ارشيف ل

العلامة عبدالله بن بيه يترأس اجتماع مجلس الامارات للافتاء

عقد مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي اجتماعه الثاني لعام 2023 برئاسة معالي العلامة الشيخ عبدالله بن بيه رئيس المجلس، وبحضور أصحاب الفضيلة الأعضاء.

 

واستعرض الاجتماع أبرز الإنجازات التي تحققت خلال الفترة الماضية خاصة خلال شهر رمضان المبارك، وتمَّ الاطلاع على خطة العمل التي أعدها لتنفيذ قرار مجلس الوزراء رقم (26) لسنة 2023 بشأن الجزاءات الإدارية على ممارسي الفتاوى الشرعية في الدولة بغير تصريح أو ترخيص من المجلس ، بجانب الاطلاع على مقترح سياسة التصريح والترخيص لممارسي الإفتاء الشرعي في الدولة ، واستعرض أبرز المبادرات التي سيتم تنفيذها خلال موسم الحج وعيد الأضحى المبارك، إضافة إلى بعض الفتاوى العامة المدرجة ضمن الأجندة.

وتوجه معالي رئيس المجلس – خلال الاجتماع – بالشكر الجزيل إلى سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان نائب رئيس الدولة نائب رئيس مجلس الوزراء وزير ديوان الرئاسة لاستقباله لمجلس الإمارات للإفتاء الشرعي في قصر الوطن؛ وذلك لعرض أعمال المجلس على سموه ولأخذ مرئياته وتوجيهاته الكريمة حولها، ما يمثل حافزًا للمجلس وأعضائه لمواصلة العطاء في خدمة الدين والوطن والقيادة.

ونوه سموه بالجهود والمبادرات والإنجازات التي حققها المجلس خلال الفترة الماضية خاصةً خلال شهر رمضان المبارك في ظل الدعم الكبير من قيادتنا الرشيدة؛ حيث كانت بصمة المجلس مميزة ومشاركته نافعةٌ للمجتمع سواءٌ أكان ذلك عن طريق اللقاءات الإعلامية أو المنشورات العلمية العملية، أو الخدمات المباشرة للجمهور، لافتا إلى أنَّ ما يميز العمل في المجلس هو روح الفريق الواحد، والتجاوب المميز من أعضائه وكوادره العلمية والإدارية.

من جانبه أكد مدير عام المجلس، الدكتور عمر حبتور الدرعي أنَّ المبادرات التي أطلقت والإنجازات التي تحققت لم تكن لتحقق الأهداف المرجوة دون الدعم المتواصل من قيادتنا الرشيدة، مؤكدا أن المجلس حريصٌ كلَّ الحرص على متابعة تحقيق أهدافه المرجوة بفعالية عبر إطلاق المزيد من المبادرات والبرامج التي تنسجم مع استراتيجيته الرامية لضمان الاعتدال في الفتاوى الشرعية، وتوحيد مرجعيتها الإفتائية وحوكمتها وتكوين مرجعية دينية مبنية على أسس علمية ووطنية في الدولة، وبما يعزز ثقة أفراد المجتمع بالإفتاء في دولة الإمارات.

واستعرض الاجتماع خطة العمل التي أعدها المجلس لتنفيذ قرار مجلس الوزراء الموقر رقم (26) لسنة 2023 بشأن الجزاءات الإدارية التي ستفرض على مخالفي قرار إنشاء المجلس رقم (31) لسنة 2017 وتعديلاته؛ كما اطلع المجلس على مقترح سياسة التصريح والترخيص لممارسي الإفتاء الشرعي في الدولة وشكَّل لجنةً لمناقشتها ورفع توصياتها في الاجتماع القادم..

وتطرقت أجندة الاجتماع إلى بعض الفتاوى العامَّة المعروضة على المجلس، إضافة إلى استعداداته لموسم الحج وعيد الأضحى المبارك للعام (1444هـ -2023)، وذلك من خلال مناقشة المسائل التي تحتاج إلى توحيد وضبط الفتوى الشرعية فيها خلال الموسم، بما يعزز من التيسير على حجاج الدولة أثناء أداء مناسك الحج. 

تأصيل التصوف من الكتاب والسنة – بحث جديد

     
     
 

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صلي وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً

 

 

إنّ الله عزّ وجلَّ أنزل الدين على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فأكمله دينا قيما، حنيفية سمحة، تستوعب الإنسان في كليّته، وطبيعته المركّبة وعناصره الممتزجة امتزاجا محكما في فطرته التي فطره الله عليها، كتابا غير ذي عوج، يخاطب العقل والروح والبدن، ولا يفصل شيئا من ذلك عن شيء، فليس الدين فكرا مجرّدا ولا شعورا محضا ولا فعلا متفرّدا، إنه منهج للإنسان بكليّته الفكرية وباطنه الشعوري ومظهره السلوكي.

ومن ثمّ يشكّل الدّين حقيقةً واحدة ذات مظاهر متكاملة، لا انفصامَ لها، تعمُر حياة الإنسان وتغمُر كيانه، قلبا وقالبا، سُلوكا ومَعايِيرَ وغاياتٍ، فتقيم توازنا بين الرُّوح والجَسَد وبين الظاهر والباطن.

هذه التكاملية هي التي عبّر عنها حديثُ جبريل، والذي كان بمثابة درس المراجعة لما درسه الصحابة في نحو عقدين من التزكيّة النبوية. فقد جاء جبريل عليه السلام يسأل المصطفى صلى الله عليه وسلم حتى يلخّص رسالته العظيمة في الإسلام والإيمان والإحسان، فالنبي صلى الله عليه وسلّم إذ يخاطب الروح الأمين إنما يخاطب من خلاله الأمة جميعها، فأما جبريل فقد كان يصدّقه في كل ما يقول ولهذا عجب الصحابة من هذا الطالب الغريب الذي يصدق الأستاذ: ” عجبنا له يسأله ويصدقه” إذ المفروض أنه لا يعرف ما يَسأل عنه.

ومن ثمَّ جاءت مراتب الدين الثلاث، سلسلة مترابطة نسيج وحدها، لتغطّيَ مناحي الشخصية المسلمة كلها، فالإسلام هو الضابط للسلوك الظاهر، والموجّه لأعمال الجوارح، والإيمان هو المصحّح للمعتقد الباعث على العمل، الموجب للتّسليم والانقياد، والإحسان هو النافثُ في الأعمال روحها والمزكي للمقاصد والغايات. تتكامل هذه المراتب لتعكس حقيقة الدين الواحد، كما عاشها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم والتابعون من بعدهم.

من هذا المعين الرباني تفجرت ينابيع الحكمة وسالت أودية العلوم وزهت رياض المعرفة، فسامت فيها العقول وتمايزت فيها الأذواق والفهوم، قد علم كلّ أناس مشربهم، فمنهم من أوتي فهما في التنزيل وعلمه الله التأويل، ومنهم من شرح صدره لفصل الخطاب وفض الخصام، ومنهم من بزّ أقرانه في الرواية والإتقان، ومنهم من كان للفتوى موردا وللمشكلات موئلا. وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصول هذا التخصُّص لدى أصحابه، قائلا : (أرحَمُ أمَّتي بأمَّتي أبو بَكْرٍ ، وأشدُّهم في دينِ اللَّهِ عُمرُ وأصدقُهُم حياءً عُثمانُ ، وأقضاهُم عليُّ بنُ أبي طالبٍ ، وأقرأُهُم لِكِتابِ اللَّهِ أبيُّ بنُ كَعبٍ ، وأعلمُهُم بالحلالِ والحرامِ مُعاذُ بنُ جبلٍ ، وأفرضُهُم زيدُ بنُ ثابتٍ ألا وإنَّ لِكُلِّ أمَّةٍ أمينًا ، وأمينَ هذِهِ الأمَّةِ أبو عُبَيْدةَ بنُ الجرَّاحِ)[1].

وقد تأكّد هذا التخصّص في عصر الصحابة ثم التابعين، فنشأت في الأمة مدارس العلوم، ففي مكة المكرمة أسّس ابن عباس مدرسة للتفسير، سارَ على نهجه فيها من تبعه من تلاميذه وهم أعلم الناس بالتفسير، وظهرت في المدينة مدرسة فقهية متينة، على يد عبد الله بن عمر وأبناء الصحابة من الفقهاء السبعة وغيرهم، ونشأت الردود على الخوارج والفرق المنحرفة في العراق على يد عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه وابن عباس رضي الله عنهما وتلاميذهما.

بيد أن السّلف من الصّحابة والتابعين أغناهم ما فازوا به من السّمْع عن تَعَنّي الجَمْع، كما استغنوا بأنوار البصيرة وصحة السليقة عن التقعيد وتحصيل القوانين، فلما مضى الصدر الأول وتعاقبت الأجيال، وتبدّلت الأحوال،  وتفرّق حملةُ العلم في الأمصار وساروا في الأقطار، انتهضت الهمم لجمع الرواية وتدوين الدّواوين، بالرحلة والأسفار، حفظا للعلم وتقييدا له من عاديات الزمن، وكان بدءُ ذلك في منتهى القرن الأول، ثم لم ينصرم القرن الثاني حتى  استحالت العلوم صناعات، فاشتغل المجتهدون بالنظر والاستنباط، وتكلموا في مسائل العلوم وأخرجوها من القوة والإمكان إلى حيّز الوجود والإتقان ووضعوا لها الألقاب الجارية بينهم واخترعوا لها المصطلحات، ورفعوا القواعد ومهدوا الأصول، ورتّبوا الأبواب وحرروا الفصول، فمسيرة العلوم مرّت بثلاث مراحل : مرحلة السّمع ثم مرحلة الجمع وختمت بمرحلة التفقّه. قال الناظم في سبك هذا المعنى الذي أصله لسيدي أحمد زروق:

للأول السمع وللثاني فَقَدْ  *  جمعٌ وللثالث فقه يُعْتَمَدْ

من ثمَّ لم يبقَ سوى اتباعِ * ما دوّن الثالث بالإجماعِ  

وإنما تَتَفَتَّقُ العلوم بما يستجدّ للناس من مشكلات الواقع أو يتولّد لدى النظّار من إشكالات المعرفة، فمبنى مسيرة العلوم على أوضاع تجدّ ومواضيع تنشأ. فأما الأوضاع فهي النّوازل والواقعات التي تلمّ بالناس والتحوّلات والتطورات التي تطرأ على حياتهم، ومن ذلك حدوث اللحن الذي استوجب وضع النحو، وتفرّق الصحابة والتابعين في الأمصار الذي استدعى جمع السنة وتدوينها، وكالطوائف التي نبتت في الأمة والملل التي عاشت تحت ظلّها، فانتهض العلماء للردّ عليها ومناظرتها فاقتضى ذلك الكلام على أصول العقائد وفروعها، إلى غير ذلك من التطورات الكلية والجزئية التي حفّزت العقل المسلم.

ثمّ لا تزال العلوم تزداد ثراءً بالمواضيع الناشئة عن صيرورتها الذاتيّة وتراكم المعرفة ونضجها، وبروز المعضلات والحاجة إلى تحرير المفاهيم وكذلك التطوّر المنهجي حيث يترقّى النظر تدريجيّا من مستوى معالجة الجزئيات إلى بناء الكلّيات، واستنباط القواعد والقوانين، واستخراج الأصول.

وهكذا تشكّلت شجرةُ المعارف الإسلامية لتشمل جميعَ مناحي الدّين، في شبكة من العلوم والفنون المتكاملة، والمتساندة. 

وعلى هذا النحو وبشكل طبيعي استشعر كثير من أئمة التابعين الحاجة إلى التذاكر والبحث في رُوح الدّين وما به صلاح الأعمال وصفاء النّفوس، وإنما أجاءهم إلى ذلك، ما شاهدوه من إقبال النّاس على الدّنيا وتكالبهم عليها وبعدهم عن ما كان عليه سلفهم الصالح من العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزُّهْدِ في ما تميل إليه النفوس من الملذات وَالمَالِ وَالجَاه.

بدأ هؤلاء يبحثون عن السبل الموصلة إلى إحياء روح الدين، وربط صور الأعمال بمقاصدها، وبلوغ درجة التوحيد الخالص والمعرفة الربانية، فصار لبعضهم كالحسن البصري وتلاميذه من بعده دروسٌ يتكلمون فيها عن أحكام الورع ومحاسبة النفس، ويصفون لمن يغشاهم ويرتادهم كيفية تصفية الباطن من كدورات النفس وعيوبها وصفاتها المذمومة كالغلّ والحقد والحسد والغش وطلب العلوّ وحب الثناء والرياء وغير ذلك.

وقد أخذ النظر في هذا المنحى من المعرفة عناوين وألقابا مختلفة على مر العصور فعرف بـ “الرقائق ” أو ” الرقاق ” كما في البخاري، وأحيانا يأتي تحت عنوان “الزهد” كما في كتب السنة القديمة. ثم استقرّ الاصطلاح على اسم ” التصوف”، كما استقرّت مصطلحات العلوم الأخرى، واستحدثت بعد أن لم تكن.

وإذا كان لنا أن نجري مقارنة حتى تتميز الأمور، لأنه بذلك تتبين الأشياء، فلنقل مع أبي حامد الغزالي: إن علم المعاملة ينقسم إلى علم ظاهر وعلم باطن، فعلم الظاهر هو أعمال الجوارح وعلم الباطن هو أعمال القلوب، والوارد على القلوب- التي هي بحكم الاحتجاب عن الحواس من عالم الملكوت- إما محمود أو مذموم.

