما يسمى نَظَراً عند أهل علم الكلام والمنطق والأصول، والذي يرى الجويني أنه عبارة عن حركات الفكر في المنظور ليصل في النهاية إلى علم، من خلال الاستدلال أي طلب الدليل، والدليل هو عبارة عن مرشد إلى مدلول معيّن لدلالته عليه بنوع من الدلالات.

ومبنى النظر العقلي على إعمال الدلالة أي الانتقال من حاصل معلوم وقد يكون محسوساً إلى مطلوب مجهول، من خلال أحد أوجه الدلالة، ولا سيما عن طريق دلالة اللزوم العقلي، وهو لزوم ناشئ عن افتقار المسبب إلى السبب والمعلول إلى العلة ضرورة، فيصبح النظري اضطراراً عقلياً، عبّر عنه المتكلمون والفلاسفة بمختلف العبارات والمتصوفة بمختلف الإشارات.

هذا المصدر المركب من الحس والعقل، هو محلّ بحث الباحثين، واضطراب المضطربين، ومعترك المذاهب من خلال أدلّة عقليّة تجد مقدمتها الصّغرى في الحس والوجود، ومقدمتها الكبرى في العقول والألباب، فكان مبدأ السببية ومبدأ الغاية وما سماه ابن رشد دليل العناية شواهد تستحضر الآيات، التي هي نقوش القدرة في صفحة الخلق للذين يحسنون استنطاقها، وهي الأبجدية الأساسية لقراءة الكون.

المصدر الثالث: الخبر، ،  وهو الدليل الأكبر والمرشد الأهدى سبيلا والأقوم قيلا، والمقصود في هذا السياق ليس كل خبر وإنما الخبر القائم على الوحي الذي هو علم لدني ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا﴾، علم ليس بناشئ عن إعمال نظر ولا تركيب قضايا، يُؤْتاه الأنبياء المصطفون من خلق الله لتلقي الوحي، والوحي هو اتصال إلهي بالإنسان المصطفى -على سبيل الإلهام أو بواسطة ملك، لإطلاعه على جملة من الحقائق، وإبلاغه برسالة إلى البشرية هي مراد الخالق من الخلق..

هذه المصادر هي الآيات والنذر، التي تتكامل وتتعاضد للدلالة على الإيمان والتوصيل إلى سبيل الاطمئنان، والتي بها تقع الهداية الناقلة للإيمان من حيّز الإمكان والاستعداد الذي جبل عليه الإنسان، وركز في فطرته، إلى حيز التحقّق والوقوع الذي هو اصطفاء وتوفيق، فالنذر هي تذكير وإيقاظ للنفس للارتقاء من عالم الموجودات إلى البحث عن الموجد بالاعتبار بالآيات.      

وهكذا، فهذه رؤية للإيمان ثلاثية الأركان، يأخذ الحس فيها نصيبه، ويوضع العقل في نصابه، ويكون الوحي مهيمناً ومرشداً للحس والعقل فيما يقفان دونه من الماورائيات والحقائق التي لا يدركها الإنسان أو التي لم يكتشف بعد أنه لا يدركها وفق قاعدة: أن عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود وعدم العلم لا يعني علم العدم، وهي حقائق تتعلق بالنشأة وحكمة الإيجاد ونعمة الموجد، وقانون الأخلاق والجزاء في دار البقاء.

 


 

  1. وقفات توضيحية

الاخوة والاخوات،

لا بد لنا هنا من وقفات عجلى لمعالجة بعض الإشكالات التي تثار حول هذه المصادر،

  • الوقفة الأولى مع العلم بمعناه الحديث:

مضت حقبة كان بعض الناس يرفعون دعوى مصادمة العلم للدّين، ومردُّ ذلك إلى عدم توضيح العلاقة وتحديد المجالات بينهما. والحق أن العلم بمعناه الحديث منهج إنساني قائم على البحث في الكائنات، وقصاراه كما يقول العالم الفرنسي كلود برنار ( Claude Bernard) [4] البحث عن العلل الثانوية للأشياء، وليس له مرتقى إلى العلل الأولى. ولذلك فإن الأسئلة التي يُعنى بها الدين غيرُ تلك الأسئلة التي تجيب عليها العلوم.

ومعتمد العلم الحديث على الملاحظة والتجربة التي توصل بالاستقراء إلى قوانين كما يقول الفيلسوف رَسَلْ[5]، ولذلك فهي قوانين لا يمكن أن ترقى إلى القطعية، بل تظل معرضة للنقض بحسب ما يستجد من المعطيات، ولعل أشهر مثال على ذلك هو مثال قانون نيوتن لتفسير الجاذبية والذي ظلّ طيلة قرون هو الحقيقة العلمية، حتى اصطدم بشذوذ كوكب عطارد، فكان ذلك داعياً إلى البحث عن قانون جديد وهو ما توصل إليه آنشتاين من خلال وضع نظرية النسبية العامة.   

 وليس من شأن العلم أن يثبت أو ينفي ما وراء مجاله فعدم وجدانه للغيبيات لا ينفي وجودها، وعدم علمه بها لا يفيد علما بعدمها، فكم من أمر لم يكن للإنسانية به علم ثم تمّ اكتشافه، فلم يكن عدم علمه علما بعدمه.

وقد وجد الفئام من سدنة العلوم في كل العصور، ممَّن حفزهم بحثهم في الكون على الإيمان لما رأوه من بديع آثار الخالق، ومن هؤلاء نيوتن.

لقد جاء العلم الحديث لينقل الجدل المتعلق بحدوث العالم إلى مجاله، حين سلم للدين المقدمة الصغرى ليبني عليها المقدمة الكبرى “كل محدث فلا بد له من محدث“، ليكون القديم الذي لم يسبق على وجوده عدم هو واجب الوجود. وهكذا يُصلح برهان السببية بين الدين والعلم، فكما يقول ديكارت “أن العدم لا يخلق وجوداً“.

ولهذا فإن تحميل العلم مسؤولية الإلحاد أو ضربه بالدين وضرب الدين به، كل ذلك سببه الخطأ في تعامل الناس مع العلم حيث طلبوا منه أن يجيب على أسئلة من خارج ميدانه:

إذا سلكت للغور من بطن عالجٍ       فقولا لها ليس الطريقُ هنالكِ

  • الوقفة الثانية مع الخبر:

تعرّض الخبر لنقد كبير في العصر الحديث وتبخيس مبالغ فيه لحجيته، مع أنّ البشرية لا يمكن أن تستغني عن الخبر بأية حال، فهو أكثر مصادر المعرفة اعتماداً في كل تفاصيل الحياة صغيرها وكبيرها، وبه يقضي الناس معايشَهم اعتماداً على الاطمئنان الذي يمنحونه للتواتر وللثقة.

ولذلك فلا بد في هذا العصر من إعادة بيان مركزية الخبر في النسق المعرفي البشري عموماً، وفي نسقنا الإسلامي خاصة حيث أبدع المسلمون منهجية توثيق وتنقيح للأخبار لا يوجد مثلها في أي أمة أخرى.

 

  • الوقفة الثالثة مع النبوة:

إن اشتقاق كلمة النبي لغة مختلف فيه اختلافا جرّ ذيوله على الترجيح بين قراءتـَيْ الهمز كما لدى نافع وعدم الهمز كما لدى الآخرين:

نبـــــــــــوة من نبإ لخبر * وغالبا عن نبإ ذي خطر

أو من نبا ينبو إذا ما ارتفعا * ولكلا الأصلين وجهٌ سُمعا

أما في الاصطلاح الشرعي فالنبي هو مَنْ يتلقّي الوحي من الله سبحانه وتعالى، بواسطة الملك أو بالإلهام، والمراد به ورود شيء على النفس البشرية المصطفاة، يقع فيها، فيطمئن إليه الإنسان فتصير به الأشياءُ النظرية أو الخارجةُ عن دائرة المقولات العقلية ضروريةً لديه.

النبي قد يكون مكلفا بإبلاغ ما يُوحى إليه، فيسمى رسولا، وقد يكون مستأنِفا لشرع خاص، وقد يكون مجددا لتعاليم رسول سبقه، كما كانت أنبياء بني إسرائيل، على اختلاف كثير بين العلماء على التباين والترادف، والراجح هو العموم والخصوص فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا.

النبوة ظاهرة فريدة، تقع لأفراد هم المصطفون الأخيار، وهي برهان على قيُّوميّة المولى سبحانه على خلقه؛ ومظهر من مظاهر رحمته بالإنسان ولازم من لوازم قدرته. فإمكانها لا يحيله العقل، ووقوعها يصدقه الواقع، ومع ذلك أقام الباري جل وعلا الدليل على النبوة في الإنسان نفسه ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾، وذلك بواردات ترد على النفس، وباستشعار الأحداث خارج السياق المعتاد لإدراك الموجودات، وذلك من خلال الرُّؤَى التي لا يتمارى أحد في وقوعها، والتي تقدم الأحداث مرموزة فتفسرها الوقائع أو يفك شفرتها من له علم من الكتاب. وأحيانا تقدم المشهد الذي سيكون بكل جلاء ووضوح فتتجلى في الواقع على وفقها.

الرؤيا الصادقة نموذج من خاصية النبوة أودع في الإنسان لتقريب هذه الحقيقة الكبرى، وهي ظاهرة غير مخصوصة بأمة عن أمة ولا بجنس دون آخر، وربما لا يخلو منها أحد، سواء تذكرها أو لم يتذكرها.