ولا ينبغي التوقف عند الاسم والعنوان فلا مشاحّة في الألفاظ بعد فهم المقاصد وعادة العقلاء التسامح في الإطلاقات، خلاف ما درج عليه بعض الذين يحاكمون بالاسم ويحكمون عليه دون تأنّ ولا تؤدة ولا بحث عن المحتوى فالأسماء والمصطلحات لا عبرة بها إلا بقدر دلالتها، ولعل ذلك مندرج في قوله تعالى ( وعلم آدم الأسماء كلها)، وعليه فإن الأسماء والمصطلحات لا توصف ببدعة ولا ابتداع. فأكثر أسماء العلوم الإسلامية لم تكن معروفة في الصدر الأوّل بهذه الأسماء كالفقه، وحتى مصطلحات أهل الحديث من إرسال وعضل وصحة وحسن ووضع، إلا أن الناس قد تواضعوا عليها واستحسنوها بقدر ما تؤديه من وظيفة البيان وإزالة الالتباس والاكتنان. فنعمت البدعة هي، كما قال عمر، والأمر في الوضوح والبيان لا يفتقرُ إلى برهان.

فإذا كانت الأسماء إنما تعتبر بحسب محتواها وفحواها عند أهلها، فما هو فحوى التصوف وما هو محتواه؟ لا جرم أن الناس قد اختلفوا في تعريف هذا اللفظ اختلافا كبيرا حتى بلغت التعاريف المقترحة إلى ألفَيْ قول، كما يقول سيدي أحمد زروق في قواعده، واختلاف التعريفات – كما يقول ابن أبي شريف- راجع إلى مقام من مقامات التصوف غلب على قائله النظر إليه، فعرفه به باعتباره الركن الأعظم، كما عرف النبي عليه الصلاة والسلام الحج بقوله:” الحج عرفة” باعتباره ركنه الأعظم.

وقد أشار البستي إلى هذا الخلاف في تعريف التصوف بقوله:

       تخالف الناس في الصوفي واختلـــــفوا         جهلا وظنوه مشتقا من الصوف

      ولست أمنح هذا الاسم غير فتـــــــــى         صاف فصوفي حتى سمي الصـــوفي

ولكن التعريف بالغاية هو التعريف المختار فإن تشأ قلتَ التصوف هو صدق التوجّه، أو هو الإحسان، فالإحسان كمالٌ لا حدود له، وتسام لا سقف له فهو شعور بالحضور والشهود مقارنا للعبادة، فلا العبادة في نفسها تمثل الإحسان، ولا ذلك الشعور المتسامي والشهود المتعالي يمثل الإحسان حتى يجتمعا معا.

ولما كان الإحسان أعلى مرتبة في بناء هذا الدين لا يمكن أن يحلق إليها من لم يمر بمرتبتي الإسلام والإيمان فكيف يبني الدور الأعلى قبل تشييد الأرضية، فهذا الترتيب هو الممر الآمن والطريق الإجباري للوصول إلى الإحسان، ولهذا ذكره عليه الصلاة والسلام أخيرا لإشعار السامع بأنه لا مطمع في الإحسان لمن لم يتحلّ بالإسلام والإيمان، وأنه درجة لا منتهى وراءها ولا غاية بعد مداها فلأجل ذلك كان التشبيه مشهدا من أحوال القلوب يملك على النفس أقطارها وترفع فيه الحجب أستارها ” كأنك تراه “.

ولكنه عليه الصلاة والسلام، لما رأى عز المقام ووعورة الطريق، نزل بالسامع درجة وأشار له بأن دون ذلك رتبة، لكنها تظلّ جليلة وهي رتبة العلم. فإن لم تكن مشاهدا فليكن في علمك أنه عليك شاهد. “فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.

فتصوّر أي إقبال وأي بهجة وأي هيبة لمن يرى الباري جل وعلا، بل أي فناء وانمحاء للأكوان في هذه الحالة، إنها كمالات تسعى إليها الهمم العالية وترقى إليها النفوس المؤيدة، ولهذا بحث العلماء عن ناظم يتمثل في علم له قواعده ومصطلحاته، فهذا الفضاء المترع بالمحبة والمشرق بالأنوار وهذه الرؤى والأشواق والشفافية لا يمكن إلا أن يكون لها ناظم يجمعه وسياق يسوقه بإزاء صور الأعمال.

فكما اختصّ الإسلامُ المتمثل في أعمال الجوارح بعلم يبحث في فهم خطاب التكليف ويحوطه لدى التنزيل بما يضطبه من خطاب الوضع فكان ذلك العلم هو علم الفقه. وكما اختصّ الإيمان بعلم يحدّ مفاهيمه ويبين مناهجه فكان ذلك هو أصول الدين وعلم الكلام، فكذلك الإحسان وضع له الباحثون عن طرق الوصول إليه علما أسموه التصوّف، يرسم معالم الطريق ويضع مراسمها.

ومن ثمّ فإن التصوّف ليس أمرا مستحدثا، حادثا في الملة، بل هو ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضوان الله عليهم، فهم أئمة الزهاد والعباد والمتوكلين والفقراء الراضين والصابرين والمخبتين، وأهل الكرامة الباهرة والاستقامة الظاهرة، أرباب الكشف الصحيح، والذوق الصريح، فهم وإن لم يحلّوْا بهذا الاسم، لشرف ما اختصوا به من منقبة الصحبة التي لا تدرك، فقد تحققوا المعنى، فإنما هم كما قال أحد الصالحين “التصوُّف اليوم اسمٌ بلا حقيقة، وقد كان لدى السلف حقيقة بلا اسم”.

فخلاصة القول: إنّ التصوف ليس دينا خاصا، وإنما هو نوع من التخصُّص الوظيفيّ (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) لمعالجة باطن الإثم وأحوال القلوب طبقا للكتاب والسنة واجتهاد الأئمة واستحسانات الشيوخ. 

والنسبة بين هذه العلوم ليست نسبة تناف وتضادٍ أو استقلالٍ وتمايز، بل هي نسبة التكامل والاقتران، فالتصوف كالروح لسائر الأعمال، فهو كلي لها وشرط فيها إذ لا علم ولا عمل إلا بصدق التوجه إلى الله تعالى. فالإخلاص شرط في صحتها، وقبولها. وفي المقابل العمل شرط كمال في التصوف،كما يقول سيدي أحمد زروق في قواعده، حيث أشار إلى التلازم بين العلم والعمل قائلا: وقد عرف أن التصوف لا يعرف إلا مع العمل به فالاستظهار به دون عمل تدليس، فالعمل شرط كماله، قال الناظم:

لذاك قيل العلم يدعو العملا *  إن يلفِهِ قرّ وإلا ارتحلا

والحاجة إلى التصوُّف حاجة حاقّة لا انكفاك للإنسان عنها، سواء كانت في صيغها المعروفة عند القوم أو في  ما يحقّق مقصودها، وذلك أنّ الإنسان لا ينفكُّ في الغالب عن دواعي الشرّ وبواعث الرياء وخفيات الحسد، ولما جبل عليه من الرّضا عن النفس، والإعجاب بالعمل، فلا يكاد الإنسان يطّلع من نفسه على ما هو متدنّس به من المساوئ المخزية، ولا يستبين ما هو منغمس فيه من الأحوال غير المرضية، فيشْتَبه عليه العمل الصحيح بالعمل المعتلّ، وأنّى له الخلوص من كل ذلك إلا بمعرفة حدود هذه المهلكات وأسبابها وعلاماتها وعلاجها، ولذلك عدّه العلماء من فروض العين، كالغزالي في الإحياء وابن عابدين في الحاشية وغيرهما.

ثم إنّ استمداد علم التصوف إنما هو من الكتاب والسنة، قال أبو سليمان الدارانـيُّ رضي الله عنه ربما تقع في باطني النكتة من نكت القوم أياماً فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين وهما الكتاب والسنة. وقال الجنيد من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر لأن أمورنا مشيدة بالكتاب والسنة.  فعلى القرآن الكريم معتمد التصوف ومنه نشأته وفي حضن دلالاته الظاهرة وإشاراته الباطنة تطوّر، فقد كانت التجربة الصوفية تجسيدا لقيم القرآن الكريم وأوامره ونواهيه، وغوصا في معانيه، واستمدادا لفتوحه.

فالتصوف علم يبتغي العَمل، ولهذا قال الجنيد رحمه الله: ما أخذنا التصوف عن القيل والقال والمراء والجدال، وإنما أخذناه عن الجوع والسهر وملازمة الأعمال.

إنه البحث عن طرق الوصول والارتقاء إلى مقام الإحسان بمختلف الوسائل التي سموها مقامات من توبة وصبر وشكر ويقين وصدق ومعرفة وتخلية وتحلية.            

         فاخلع نعال الكون جملة وجي             تكن على طول المناجاة نجي

كما يقول الأخضري في القدسية.

إنّ الصوفية تقدم أنواعا شتى من الوسائل مستقاة من الكتاب والسنة والتجارب الروحية الخاصة اعتمادا على قوله تعالى(وفي أنفسكم أفلا تبصرون). فجدوا في العبادة وألزموا أنفسهم  الأوراد في الأوقات وأمروا بالمحافظة عليها بإطلاق.

وشددوا في الامتثال والمحافظة على المندوبات واجتناب المكروهات حتى كاد ألا يكون لديهم فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب ولا بين مكروه ومحرم، “وهذا الاعتبار جَرى عليه أرباب الأحوال من الصوفية ومن حذا حذوهم ممن اطرح مطالب الدنيا جملة، وأخذ بالحزم والعزم في سلوك طريق الآخرة”. والكلام للشاطبي في الموافقات.

واشتغلوا بالأذكار فرتعوا في رياض الجنة كما في الحديث الصحيح “إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا “، قيل : يا رسول الله وما رياض الجنة ؟ قال:” حلق الذكر “

وكأن الشاطبي الآخر وهو الإمام أبو القاسم صاحب “حرز الأماني” رحمه الله يعنيهم بقوله:

روى القلب ذكر الله فاستسـق مقبـلا       ولا تعـد روض الـذاكــــريـن فتـمحلا

وَآثِرْ عَنِ الآثَارِ مَثْرَاةَ عَذْبِهِ … وَمَا مِثْلُهُ لِلْعَبدِ حِصْناً وَمَوْئِلَا

وَلاَ عَمَلٌ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِهِ … غَدَاةَ الْجَزَا مِنْ ذِكْرِهِ مُتَقَبَّلَا

فأصولهم في الكتاب والسنة وأفعال السلف قد تكون دقيقة وقد ضرب سيدي أحمد زروق في قواعده أمثلة في القاعدة 33 بقوله: ومثال الصوفي: حديث الرجل الذي استلف من رجل ألف دينار فقال: أبغني شاهدا. فقال: (كفى بالله شهيدا)، فقال: أبغني كفيلا، فقال: (كفى بالله كفيلا). فرضي. ثم لما حضر الأجل، خرج يلتمس مركبا فلم يجده، فنقر خشبه، وجعل فيها الألف دينار، ورقعة تقتضي الحكاية، وأبذلها للذي رضي به وهو الله سبحانه فوصلت. ثم جاءه بألف أخرى وفاء بحق الشريعة. أخرجه البخاري في جامعه.

ومنه:(إنما نطعمكم لوجه الله، لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا)، فجعل متعلق الخوف وهو يوم القيامة مستقلا عن الحامل على العمل وهو وجه الله والله أعلم.

وقد قال رجل للشبلي رحمه الله: كم في خمس من الإبل؟ قال: شاة في الواجب، فأما عندنا فكلها لله. قال له: فما أصلك في ذلك؟ قال: أبو بكر حين خرج عن ماله كله لله ورسوله. ثم قال: فمن خرج عن ماله كله لله فإمامه أبو بكر، ومن خرج عن بعضه فإمامه عثمان. اهـ

ثم إنّ للمتصوفة في مسألة البدعة اختيارا بنوا عليه مذهبهم، حيث مالوا إلى مذهب الشافعية ومتأخري المالكية في تقسيم البدعة إلى مذمومة وحسنة وإجراءها على الأحكام الخمسة، وجلُّ إجراءاتهم وترتيباتهم التنظيمية كالأوراد والاجتماع والجهر بالذكر والسبحة وغيرها، مردها إلى الجدل القديم الجديد فيما يسمى ببدعة الترك ولنا فيها بحث طويل في كتاب “مشاهد المقاصد”، ذكرنا فيه موقف الشاطبي ومن خالفه.

ومن أبرز من اختلف مع الشّاطبي شيخه أبو سعيد بن لب الذي ألف كتابا في الرد عليه في مسألة الدعاء جماعة عقب الصلوات لما بلغته فتوى الشاطبي، فأنكر ترك الدعاء إنكارا شديدا، ونسب بذلك للإمام أنه من القائلين أن الدعاء لا ينفع ولا يفيد. يقول المواق في سنن المهتدين: “ولم يَأْل الأستاذ أبو سعيد بن لب أن يقيد في ذلك تأليفا سماه “لسان الأذكار والدعوات مما شرع أدبار الصلوات”  ضمنه حججا كثيرة على صحة ما الناس عليه، جملتها أن غاية ما يستند إليه المنكر أن التزام الدعاء على الوجه المعهود، إن صح، أنه لم يكن من عمل السلف، فالترك ليس بموجب للحكم في المتروك إلا جواز الترك وانتفاء الحرج فيه خاصة. وأما التحريم أو الكراهة فلا، ولا سيما فيما له أصل جُمْلي كالدُّعاء. فإن صح أن السلف لم يعملوا به، فقد عمل السلف بما لم يعمل به من قبلهم، مما هو خير كجمع  المصحف ثم نقطه وشكله، ثم نقط الآي ثم الخواتم والفواتح وتحزيب القرآن، والقراءة في المصحف في المسجد، وتسميع المؤذن تكبير الإمام، وتحصير المسجد عوض التحصيب، وتعليق الثريات ونقش الدنانير والدراهم بكتاب الله وأسمائه. وقال عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور،  وكذا يحدث لهم ترغيبات بقدر ما أحدثوا من الفتور. وجاء: آفة العبادة الفترة وفي القرآن ] وتعاونوا على البر والتقوى [ ).

وخلاصة القول في هذا الموضوع: أن النظر في هذا الخلاف يدور على أربعة أصول:

أولا: هل البدعة صنف واحد أم أنها أصناف بحسب الدليل الذي يشملها.

ثانيا: هل الترك مع قيام الداعي في التعبديات له دلالة على النهي أو لا دلالة له على ذلك

ثالثا : الفرق بين الموجب وبين المقتضي.

رابعا: الفرق بين إضافة المتروك إلى عبادة محدودة واعتقاده جزءا مكملا لها فلا يشرع أم عدم إضافته فيرد إلى أصل الإباحة أو الاستحباب.

ونحن نرى صحة ما ذهب إليه الإمام ابن عرفة من التفصيل بين ما أضيف إلى عبادة بحيث يصبح وكأنه جزء منها فهذا غير مشروع وما سواه…

ونضيف إليه ثلاثة ضوابط كالتالي:

الضابط الأول: أن لا يعطى حكما شرعيا كالوجوب أو الندب إذا لم يكن مشمولا بدليل كالأدلة المتعلقة بالذكر الدالة على استحبابه في كل الأحوال فلا يجوز لمن اختار تلك الأذكار أن يقول إنها واجبة مثلا إلا إذا كانت بنذر.

الضابط الثاني: أن لا يحكم لها بثواب معين، فإن من يحدد الثواب ومقاديره هو الشارع، والدليل على ذلك أن الصحابي الذي قال: اللهم ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه …الحديث : لولا أن الشارع أخبر بعظم ثوابها ما كان لأحد أن يحدد لها ثوابا معينا. إلا أنه يدل من جهة أخرى على أنه لا حرج على من أنشأ محامد في إطار ما علم من صفات الله تعالى وأسمائه، وأن الأمر ليس فيه توقيف فهو عليه الصلاة والسلام لم يلمه على ذلك، بل أقره و أثنى عليه.

الضابط الثالث: أن لا يشمل المتروك دليل  نهي من تحريم أو كراهة.

تلك هي الضوابط الثلاثة بالإضافة إلى ضابط ابن عرفة شيخ المالكية، فمن ترك شيئا احتياطا فلا لوم عليه، ومن فعل القربات بضوابطها استكثارا من الخير، فهو على خير، ولا ينبغي أن ينكر البعض على البعض في مواطن الاجتهاد، بله التشنيع والتبديع ” وإنما الأعمال بالنيات”.

***

 

لقد تصوّر الصوفية السلوكَ سَفَرا إلى الحقّ سبحانه وتعالى، رحلة روحانية على بساط القلبِ، تعرُج فيها النفس بالتدريب والتهذيب، مدراجَ السّالكين وتَتَرَقّى في مقامات القٌرْب، رحلة سَبَق فيها المفردون الذين لم تثقل أثقالُ المادّة كواهلهم، ولم تَعُقْهُم العوائق أو تقطعهم العلائق، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – يَسِيرُ فِى طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ جُمْدَانُ فَقَالَ « سِيرُوا هَذَا جُمْدَانُ سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ ». قَالُوا وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ»  وفي رواية الترمذي ” الْمُسْتَهْتَرُونَ فِى ذِكْرِ اللَّهِ يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ فَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافًا”.

في هذه الرحلة التي حدّت الشريعة معالمها، ووضعت صُواها، وأنارت محجتها، يؤكّد القوم على ضرورة الصحبة والتحذير من الانفراد، فلا يستغني السّالك على درب الهداية عن رفيق، وذلك لما شاهدوا للصُّحْبَة في الله والمحبة فيه من أثر في النفوس، تهذيبا وتزكية وترقية، فبمجالسة الصّالحين ومخالطتهم والاقتداء بهم تُوقَظ القلوب وتُطرد الغفلة وتتقوى العزيمة ويَزْدادُ الإيمان، فالقلب من القلب مستمدٌّ والروح من الروح تقتبس، والطبعُ كما قيل قديما سَرّاق.

وهذا أصل عظيمٌ من أصول الدين، لم يبْتدعه القَوْمُ ولا اخترعوه، وإنما جدّدوه على حينَ تركه النّاس ونسُوه. فقد دَلَّ القرآنُ الكريم والسنّة النبوية على أهمية الصحبة والرفقة الصالحة على درب الهداية وخطر صحبة الأشرار الموجبة للانتكاس والانحطاط في مهاوي الخسران، فقد قال تعالى: “يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين”، وقال تعالى: ” واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياةِ الدنيا” وقال تعالى “الأخلاءُ يومئذ بعضهم لبعض عدوٌّ إلا المتقين”، وقال تعالى : “هل أتبعك على أن تعلمنِ مما علمت عُلّمْتَ رُشْدا”، وفي الحديث المتفق عليه أن رسول الله عليه وسلم قال : ” إِنَّما مثَلُ الجلِيس الصَّالِحِ وَجَلِيسِ السُّوءِ: كَحَامِلِ المِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طيِّبةً، ونَافِخُ الكِيرِ إِمَّا أَن يَحْرِقَ ثِيابَكَ، وإمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا مُنْتِنَةً.

ووراء الصحبة درجة الأخوة والمحبة، وهي مقامٌ عال من مقامات الدين، ففي الحديث الصحيح عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” إنَّ مِن عبادِ اللهِ لَأُناسًا ما هم بأنبياءَ ولا شُهداءَ، يغبِطُهم الأنبياءُ والشُّهداءُ يومَ القيامةِ بمكانِهم مِن اللهِ تعالى، قالوا: يا رسولَ اللهِ، تُخبِرُنا مَن هم؟ قال: هم قومٌ تحابُّوا برُوحِ اللهِ على غيرِ أرحامٍ بَيْنَهم، ولا أموالٍ يتعاطَوْنَها، فواللهِ إنَّ وجوهَهم لَنُورٌ، وإنَّهم على نُورٍ، لا يخافونَ إذا خاف النَّاسُ، ولا يحزَنونَ إذا حزِن النَّاسُ، وقرَأ هذه الآيةَ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، وفي رواية: قَوْمٌ مِن أَفناءِ النَّاسِ، مِن نُزَّاعِ القَبائلِ، تَصادَقوا في اللهِ، وتَحابَّوا فيه. ومقام المحبة في الله مقام عظيم ومقصد جليل، وفي الحديث الصحيح في ذكر من يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظل إلا ظله: ” رَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ”.

هؤلاء الإخوةُ في رحلة المعرفة، المشتركون في طلب الحق، تجمعهم المحبة وتربطهم النّصيحة، فكل واحد منهم للآخر مرآة يبصر فيها نفسه، تتسامى أرواحهم بأحوالهم وتستقيم أفعالهم بنصائحهم، حتى يصير كلّ واحد منهم للآخر مُرشدا ومُعينا، فتسهل عليهم الطريق ولا يعوقهم ما فيها من المجاهل التي قد يتيه به من لا دليل له ولا تخترمه المداحض التي قد يزلق فيها من لا معين له، ولا يجْتالُهُم عن قصدها ما يُلْفى على جانبيها من أسباب الغواية ودُعاة الضلال.

ومن ثمّ اختار جلُّ الصوفية القول باشتراط صحبة الشيخ الكامل المجرّب المحقّق، الذي سلك الطريق فعرفها فصار دليلا للمقتفين، وزكت نفسه واتقدت بالأنوار بصيرته فصار مقباسا يؤجج أنوار صدور السّالكين، قال ابن عاشر:

يصحبُ شيخا عارف المسالكْ     يَقِيهِ في طريقه المهالكْ

يذكره الله إذا رآهُ     ويوصلُ العبدَ إلى مولاهُ

يرشده بقوله ويأتسي بفعله ويمدّه بهمّته، يتأدّب بآدابه، ويحلّ به المنازل، ويجتاز به المراحل، حتى يوصله إلى الغاية المنشودة. فكما أنّ الفقه يحتاج إلى شيخ كامل لإرشاد الطالب إلى مواطن الاشتباه فكذلك علم أحوال النفوس وأمراض القلوب يحتاج فيه إلى شيخ قد عرف أحوال التقوى وسبر حالات النفوس وخبرها.

وهذه مسألة عند العلماء لا تخرج عن مسألة الصحبة المدلول عليها بحديث سلمان وأبي الدَّرْدَاء، ففي البخاري عن أبي جحيفة أنه قال آخى النبي ﷺ بين سلمان وأبي الدرداء،  فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما، فقال له: كل فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم فقال له: نم، فنام، ثم ذهب يقوم فقال له: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا جميعا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له فقال النبي ﷺ: صدق سلمان”.

 وقد بنى الفقهاء على هذا الحديث مسألة جواز إفطار الصائم في التطوع بأمر الشيخ. قال في المختصر (إلا – لأمر – كوالد وشَيْخ وإنْ لمْ يحلفا). وفي الشروح أن أمر شيخ الصُّوفيّة الذي أخذ عليه العهد أوْلى.

إنّ ظُهور المُصلحين في الأمّة الذين يُجَدّدون للنّاس إيْمانهم بنفثهم في الأعمال روحها وربطهم بينها وبين مقاصدها الحسنة، مِصْدَاقٌ للوَعْد النّبويّ الشريف.  فعندما يقع الانبتات الذي تحدَّثَ عنه الإمام الغزالي بين حقائق الأعمال وصورها، فلا يبقى منها إلا رسومها ويستغني الناسُ بقشُورها، يقيّض الله للمسلمين من يدلّـهم عليه، ويجذبهم إليه، بالحكمة والموعظة الحسنة.   

فمن هؤلاء الأعلام الهداة المهديين بعد عصر الصحابة حبيب العجمي وداود الطائي وعبد الله بن المبارك والفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وذو النون المصري ومعروف الكرخي والسّري السقطي والحارث المحاسبي ثم جاء الإمامُ الجنيد، فأحيى الله به هذا العلم ومهّد منهجه السّنيّ ونفى عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ووضع أسسه النظرية، فكل من جاء بعده تبعٌ له في ذلك. وقد تبلورت تعاليمه في إطار جامع على يد شيخ التصوف الرياضي الإمام أبي حامد الغزالي في إحياء علوم الدين.

ثمّ نضجت التجربة الصوفية في الأمة وفشت المدارس وتنوعت وصنفت التصانيف، وظهرت الخانقاهات والزوايا ووقفت عليها الأوقاف، وتشكّلت الطرق ذات البعد الإداريّ المنظّم، وهي في أصلها مناهج مستنبطة واختيارات اجتهادية وإلهامية، ضمن ما تتيحه دائرة الشريعة الرحبة، تستلهم من تعاليم شيخ مؤسّس. وهي في بُعد ثانٍ مُؤسَّسَاتٌ اجْتِماعيّةٌ، وتعاونيات خيريّة وتدابير إنسانيّة، توفّر لأعضائها البيئة المناسبة للسّلوك والتربية. فإنّ العَمَل الصّالح لا ينبت إلا في بيئته الملائمة، والنفوس الزكية لا تنمو وتزدهر إلا في الحاضنة السّليمة، التي تضمن لأفرادها أسباب العيش الحَلال وتشغلهم بشواغل الخير عن شواطن الشر.  

ورغْم ما قد يُؤْخذ على كُلِّ تجْربة إنْسانيّة من المآخذ وما قدْ يَعْتريها لدى التّنزيل من الانحراف، قليله أو كثيره، عن مقاصدها الأصليّة، إلا أنّ هذه الطُّرُقَ يشْهد لها التاريخ بدورها العظيم في نشر الإسلام والدّفاع عنه وترسيخ قيمه ومعانيه في النُّفوس.

وهكذا لم يخْلُ عَصْرٌ من العصور ولا مصر من الأمصار من شيوخ تحقّقوا بميراث النّبوة في الإرشاد والتربية وقيادة النفوس في سَيْرِها إلى الحقّ، ينطقون بعلوم القوم، وينشرون بين الأنام مقاماتهم ويصفون للخلائق أحوالهم، فسقى الله بواسطتهم أناسيَّ كثيرا وشفى أدواء دويّة ونوّر قلوبا غلفا، وشرح صدورا وهدى بصائر عليها غشاوة.

فمن أئمة الهدى الذين استنارت به الأمّة وكشفت الله بهم عنها الغمّة، الإمام أبو الحسن الشاذلي، مركز الدّائرة وقطب الرّحى، البحر الفرات الذي لم تزل الأجيال تلوَ الأجيال ترد زُلاله، فينقع صداها ويصدرها رواءً من العرفان، فمنه استقطبت الأقطاب، وبه خفقت على رؤوس السّادة من أتباعه ألوية الولاية.   