 إنها شهادة للنبوة قائمة في الإنسان، لأن الرؤيا في بعض صورها خارج دائرة الحس والعقل وما زالت محيرة، رغم تفسير العلم الحديث لها بأنها: ظاهرة نفسية ترد في حالة النوم”. ولهذا يقول الفيلسوف الفرنسي الشاعر بول فاليري: إن الرؤيا هي فرضية لأننا لن نعرفها أبدا إلا بالذكرى، Le réve est une hypothése puisque nous ne le connaissons jamais que par le souvenir” 

إن التصديق بنبوة الأنبياء أو برسالة الرسل يتأتى عن طرق كثيرة وقرائن تنقدح في النفوس لا يمكن دحضها، نذكر منها ما يلي:

  • أولا: سيرة النبي، فالأنبياء هم مثال على مرِّ الزمان في أقوامهم في حسن السلوك واستقامة الخُلُق والصِّدق والأمانة حتى قبل أن ينزل عليهم الوحي, فهم طائفة متميزة من حيث السِّمات والاستقامة والسلوك وعدم مخالفة الفعل والقول؛ والإيمان الراسخ بما بين أيديهم من الرسالة حتى يكاد طُهرهم ونقاؤهم الباطني ينتزعان الاعتراف بصدقهم، فقد كان سيدنا محمد ﷺ يُدعَى الأمين قبل الرسالة لِصِدقه وأمانته، ولهذا قال هرقل ملك الروم: (لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ) ، ولذلك لا يتمارى الذين يتبعون النبي بأنه صادق، في كل ما يقول، حتى لو كان ما يقوله خارج نطاق إدراك الحواس البشرية، وهؤلاء لا يحتاجون إلى دليل أكثر من شخصية الرسول، ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾.

ونجزم أنه لا أحد منذ نشأة البشرية حفظ لنا التاريخ من أخباره وآثاره ومآثره ما حفظ لنا عن رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حتى كان كأنما يعيش في غرفة زجاجية يطلع الناس على دقيق تفاصيلها. فلم يترك الرُّواة حركة من حركاته أو سكنة من سكناته أو نفَسا من أنفاسه إلا نقلوه، وكأن الله سبحانه وتعالى لمَّا جعله آخر الأنبياء جعل سيرته تخلُد؛ وآثاره تبقى، فكان هذا النبي مرآة انعكست فيها صورة أخلاق الأنبياء، ومثالا جمع كل الخصال وأشتات المكارم وأنواع المعارف، وهو ما يتجلى في كتب السيرة بوضوح، وفي معرض السيرة النبوية الذي تُشرف عليه رابطة العالم الإسلامي بقيادة معالي الشيخ الدكتور محمد عبد الكريم العيسى.

وعلى تفنن واصفه بحسنه * يفنى الزمان وفيه ما لم يوصفِ

ثانيا: أن تصديق الرسول في رسالته قد يكون ناشئا عن أمور غيبية أخبر بها، سواء كانت أخبارا في الزمن الغابر مما لم يكن معروفا للنبي ولا لقومه، كما في ذكر هامان، ولم يكن معروفا حتى لأهل الكتاب، وقد يكون عن خبر مستقبلي، ثم يظهر صدق ذلك خبر بتحقّقه  في الواقع، فيكون ذلك دليلا على صدق من أخبر به فيما سواه، كما في قصة هزيمة الروم على يد فارس، وإخبار الوحي بأن الروم سَيَغلِبون فارس قبل نهاية عقد من الزمن وأن ذلك وعد من الله، فكان الأمر على ما وُصِف، ” ﴿الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ﴾.

  • ، وهذا النوع كثير وهو أخص صفات النبوة، فهي وعود صريحة وواضحة ومؤكدة بل في بعض الأحيان محددة، وليست تكهنات مبنية على حساب ولا تخمين، ولا يمكن أن تصدر من تلقاء بشر، ولا تزال البشرية في كل عصر تكتشف مسائل أخبر عنها الوحي من عالم الغيب. وفي هذا العصر استوقفتني آيتان كلاهما تتعلق بالأرض، الأولى حول استهلاك المعادن وموارد الأرض بشكل غير مسبوق، والذي عبر عنه الحديث الصحيح، “تَقِيءُ الأرْضُ أفْلاذَ كَبِدِها”، وهي عبارة مشحونة بالمعاني، أترون أن الأرض إذا ألقت ما فيها هل تبقى لها غاية، والثاني الأثر الوارد عن الإمام مالك “أنه بلغه أنه في آخر الزمان يشتد حرّ الأرض (وفي رواية حر الشمس)”، هذه فقط إشارات لليقظة الإيمانية ولا تعني التوقف عن البحث العلمي أو مكافحة حر الأرض والتغير المناخي كما في مؤتمر (كوب 28 COP 28).
  • ثالثا: قد يكون التصديق ناشئاً عما يجري على يدي الرسول من خارقٍ مقرون بالتحدّي والدَّعْوى، وتُسمَّى هذه الخوارق في اصطلاح القرآن الكريم (الآيات)؛ لأنها علامات على صِدق الأنبياء، وأطلق عليها فيما بعد في اصطلاح أهل علم الكلام اسم (المُعجزات)، وهي خوارق لمجرى العادة من القوانين الطبيعية لا لحكم العقل الذي لا ينخرم، ووجه دلالة المعجزة على صدق النبوة، أنها بمثابة تصديق خالق الكون لدعوى الرسول للرسالة بإذنه للكون بالانفعال له، فهي أمارة وعلامة على موافقة ملِك الخلْق على ما يقوله الرسول.

وقد ذكر القرآن الكريم كثيراً من الخوارق والمعجزات التي وقعت للأنبياء كانقلاب العصا لسيدنا موسى عليه السلام وإحياء الموتى لسيدنا عيسى عليه السلام، وقد وقع للنبي صلى الله عليه وسلم الكثير من المعجزات، منها انشقاق القمر وحنين الجذع وتسبيح الحصى وكلام الحجر وانقياد الشجر..

في معجزات كثرت أن تحصى ** ذكرت منها البعض دون استقصا

إن انفعال الكون للرسول ** هو دليل أيما دليل

بإلاذن من مالكه العظيم ** للخاتم المطهر الكريم

رابعا: وقد يكون التصديق ناشئاً عن دعاءٍ من الرسول نفسه لهداية قوم “اللَّهمَّ اهدِ دَوْسًا وائتِ بهم” أو عن أشياء ذوقية كإطلالة وجهه الكريم صلى الله عليه وسلم” ليس بوَجْهِ كَذَّابٍ ” أو عن معرفة أوصافه المذكورة في كتب الأولين كما وقع لسيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه.

إنها أدلة كثيرة حصل بمجموعها تواتر لا يمكن دفعه، وعلى الأخص لمن هُدي إلى اتباعه.

وهناك بالنسبة للنبي الخاتم معجزته الخالدة، ألا وهي القرآن الكريم.

خامسا: يوجد وجه آخر وهو مضمون الرسالة، فرسائل الأنبياء جاءت دعوة إلى الخير والبر وصون الكليات الخمس، فأهل العقول والحكمة يستحسنون ذلك ويميلون إليه، ومن ذلك سؤال النجاشي للصحابة حين قدموا الحبشة فقال “وما يأمركم به؟ وما ينهاكم عنه؟. قالوا: يقرأ علينا كتاب الله ويأمرنا بالمعروف وينهانا عن المنكر ويأمرنا بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم، ويأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له”. وكذلك حديث وفد قريش مع هرقل ملك الروم فقد سأل ماذا يأمركم؟ قال أبو سفيان قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة”. وهذا مصداق آيات كثيرة في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾، وقوله سبحانه: “﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، فالرسالة هي الدعوى وهي الحجة، وهي الدال والمدلول.

 

  • وقفة رابعة وأخيرة مع الأدلة الموهومة:

يرفع بعض المعاصرين قراءة آلية للعالم، يدّعي أصحابها عدم وجود معنى للكون، وأن ذرّات تجمّعت بلا هادٍ ومن تلقاء نفسِها، فشكّلت هذا الكون البديع في كل تفاصيله الدقيقة البديعة، ذرات تجمعت فصارت أحداقا ومُقلا تبصر، أو صارت آذانا تسمع، وهكذا من أصغر الموجودات من الذرات إلى أكبرها من أجرام السّماوات كالكواكب والمجرات، كل ذلك وفق مقادير غاية في الدقة لو اختل منها مقدار واحد لانخرم نظام الكون وابتلعه الفساد. بل هو تقدير عليم حكيم، يتجلى صنعه في التصميم الحكيم للكون، وهي الترجمة الأنسب والأوفق، وإن لم تكن الحرفية، للمصطلح الأجنبي “Le dessein intelligent”.

إن أنصار المذهب الآلي يتشبثون بمفاهيم هُلامية كالصدفة والطّفرة العشواء أو الطبيعة والانتقاء وهي مفاهيم لا تتسم بمعايير العلمية وأهمها الانبناء على الملاحظة،

فروا من الغيبِ فجاؤا غيباً * أهمل عينه فصار عيبا

في مقابل هذه الرؤية العدمية لا بد من ترميم واستثمار الآليات التي ارتضتها الإنسانية جمعاء وخدمت في الماضي ويمكن أن تخدم في الحاضر والمستقبل، كمبدأ السببية  causation / causality ومبدأ الغائية teleology / finalité أو العناية عند ابن رشد أو الأقيسة المنطقية، وهي مباديء قرآنية عبر عنها العلماء بعناوين جديدة كما عبروا في أصول الفقه بعناوين شتى ولم ير السلف بذلك بأساً بل رأوها من الوسائل الخادمة التي يزكيها المقصد ويستدعيها الزمان.

السببية المقصودة هنا هي ما نسميه (السببية الكبرى) أو ما يعبر عنه الفلاسفة بالعلة الأولى أو المحرك الأول. وتشير إلى أن العدم الذي معناه اللاوجود الخالي من القوى والخصائص والإمكانات لا يمكن أن ينشئ الكون بدون مكوّن.

وما نعنيه بالسببية الكبرى يقابل ما يمكن أن نسميه بالسببية الصغرى وهي تأثير الأسباب في إطار حركة المخلوقات طبقاً للمبدأ السابق، وفقاً للقوانين الكونية الداخلية، وهذه السببية الصغرى هي التي ينفيها الأشاعرة بحجة قريبة مما يقوله ديفيد هيوم من أنّ ما يظنه الناس أسباباً هو نوع من الاقتران وليس نوعاً من التأثير. لكن الفارق أن الأشاعرة ينفونها اعتماداً على وجود السببية الكبرى الخالقية التي تؤثر في كل شيء فلا أسباب غيرها. ويرى الماتُرِيديّة، بلهَ المعتزلةَ، أن وجود قوانين ثابتة تقتضي تأثير الأسباب على المسببات بخلقٍ سابق من الله سبحانه وتعالى في قوانين سارية في الكون لا تتوقف إلا بأمر من الخالق كما في قصة إبراهيم عليه السلام الواردة في القرآن الكريم وأبي مسلم الخولاني رضي الله عنه وهي قصة صحيحة مشهورة كما في صحيح ابن حبان وفي دلائل النبوة للبيهقي وغيره.

 

  1. تذكير ببعض ثمار الإيمان

أيها السادة الكرام،

إن أول ثمار الإيمان وأعظمَها هي السّعادةُ الأخروية بتنعيم الأرواح في القبور والأجساد يومَ النشور بالنزول في دار الأفراح والسرور، حيث النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.

ومن ثمار الإيمان أيضا، أنه به يرتقي الانسان في إنسانيته، اتّصافا وتحقُّقا، بالكمالات الإنسانية، من صحة الاعتقاد، وحسن معاشرة العباد، وتزكية النفس وتهذيب غرائزها، فبالإيمان يهتدي الإنسان إلى فعل الخير وينقاد إلى الخير باطناً وظاهراً.

كما أن من ثمار الإيمان الحياة الطيبة، قال تعالى “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً” والحياة الطيبة هي السّعادة والطمأنينة ويمكن أن نعبر عنها بالمصطلح المعاصر “جودة الحياة”.

إن قيمة الإيمان تؤدّي الى الاطمئنان، فيكون الانسان مطمئناً إلى رؤية لهذا الكون العجيب والكوكب الفريد الذي يعيش عليه، رؤية تجيب عن سؤال من أين أتيتُ وإلى أين أصيرُ؟ وممّ خلقتُ ولم خلقتُ؟ تجيب على سؤال الأخلاق بربطها بالجزاء الأخروي فلا تستوي الحسنة والسيئة ولذلك فهو يقيم في النفس وازعاً وفي الضمير رادعاً، فكلّ أخلاق لم تستنبت في أرض الإيمان، ولم تسق بسحب الوحي الفياضة بالإحسان، تظلُّ معرّضة لزعازع الهوى، ضعيفة التّأثير، تتلاشى أمام الأزمات، وهذا ما تفتقر إليه النظريات الفلسفية الأخلاقية، كالتي في النظام الكانتي، حيث لا جزاء، فلا المجرم معاقب ولا المحسن مثاب إذا لم تنله يد القانون، فيستوي في هذا النظام البارُّ بوالدَيْه والعاقّ لهما، والمحسن على جاره والمسيء.

أما الأخلاق الإيمانية فتعزّز السلام مع العالم في دوائر متصلة، مع النّفس والوالدين ومع الأقربين، والجيران والناس أجمعين، “والمؤمنُ من أمنَهُ النَّاسُ علَى دمائِهِم وأموالِهِم“.  فمجتمع الإيمان مجتمع آمن، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ مجتمع يُمتَثل فيه للحقوق، وتؤدّى فيه الواجبات طواعية: “الذين آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ”، فالإيمان بالله والجزاء الآخروي يجعل الإنسان أكثر شفقة على الناس ورحمة بهم وأقل عدوانية وظلما، وأكثر مسئولية في علاقته مع الناس والمخلوقات ومع البيئة من حوله.

إن الإيمان يربط الإنسان بالكون من حوله في سلسلة علائق متكاملة، تمنح صاحبها ثباتا نفسيا، وتقيه من الضياع والتشتت، وتعيد انتماءه إلى العالم، إلى الكون الذي تشترك فيه البشرية بالوجود والوجدان، وهذا الذي تشير إليه الآيات: ﴿ مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ و﴿مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾، و كما في الحديث الشريف “يا أيُّها النَّاسُ، ألَا إنَّ ربَّكم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، ألَا لا فَضْلَ لِعَربيٍّ على أعجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عرَبيٍّ، ولا أحمَرَ على أسوَدَ، ولا أسوَدَ على أحمَرَ إلَّا بالتَّقْوى”.

ومن ثمار الرؤية الإيمانية أنها تفتح آذان الإنسان ليسمع أصوات الكون الناطقة بحقائقه من حولنا، وترفع الغشاوة عن البصيرة لتدرك الإشارات البينات التي تدله من ذاته على ذاته.  

الصمت المطبق للكون، إنما هو شعور الإنسان المحجوب بالغمرة والسمود عن فهم لغة الآيات، التي استنطقها ذاتَ يوم ابن عطاء الله السكندري، فنطقت له بأسرارها العجيبة:

أيا صاح هذا الركب قد سار مسرعًا * ونحن قعود ما الذي أنت صانع

أترضى بأن تبقى المخلف بعدهم * صريع الأماني والغرامُ ينازع

وهذا لسان الكون ينطق جهرة *بأن جميع الكائنات قواطع

وألَّا يرى وجه السبيل سوى امرئ * رمى بالسِّوى لم تختدعه المطامع

 

  1. جملة من التوصيات

الحضور الكريم،

لقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال “إن الإيمانَ ليَخلَقُ في جوفِ أحدِكم كما يَخْلَقُ الثوبُ، فاسأَلوا اللهَ أن يُجدِّدَ الإيمانَ في قلوبِكم“، فكيف يكون هذا التجديد؟ وكيف نقوم بهذا التجديد الذي وُعدنا به وأمرنا به. لأن الوعد هو في نفس الوقت أمر ولذلك جاء في الحديث: “جدِّدوا إيمانَكم” مع الوعد بقيام مجدد ومجددين يجددون لهذه الأمة دينها في كل قرن.

إنه تجديد على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع، والإنسانية جمعاء، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم “جَدِّدوا إيمانَكم، قيلَ: يا رسولَ اللهِ، وكيف نُجدِّدُ إيمانَنا؟ قال: أَكثِروا مِن قولِ لا إلهَ إلَّا اللهُ”، وفي الحديث الآخر ” أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال لأصحابِه: جَدِّدوا الإيمانَ في قلوبِكم، مَن كان على حَرامٍ حوَّلَ منه إلى غيرِه، ومَن أحسَنَ مِن محسِنٍ وقَعَ ثَوابُه على اللهِ، ومَن صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى اللهُ عليه عشْرًا، وملائكتُه عشْرًا، ومَن دعا بدَعَواتٍ ليست بإثمٍ ولا قَطيعةِ رَحِمٍ استُجيبَ له”، وقد روي عن طائفة من الصحابة أنهم كانوا يقولون “تعالوا نؤمن ساعة” و”اجلس بنا نؤمن ساعة”.

ولذلك فإنني سأختم هذه الكلمة بجملة من التوصيات تدخل في إطار تجديد هذا الإيمان بالذكر والفكر والفعل:  

أولا: البشرية محتاجة إلى تجديد الإيمان من خلال إعادة ربطها بغذاء الأرواح، والإكثار من الذكر الذي هو مفتاح تزكية النفوس؛ كما تفتقر إلى مرشدين ربانيين يحيون وظائف الذكر ويرقون في مدارج السلوك إلى مقامات الزهد والصبر والشكر، فتشرق السرائر وتستقيم الظواهر فتتطهر القلوب من الغلّ والرياء وتتنزّه الألسنة من الغيبة والفحشاء.

ثانيا: تجديد الخطاب الإيماني عن طريق تطوير أساليب البرهنة وطرق العرض واستغلال الإمكانات التي أتاحتها المعارف البشرية الجديدة، وهي في الحقيقة إنما أتاحت ما أشار له القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾. فالآيات في الآفاق هي آيات لا تنقطع، علينا أن نسبر أغوارها كدلائل على العقائد، وهي مجال للتجديد والتجدّد، فستظلّ الآفاق صفحة تسطر فيها الآيات، لنتبين أن هذا الدين وهذا القران ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم هي الحق.

ومن أوجه التجديد الممكنة في الفقه الأكبر، كما أسماه الإمام أبو حنيفة، استثمار ثمرات العقول والعلم الحديث في صياغة العقائد وعرضها عرضا سليما بطرائق الاستدلال المناسبة لإدراك أهل العصر، وألا نجد في أنفسنا حرجا من الاستعانة بالفلسفة، فإن المدارس الفلسفية منها المدارس الصديقة التي يجب أن نستفيد من تجربتها وحاصل تحريراتها، ومنها المدارس التي يمكن أن نسميها خصما ولكن ليس بالضرورة عدوا، وهذه ينبغي محاورتها، فنستفيد من الصديقة ونحاور الأخرى المخالفة أو المنافسة.

فعلينا الانفتاح على شهادة المتخصصين في الفلسفة والعلوم الطبيعية ما لم تعارض نقلا أو تناقض عقلا. فنتعاون مع العلوم التجريبية في رحلة اكتشاف الكون البديع، ونقبل شهادتها في الاثبات ولا نقبل شهادتها في النفي. وذلك ليس فقط من منطلق إيماني فحسب، ولكن من منطلق علمي أيضا لأن العلم إذا شهد بالنفي فقد أعلن التوقف عن البحث العلمي.

ثالثا: إنشاء مراكز للبحوث الإيمانية -والتي في الدائرة الإسلامية يمكن أن تستقطب كل التخصصات من محدثين يقدمون أحاديث الإيمان وما لها من تأويل ومعنى، وكلاميين يبرزون ما وصلوا إليه من حجاج ونظر، ومن المشتغلين بتزكية النفوس وأحوال القلوب ومقامات الإحسان، ليقدّم كلٌ أحسن ما عنده في إطار التعاون على الخير- فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ.

في هذه المراكز يتم استنفار مدارس الأمة جميعها من أهل الحديث وأهل تزكية النفوس وأهل علم الكلام، فهم وإن تعدّدت مشاربهم، واختلفت مذاهبهم، فكعبتهم واحدة، وهدفهم متحد، هو تحقّق الإيمان بمقتضياته علماً وعملاً، والاجتهادات البشرية لا يمكن أن تكون متفقة أو متطابقة في مقارباتها ومنهجيتها إلا أنها بالتأكيد مجمعة على هدفها.

وحيث كنا معاً نرمي إلى غرض                        فحبذا ناضل منا ومنضول

وأصلهم الذي لا يحيدون عنه وانتسابهم الذي لا يقبلون الانتفاء منه هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

فلا بد من تقريب الشقة بين مختلف هذه المدارس الباحثة عن الإيمان-حسب الإمكان- والتسامي عن التجريح والتنابز بالألقاب بين أهل البرهان باختلاف مدارسهم وأهل العرفان بتنوّع مشاربهم، وتجاوز كثير مما نحسب أنه كان اختلافات لفظية وعنوانية، أكثرَ منها جوهرية، وننصح بالتوقف عن التكفير والتبديع والتضليل، لأن نتيجة التنازع هي الفشل والتمانع.