وقد أجمع أهْلُ عصره على تقديمه وسلموا له بذلك تسليما، فكانوا يحضرون مجالسه مقرين له بالتبريز وهم علماء الدنيا، وحسبك بمجلس تلفي به الإمام العز بن عبد السلام، وابن الصلاح وابن الحاجب وتقي الدين بن دقيق العيد والحافظ المنذري، فإنها الكرامة الظاهرة والشهادة الصادقة على علوّ مقامه وشفوف رتبته.

 

ظهر الشاذلي في عصر ماجَت فيه الفتن واضطربت القيم، والتبست المفاهيم، فادّرع التصوّف السنّي جلابيب قاتمة من بدع المذاهب الفلسفية، أذهبت رونقه وأحالت بهجته، وكادت تذره أثرا بعد عين، فأحيى الله بالشاذلي ذماءه وتدارك عثاره، وأقام سمك بنائه وأزاح عنه حنادس الشُّبَه، فوصل ما انفصل منه بأصله النّبوي، إذ “كلّ نور لا يوقد من سراج المشكاة النبوية فهو عين الظلمة”.

ثم لم يزل وارثو سرّه من بعده على هذا المهيع الواضح، نجوما طوالع في مجرة العرفان، يقتفي هادٍ إثرَ هادٍ، ويحمل سيّدٌ عن سيّد، حتى طلع في سماء التوفيق مجدّد الطريقة ووارث سرّ الإمام الشاذلي، “والليث يسري سرّه في الفرهد”، سيدي محمد بن ناصر الدرعي، الذي نصر الإله به الشريعة، وأحيى به السنة وأخمد البدع، وقد وافى في عصر دجت فيه ظُلَمُ الضلالة ووري زند الجهالة، وطمست معالم الدين، و”باض النّعام بدور منه أدراس”،  فغدت ببركته ودَعْوتِه السّنّة الغراء مسفرة ضاحكة مستبشرة.

ولنجمل القول في القوم، ولننشد مع ابن عطاء الله:

تمسّك بحبّ الشاذليّة تلقَ ما    ترومُ وحقِّق ذاك منهم وحصِّلِ

ولا تعدوَنْ عيناكَ عنهم فإنّهم   شموسُ هدى في أعين المتأمّلِ

 

***

من هذا التراث الروحي الثري ومن هذا الأفق العليّ تبدّت مشارق أنوار الطّريقة الأغظفية، في هذا القطر المبارك، على يدِ “شيْخِ الشّيوخ” و”سلطان الأولياء” الشيخ محمد الأغظف بن حمى الله بن سالم الدّاودي الجعفري. فهو المعلّم الأوّل والأرومة التي طابت بطيبها الفروع.

فانتفع المريدون بتربيّته وشهد الأكابر بعظيم خصوصيته، وحسبُك بالشيخ سيدي المختار الكنتي والشيخ المختار بن أحمد بن عثمان التنواجيوي، فالنقل مشهور محفوظ برواية العدول عنهما، بثنائهما العطر عليه وإشادتهما بفضله[2].

 بل لا يكاد يُلفى أحد من أهل عصره فمن بعدهم من العلماء المقيمين لشعائر الدين، ولا من الأولياء العارفين، إلا له به نوعُ من التعلّق وله إليه ضرب من الانتساب، بل كثير منهم نالوا الفتوح السَّنِيّة ببركة صُحبته ومحبّته، ومن ذلك أن الشّيخ محمد فاضل بن مامين، وناهيك به جلالة قدر وعلوّ منزلة، نقل عنه تلميذه اليعقوبي في الضياء المستبين أنه زار ضريحه بأمر من والده، يحمل رسالة وهدية، فنال خيرا كثيرا وفتحا عميما، وفي هذه الزيارة قال قصيدته التوسلية الشهيرة:

يا ربنا بصاحب الضريحِ    قطب الزمان الأغظف النّصيح  الخ

وقد كان الشيخ محمد فاضل يُعطي ورد الشّيخ محمد الأغْظَف، كما جاء في المعسول رواية عن الشيخ أحمد بن الشمس الحاجي  عن الشيخ ماء العينين رحمهم الله جميعا. 

وكفى شهادة للشيخ محمد الأغظف ما رزقه الله من الفَتْح في تلاميذه، فهو المقدمة وهم النتيجة، والنتيجة أبد تابعة للمقدمات، رفعة وخسة، والفرعُ يدلُّ على طيب أصله، والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، وما في المبتدإ من الانبهام يزيله الخبر.

 فمنهم العلماء المدرّسون أهل السنّة والاتباع، الماثلة آثارُهم للعيان، ومنهم الصلحاء المربّون المحفوظة مآثرهم في الأذهان، كالشيخ محمد الأمين ولد الطالب عبد الوهاب الفلالي والشيخ الشريف سيدي محمد بن أحمد الأسود، والشيخ المختار بن الطالب أعمر بن نوح البصادي وغيرهم.

وبالجملة فإن قدر الشيخ محمد الأغظف عالٍ وذكره سام، على أن أمرَهُ مبْنيٌّ على الخفاء، فقد كان في حياته مجبولا على حبِّ الخمول والتواضع، يتستّر بأحواله الظّاهرة،  معرضا عن زينة الدنيا وزهرتها، مُقْبِلا على شأْنه، فهو كما قال الشيخ عالي بن آفه قد تشبّع من العرفان حتى غدا كالسّقاء الممتلئ، لا يُسمع له صوت. 

وقد ورث هذه الحال من بعده أئمة مهديّون نشروا الدّين في البلاد وبثوا العلوم بين العباد، فكم من تائب ثاب إليهم فتغيّرت أحوالُه وتبدلّت، وأصلح وأناب، وكم من غافل تيقّظ وجاهل تبصّر وكأيٍّ من قلب كجلمود الصخر أو كالليل البهيم لانَ للحقّ وتنوّر بالحقيقة، فبنحو هذه الآثار الجلية، يظهر لذوي الأبصار السليمة فضلُ أئمة الطّريقة الدالّين على الله بالله.

وما زال نجم إثر نجم منهم، حتّى تأدّت الوراثة إلى المعلّم الثّاني،لشّيخ محمد محمود الخلف بن الشيخ سيدي أحمد البصادي، ملتقى بـَحْرَيْ الحقيقة والشريعة، كما قال الشيخ عالي بن آفه:    

فإن تجارهِ بشرعٍ آبي * يُنْبِئْكَ ما خفي من الأنداب

وإن تُبَاهِ في الحقيقة البَهِي * وخُضْتَ مَعْهُ في البحار تنتهِ

يقولُ حين لم تُحِطه خُبرا * إنك بي لن تستطيع صَبْرا

خلاصة القوم وواسطتهم، أظهر الله به أنوار سلفِه الغُرِّ الـمُتقدّمين، شيخه أبيه الشيخ الكبير سيدي أحمد بن عمار بن الناه، وشيخه الشيخ المختار بن الطّالب أعمر بن نوح البُصاديّين، ومهّد به الطريق للـخَلف المتأخّرين على يد أبناءه الأعْلام وخلفائه الكرام، فنفع الله بهم البلاد والعباد. وقد عرف رضي الله عنه بالفناء في الله، حتى إنه ليغيب عن المحسوسات رأْسا، فلا يبقى له حظٌّ من جميع الأمور إلا إلى الله تعالى. ومن هذا القُطْبِ انبجست ينابيع المعرفة التي رَوَّتْ ظماء السّالكين في كافّة أنحاء العالم.

***

وسيجد القارئُ في هذا الكتابِ صورةً مُقَرَّبة عن هذه الطّائفة من المسلمين، رُسِـمَتْ بيَراع المحبّة ومدادِ حُسْن الاعتقاد، على أنّها محبّة لم تحفز على الغُلوّ، وحسن اعتقاد لم يحجز عن الإنصاف.

وسأكتفي في هذه السّانحة بثلاث كلمات مقتضبة، عن أنواع الجهاد في هذه الطريقة، جهاد النّفس وجهاد العدو وجهاد العمران.

وذلك أن مدار طريق القوم على التحقّق بمفهوم الجهاد بمعناه الشامل، فالجهاد في الإسلام يغطي ثلاثة ميادين: مجاهدة العدو الظاهر ومجاهدة الشيطان والنفس، وجهاد العمل.

فأما المعنى الأول فمعلوم مشهور، وأما المعنيان الأخيران فقد وردا في أحاديث منها ما رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن فضالة بن عبيد أنه صلى الله عليه وسلم قال: والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل.” وقد عنون به الإمام البخاري أحد أبواب جامعه الصحيح.  

وقد جاء في حديث ضعيف رواه البيهقي عن جابر أنه عليه الصلاة والسلام قال- عند عودته من آخر غزوة له، غزوة تبوك: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. وفسّره بمجاهدة الهوى. وفي الحديث مقالٌ ورجّح ابن حجر أنه من كلام إبراهيم بن أبي عبلة، وليس بحديث.

وخدمة الوالدين جهاد قال عليه الصلاة والسلام : “ففيهما فجاهد”، متفق عليه.

وفي الحديث الصحيح عن كعب بن عجرة رضي الله عنه قال مرّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فرأى أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله وسلم: ” إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيل الشيطان”.

ومن هنا عرّف الشيخ تقي الدين بن تيمية، في اختياراته التي جمعها البعلي، الجهاد بأنّه شامل لكافة أنواع العبادات الظاهرة والباطنة، والتي منها: محبة الله، والإخلاص له، والتوكل عليه، وتسليم النفس والمال له، والصبر، والزهد، وذكر الله تعالى ومنه ما هو باليد، ومنه ما هو بالقلب، ومنه ما هو بالدعوة والحجة واللسان والرأي والتدبير والصناعة والمال.

 

***

فأما مجاهدة النفس فذلك ربع عزة القوم ومجرّ عواليهم ومجرى سوابقهم، فما إن لهم غير محضِ الإخلاص غايةٌ، وإنَّ لهم لغيرةً على الباطن كما يغار الكريم على الحريم، فلا يطلعون عليه متحسّسا ولا يتسوّر عليه متجسّس، بل ينأون بأعمالهم عن سوق الحظوظ وتجاذب الأهواء، ويستنكفون عن إضاعة العمل بالمراءاة والتسميع، ويستترون بأحوالهم العادية عن غير الحاذق البصير، ويتخفون بحُجُبِ الطَّبيعة عن الظهور القاصم للظّهور، وفي هذا المعنى يقول الشيخ عالي بن آفه عن شيخه الشيخ محمد محمود الخلف:

كفى من التَّفْتِيشِ ما قدْ وَكَفَا * فالشّيخُ مجبولٌ على حُبِّ الخَفَا

ولا يقبلون للنفس حياةً، ولا يقنعون بدون إماتتها التامّة في سبيل الله، حتى لا يبقى لها أدنى وجود مع باريها. فشيخ الطّائفة ومعلمها الأوّل الشيخ محمد الأغظف:

أماتَهُ الإلهُ في الحياةِ * وأظهر الحياةَ في المماتِ

فموته بالخمول والتواضع، وظهور حياته بعلوّ مقامِه وبما أوصل في حياتِه وبعد مماتِه من السالكين، وبما سقى من المريدين. ويروى عنه رحمه الله أنه كان يقول عن نفسه تواضعا “أنا تحت أم البَيْنَهْ”، وهي نبتة صغيرة في غاية الالتصاق بالأرض. ومن مأثور كلامه كذلك : “من كان مفتخرا فلينتظر حتى يُوارى في القبر، فحينها فليفخر أو ليدع”.

هذا المنهج الذي يقوم على إماتة النفس، وهضمها حتى تنمحي أمام القهر والأمر الربانيين، وتسلم بهما وترضى، فتسلب الإرادة سلبا كاملا حتى كأن لا إرادة أصلا لدى المريد، هو الذي جعل الشيخ عالي بن آفه يقول ناطقا بفضل تربية شيخه الشّيخ محمّد محمود الخلف: “ما من شيخ إلا وله في تهذيب النفس أثَرٌ، بيد أن شيخي – أنا – يسلخ النّفس سلخا حتى لا يذر منها شيءا”.

      وبهذه المجاهدة رام الغُظف التحقّق بمقام التوكُّل ليبلغوا فيه التحقُّق التَّام والتمكُّن الأكمل، فلم يكونوا يقنعون من هذا المقام بالاسم، بل يسعون إلى تجسيده في أحوالهم وأفعالهم، والتوكّل مقام موسوم بمحبة الله لصاحبه ، وصاحبه مضمون الكفاية من الله كما نطقت بذلك الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة، قال تعالى : “وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين” وقال تعالى: “إن الله يحبُّ المتوكّلين” وقال سبحانه :” ومن يتوكّل على الله فهو حسبه”.

مع أن التوكّل كما قال الغزالي غامض من حيث العلم شاق من حيث العمل، ولا يقوى على كشف هذا الغموض ومكابدة هذه المشقة إلا “سماسرة العلماء الذين اكتحلوا من فضل الله بأنوار الحقائق فأبصروا وتحققوا ثم نطقوا بالإعراب عما شاهدوه من حيث استنطقوا”.