رابعاً: أن نجعل عنوان المرحلة ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، من خلال الابتعاد عن الحرب الكلامية، والعنف اللفظي، فقد أصبح العالم بمثابة المعرض العالمي، تُعرض فيه الأفكار كما تعرض السلع وتروّج كما تروّج البضائع (كل حزب بما لديهم فرحون)، والمؤمن بضاعته أحسن بضاعة، وأربح تجارة، فهو يقدم للبشرية الإيمانَ، وهو البضاعة الجيدة التي تطرد البضاعة الرديئة من السوق.

 

  1. الختام

وختاما، أشكركم على إصغائكم، متمنياً لأعمال هذا المؤتمر التوفيق والنجاح، اللَّهُمَّ إِنِّا نسألك إيماناً صادقاً، ويقيناً ليس بعده كفر، ورحمةً ننالُ بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة، وأخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

 

[1] سورة المؤمنون، آية 63.

[2] إِشارة إلى قوله تعالى “وَأَنتُمْ سَامِدُونَ”، سورة النجم، آية 61.

[3] تفسيرا لقوله تعالى في سورة البروج، آية 3 “وَشَاهِدٍ وَمَشْهُود”، كالرازي وإبن عجيبة في تفسيريهما.

[4] كلود برنار (بالفرنسية Claude Bernard) ‏ (1813 – 1878): عالم فرنسي شهير يعتبر مؤسس المدرسة التجريبية العلمية، كان يقول لتلاميذه في مختبره: إننا هنا نبحث عن العلل الثانوية. للاستزادة الرجوع لما كتب تلميذه نستور جريهان أو لمقال V Donnet: Claude Bernard était-il athée?

[5] يقول برتراند رسل: «إن كل القوانين العلمية تقوم على منطق الاستقراء» إلا أنه يضيف أن «الإستقراء من حيث هو عملية منطقية … عرضة للشك وعاجز عن إعطاء نتائج يقينية» (كتاب النظرة العلمية (صفحة 84).

العلامة عبدالله بن بيه يشارك في مؤتمر المنتدى الاسلامي في روسيا

 

خلال مؤتمر طريق السلام في روسيا

بن بيّه: دور محوري للقيادات الدينية في حل الأزمات

 
   

شارك العلّامة عبد الله بن بيّه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس منتدى أبوظبي للسلم، في المؤتمر الدولي الذي نظمه المنتدى الإسلامي العالمي بجمهورية روسيا الاتحادية، أيام 20 و21 و22 سبتمبر/أيلول الجاري، وذلك بدعوة من سماحة المفتي الشيخ راوي عين الدين، رئيس الإدارة الدينية لمسلمي روسيا الاتحادية.

ونوّه ابن بيّه في مطلع كلمة مسجلة عن بعد، بعلاقات الصداقة القوية بين الإمارات وروسيا، مؤكدّاً أن هذا المؤتمر ينعقد في وقت تواجه فيه البشرية تحديات عظمى وأزمات كبرى على مختلف الصعُد، إذ إنها تعاني من ويلات حروب في مختلف مناطق العالم، وتواجه تحديات جسيمة على صعيد البيئة والأوبئة والمجاعات، ما يفرض على الجميع التكاتف والتعاون للتخفيف من آثارها.

كما أكد على الدور المحوري للقيادات الدينية في خضم تلك الأزمات.

ولفت ابن بيه، إلى ضرورة إعلاء المشتركات الإنسانية من حقوق وقيم يشترك فيها سائر البشر ويرثها كل إنسان بغض النظر عن لونه أو عرقه أو دينه.

وأشار إلى رؤية دولة الإمارات التي عبّر عنها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، حيث قال: «ستظل سياسة دولة الإمارات داعمة للسلام والاستقرار في منطقتنا والعالم.. وعوناً للشقيق والصديق.. وداعية إلى الحكمة والتعاون من أجل خير البشرية وتقدّمها».

كلمة العلامةعبدالله بن بيه في مؤتمر المنتدى الإسلامي في روسيا

   

كلمة معالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس منتدى أبوظبي للسلم

في المؤتمر الدولي “طريق السلام: الحوار كأساس للتعايش المشترك”

20 إلى 22 سبتمبر 2024م،

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى آله وصحبه أجمعين

 

سماحة المفتي الشيخ راوي عين الدين، رئيس الإدارة الدينية لمسلمي روسيا الاتحادية

البرفسور ضمير محي الدينوف، النائب الأول لرئيس الإدارة الدينية لمسلمي روسيا الاتحادية

 

أصحاب المعالي، أصحاب السعادة،

أصحاب السماحة، أصحاب الفضيلة كلٌّ باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بداية، يسرني أن أقدم جزيل الشكر للقائمين على تنظيم هذا المؤتمر، على الدعوة للمشاركة معكم في هذا اللقاء الهام، كما أهنئكم بالذكرى العشرين للمنتدى الإسلامي العالمي راجياً لكم دوام التوفيق والسداد.

ويسرني أن أنوه بعلاقات الصداقة القوية بين بلدينا الامارات العربية المتحدة وجمهورية روسيا الاتحادية.

مع الاعتذار لعدم التمكن من الحضور معكم مباشرة لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، واسمحوا لي بين يدي هذه الجلسة أن أقدم بعض الأفكار السّريعة التي أرجو أن تكون مساهمة في التفكير في هذا الموضوع الملح ومنطلقا للحوار حوله.

 

 

الأخوة والأخوات،

يأتي انعقاد هذا المؤتمر في وقت تواجه فيه البشرية تحديات عظمى وأزمات كبرى على مختلف الأصعدة والميادين. إن البشرية اليوم تعاني من حروب وأزمات في مختلف مناطق العالم، كما تواجه تحديات كلية جسيمة على صعيد البيئة والاوبئة والمجاعات. إن هذه التحديات تفرض على الجميع التكاتف والتعاون من أجل حلها والتخفيف من آثارها.

ولكون هذا المؤتمر يُعنى بدور العلماء والقيادات الدينية في معالجة الأزمات والتحديات حول العالم، فسأقتصر في هذه الكلمة الموجزة على تسليط الضوء على نقاط محددة تمكن القادة الدينين من الإسهام في نشر قيم التسامح والتعايش والسلام في العالم.

أيها الحضور الكريم،

إن القيادات الدينية مدعوة للإسهام في جهود السلم والتعايش على مستويات مختلفة وعبر طرق متعددة. منها على سبيل المثال مايلي:

  1. البحث عن المشتركات بين الأديان

إن من واجب القيادات الدينية البحث عن المشتركات فيما بينها لتجنب الصراع بين اتباعها ودرء خطر اشتعال الحروب على خلفيات دينية. تلك المشتركات التي تصون كرامة الإنسان وترفع من شأنه، من خلال العناية بما نسمّيه في الإسلام بالكليات الخمس، وهي الدين والحياة والعقل والملكية والعائلة، والتي نعتبر أنها هي أساس المشترك الديني بين كل الشرائع والملل، فجميعها جاءت بحفظها ورعايتها.

  1. الرجوع إلى النصوص المقدسة لاستلهام قيم التعايش

إن من المطلوب كذلك رجوع اتباع كل دين إلى نصوصهم المقدسة لاستخراج ما يحث على التعايش والتسامح ولرؤية نصوصهم الدينية وتاريخهم وتراثهم في سياقاتٍ تأويليةٍ جديدةٍ ومنفتحة لاكتشاف أسسٍ متينة للتعايش ونماذج مضيئة يسهم إحياؤها في إرساء قيم الخير والسلام في نفوس معتنقي الديانات.

 

  1. تعزيز المشتركات الإنسانية

وبالإضافة إلى المشتركات بين الأديان فإنه من الضروري إعلاء المشتركات الانسانية من حقوق وقيم يشترك فيها سائر البشر ويرثها كل إنسان بفضل وجوده وبغض النظر عن لونه أو عرقه أو دينه قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم)[1].

  1. تفعيل الحوار

إن الحوار مؤصل في الشرائع وهو مصلحة إنسانية؛ ولذا أمر به الباري عز وجل فقال “وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”[2] وبالحوار يتحقَّق التعارف والتعريف، التعرف على الغير والتعريف بالنفس قال تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)[3].

إن الحوار وسيلة مطلوبة في كل الظروف وعلى مختلف المستويات، إنه ضرورة قبل الحرب لتجنبها وأثناء الحرب لإيقافها وبعد الحرب للتخفيف من آثارها وضمان عدم عودتها.

  1. العناية بالتربية الروحية

لقد نبهت التحديات والنزاعات الراهنة على أهمية العناية بالتربية الروحية للأجيال الناشئة وترسيخ قيم الرحمة والتواضع والكرم والتعاون في النفوس. ليحل التفاهم محل التصادم، والحوار بدل القتال، والعطف والشفقة مكان القسوة والغلظة. إننا نعتقد أن الجانب الروحي لم يحظ بالاهتمام الكافي في معالجتنا للأزمات التي تواجه البشرية بالتوازي مع الحلول المادية الأخرى المفيدة.

المشاركون الأفاضل،

من خلال هذه الوسائل المتنوعة والأدوات المتعددة نصل إلى طريق السلام ونعبر إلى ربوع الاخوة الفيحاء وواحة التعايش الغناء مع عموم البشر بمختلف أديانهم وأعراقهم بناء على المشتركات الإنسانية والسعي في الخير والبر ونشر السلام وإعلاء كرامة الانسان، والتعارف بين الناس، وطبقاً لقانون المصالح والمفاسد.

متمثلين روح ركاب السفينة التي ضرب بها النبي صلى الله عليه وسلم المثل، روح ركاب السفينة الذين يؤمنون بالمسؤولية المشتركة وبالحرية المسؤولة المرشّدة وبواجب التّضامن والتعاون.

تلك هي رؤية دولتنا الإمارات العربية المتحدة والتي عبر عنها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله حيث قال: “ستظل سياسة دولة الإمارات داعمة للسلام والاستقرار في منطقتنا والعالم.. وعوناً للشقيق والصديق.. وداعية إلى الحكمة والتعاون من أجل خير البشرية وتقدّمها”. انتهى الاقتباس.