وتلك حال أئمة الطريقة الغظفية، فلقد راموا الجمع في تحققهم بهذا المقام بين مقتضى التوحيد بقطع ملاحظة الأغيار والتوكل على الواحد القهار، وبين مقتضيات النقل والعقل في عدم مراغمة الأسباب والجرْيِ على وفق سُنن مسبّب الأسباب، والتقلّب في شؤونهم وفق ما اقتضاه الوقتُ وأعطته الحال من غير تكلُّف ولا ادعاء.

    فشيخ الطائفة الشيخ محمد الأغظف رحمه الله كان من السائحين المنقطعين المتحققين في مقامات التوكّل، متمثلا لما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “لو أنكم تتوكّلون على الله حقّ توكُّله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطاناً “.

ومن مواقف القَوْم الجميلة المعبّرة عن صدق إيمانهم وعلوّ مقامهم واعتمادهم على مولاهم سبحانه وتعالى، ما رواهُ الثقاتُ أنّ الغُظْفَ لما اقترب المستعمر من آدرار، شقّ ذلك عليهم، وساورهم قلق وخالجهم تهمُّمٌ على الشّيخ محمد محمود الخلف رضي الله عنه، وأخذوا يتداولون في ما ينبغي فعله، والمرجفون من حولهم يشيعون الأخبار، لما اشتهر به الغظف من المشاركة في المقاومة ودعمها، ففَطن لهم الشَّيْخُ رضي الله عنه، ولاحظ ما هم عليهم من الهمِّ، فقال لهم مطمئنا ومتحدثا عن حالٍ: ” مَحَدْ مُولانا حَي، لا يخاف عليّ حَدْ، فإنما أتوكّل على الحيّ الذي لا يموت، فما دام هو المدبر لخلقه والأمرُ أمرُه، فلا ينبغي لأحد أن يخاف عليّ”.

على أن الغُظف لم يكونوا ينتحِلون هذه الأحوال أو يتكلّفونها بل ظاهر أمورهم الجَرْيُ على الأسباب المشروعة من غير ركون إليها ولا اعتماد عليها، فاشتغلوا بعمران الأرض بالزراعة وغيرها، بل كان منهم من بُسِط له في الرزق بفضل الله ومنّه فما رأوا في ذلك ضيرا ولا اعتبروه نقصا في التوكل، لأن التوكل حالة قلبية، قد تحصل لدى المتسبب، كما قد تنتفي لدى المتجرّد.

***

وأما مجاهدة العدوّ الظاهر، فلقد كان الغُظف أهل الجود بالنفس كما هم أهل المسالمة التامّة مع الناس، ما إن حفظ لهم حديثُ سبة أو فعل طيش، بل دأبهم العفو والصفح والمغفرة، والمسالمة عملا بقوله صلى الله عليه وسلم “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده” وفي رواية صحيحة “من سلم الناس من لسانه ويده”، بيد أنهم عندما تعيّن الدفعُ لم يكعُّوا وبذلوا أرواحهم واسترخصوا أنفسهم في سبيل الله، فشاركوا في المقاومة الوطنية في مرحلتها الوحدوية.   

فأول ذلك ما قام به الشريف الغظفي سيدي ولد مولاي الزين من قيادة السرية المشهورة التي قتلت كَبُّولاني، وقد كان الشريفُ فيما بلغنا يحمل سيفا أعطاه إياه شيخه الشيخ محمد محمود الخلف رحمه الله.

ثم شارك الغظف في يوم النيملان، يوم 5 نوفمبر 1906، وكان يوما مشهودا اجتمع فيه الموريتانيون من كلّ أنحاء بلادهم لمقاومة المستعمر، وأوفد إليهم السلطان من المغرب نائبا عنه من أهل بيته، فانتصروا وهزموا عدوهم. وقد قدم وفدٌ من القُظف في الحوض، من المساعيد، للمشاركة مع إخوانهم في تكانت، وقدموا على الشيخ الغزواني رحمه الله ضمن وفد الحوض الذي يرأسه الأمير اعلي ولد المحيميد، فأكرمَ الشَّيْخُ نُزلهم وأحسن وفادتهم.

ومن شهداء يوم الدار بتجكجه الشّيخ محمد المختار ولد الشيخ الخلف رحمهما الله، وقد حدثني شيخنا رضي الله عنه أنه كان يستهدِفُ أثناءَ المعركة لرمي العدوّ ويتعرّض لهم، فصار الغُظْف يقولون له “يابن شيخنا انحنِ لا يصيبوك”، فيقول “اليومُ ليس يومَ الانحناء”، فأصابته رصاصةٌ فمات شهيدا رحمه الله.

ومن الغظف طائفة اختارت الهجرة لما تغلّب المستعمر على البلاد، بينما ارتأى الآخرون ضرورة الإقامة، فما رُوِيَ أن أحدا من الفريقين عاب على الآخر صنيعه واختياره، فيروى أن الشيخ الشريف محمد الأمين ولد زيني عرض على الأمير المشظوفي العادل محمد المختار ولد محمد محمود الجهاد، فلم يجبه إليه لعجز المسلمين وتفرقهم وضعف عددهم وعتادهم، فهاجر الشريف بمن معه من الغظف، وأخبار هجرتهم واستقرارهم في المشرق مشهورة، سيجدها القارئ بشيء من التفصيل في هذا الكتاب.

وقد شاركوا في حركات المقاومة في البلدان التي مرّوا بها وأظهروا حيثما حلّوا شجاعة وإقداما عظيمين، فيروى أنهم شاركوا في بعض المعارك، وكان قائد الجيش حاضرا يشرف على ساحة المعركة، فدارت رحى الحرب وحمي الوطيس، فقال القائد للشيخ محمد الأمين: يا شيخ إنّي أرى أصحابك قد انهزموا، فقال كلا والله لا ينهزمون فهم الأشدّاء من أبناء العرب، ثم ما لبثوا أن انجلى القسطل، فإذا بهم صامدون، وقد أحاط بهم العدوّ من كل جانب، فقال القائد إعجابا بما رأى : “يا ليتني كنت من المحلّقين”.

***

أما جهاد العمل والعمران، فإن للغُظْفِ به عنايةً كبيرة، فإن من شأن أرباب الصدور الذين أقامهم الله في الناس مثابة للتربية ومهوى للأفئدة، أن تسمو بهم همهم العالية إلى أعمال البر المتعدية، فهم وإن كانوا في الدنيا من الزّاهدين، إلا أنّ المسؤولية التي أناطت بهم الحال، تبعثهم على البحث عن الكسب الحلال، الذي به قوام عيشهم وعيش من يتعلّق بحضرتهم من آلٍ ومريدين وطلاب وجيران، وقوت من يلمّ بهم من ضيف وابن سبيل، وحاجة من يقصدهم من مُعْتَفٍ ومُعْتَرّ.

وهذا هو أحسن الكسب الذي لا يقصد به التكاثر وإنما يقصد به التوسّل إلى طاعة الله من صلة الإخوان أو التعفّف من وجوه الناس، و”خير النّاس أنفعهم للناس” كما في الحديث، وكما قيل “عبادة الرجال منافع المسلمين”.   

ولقد اتخذ الغظف العمل شِعارا، والخدمة دثارا، فنبذوا البطالة وامتهنوا أنواع الحرف كالزراعة والتجارة، فحققوا بذلك اكتفاءهم الذاتي، وسدّوا حاجاتهم، فتفرغوا لما خلقوا له من عبادة مولاهم العلي.  

فالعمل عندهم فضيلة أخلاقية لتربية النفس وتزكيتها، وهو واجب ديني أمر الله به عباده، وهو قيمة حضارية بها تتحقّق الخلافة في الأرض، وقد كان للنّساء كما لأشقائهن من الرجال، دورُهن البارزُ في الخدمة والعمل. وسيجد القارئ هذا الجانب مفصلا في بعض أبواب الكتاب.

ونورد هنا شهادة للحاكم الفرنسي روجى بيرى Roger Pierret حول أنشطة زاوية الغظف في لغويرقة، والتي تعتبر نموذجا لما كانت عليه أخواتها من حضرات الطريقة في آدرار وتكانت والأردن وأضنة، قائلا: (في مجال الزارعة، تنبغي الإشارة إلى جهود الغظف المميزة. فالغظف أناسٌ هادؤون يمتازون بالصدق والصراحة وبالمثابرة والجدّ في العمل، وتلك خصال نادرةٌ في المُجتمع… الجميعُ يعْمَلُ في انتظام مثالي، فلكلِّ واحدٍ مُهمّته الخاصّة المحدّدة له بوضوح…ومن حصاد مزارعهم قوتُهم وصَدَقاتهم كما يتبرّعون للآخرين بما يفضل عن حاجاتهم …وإنّ هذه الجهود التي يقومون بها في إعمار الأرض لتستوجب الإشادة وتسحق المساعدة).

هكذا حقّق مشايخ الطريقة والمريدون المخلصون من الغُظْف نموذجا حيّا من المدينة الفاضلة، التي لا يسعى أهلها إلا في الحقّ، من أفعال البر التي تنجي في المعاد أو تنفع العباد،

الحقُّ سَعْيٌ في المَعَاشِ البَادِي    حِلا وفي حَسَنَة المعادِ

على حد قول الشيخ المختار بن بونه الجكني، ففي حضرات الغظف اجتمعَتْ معاني التربيّة والتغذيّة الروحيّة والجسديّة.

 

 

***

على أنّ هذه حكايات سمعناها من ثقات، لم نصدر في ذكرها من منطلق التزكيّة، فلا نزكي على الله أحدا، هو سبحانه وتعالى أعلم بعباده، وهو حسيبُهم جميعا، نسأل الله أن يمنّ علينا وعليهم بالمغفرة والرّحمة.

وإنّما لكلِّ عَصْرٍ تحدّيا، وإن تحدّي عصْرِنا هو المحافظة على الأخلاقِ ، فلعلّ هذا الكتاب وما حواه من نشر الفضائل وإظهار الخير  يسهم في الدعوة إلى إحياء ما ضمُر من القيم، وتجديد ما اندرس من الفضيلة، فإن أخبار الأولين وسير الصالحين، تحيي القلوب وتوقظ النفوس وتغرس في وجدان الناشئة علوّ الهمة وتسمو بهم إلى معالي الأمور، (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب).

كما أن الأمة محتاجة إلى تجديد الإيمان وربطها بغذاء الأرواح، والإكثار من الذكر الذي هو مفتاح تزكية النفوس؛ فالأمة تفتقر إلى مرشدين ربانيين يحيون وظائف الذكر ويرقون في مدارج السلوك إلى مقامات الزهد والصبر والشكر:

حتى بدَتْ لهُم شموسُ المَعْرِفَهْ   رَأَوْا مُـخَـدِّراتها مُنْكَشِفَهْ

كما قال الأخضري. فتشرق السرائر وتستقيم الظواهر فتتطهر القلوب من الغلّ والرياء وتتنزه الألسنة من الغيبة والفحشاء.

    ولهذا فإني أوجّه دعوة لتجديد هذا العلم بإيضاح فضائله، وتفصيل مسائله، ووضعه في صحيح إطاره وإظهار ما ألصق به مما ليس داخلا في حقيقته، ولا موافقا لطريقته. فبذلك تحيى القلوب وتشرق الأرواح، وفي ذلك حياة الدّين، لأنه إحياءٌ لعلوم الدّين، وهذا التجديد المنشود يبدأ بإزالة الجفوة بين الفقه والتصوّف فهما صنوان و”شقيقان في الدلالة على أحكام الله تعالى وحقوقه” على حد عبارة سيدي أحمد زروق.

وفي الختام أسأل الله أن يتقبَّل ممّن كان سببا في هذا العمل المبارك الذي جاء على حينِ افتقارِ السّاحة إليه، فسدّ خَلّة في المشهد الثقافي، وأن يجزي من تولّوا هذه المهمّة البحثيّة الأُنُف، وأن ينفع به القرّاء، والأملُ معقود على ما يلي هذه الطبعة من طبعات أن تكمل ما كان من نَقْصٍ أو تُصَحِّحَ ما كان من خطإ.

 

الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيَّه

أكناف غَازَهْ، 26/ 10/2020     

 

[1]  حديث صحيح على شرط الشيخين و أخرجه الترمذي (3790)، وابن ماجه (154) واللفظ له، وأحمد (12927).

[2] انظر كتاب “سيرة الشيخ محمد الأغظف” للشيخ بونا عالي بن بانمُّ.