 

ولا يفوتني في ختام كلمتي، أن أقدم التهنئة لسماحة المفتي الشيخ راوي عين الدين، رئيس الإدارة الدينية لمسلمي روسيا الاتحادية على الذكرى الأربعين لتشرفه بالقيام بالخدمة الروحية للمسلمين في روسيا، سائلين الله الكريم أن يتقبل منا ومنه صالح الأعمال ويجزيه أفضل الجزاء.

 

أشكركم على إصغائكم، متمنياً لأعمال هذا المؤتمر التوفيق والنجاح، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

[1] سورة الإسراء، اية 70

[2]  سورة النحل، اية 125

[3]  سورة الحجرات، اية 13

كلمة العلامة ابن بيه في مؤتمر أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في خدمة السلام 9 يوليو 2024م، هيروشيما، اليابان

 

 

” لا ضَررَ ولا ضِرارَ”، أي الامتناع عن إلحاق الضرر بالآخرين .

 
   

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين

 

أصحاب المعالي والسعادة، أصحاب السماحة والفضيلة،

أصحاب الغبطة والنيافة،

أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

 

بادئ ذي بدء، يسرني أن أقدم جزيل الشكر للقائمين على تنظيم هذا المؤتمر حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في خدمة السلام، والذي يعقد بمدينة هيروشيما في اليابان، بالشراكة مع الأكاديمية البابوية للحياة، وأديان من أجل السلام في اليابان.

مع الاعتذار لعدم التمكن من الحضور معكم مباشرة لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، واسمحوا لي بين يدي هذه الجلسة أن أقدم بعض الأفكار السّريعة التي أرجو أن تكون مساهمة في التفكير في هذا الموضوع الملح ومنطلقا للحوار حوله.

الأخوة والأخوات،

إن البشرية اليوم تعاني من حروب وأزمات في مختلف مناطق العالم، كما تواجه تحديات كلية جسيمة على صعيد البيئة والاوبئة والمجاعات.

وفي خضم ذلك، فإن التطورات التقنية يجب أن تتجه لحل هذه المعضلات التي تواجه البشرية، والحد من الأزمات التي تعاني منها، أي أن تكون التقنية في خدمة الانسان ومن أجل الإنسانية جمعاء.

وفي هذا السياق، يأتي مؤتمرنا ساعياً إلى بحث سبل تسخير الذكاء الاصطناعي في خدمة السلام. ولاشك أن هذا المسعى مهم وعاجل، فالبشرية في حاجة وتطلع إلى كل ما من شأنه إنهاء الصراعات وإيقاف الحروب والتقليل من النزاعات.

إن الجواب على سؤال “لماذا”: أي لماذا نجعل الذكاء الاصطناعي في خدمة السلام؟ واضح وجلي فيما ذكرناه آنفا. ويبقى سؤال “كيف”: أي كيف نجعل الذكاء الاصطناعي في خدمة السلام؟ وهو السؤال العملي الذي يحتاج إلى بحث وتدبر. والجواب على هذا السؤال يمكن أن ينظر إلى زاويتين متكاملتين أي إلى ما يسمى جانب الوجود وجانب العدم. فمن ناحية الوجود، أن تكون منتجات الذكاء الاصطناعي قادرة على المساهمة في نشر قيم السلم والتسامح والمساعدة في إيقاف الحروب وتخفيف النزاعات وتعزيز الثقة بين الناس. ومن ناحية العدم، ألا تساهم هذه المنتجات في زيادة التوترات أو اشعال الفتن بين البشر أو رفع وتيرة سباق التسلح، وهذا داخل في عموم الحديث الشريف: ” لا ضَررَ ولا ضِرارَ”، أي الامتناع عن إلحاق الضرر بالآخرين بأي وسيلة وتحت أي ذريعة.

وفي الحالين، تحضر الحاجة إلى دمج الاخلاق في منتجات الذكاء الاصطناعي، لتكون أخلاق الصدق والحق والعدل والرحمة وغيرها هي الموجه والمؤطر لأعمال الذكاء الاصطناعي، ومن خلال ذلك يكون العمل على منتجات متنوعة يمكن أن تسهم في التخفيف من الصراعات، وتساعد على زيادة التفاهم بين البشر، وتحد ممن الاستخدام الخاطئ للتقنية…الخ.

ويبقى الوصول إلى غاية إدماج منظومة الأخلاق، وإقناع الفاعلين العموميين والخصوصيين بمراعاتها، ووضع الأطر والتشريعات المساعدة والداعية إلى حصر استخدام الذكاء الاصطناعي في الاستخدامات السلمية، هي التحديات النظرية والعملية التي يعمل عليها مؤتمركم والتي ستحتاج ولاشك إلى تعاون واسع بين مختلف الفاعلين.

 

الحضور الكريم،

إن رمزية عقد هذا المؤتمر في مدينة هيروشيما واضحة إذ كانت هذه المدينة شاهدة على إحدى أكبر مآسي استخدام التقنية المتطورة بشكل مدمر ووحشي في التاريخ الحديث. إنه درس قاس وخالد في النتيجة التي يمكن أن تترتب على الاستخدام الخاطئ للقدرات التقنية.

إنه تذكير وتحذير يدعو للتفكير في كيف لمنتجات الذكاء الاصطناعي ألا تزيد أُوَار التوترات الحاصلة حول العالم ولا لهيب الحروب والنزاعات الجارية. كيف تبقى هذه التقنيات في خدمة البشرية ولأجل نفع البشر وألا تستخدم لقتلهم ولا افنائهم. هذا هو التحدي الذي على مطوري هذه التقنيات التعامل معه وعلى صناع القرار الدولي العمل من أجله وعلى المجتمع المدني والقيادات الدينية التعريف به والحث عليه.

إن تحقيق هذا الهدف يحتاج إلى عمل مشترك وتعاون دولي لبناء الثقة بين الفاعلين الرئيسين حول العالم وتوحيد الجهود نحو تطوير منتجات ذكاء اصطناعي غايتها تحسين حياة الناس وصون كرامتهم، وفي القرآن الكريم يأمرنا الله سبحانه وتعالى بالتعاون فيما فيه صلاح الخلق، قال تعالى: ” وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ”.

وفي هذا الصدد، تقوم دولة الإمارات العربية المتحدة بجهود كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي حتى أصبحت في مصاف الدول الرائدة في هذا المجال، استثمارا وتطويرا واستفادة، وهي ماضية في هذا السياق وبناء الشراكات من أجل تسخير هذه التقنيات لخدمة الانسان، كما جاء في خطاب صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، “حفظه الله” ضمن فعاليات قمة السبع المنعقدة الشهر الماضي ” إنّ دولةَ الإماراتِ حريصةٌ على إيجاد منظومة متكاملة للذكاء الاصطناعي سواء من خلال البرامج والتشريعات أو المبادرات والشراكات مع الأصدقاء بما يسهم ويساعد على توظيف هذه التقنيات في إيجاد الحلول الفاعلة لاستدامة الطاقة وضمان أمنها وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة”.

وفي هذا السياق، بادر منتدى أبوظبي للسّلم إلى الانخراط في نداء روما لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي إلى جانب كبريات المؤسسات والهيئات الدولية الناشطة في هذا المجال، وتوقيع اتفاقية مع كلية الحياة في الفاتيكان ومعهد فراداي للعلم والايمان في جامعة كامبردج، والمشاركة في تأسيس لجنة الدين والمجتمع المدني للذكاء الاصطناعي في المملكة المتحدة.

أشكركم على إصغائكم، وأتطلع إلى مواصلة متابعة نتائج أعمالكم، متمنياً لهذا المؤتمر التوفيق والنجاح، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.  

العلامة ابن بيّه من نيويورك: تشتد الحاجة للنور حين يشتد الظلام والحاجة إلى السلام حين ترتفع أصوات الحرب

  العلامة عبدالله بن بيه يفتتح ندوة حول السلام في مدينة نيويورك  
   

افتتح معالي الشييخ عبد الله بن بيه، رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس منتدى أبوظبي للسلم، أعمال ندوة بعنوان” شعاع نور في الظُّلُمَات” من تنظيم حلف الفضول الجديد بالشراكة مع تحالف الحضارات التابع لمنظمة الأمم المتحدة ومكتب الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية، ومؤسسة أديان من أجل السلام وشبكة صناع السلام الدينيين والتقليديين الفنلندية، وذلك احتفاء باليوم الدولي للسلام، الذي يوافق الحادي والعشرين من شهر سبتمبر من كل عام.

وفي كلمته الافتتاحية لأعمال الندوة التي عقدت في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وبحضور عدد من النخب الدينية والفكرية والسياسية، اعتبر معاليه أن الاحتفاء بيوم السلام في زمن الحرب، قد يبدو للوهلة الأولى تناقضاً لكنه لا ينبغي أن يكون كذلك. إذ تشتد الحاجة للنور حين يشتد الظلام، وتشتد الحاجة للأمل حين يظن الناس أن اليأس قد انتصر. ولذلك فحين ترتفع أصوات الحرب، يجب على الساعين للسلام ألا ينأووا عن المشهد، بل ينبغي أن يضاعفوا الجهد ليبقى صوت الحكمة والرحمة والسلام مسموعاً.

واستعرض معاليه مسيرة الحروب في القرن العشرين مبينا أن هذه المسيرة المتصاعدة وجهود البشرية للتصدي لها عبر المعاهدات، تشكل تذكيراً بالسرعة التي يمكن أن ينحدر بها السلوك البشري إلى درك الفوضى والدمار، وأن السلام لا يصان بالوثائق فقط، بل لابد معها من الفضائل التي تتجاوز ذريعة الانتقام والمحاسبة إلى فضائل الرحمة والتعايش.

وأثار معالي الشيخ عددا من الأسئلة الأساسية حول أهمية إعادة إحياء قيم السلم والتسامح المسؤولية وروح ركاب السفينة، وإعادة بناء ثقة الإنسان وأُنْسِه بأخيه الإنسان، واستعادة حلم الإنسانية بالسلام الدائم.