 

ماهو حكم إقامة الجمعة إذا وافقت يوم العيد؟

   
       
 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم، على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فبما أنَّ لجنة تحري هلال عيد الفطر ستجتمع – بإذن الله تعالى – مع غروب شمس يوم الخميس 29/رمضان/1444هـ والموافق 20/أبريل/2023م، وذلك لتحري هلال شهر شوال؛ فإنَّه من المتوقع أن يكون يوم الجمعة الموافق 21/أبريل/2023م هو يوم عيد الفطر وقد رجحت ذلك الدراسات العلمية التي قامت بها المراصد الفلكية المعتمدة، وإنَّ مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي وانطلاقًا من مهامه واختصاصاته التي أناطتها به القيادة الرشيدة في الدولة، واستجابةً لسؤال معظم النَّاس عن حكم صلاة الجمعة إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد، أصدر المجلس البيان الآتي:
أولاً: نسأل الله تعالى أن يبارك لنا فيما تبقى من شهر رمضان المبارك، وأن يعيننا فيه على الصيام والقيام وصالح الأعمال، وأن يوفقنا لقيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، وأن يجعلنا من عباده المقبولين.
ثانيًا: إنَّ مسألة إقامة صلاة الجمعة إذا وافقت يوم العيد مسألةٌ خلافيةٌ بين العلماء، والذي يُفتي به مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي إقامة كلٍّ منهما في وقتها ووفق سنتها؛ وذلك للأدلة الشرعية الآتية:
1. قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون) [الجمعة: 9].
ووجه الاستدلال أنَّ الآية قد أمرت بالسعي للجمعة عند النداء لها، وهي عامة في جميع الأيام، ولا يجوز تخصيصها إلا بدليل صالح لأن يخصص به عموم هذا النص القطعي، والأدلة الواردة في إسقاط الجمعة عمن صلى العيد جميعها ظنية الثبوت ظنية الدلالة.
2. عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ؛ قَالَ: وَإِذَا اجْتَمَعَ الْعِيدُ وَالْجُمُعَةُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ يَقْرَأُ بِهِمَا أَيْضًا فِي الصَّلَاتَيْنِ” .
وهذا نص على أن الرسول ﷺ كان ملتزمًا بالصلاتين يصلي كلا منهما في وقتها، ولم يرد عنه إطلاقًا أنَّه لم يصلِ الجمعة لأنَّه قام بصلاة العيد.
3. إنَّ صلاة الجمعة هي من أعظم فرائض الإسلام، وهي الصلاة الوحيدة التي أجمع العلماء على أنَّ حضورها جماعةً فرض عين على المكلف بها إذا لم يكن له عذر يبيح له التخلف عنها، أمَّا صلاة العيد فحكمها عند أهل العلم دائر بين السنية والوجوب العيني أو الكفائي، ومن القواعد الفقهية المقررة شرعًا أنَّ الفرض لا يسقط بما هو أقل مرتبة في حكم الشرع.
4. أنَّ ما أفتى به مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي هو قول جمهور العلماء، وهو المشهور في مذهب مالك، وإليه ذهب أبو حنيفة، والشافعي، وهو رواية عن أحمد.
5. إنَّ الأدلة الشرعية الواردة في هدي النبي ﷺ بشأن الترخيص لمن حضر صلاة العيد بأن يصلي الظهر بدلاً عن الجمعة، لم تغب عمّا اختاره المجلس وفقًا لما جرى عليه العمل ورجحه الدليل، وإنَّ جميع هذه الأدلة قد أجاب عنها العلماء ووضحوا المقصود منها، ويمكن الرجوع في ذلك إلى مواضعه في كتب الفقه وشروح الحديث، علمًا أنَّه من أخذ بالقول الآخر للعلماء الذين رأوا الرخصة بترك الجمعة لمن صلى العيد ويصلي الظهر بدلاً عنها فلا حرج عليه في ذلك، وإن صلاها جمعةً أخذًا بالعزيمة فهو الأفضل؛ خروجًا من الخلاف واستصحابًا للأصل.
ثالثًا: يدعو مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي عموم المسلمين وقد سمت نفوسهم وارتقت أرواحهم وتزودوا بالتقوى والإيمان أن يتخذوا العيد فرصةً عظيمةً لصلة الرحم، وإصلاح ذات البين، وتحقيق السلام، ونشر الوئام مع الناس أجمعين، كما يوصي المجلس بالحرص على الإحسان إلى الفقراء والمساكين، وإدخال السرور على اليتامى والأرامل والمحتاجين، وذلك لتكتمل فرحتنا جميعًا بالعيد.
رابعًا: يتوجه مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي إلى الله تعالى في هذه الأيام الفاضلة أن يعيد هذه المناسبات السعيدة على دولة الإمارات قيادةً وشعبًا وعلى المجتمعات العربية والمسلمة وعلى العالم أجمع بالخير واليمن والبركة، وقد تحقق الاستقرار وانتشر السلام وعمَّ الرخاء جميع الأمم والشعوب، إنَّه سميعٌ مجيبٌ.

والحمد لله ربِّ العالمين//

رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي-

معالي الشيخ عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

العلامة عبدالله بن بيه : جسر بين طرفين- بقلم د.محمد حسين أبو الحسن

   
  العلامة عبدالله  بن بيه : جسر بين طرفين- بقلم د.محمد حسين أبو الحسن  

بين التخلف والتقدم، التشدد والتسامح، الحرب والسلام.. إلخ، جسر ينبغى عبوره، وفى هذا السياق يأتى المشروع التجديدى للعلامة الشيخ عبدالله بن بيه رئيس منتدى أبوظبى للسلم؛ بوصفه معبرا بين حالتين متناقضتين، ومحاولة لتحرير عقول الغافلين عن (مقاصد الإسلام الكبرى) وأفئدة الواقعين فى أسر التصورات الظالمة الخاطئة عن الإسلام، ولكل من قدموها وصوروها على أنها رسالة الإسلام.

 

 

جاء الإسلام رحمة للناس وعونا لهم، يخفف عنهم ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم، لا يكلفهم إلا مايطيقون، ولا يأمرهم بما لا يستطيعون «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها..»، ولا يضع بينهم وبين طيبات الدنيا وزينتها سورا أو حجابا: «قل من حرّم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق..»، ثم هو لا ينتظر منهم أن تكون حياتهم كلها صرامة، أو أن يكونوا مع نفوسهم على الدوام فى تأنيب وإحساس بالإثم لا ينقطع، وإنما ساعة وساعة، وإيغال فى الدين برفق، «وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا…». وإدراكا لحكمة الإسلام؛ يوقفنا الإمام بن بيه على مداخل فى الشريعة، للتسابق فى الخير الذى ينتفع به صاحبه وينفع الناس، فالأمانة التى يحملها المؤمنون، فى كل زمان، ليست موجهة للخلاص الفردى الذى يقفز به صاحبه وحده؛ قفزا إلى جنات النعيم، وإنما هى أيضا موجهة للخلاص الجماعى الذى يتم به عمران الدنيا، وهذا جوهر الهداية التى بُعث بها الرسل.

لكن بن بيه، وهو ينهج مسارات التجديد، يبدى حذرا يليق بالحديث فى أمر جلل، كشئون العقيدة، فهو يحذر من الخضوع لعوامل الضغط الحضارى، «حتى لا نرمى ريشنا كلما هبت ريح زعزع من الغرب أو الشرق ونغير ثوابتنا»، وفى الوقت نفسه، يصر أشد الإصرار على استعادة أمة العرب والإسلام من حافة الانتحار وفيافى البداوة إلى ساحات الأمل والرشد والتحضر. ذلك أن تجديد الفكر الدينى ليس شأنا دينيا فحسب، إنما هو إحدى حلقات النهوض الحضارى، يرتقى بالمجتمعات ويُسهم فى تقدُّم الدول. وهذا يتطلَّب تعزيز اقتناع المجتمعات بأن التجديد ضرورة داخلية، وليس إملاء خارجيا. وفى تأكيد أهمِّيّة التجديد فى السِّياق الإسلامى ومشروعيَّتِه، لن نجد نصًّا أكثر عُمقًا من قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهذه الأُمَّة على رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لها دِينَهَا». هذا الحديث شاهد على حصول تجديد فى الدين كل مائة عام، وهو تعبير آخر عن التجديد المتواصل فى الإسلام.

لذلك وضع بن بيه جميع أوراقه تحت المجهر، دون مجاراة للسلطة أو مداراة للجماهير، فالتجديد ينبغى ألا يكون خاضعا لرغبة سلطة ما، كما أنك لا تستطيع أن تقفز على المشكلة وتتوهم أنك حللتها، بمجرد القفز فوقها، إن التجدد الحضارى هو التطلع والعمل من أجل تجاوز حالة التأخر التاريخى عن المدنية الحديثة، والتصالح مع الحداثة وقيم العصر، دون إهدار للهوية الثقافية والقيمية العربية – الإسلامية. وذلك لن يحدث إلا بجهود المصلحين من أمثال بن بيه، جهود تكفل تجديد فاعلية النظم الدينية نفسها، الاعتقادية والرمزية والمجازية والفكرية، أى «تغذية الوعى الأخلاقى والتفكير الهادف الذى يوجه الإنسان فى حياته اليومية ورؤيته للحياة والكون. إنه باختصار إطلاق فاعلية الشعور الدينى نفسه، وإطلاق هذه الفاعلية يعنى تحرير المنظومة من الانسدادات والصدأ التاريخى، أى تخليص المنظومة من الارتباكات والتناقضات وعدم الاتساق الذى يعرقل حيويتها.

وتعين المبادئ والمقاصد المتطورة فى الشريعة على تحقيق ذلك، ويسهم الاستنجاد بالمقاصد – بتعبير بن بيه – فى صياغة فلسفة إسلامية معاصرة، تجيب على الأسئلة فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن بين مقاصد الشريعة (التيسير) الذى يتيح مساحة واسعة لاجتهاد العلماء، ولرفع الحرج فى التعامل مع مشكلات العالم المعاصر، بعدما ألقت متغيرات الحياة الحديثة بإصرها على الفكر العربى والإسلامى، فصدمة الغرب وتهديد الوجود الإسلامى نفسه، تدفع لإعادة اكتشاف الإسلام من جديد، والتفتيش عن مسالك قادرة على الاستجابة لتلك المتغيرات– على جدتها وشمولها واتساعها- فكان أن نشأت فكرة المجال العام أو المنافع العمومية، الأمر الذى أثمر توسعا فى الاجتهاد، دخل الفقه الإسلامى فى مجالات لم يعهدها من قبل على أرض الواقع، من هنا تنبع أهمية تجديد الفقه الإسلاميّ بوصفه أحد أبرز مظاهر الحضارة الإسلامية، بذل العلماء المسلمون جهدا هائلا لبناء هذا الصرح الحضارى القانونى، ليكون منارة تهتدى به مجتمعات عديدة فى العالم، ومظهرا رائعا من مظاهر قراءة النصّ، وتحليل أدوات التفكير، ومقاربة الظواهر الاجتماعية، والتكيّف مع الواقع، ثم إعادة صياغته.

صحيح أن المشوار ما زال طويلا أمام فقه الواقع، لاسيما من خلال نظرية (المقاصد فى الإسلام)، لكن المجتمعات العربية تسير، بعجلة غير منتظمة، نحو التحرير الداخلى بفعل عوامل داخلية وخارجية ضاغطة، فالأمور لا يمكن أن تبقى كما هى إلى الأبد، الأمل المرتجى أن يحدث التغيير بشكل إيجابى معقول، خطوة خطوة، سيرورة ديمقراطية مفتوحة، تعيد الاعتبار لمعنى الدولة والمجتمع والتراث، انطلاقا من حاجات الإنسان الحقيقية التى تتضمن الحرية والكرامة والحق فى عيش كريم، متحرّر من الفقر والاستبداد، مع توليد الاستجابات الفاعلة للتحديات، وإذكاء جذوة الشوق فى الصدور للنهوض والازدهار.

       

لحظة تأمل مع كارثة الزلازل: الإسلام دين الرأفة

   

بعد زلزال آسيا المسمى «تسونامي» تداعت الإنسانية للتعاطف مع متضرري الزلزال ، لمساعدة الأحياء والرثاء للأموات . كان رد الفعل هذا طبيعيا ، ويجب أن يكون تلقائياً وعفوياً. 

والتعاطف أمر تزكيه الفطرة الإنسانية لأن الإنسان، في وقت من الأوقات، يشعر بالانتماء المشترك إلى هذه الأرض وإلى هذه الحياة، وأن حياة نفس واحدة كحياة جميع الناس ، وموتها كموت جميع الناس ، وذلك عبارة عن ماهية وحقيقة الحياة وحقيقة الموت ، فهي حقيقة واحدة لا يتغير جوهرها بالكثرة ولا بالقلة . وتلك حقيقة قرآنية «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً».

 

 

لقراءة المقال كاملا اضغط هنا :

 


كلمة معالي العلامة عبدالله بن بيّه في افتتاح مكتب حلف الفضول في واشنطن

   
 

بسم الله الرحمن الرحيم

 
 

كلمة معالي العلامة عبدالله بن بيّه

في افتتاح مكتب “حلف الفضول الجديد”

واشنطن دي سي 31 يناير 2023
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين.

 

الإخوَة والأخوَات، 

السّادة والسيّدات،

 

إنه من المبهج حقاً أن نلتقي اليوم لنحتفي ونحتفل بافتتاح مكتب “حلف الفضول الجديد” في واشنطن. ما أجمل الفكرة عندما تتحول إلى عمل، وأجمل من ذلك عندما تتحول إلى مؤسسة تعمل من أجل فكرة. هذا هو حال هذا المكتب الذي نفتتح اليوم فهو بحق معنى تجلّى في مبنى، وفكرة تحوّلت إلى واقع.

في عام 2019، اتفق مجموعة من الحاضرين معنا اليوم على اقتراح ميثاق يكون استكمالاً للوثائق والإعلانات التي سبقته. لقد كان الدافع التأكيد على إعلاء الفضائل والقيم المشتركة والتعبير عن ذلك بطريقة واضحة وأسلوب يمكن للجميع أن يتفقوا عليه. وهذا ما تحقّق في “ميثاق حلف الفضول الجديد” الذي صغناه سويا وأصدرناه معا من أبوظبي عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة، عاصمة التسامح والسلام.