وختم معالي رئيس منتدى أبوظبي للسلم كلمته بالتذكير بالحقائق الثابتة المتمثلة في أن العنف يُولّد العنف، وأن تنازع البقاء يؤدّي إلى الفناء، وأن الحوار هو حلٌّ لا بديل عنه، وأنه طريق لا بدّ من سلوكها، قبل الحرب لتجنبها، وأثنائها لإيقافها، وبعدها لعلاج أثارها ومنع عودتها. معتبراً أن الحوار هو المنهج الصحيح، فالعقل يرشّحه، والتجربة تصحّحه، والدين يرجّحه، إنّه منهج دولة الامارات العربية المتحدة بقيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة “حفظه الله ورعاه.”  مشيداً بجهود الدولة التي ما فتئت تسعى إلى السلام حول العالم وتمد يد العون إلى المتضررين من الحرب.

هذا ويذكر أنّ حلف الفضول الجديد هو مبادرة تضمُّ عددا من القيادات الدينية البارزة من مختلف الأديان السماوية في الولايات المتحدة الأمريكية، ويسعى الحلف إلى إبراز وتفعيل القيم الدينية التي تخدم السلام والأخوة الإنسانية، وقد صادق الحلفُ على ميثاقه في العاصمة أبو ظبي سنة 2019م، بتوقيع المئات من الأئمة والأحبار والقساوسة وغيرهم من القيادات الدينية من مختلف الأديان.

كلمة في يوم السلام العالمي -نيويورك

  كلمة يوم السلام العالمي -نيويورك  
   

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين

 

 

 الحضور الكرام،

 

نحتفي في زمن الحرب بيوم السلام، قد يبدو هذا تناقضاً لكنه لا ينبغي أن يكون كذلك. تشتد الحاجة للنور حين يشتد الظلام، وتشتد الحاجة للأمل حين يظن الناس أن اليأس قد انتصر. وهكذا حين ارتفعت اليوم أصوات الحرب، تَوجَبَ على دعاة السلام ألا يصمتوا، ألا ينأووا عن المشهد، بل أن يضاعفوا الجهد ليبقى صوت الحكمة والرحمة والسلام مسموعاً.

قبل قرن من الزمان، وفي عام 1914م بالتحديد، كان يمكن أن يمر يوم 28 يوليو يوماً عادياً مشرقاً من أيام الصيف الجميلة في سراييفو، لولا أن حدثاً عابراً في أحد شوارع المدينة أدى إلى تغيير العالم، لقد أسفر انعطاف لسائق سيارة عن وقوع حادث اغتيال، قاد بدوره إلى أزمة دولية، سرعان ما تحولت إلى حرب عالمية كبرى، أودت بحياة زهاء 20 مليون شخص، وأدت إلى سقوط امبراطوريات وقيام دول في بقاع مختلفة من العالم.

يصادف هذا العام (2024) الذكرى العاشرة بعد المئة للحرب العالمية الأولى التي انطلقت شرارتها الأولى في قلب أوروبا ممتدة بنيرانها وبآثارها إلى مختلف أنحاء العالم.

لقد جئنا باسم منتدى أبوظبي للسلم إلى الأمم المتحدة لنحتفل مع شخصياتكم المميزة ومنظماتكم الموقرة بيوم السلام العالمي.

ومن المفارقات أن نتكلم عن الحرب ونحن نبحث عن السلام، لكن، من لم يعرف الشر لا يمكن أن يقدر الخير ومن لم يعرف سوء الحرب وآثارها المدمرة لا يمكن أن يقدر أهمية السلام.

لذا سيكون حديثي استحضاراً لمئة عام من الحروب والصراعات عاشها العالم وسُفك فيها من الدماء أكثر مما سُفك في أي فترة من فترات التاريخ، مئة عام تغيّرت فيها وسائل القتل لتصبح أكثر تدميراً بحيث يمكن أن تدمر البشرية جميعا.

إن التحديات التي نواجهها ملأ العيون والآذان، إنها تشمل على سبيل المثال والاختصار مهددات السلم الكبرى: كالتهديد النووي، والنزاعات الحدودية، وشح المياه والغذاء، والاوبئة والتغير المناخي، والتطرف العنيف. إننا إذ نستصحب هذه التحديات لننتظر من المفكرين أن يلقوا الضوء على أفق الحل. إنني أغتنم هذه الفرصة التي نستمع فيها لمجموعة جمعت بين الحكمة والخبرة والمعرفة لأسأل:

– كيف نمنع تكرار أخطاء الماضي والحاضر؟

– ما هي الدروس التي يمكن أن نستفيدها من الماضي للوصول إلى مستقبل أكثر أمنا؟

– هل من تجارب ناجحة في إيقاف الحروب يمكن أن نتعلم منها ونبني عليها نماذج قابلة للتطبيق؟

– كيف ننجح في معالجة نزغات الحروب في العقول ونزعاتها في النفوس قبل أن تتحول إلى أفعال تدمر البلاد وتفني العباد؟

إلى غير ذلك من الأسئلة، والتي هي ليست أسئلة أكاديمية بحتةــ بل أسئلة وجودية.

إن لكلّ عصر قيمه التي يرشحها الزمان وتزكيها الأديان، قيم بها تواجه التحديات، وتعالج الاختلالات، فلا انقطاع لحاجة الإنسان المتجدّدة إلى القيم، إذ كلما استجدّت حالٌ من أحوال البشرية، وجدت في صيدلية القيم ما يناسبها:

كيف يمكن في زمن الحرب والاضطرابات، أن نبرز قيم السلم والتسامح،

وفي زمن الهجرات واللجوء والمجاعات، أن يرقى خطابنا إلى قيم الإيثار والرحمة والتضامن،

وفي ظلّ الكوارث البيئية وتغيرات المناخ وانتشار الأوبئة، أن نرفع قيم المسؤولية وروح ركاب السفينة،

كيف يرتقي خطابنا إلى اقناع الانسان وهو في ثورة الغضب اللاإنسانية، أنه وهو يقتل الآخر إنما يقتل نفسه، ولذا كانت العبارة القرآنية ” وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا”[1] ، و”من قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا”[2] فمن يقتل الآخر، إنما يقتل في الحقيقة نفسه.

إن الحقائق الثابتة بين المتغيرات: هي أن العنف يولد العنف، وأن تنازع البقاء يؤدي إلى الفناء، وأن الحوار هو حل لا بديل عنه. إنه طريق لا بد من سلوكها، قبل الحرب لتجنبها، وأثنائها لإيقافها، وبعدها لعلاج أثارها ومنع عودتها.

إن الحوار هو المنهج الصحيح، فالعقل يرشّحه، والتجربة تصحّحه، والدين يرجّحه، إنّه منهج دولة الامارات العربية المتحدة بقيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة “حفظه الله ورعاه”، والتي لا تزال تسعى إلى السلام وتمد يد العون إلى المتضررين من الحرب.

إن الحوار يحتاج إلى تكامل دور القيادات الدينية بثاً للأمل ونشراً للسكينة، وجهود السياسيين في جهود الوساطات والمصالحات، وصناع القرار استثماراً في التنمية والمساواة، والمعلمين تربية للأجيال على السلم.

إن التطور التقني الهائل للبشرية سعياً الى ما تحلم به من الرقي والازدهار سيفشل ما لم يواكبه تطور أخلاقي يوجه خطاها إلى الخير والتسامح والعفو والصفح. تلك هي الحكم التي قام عليها حلف الفضول الجديد والتي كانت محاولة لتجاوز قيم الحقوق إلى قيم الفضائل أو أنها في الحقيقة تزاوج بين قيم الحقوق والفضائل.

إننا في هذه اللحظات العصيبة من التاريخ- رغم الأسى والأسف على ما يجري في هذا العالم وعلى سفينة البشرية المهددة بالجنوح- ينبغي ألا نيأس من روح الله، ولا من الخير الكامن في قلوب البشر، فمهما ادلهمَّت الظَّلمُات يُنتظر الفجر، ومهما اشْتَدَّت الأزَماتُ يُنتظر الفَرَجُ بفضل الله ورحمته.

أشكركم على إصغائكم، سائلين الله الكريم أن ينشر رحمته وفضله على الإنسانية جمعاء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.  

 

[1] سورة النساء، آية 29

[2] سورة المائدة، آية 32

 حِكَم الحج وأحكامه وفضائله وأعماله-العلامة عبدالله بن بيه

كلمة معالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس منتدى أبوظبي للسلم

بمناسبة “ملتقى حجاج الإمارات”

27-28 ذو القعدة 1445هـ

4-5 يونيو 2024م

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين،

سعادة الدكتور عمر حبتور الدرعي رئيس الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف والزكاة

أصحاب المعالي والسعادة والفضيلة كل باسمه وجميل وسمه

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،    

يطيب لي بادئ ذي بدء أن أتوجّه إلى القائمين على تنظيم هذا الملتقى وفي مقدمتهم سعادة الدكتور عمر بجزيل الشكر على الدعوة الكريمة للمشاركة في هذا اللقاء الهامّ.

نلتقي اليوم في ملتقى حجاج الإمارات، وهي مناسبة للتهنئة والتذكير. وهكذا فستكون هذه الكلمة مختصرة ومقتصرة على نقاط محدودة وجمل موجزة معدودة، متكلمين فيها عن حِكَم الحج وأحكامه وفضائله وأعماله. كما سيكون خطابا متجها بخصوصه إلى حجاج هذا العام، وإن كانت عمومتاه لكل عام.

أيها الأخوة الحجاج والأخوات الحاجات نهنئكم بتيسر أسباب الحج هذا العام، فالحج شعيرة عظيمة وركن جامع من أركان الإسلام، ومحطة للذنوب والآثام، ومنجاة من سخط الرحمن، ووسيلة لرضا الملك المنان، وطريق إلى الجنان، ﴿وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الْجَنَّةَ﴾[1] كما في جاء الحديث. ولهذا فمن تيسر له الحج فقد تيسر له خير كثير وفضل جزيل يَحمد الله عليه ويسأل القبول لديه.

إن الحج عبادة من أشرف العبادات فهو خامس أركان الإسلام كما جاء في الحديث الصحيح ﴿ بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ شَهادةِ أن لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللَّهِ وإقامِ الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ وصَومِ رمضانَ وحجِّ البيتِ لمنِ استطاعَ إليهِ سبيلًا﴾[2].

وهو واجب بالكتاب والسنة، قال تعالى ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً﴾[3]، وقال عليه الصلاة والسلام ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا﴾[4].