 

إن هذه المؤسسة التي نشهد افتتاح أعمالها في واشنطن نرجو أن تسهم في تفعيل ميثاق حلف الفضول والانتقال به من حيز التنظير إلى واقع التجسيد من خلال انشطتها المتنوعة وبرامجها الخلاّقة، وأن تثمر مبادرات عملية تتصف بالديمومة والتجدّد، بدءا من التعريف بهذا الحلف وميثاقه وبنوده ووصولا إلى الاسهام في تحقيق أهدافه في نشر قيم السلم والتسامح في عالم يزداد احتياجه إليهما كل يوم.

نحن نثق في أن إدارة مؤسسة حلف الفضول ستكون على قدر هذه التوقعات وأن أصدقاء الحلف لن يبخلوا عليه بالتوجيه والنصح ليتمكن من رفع شعاراته وهي: الاحترام والمحبة والسلام.

وختاما فندعو الله أن يكون هذا المكتب فاتحة لأعمال من أجل خير البشرية جمعاء. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخلاقيات الذكاء الاصطناعي( AI Ethics) من وجهة نظر الإسلام

   
     

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين

 

كلمة معالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

في ملتقى أخلاقيات الذكاء الاصطناعي AI Ethics

10 يناير 2023م، روما، ايطاليا

 

أصحاب المعالي والسعادة، أصحاب السماحة والفضيلة،

أصحاب الغبطة والنيافة،

أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

بادئ ذي بدء، يسرني أن أقدم جزيل الشكر للقائمين على تنظيم هذه المبادرة القيمة حول هذا الموضوع الهام، استلهاما من نداء روما 2020 لاخلاقيات الذكاء الاصطناعي، واستكمالا لأعماله.

إن أهمية هذا الموضوع لا تخطئها العين وبخاصة بعد أن أصبحت البشرية بشكل من الاشكال رهينة التطور العلمي، فهاهي الأسلحة النووية تبعث الخوف والرعب في نفوس البشر خشية كابوس نشوب حرب نووية تفضي إلى تدمير الانسان لنفسه.

 

أيها الحضور الكريم،

إن الأديان في صميم رسالتها سعي إلى إسعاد البشر في الدارين الدنيا والأخرى، ولذلك فهي تحث على البحث عن كل مافيه صلاح حالهم ونجح مآلهم. فنجد دين الاسلام يحض على اكتساب المعرفة والنظر في الكون والازدياد من العلم وفي القرآن الكريم ” وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا “. والعلم بمفهومه الواسع يشمل المعارف الدينية والدنيوية التي بها قوام المجتمع روحياً ومادياً. وهكذا قامت الحضارة وازدهرت الاكتشافات والاختراعات ولم يكن الدين حاحزا مانعا من الابتكار، بل كان حافزا دافعا للابداع والانجاز.

على أن الأديان والشرائع في سعيها لترقية البشر وإرشاد الناس تحرص على أن تكون الابتكارات والمنجزات مراعية للأطر الاخلاقية التي تعلي من مكانة الانسان وتصون كرامته وتحمي حياته.

وفي هذا السياق، تأتي تقنيات الذكاء الاصطناعي كإحدى أهم هذه الابتكارات التقنية الخلاقة، التي انبثقت عنها عبقرية الانسان، وانتقلت من طور النظريات إلى عالم التطبيق والمنتجات، فنجح تطبيقها في مجالات مختلفة، ومازال ميدانها يتسع وتطورها يتتابع، مدفوعة بشغف الابتكار والاختراع، ومستفيدة من الاستثمار المتواصل في هذا القطاع من الفاعلين الخصوصيين والحكوميين.

ومؤخرا لم يبق مجال إلا ودخله الذكاء الاصطناعي ووظف فيه كمجالات الصحة والمواصلات والتعليم والتدريب والتصنيع.

وهكذا فتحت هذه التقنيات الباب على طيف واسع من الإمكانات والفرص الواعدة في مجالات شتى يمكن أن تسهم في تحسين حياة البشر، وهذا أمر نشاهد آثاره وندعو إلى دعمه وتشجيع الجهود المبذولة فيه.

ومع هذه الإمكانات الكبرى التي تتيحها هذه التقنيات فإنها كذلك تفتح الباب على مصراعيه على مخاطر ومخاوف من الاستخدام الخاطئ والذي قد يؤدي إلى عواقب كارثية على البشرية جمعاء.

وهنا لا أريد أن أصل إلى الحد المتشاؤم الذي عبر عنه الشاعر العربي أبُو الفَتْح البُسْتي قبل قرون في وصفه لكدح الإنسان وكده، وأنه في الحقيقة إنما ينسج على نفسه لبوسا من الفناء ورداء من العدم حيث يقول:

كدودٌ كدود القز ينسج دائماً … ويهلك غما وسط ما هو ناسجه

كما أن كثيراً من منتجاتها قد طرحت أسئلة فلسفية وأخلاقية عديدة حول مفاهيم الحرية والإرادة والمسئولية تحتاج إلى نظر وتأمل من قبيل:

  1. من يتحمل أخطاء تقنيات الذكاء الاصطناعي؟
  2. ما الذي سيحدث للتواصل بين الناس جراء هذه التقنيات؟
  3. كيف ستؤثر برامج الذكاء الصناعي على سلوكنا وتصرفاتنا؟
  4. كيف نتفادى أخطاء الذكاء الاصطناعي؟
  5. كيف نتحكم في نظام أذكى منا؟
  6. كيف نكون في مأمن من العواقب غير المقصودة لبرامج الذكاء الاصطناعي؟

إلى غير ذلك من الاسئلة التي تتكشف مع الزمن.

إن هذه المخاطر يمكن أن تشكل تهديداً للمنتظم الانساني أجمع (أو ما يسمى عند المسلمين بالكليات الخمس- الدين والحياة والعقل والملكية والعائلة)، الذي جاءت جميع الشرائع بحفظه. فهي قد تهدد أرواح الناس من خلال إمكانات استخدام هذه التقنيات كسلاح غير متحكم فيه، كما تمثل خطراً على العائلة لما قد تسببه من غياب للخصوصية وانتهاك لأمن المعلومات، ويمكن أيضاً أن تتسبب في ضياع الأموال والممتلكات من خلال السطو الالكتروني والقرصنة والاختراقات. وهي فوق ذلك يمكن أن تسبب في زيادة الانقسام والفرقة في المجتمعات من خلال المساهمة في نشر الأخبار الزائفة والمضللة والتأثير في أراء الناخبين.

والحال هذه، فإن من الواجب على المعنيين من قادة دينيين وشركات تقنية وفاعلين حكومين وغيرهم التعاون لتعظيم فوائد هذه التقنيات وتقليل مخاطرها، وذلك من خلال تطوير إطار أخلاقي يهدف إلى ضمان مراعاة منتجات الذكاء الإصطناعي للمعايير الأخلاقية السامية من أجل صيانة كرامة البشر وصلاح أمورهم.

ولتحقيق هذه الغاية، ينبغي أولاً الاتفاق على أهمية هذا الأمر وضرورته لأن التخلف عن تنفيذه ينذر بعواقب وخيمة على البشر معنوياً ومادياً. وثانياً، بالتعاون والتشارك في تصميم إطار أخلاقي يكون دليلاً ومرشداً لمطوري هذه التقنيات وعوناً لهم على التجاوب مع مقتضيات الاخلاق ومطالب الابداع والابتكار.

إن هذه المنظومة الاخلاقية المنشودة ينبغي أن تقوم على القيم الأخلاقية الفطرية والتي هي قيم مشتركة بين جميع الناس، لا تختلف فيها العقول ولا تتأثر بتغيّر الزمان أو محددات المكان، أو نوازع الإنسان، إنها الحقوق الطبيعية الفطرية التي يرثها كل إنسان بفضل وجوده، “وهي حقوق إلهية المصدر ممنوحة للمؤمن وغير المؤمن”، كما جاء في الفصل الأول من ميثاق حلف الفضول الجديد (2019).  

وتشمل هذه الاخلاق قيم الفضيلة واحترام الإنسانية، والتضامن والتعاون في الخير، وقيم الصدق والعدل والأمانة والنزاهة والمسؤولية والشفافية. وكلها قيم مركزية في المنظومة الأخلاقية لجميع الديانات والفلسفات الإنسانية.

كما يمكن أن يكون لدمج هذه المنظومة الأخلاقية في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي مزايا عديدة لا تنعكس على مستخدمي هذه المنتجات فحسب بل على مطوريها كذلك وذلك لأن هذه الأطر الاخلاقية تمنحهم رؤية أكثر وضوحاً وتركيزاً أفضل فيما ينبغي العمل عليه وقائمة أولويات ورسالة للحياة.

بحيث يركز التطور التقني على التحديات الوجودية التي تواجه البشرية في مجالات الصحة والغذاء والتعليم والعمل. وتبذل الجهود للإسهام في حماية الأطفال من المحتوى غير المناسب على الشبكات الالكترونية.

كما ينبغي التذكير أن الرغبة في الكسب المادي -والتي ليست مذمومة في حد ذاتها بل قد تكون داعما للتطوير والإنتاج- لاينبغي أن تتغلب لدى الجهات المعنية على قيم المسؤولية والمصلحة العامة. كذلك فإن التركيز على سؤال كيف؟ بدل سؤال لماذا؟ قد يؤدي إلى تطوير منتجات لا تهدف إلى غاية سامية ولا تخدم غرضا نافعا. وعلى العكس من ذلك فإن سؤال لماذا؟ يحمل على البحث عن الغاية والهدف من كل فعل لتكون المقاصد موجهة بالمبادئ والمثل.

 

المشاركون الأفاضل،

إن من المهم إسناد تقنيات الذكاء الاصطناعي بالاخلاق والتضامن والتعاون ليكون المنتج قليل الضرر كثير النفع. كما أن الاطار الاخلاقي المقترح يمكن أن يكون بمثابة الكوابح التي تحمي السيارات من الاصطدام والدمار، أو البوصلة التي ترشد السفن في خضم البحار. ولذلك فإن المطلوب اليوم هو صحوة ضمير تقود إلى التحكم في النتائج غير المرغوبة للذكاء الاصطناعي بحيث تكون هناك رقابة على الذكاء الاصطناعي من نفسه.

وبالجملة فإن القوانين والجهات المنظمة يجب أن تضع المعايير التي تضمن منع وقوع الضرر على الأفراد والمجتمعات من قبل الشركات المطورة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي. وفي الحديث النبوي الشريف “لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ”. إن هذا المبدأ حاكم، لأنه يكبح جماح رغبة الانسان في الإثراء تحت ذريعة التطور والاكتشاف إذا كان ذلك يتضمن أذى أو ضرراً يقع على الآخرين. كما يحمي الباحثين والمستكشفين من التدخل في عملهم أو الإضرار بهم طالما لم يكن في عملهم مايؤدي إلى إيذاء غيرهم.

واخيرا، فإن ازدهار واستقرار المجتمعات لا يكفي في تحصيلهما توفُّر الأسباب والشروط التقنية، والاقتصادية، بل يستوجبان القدرةَ على إثراء الوجود بمضامين قيمية ومعانٍ سامية، ويتطلبان نظرة شاملة للحياة مبنية على التناغم بدل التصادم والتعاون بدل التنازع. وذلك كله يؤكد الحاجة إلى أطر أخلاقية تنير الطريق وتهدي السبيل.

تلك هي رؤية دولتنا الإمارات العربية المتحدة، القائمة على أُسُس فكرية ومقاصد تنموية من أهمها الجمع بين الإيجابية في المنطلق والفاعلية في الأداء والجودة في المخرج. على هذه القيم بنى القائد المؤسس الشيخ زايد طيب الله ثراه دولة الإمارات وعليها سار من بعده أبناءه الأماجد وعليها يسير صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله في جعل دولتنا مركزا عالميا للذكاء الاصطناعي والتطور والازدهار.  

أشكركم مرة أخرى على هذه الدعوة الكريمة وأرجو لملتقانا هذا التوفيق والنجاح.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الكلمة التأطيرية لمؤتمر الدراسات الإسلاميةفي الجامعات

     
   

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين

 

الكلمة التأطيرية لمؤتمر الدراسات الإسلامية

معالي الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

معالي الدكتور حمدان مسلم المزروعي رئيس مجلس أمناء الجامعة

أصحاب المعالي، أصحاب السعادة، أصحاب السماحة، والفضيلة،

أيها الحضور الكريم، كلٌّ باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

 

أهلا بكم جميعا في دار الابتكار والأفكار، دار الإبداع والازدهار، دار زايد الخير وأبناءه الأماجد، أهلا بكم في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، جامعتنا الجديدة في عمرها، المُجدّدة في منهجها، التي حازت مزية الاسم وخصوصية المجال، فقد شرفت بحمل اسم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، وهو اسم يرمز لرؤية أمة وطموحها، طموح التميّز والفرادة الجامع بين الإيجابية في المنطلق والفاعلية في الأداء والجودة في المخرج.

سأوجز القول في هذه المقدمة التأطيرية من خلال توجيه الأسئلة المفاتيح ماذا ولماذا وكيف، في محاولة للإحاطة بموضوع الدراسات الإسلامية وإصلاحها.