فهو عبادة من أجلّ العبادات، وهي من ملة أبينا إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء، وخليل الرحمن. قال تعالى موجّهاً الخطاب لإبراهيم عليه السلام ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾[5].

وورثته الأمة المحمدية فكان الركن الخامس، وقد شرع في العام الخامس[6] من الهجرة كما يقول ابن سعد في طبقاته؛ إذ إن وفادة ضمام بن ثعلبة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- كانت سنة خمس؛ إذ علمه فرائض الدين ومنها ﴿حَجَّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا﴾[7]، فهو شعيرة من شعائر الدين وفريضة من فرائضه.

وقد وعد الله سبحانه وتعالى بالأجر الجزيل من يأتي به على أكمل وجه قائماً بواجباته ومتصفاً بآدابه وسلوكياته، ومن أهم المثوبات التي يرجع بها الحاج مغفرة الذنوب، والتجاوز عن الخطايا، كما في قوله عليه الصلاة والسلام ﴿من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه﴾[8].

وإن موسم الحج مناسبة عظيمة للأمة الإسلامية وفريدة في نفس الوقت وإن أول ما يلفت انتباه المرء عندما يفكر في هذه المناسبة هو مظهر العالمية الذي يتجلى بأنصع صوره؛ إذ تتجمع أعداد هائلة تقدر بالملايين من كل الجنسيات، تتكلم بكل اللغات، وتمثل كل الأعراق والألوان، لا يجمعها إلا رباط الإيمان وهدي الإسلام.

 ثانيا: مظهر الالفة والوحدة التي تتجاوز العصبيات القومية والخلافات المذهبية والاختلافات الثقافية.

إنها وحدة تتمظهر في وحدة الشعور والشعار والمشاعر والشعائر. إنها ألفاظ أربعة مشتقة من جذر واحد هو جذر “شعر”.

فما هو مرادنا بهذه الألفاظ “المصطلحات”؟ وما علاقتها بالحج؟

1- الشعور: إن شعور الحجيج هو شعور واحد، هو الافتقار إلى الخالق الباري العظيم والخضوع له .

2- أما شعارهم فهو الملابس البيضاء والتلبية.

3- أما الشعائر فهي أعمال الحج التي يقوم بها الجميع بهيئة واحدة، من إحرام ووقوف بعرفات، ونزول بمنى، ورمي للجمرات، وطواف إلى آخره .

4- أما المشاعر فهي الأماكن التي يغشاها الحجيج لتأدية الشعائر، فعرفة مشعر، والمزدلفة “المشعر الحرام” ومنى ومكة كلها مشاعر؛ لأنها مكان أداء الشعائر.

ثالثا: المساواة التي تذوب فيها الامتيازات؛ فلا فرق بين غني وفقير، ولا بين رئيس ومرؤوس، فالكل يلبس نفس الزي، ويقيم في نفس الخيم المصممة على طراز واحد، ويجمع نفس الحصيات من مزدلفة ليرموا بها الجمار بمنى.

إن هذه المعاني تعمق لدى المسلم الشعور بالتضامن والتعاون مع إخوانه، ولكنها تنطبع في ذهنه أيضا صورة للوحدة الإنسانية على حقيقتها، فيعود بشخصية إيمانية ملؤها التواضع وحب الخير للآخرين.

وهكذا فإن الحج رحلة عمر ومسيرة حياة، كما يذكر اجتماع الحجيج بجمع الخلائق في الاخرة ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ۖ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾[9]. إنها أيام قليلة للتزود بالخير والأجر الوفير، أيام للتعارف والتآلف، أيام لبناء القيم في النفوس وتطبيق الاخلاق مع الناس.

 

وفي إطار خدمة حجاج بيت الله، فإن دولتنا المباركة بقيادة صاحب السمو رئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان حفظه الله لم تزل تبذل الجهد لتيسير وتسهيل هذه الشعيرة على أبناء هذا الوطن والمقيمين فيه من خلال الجهود الطيبة التي توجه بها الجهات ذات الصلة ومن بينها الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والاوقاف والزكاة، ومجلس الإمارات للإفتاء الشرعي. وفي هذا الصدد، قام مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي بإعداد فتاوى حول مسائل الحج الأكثر شيوعا مبينا فيها الرأي الشرعي والقول المختار متحرياً فيها التيسير ما أمكن دون اللجوء إلى قول شاذ ولا ضعيف متروك، فالحج مظنة المشقة وهو عبادة قرنت بالاستطاعة نصاً مع أن كل العبادات يشترط لوجوبها الاستطاعة قال تعالى: ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا﴾[10] وجاء في الحديث ﴿وحج البيت من استطاع إليه سبيلا﴾[11].

وهو كذلك مبني على التخفيف والتيسير، فإن التصريح برفع الحرج من الشارع فيمن خالف أفعاله في الحج بقوله: ﴿افعل ولا حرج﴾ دليل بملاحظة مقصد التيسير في الحج بالإضافة إلى كونه مقصداً عاماً في كل مناحي التشريع الإسلامي، وتجدر الإشارة إلى أن قوله تعالى ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل﴾[12] ورد في سورة الحج والحج من أهم موروث ملة أبينا إبراهيم كما أسلفنا.

وأخيراً، فالحج فرض مرة واحدة في العمر كما أشرنا إلا أن يطوع المرء ﴿فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾[13] ولذلك فإن المسلم وهو يؤدي هذه العبادة يجب أن يكون حريصاً على سلامتها من الشوائب والمنغصات بله المفسدات والمبطلات. 

والمفسدات على نوعين: مفسدات تفسد الحج وتبطله؛ لأنها منافية للصحة. ومفسدات لا تنافي الصحة لكنها تنافي القبول لأن الصحة لا تستلزم دائماً القبول.  وتفصيل ذلك فيما سيعرِفكم به هذا الملتقى حول أحكام الحج ومقاصده ومعالمه ومراصده.

وعلى الحاج ليضمن السلامة من المفسدات أن يتحرى حكم الشرع فيما يقول وما يفعل أثناء الحج، قال تعالى ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾.[14]

وأن يلمح جوانب المفسدات العامة في كل الأحوال والأمكنة والأزمنة كما في الحديث الشريف ﴿المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُؤْمِنُ مَنْ أمِنَهُ النّاسُ عَلى أمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَاجَرَ الخَطَايَا وَالذَنُوبَ وَالمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ في طَاعَةِ اللهِ تَعَالى﴾.

وعليه بالسكينة والبعد عن الصخب، ففي حديث جابر الطويل الذي وصف فيه حج النبي صلى الله عليه وسلم أنه عليه الصلاة والسلام كان يشير على الناس بيده السكينة السكينة، وأن يعظم الشعائر والحرمات ﴿ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ﴾[15]، وأصل التقوى اجتناب وامتثال في الظاهر والباطن.

رزقنا الله وإياكم التقوى وتقبل حجنا وحجكم وشكر سعينا وسعيكم.

نود ختاما أن نشيد بتنظيم هذا الملتقى ودوره في خدمة ضيوف الرحمن متمنين لأعماله التوفيق والنجاح.

كما نسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل من الحجيج حجهم، ويديم على هذه البلاد العافية، ويزيدها من سوابغ نعمه، ويوفق قيادتنا الرشيدة لكل خير، ويجزيهم أفضل الجزاء، إنه الوهاب الكريم الرحمن الرحيم.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

[1]  أخرجه البخاري (1773)، ومسلم (1349).

[2] رواه البخاري (8)، ومسلم (16).

[3]  سورة آل عمران، آية 97.

[4] رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ

[5] سورة الحج، اية 27.

[6] على خلاف في سنة فرض الحج فقد قيل في سنة خمس كما ذكرنا، وقيل في سنة ست، وذكر في سنة تسع أو في سنة عشر.

[7]  أخرجه مسلم من حديث أنس مالك.

[8]  أخرجه البخاري (1521)، ومسلم (1350).

[9] سورة التغابن، اية 9.

[10]  سورة آل عمران، آية 97.

[11] رواه البخاري (8)، ومسلم (16).

[12]  سورة الحج، اية 78.

[13]  سورة البقرة، آية 184.

[14]  سورة البقرة، آية 197.

[15]  سورة الحج، اية 32.

القرآن الكريم وآفاق العلوم الكونية – العلامة عبدالله بن بيه

   

كلمة معالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، رئيس منتدى أبوظبي للسلم

بمناسبة مؤتمر القرآن الكريم وآفاق العلوم الكونية وجهود دولة الإمارات في خدمته

24-25 مارس 2024م

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين،

معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح والتعايش حفظه الله
فضيلة الدكتور محمد الضويني
سعادة الدكتور عمر حبتور الدرعي
سعادة الدكتور خليفة الطنيجي
أصحاب المعالي والسعادة والفضيلة كل باسمه وجميل وسمه

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

نلتقي اليوم تحت دوحة القرآن الكريم، ونستضيء بنوره الذي لا يخبو،
مهما تعاقبت الأيام وتوالت الأعوام، ينير القلوب ويشرح الصدور، قال
تعالى: ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا
مُّبِينًا﴾.
يندرج هذا اللقاء ضمن عناية دولتنا بكتاب الله، تعليما وتجويدا في
المساجد والمدارس، خدمةً للدين وحرصا على ما ينفع المسلمين والناس
أجمعين، وهو نهج راسخ ولله الحمد وامتداد لإرث المغفور له الشيخ زايد
طيب الله ثراه، ولا أدل على ذلك من مكرمة صاحب السمو رئيس
الدولة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان حفظه الله لحملة القرآن من الأئمة
والمؤذنين، نسأله سبحانه أن يجعلها في ميزان حسناته. كما نثمن الرعاية
الكريمة لسمو الشيخ منصور بن زايد لهذا المؤتمر النافع المبارك.

أيها السادة الكرام،


نتذاكر اليوم حول آيات ربنا المكتوبة المعلومة بسبيل الوحي، وآياته
المبثوثة في هذا الكون المدركة للإنسان بالحواس أو العقل أو عن طريق
الاثنين معاً، أي عن طريق العلم بمعناه الحديث.
قال تعالى في محكم التنزيل:

(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)

، إن هذه الآية تؤصل لعلاقة الوفاق بين آيات
الآفاق أي العلامات التي تلوح في هذه الآفاق وبين صدق القرآن
الكريم. ولقد صدق القائل:

وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنه الواحد
لكن ما هي هذه الآيات وما هي الآفاق، وإلى ماذا يعود الضمير في
هذه الآية؟ كان ذلك مثار اهتمام المفسرين ومدار الاحتمالات التي
قدموا باعتبار كل واحد منها مقصودا في الآية. فهل هذه الآيات هي
الفتوحات التاريخية أي أنها تلك البلاد التي فتحها المسلمون في أقل من
مائة سنة، أو الآفاق هي الكون كله من آيات السماء والشمس والقمر
والنجوم، والظاهر أن كل ذلك مقصود وكل ذلك موجود، فالكون بما
فيه الآفاق التي أعلنت بها كلمة التوحيد، كلها علامات تدخل في عموم
الآية وشمولها.


يدخل في ذلك ما ظهر وسيظهر، فإن الفعل المضارع (سنريهم) ممتد
الدلالة وبخاصة مع حرف التسويف الدّال على الاستقبال والاتصال. كما
أن الضمير (أنَّه الحق) قد يرجع إلى القرآن أو إلى النبي أو الإسلام.
كلّ ذلك ممكن.
إن الرؤية القرآنية هي رؤية الموافقة والانسجام، فالخلق والأمر
صنوان؛ الكون كتاب الله المنشور؛ والأمر كتابه المسطور؛ يصدق كل
منهما الآخر (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)، والكون

حق والوحي حق، (مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّابِالْحَقِّ );”(وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ)”;، فلا تعارض بين الحق والحق، بل توافق وتصادق.


هذه الرؤية التوافقية بين علوم الوحي وعلوم الكون، تجعل المسلم لا يشعر
بالغربة في العالم من حوله، وتجعل الدين لا يخشى العلم بل يحبّه ويحثُّ
عليه.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن نحو ألف آية منها تتناول الكون
ومظاهره، بل لا تكاد سورة تخلو من إيقاظ القلب لينطلق إلى هذا
الكون تدبرا وتفكرا.


وهو اهتمام يتجلى في أسماء السّور نفسها، فمنها أسماء فلكية كالبروج
والشمس والقمر والفلق والضحى والنجم ومنها أسماء المعادن كالحديد
ومنها النباتات والثمار كالتين ومنها أسماء الحيوانات كالبقرة والنمل والنحل
والعنكبوت والفيل، ومنها ظواهر جيولوجية كالطور، ومنها الحقائق
البيولوجية كالعلق، إلى غير ذلك من الظواهر الطبيعية والحوادث
الكونية، التي تحيط بالإنسان، ويعيش في اتصال دائم بها.
ثم من مظاهر هذه العناية أيضا، قَسَمُ الله تعالى ببعض مخلوقاته الطبيعية
كالسماء ( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) و(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ) (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا)، وبالزمان (والعصر والليل والنهار والضحى) بل أقسم بالكون
كلّه، شهادةً وغيبا:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ}.
والقَسَمُ دليل التعظيم، وتعظيم الله لبعض مخلوقاته، تنبيه على شريف
مراتبها وعظيم منافعها بل جمال وإحكام صنعتها، والقسم أسلوب له وقع
جليل على العقول وأثر عجيب في القلوب، ناهيك به إن كان من الرَّبّ
سبحانه وتعالى، وهو دعوة للمكلف للتأمل في هذه المخلوقات ليمتلئ قلبه
إيمانا وتزداد نفسه يقينا، ويستشعر عظيم المنة فيذعن بالشكر لمن سخرها
وقدَّرها سبحانه وتعالى.


وقد فصل القرآن الكريم منافع الأرض في الكثير من الآيات فذكر
غلافها الجويّ وتكوين السحاب والأمطار وذكّر بمنافع البحار والأنهار
والجبال، ومنافع النجوم والأجرام السماوية، (وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ
أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ
هُمْ يَهْتَدُونَ) وجعل الإنسان هو غاية الكون بآياته السماوية والأرضية،
فهو المستخلف فيه، والقائم فيه بمقتضى الأمانة، ولذلك ورد في القرآن
التعبير ب”لكم” ;، { وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً
مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية: 13)، قال الله تعالى: {
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً } (البقرة: 29), واللام كما
قال المفسرون لام التخصيص أو لام التّمليك، وقيل لام السببية أي من
أجلكم، فكلُّ الكون بجميع ما حواه من أسباب الحياة، ومظاهر النعم
التي لا تحصر، وأوجه المنافع التي لا تحصى، إنما خلق من أجل الإنسان
لينتفع به ويعمر الأرض على أكمل وجه، وذلك من تجليات التكريم
الذي خصّه الله به: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ
وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا).
بل فتح القرآن أمام الإنسان آفاقا رحبة من التقدم العلمي، قال تعالى:
(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ).


قد لا أذهب إلى ما ذهب إليه موريس بوكاي من أنها بشارة بغزو
الفضاء، لكن الآية تشير الى إمكان النفوذ إلى أطراف السموات، وهذا
قد يكون وجهاً في غَيْبَةِ تفسير نبوي أو تفسير لصحابي. فإن الآية لم
تقل لن تفعلوا بل قالت إنّ هذا النفوذ لن يكون الا بسلطان.

صاحب المعالي
أيها العلماء والسادة الفضلاء،
لقد دعا القرآن الكريم الإنسان إلى إعمال حواسّه وعقله لينظر في
البرهان القائم في نفسه على نفسه من نفسه {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا
تُبْصِرُون}. وفي الكون من حوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا بَاطِلًا}.
هذه الدّعوة الرّبانية تجعل المسلم ينظر إلى العالم من حوله، بوصفه آيات
وعلامات، دالة بدلالة الالتزام العقلي على مُوجده، انطلاقا من قانون
السببية، المركّب في فطرة الإنسان. كلّ شيء من حولنا هو دلالات
ونقوش للقدرة الإلهية على صفحة الخلق، ليدركها أولو الألباب بالعبرة
والفكرة.


فالعاقلُ يُدرك بمبدأ السّببيةِ ضرورة وجود سببٍ لإيجاد الخَلق، وبمبدأ
الغَايةِ غايات الخَلق من خلال إدراك وظيفة المخلوقات كحكمة نزول
المطر على الأرض وحكمة النبات ليكون غذاء للإنسان والحيوان: (الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي
ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَىٰ). فبالسببيّة يكون التَطلّعُ إلى الخَالق وبالغاية
يكون الاطّلاعَ على حِكمَته ونِعمته.
هذه الصنعة الإلهية المحكمة، تنبيه للإنسان، ثم يأتي الوحي على أيدي
الرُّسل رحمة للخلق وإقامة للحجة (رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)، أوحى إليهم حقائق عظيمة، تقع وراء
دائرة مدركات الإنسان الحسية وفوق طور تصوّراته العقلية:
كصفة الرب وماله وجب وصلة الخلق ببارئ السبب
ونشأة الكون وأصل البشر وكمصيره غداة المحشر
فلا تناقض ولا تنافي بين علوم الوحي وعلوم الكون، بل تكامل
وانسجام فإنهما وإن تناول كلاهما الكون، فإنهما يتناولانه من منظورين
متكاملين، فالوحي يقدم للعقل العلل الأولى، علل الخلق وحكمة
الوجود، التي لا يزال في حيرة منها كنشأة الكون وأصل البشر،
ومصيرهم، بينما لا تعتني العلوم الطبيعية إلا بالعلل الثانوية كما يقول


العالم الفرنسي كلود برنارد، فمطالبة العلم بتقديم العلل الأولى التي تقع
خارج مجاله شطط وعدول به عن منهجه:
إذا سلكت للغور من بطن عالج * فقولا لها ليس الطريق هنالكِ

لقد سلم العلم الحديث للدين أهم ما يطلب منه وهو الإقرار بحدوث
العالم، فقد أصبح اليوم حقيقةً علمية ثابتة أن الكون ليس أزليا بل هو
محدث له عمر كما أثبته مجموعة من العلماء كآرفيد بورد (Arvid
Borde) والكسندر فيلنكن  (Alexander Vilenkin)سنة
2003م, فالكون محدث كما يثبت العلم الحديث وهو أيضاً سائر إلى
الفناء، بخُطى متسارعة.
فالعلم إذن صديق الدين وصنوه.

أيها السادة الكرام،
ولكن لا بد هنا أن نلفت الانتباه إلى أن القرآن الكريم كتاب هداية
وإرشاد، أنزله الله بعلمه، ; ( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أنْزَلَ إلَيْكَ أنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ )
يحتوي علم الله الذي هو الحقّ المبين، في مجالات كثيرة، لقصد هداية
الإنسان بقيم الخير، وليس أطروحة علمية، فلا ينبغي أن نحصر حقائقه


وإشاراته البديعة ورحابة معانيه المتجددة في ضيق فرضيات البشر
ونظرياتهم المعرضة للتغيّر، لأن مبناها على الاستقراء.
على أنه لا مانع من الاستئناس بما يتقرّر في علوم الكون من معطيات
جديدة، ومقبولة لدى الساحة العلمية، لإلقاء أضواء كاشفة على أوجه
من الدلالة في القرآن الكريم تحتملها اللغة، لا سيما في ظل غياب تفسير
مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابة، أو كان التفسير
المأثور يحتمله. ففي القرآن من الحكم والاشارات ما يفهما العامي على
ظاهرها، والعالم الضليع في العلم الطبيعي بفهم خاص، كما يفهمها
صاحب السلوك بفهم آخر وتأويل معين، وتبقى الآيات كما هي هداية
ورحمة وموعظة وبشرى للمؤمنين.

أيها الأخوة الأفاضل
تلك شذرات واضاءات على دروب هذا الموضوع الجميل الجليل، متمنيا
لمؤتمرنا النجاح والتوفيق سائلين المولى سبحانه أن يكون من مجالس
مدارسة القرآن الكريم، التي صحّ في الحديث أن السكينة تتنزل على
أهلها، وتغشاهم الرحمة وتحفهم الملائكة ويذكرهم الله فيمن عنده.


كما نسأله سبحانه وتعالى أن يحفظ بلدنا هذا وقيادته الرشيدة وسائر بلاد
المسلمين والعالم، إنه الوهاب الكريم الرحمن الرحيم.