 

 

 

ماذا نعني بالدراسات الإسلامية؟

في منبتها الأوروبي كانت الدراسات الإسلامية Islamic Studies، محاولة ظهرت في القرن التاسع عشر على يد زمرة من المستشرقين لدراسة الإسلام من منظور مغاير للمنظور اللاهوتي الجدلي الذي كان سائدا قبلُ، ومن ثم فقد كان يرنو إلى معرفة علمية شاملة لكل ما يتعلق بالإسلام دينا وحضارة وأمما وثقافة وفنا، ولغات، بل بكل ما أنتجه الإسلام والمسلمون، سواء معرفة أو ممارسات أو أنماط ثقافية أو تاريخا، وكذلك واقع الحضارة الإسلامية واستشراف مستقبلها وآفاق تطورها.

هذا المفهوم الذي طبع المجال في أصله عند الغربيين، لم تحتفظ به الجامعات في العالم الإسلامي وإن احتفظت بعضها بالاسم وقصدت به تدريس العلوم الإسلامية شريعة وعقائد، أو ما أسماه بعض العلماء بعلوم الشرع والعلوم الشرعية، فأما علوم الشرع فهي الكتاب والسنة والتفسير والفقه وأما العلوم الشرعية فهي المنضافة إليها كاللغة والنحو وأصول الفقه والبلاغة والمنطق وغيرها من العلوم.

 

لماذا نحتاج إلى تطوير الدراسات الإسلامية وتجديدها؟

ينطلق المطلب التجديدي في الدراسات الإسلامية من الوعي بما تتهم به بعض المناهج التربوية الدينية من المسؤولية في انتشار التطرف والثقافة المأزومة، سواء ً تعلق الأمر بالبرامج أو بالكتب أو بالمربي نفسِه.

 فلا بد من إعادة النظر في هذا المنهاج، فالإنسان في مثل هذه الأجواء المضطربة، إذا لم يزوّد برواية صحيحة وصلبة للدين، مأخوذة من الجهات الموثوقة وداخل المحاضن المؤسّسية المأذونة شرعا، فإنه لا محالةَ سيستقي من مصادر غير متخصّصة، قد تكون الأنْدى صوتا والأكثر دعاية، فتقوده إلى الغُلوّ والتطرف وغيرهما من أدواء وأمراض العصر الخطيرة.

لكنّ ذلك لا يعني إلغاء البرامج، واتهامها جملة وتفصيلا واتخاذ منحى التطرف الآخر، بل يقتضي الاصلاح بصفة فيها من الحكمة والعُمق ما يمكن أنْ يُصلح ما أفسدتْه يد التطرف والجهل الذي هو أساس كل المشاكل.

ثم من موجبات الإصلاح والتجديد ما نشاهده من انكماش مساحة الاجتهاد الفقهي مما نتج عنه عجز عن مواكبة مستجدات العصر في المعاملات وضحالة في الإنتاج الفكري، فكل هذا يبرر إجراء عمليات كبيرة عمليات جراحية إن صح التعبير لمناهجنا ولتعليمنا.

على أن إصلاح التعليم لا يمكن إلا أن يكون بعقليات متفتحة واعية بعصرها وفي نفس الوقت متجذرة في تاريخها. لأن الإصلاح التجديدي عندنا ليس كالإصلاح التنويري عند كانط، الذي هو تفكير بلا سقف، فلا كتابَ يَهْديه ولا مدير أو قسيس يرشده، ولا طبيب يصف له وجبة غذاءه. بل هو إصلاح منطلق من أساس شرعي، يسعى إلى المصالحة والموائمة وإلى تبرير الدين بالعقل وتحرير العقل بالدين.

 

كيف نطوّر الدراسات الإسلامية؟

سأحاول حصر الحديث عن هذا الموضوع عقليا ومحاصرة الانفلات عمليا من خلال تبني الإطار المنطقي المعروف بالعلل الأربع التي تمثّل الماهية ولوازمها: المادة والصورة والغاية والفاعل. فالأوليان ذاتيتان، والأخريان خارجيتان.

فكل بناء محسوس أو ذهني يشتمل على هذه الدوالّ، فله مادة منها يستمدّ ويتكوّن، وله صورة عليها يتشكّل، وله غاية إليها يقصد وهي الباعثة على إيجاده وهي الأولى في الفكر، وإن كانت آخرا في الوجود، ولهذا قال أرسطو: مبدأ العلم منتهى العمل. وله فاعل هو المحرّك والسبب في وجوده.

وفي كل منحى من هذه المناحي الأربعة يمكن للنظر أن يفحص ما ينبغي تداركه من أوجه الخلل والعطب وما يمكن تكميله من أوجه النقص.

أولاً المادة:

ونعني بالمادة أصل الشيء الذي منه بناؤه وبنيته والذي بدونه لا تتصور شيئيته.

ومادة الدراسات الإسلامية كما مرّ آنفا هي شجرةُ المعارف الإسلامية التي نبتت على ضفاف بحر الكتاب والسنة، وامتدت دوحتها الوارفة لتُظِلَّ جميعَ مناحي الدّين، في شبكة من العلوم والفنون المتكاملة، والمتساندة، منها اللصيقة والأقرب نسبا كالفقه والتفسير، ومنها أخرى هي وسائل للأولى كأصول الفقه الخادم للفقه والبلاغة الخادمة للإعجاز، بل وعلوم خادمة للعلوم الثانوية، كالمنطق الخادم لعلم الكلام، وما انضاف إلى علم الكلام من الفلسفة التي هي منبته أو محاوره.

والسؤال الذي يطرح نفسه على هذا المستوى، هو حول موجبات إضافة مواد جديدة قد يقتضي الواقع الجديد إضافتها وإلحاقها، ولن يكون ذلك بدعا من القول ولا بدعة من العمل، فالعلوم ظهرت تباعا، متدرّجة بحسب بما اقتضاها من مستجدات، فمبنى مسيرة العلوم على أوضاع تجدّ ومواضيع تنشأ. فعلم أصول الفقه بدأ في نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث الهجري مع الإمام الشافعي، وعلم النحو بدأ في القرن الأول مع أبي الأسود الدؤلي والخليل بن أحمد وعلم البلاغة بدأ مع الجرجاني ..وهكذا فكلها علوم نشأت عن الحاجة.

فلعل الحال اليوم داعية إلى الانفتاح على العلوم الإنسانية لتلافي الفصل بين المعارف الذي أدى إلى انعدام التكامل في شخص العالم المسلم، وهي الميزة المعرفية والمزية الثقافية في عصور الازدهار الحضاري للأمة، حيث كان العالم يجمع بين علوم الطبيعة وعلوم الشريعة فالمازري الإمام كان فقيها طبيبا وابن رشد الحفيد كان فيلسوفا طبيبا فقيها وابن خلدون كان فقيها وعالم اجتماع ومؤرخا.

إنَّ هذا الاختزال في المعارف أدى إلى حالة من ضيق الأفق والظاهرية والحرفية والعجز عن مواكبة العصر والانفتاح على المكتسبات الإنسانية الثقافية والفلسفية وعن التسامح وهي صفات يجب أن يتكون الطالب على نقيضها فبدلا من الظاهرية يتكون على المقاصدية وبدلا عن الانغلاق والتقوقع ينفتح على العصر ويواكب مستجداته. ولعلكم تعرفون قصة الفقيه المالكي أبي الوليد الباجي (474 هـ) بعد رجوعه من رحلته إلى المشرق لما وصل أطراف الأندلس وجد أبا محمد بن حزم في أوج تألقه ينشر مذهبه وقد قهر الأقران وبهر الألباب ببلاغته وقوة عارضته فحل أبو الوليد الباجي بساحته في مايورقة ولم يبرح تلك المنطقة حتى ظهر عليه قائلاً: ابتلينا ببدعة الباطنية في المشرق وابتلينا ببدعة الظاهرية في المغرب. 

ثانياً الصورة:

تعتبر الصورة من أهم مداخل التطوير والتجديد في كل منظومة من خلال إعادة التركيب والترتيب، فالصورة تضفي على المادة خصائصها وتحولها بالفعل إلى شيء وجوهر.

ولعل أهم ما يمكن لفت الانتباه إليه على هذا المستوى هو ضرورة البحث عن منظور كلي يلمّ شعث العلوم ويجمع متفرقها في طرح متناسق ومعرفة موحدة؛ من خلال مقاربات العلوم البينية INTERDISCIPLINARITE والعلوم المتعددة والعلوم المتكاملة، فلعل هذا المنحى التركيبي الموجّه بالغايات العملية أن يشكّل مولجا مكملا -وليس بديلا- للمدخل الأساسي التقليدي الذي يمنح الطالب مدارك العلوم، والذي لا غنى عنه.

ونظير هذا على مستويات التبويب والتلقيب والتقريب، ضرورة البحث عن منظور يوازن بين الاحتفاظ بما حرره العلماء والممارسة المدرسية التاريخية في العلوم وبين مواكبة أعراف اللغة والمناهج المعاصرة.

ثالثاً الغاية:

العلة الغائية كما يقول أرسطو هي أهم العلل المساعدة على الفهم، وبها تفسر أنواع العلل الأخرى وتختم عملية التفسير كلها.

ويجب أن نتنبه أن لكلّ علم غايته، المتمثلة في الإشكال المعرفي الباعث على إنشاءه، والثمرة المرجوة التحصيل منه، فعلم أصول الفقه مثلا غايته هي الاستنباط والانضباط، والنحو غايته صون اللسان عن اللحن،  فلا بدّ من ربط العلوم بغاياتها، لاستبانة حدودها واستيضاح مدى إعمالها، ولذلك قال الإمام الغزالي عن علم الكلام: “صادفته علما وافيا بمقصوده غير واف بمقصودي”. فمقصود الغزالي في رحلته البرهانية إلى اليقين، مختلف عن الغاية الجدلية التي بها قوام علم الكلام.

وكذلك فإن حاجات الإنسان الروحية والعملية متغيرة متطوّرة بتطوّر السياقات، فلذلك صحّ أن تتطوّر كذلك غايات العلوم، وتتغيّر، وأن تنشأ كما مرّ آنفا علوم جديدة لأغراض جديدة.

رابعاً الفاعل:

إن الفاعل أو المبدأ المحرّك كما يسميه أرسطو – على مرتبتين:

مرتبة الخبير المجتهد الذي يشرف على وضع البرنامج، وهو الصّانع الذي يتولى صناعة الدراسات الإسلامية وتطويرها، وهي صناعة لأنها تركيبٍ وعملٍ يحتاجُ إلى دِرايةٍ وتَعمُّلٍ، فهي ليست فعلاً ساذجاً ولا شكلاً بسيطاً.

مرتبة المعلّم المشرف على تلقين هذه العلوم وتكوين الطلبة عليها. وتلك صناعة أخرى من أهم الصناعات لما تحتويه من بعد تربوي.

وكلا المرتبتين ركن مهم من أركان الإصلاح المطلوب، فطموحنا ينبغي أن يكون إلى تكوين علماء قد حصلوا ملكة العلوم، يجمعون بين الرسوخ في فهم الشريعة -أصولا وقواعد ومقاصد وقيما- وبين الوعي بحقائق الواقع المعاصر.

 يعترض هذا الطموح المشروع تحديات كثيرة ومن أهمها تحديات السوق، فلا بد أن تقع الموائمة بين الطالب المكوّن وما حصّل من معارف ومهارات وبين حاجات السوق وقدراته الاستيعابية، لكيلا تغدو كلياتنا مصانع للبطالة.

ومن تلك التحديات أيضا تحديات الحيز الزمني المتاح، فعدد السنوات والساعات محصور محدود، مما يلزمنا الأخذ بحكمة القائل:

فقدّم الأهم إن العلم جمْ * والعمر ضيف زار أو طيف ألمْ

الزمان والمكان لوازم العلل الأربع:

إن ظرفي الزماني والمكاني لوازم للعلل الأربع، ففيهما ومن خلالهما تتجسد هذه العلل وتظهر، ولا يمكن إدراكها منفصلة عن إطار الواقع، ولذلك فإصلاح الدراسات الإسلامية يمرُّ كذلك بربطها بزمانها ومكانها، وتجاوز ما هو مشاهد من انفصام العلاقة بين الواقع الزمني والإنساني وبين برامج الدراسات الإسلامية، فيلزم سد الفجوة بين ما يُدرّس وبين الزمان الذي نعيشه، إذ لكلّ عصر واجباته وقضاياه وله مذاقه ومزاجه، فلا بد لنهر الدّراسات الإسلامية أن يظلَّ وفيا لمنبعه، متفاعلا متلونا بلون تربة واقعه.

والمطلوب هو معرفة الواقع بكل تفاصيله، وليس الواقع بمعنى اللحظة الحاضرة، لكنه الواقع الذي يعني الماضي الذي أفرز الحاضر وأسس له والذي بدون تصوره لا يمكن تصور حاضر هو امتداد له وحلقة من سلسلة أحداثه واحداثياته.

ولن يكون ذلك كافياً دون استشراف مستقبل تتوجّه إليه تداعيات الحياة وتفاعلات المجتمعات؛ وذلك ما سميناه بالتوقع.

كل ذلك يُمهِّد لبناء كليٍّ أعلى هو كلي الواقع الذي من خلاله يتعامل مع مختلف الدلائل، ومع تفاصيل المسائل، وفق ما تقرّر في الشريعة من مبدأ شراكة الواقع، فهو شريك في استنباط الحكم، كما دلت عليه النصوص والأصول وممارسة السلف الراشد. ولذلك فإن من جميل صنيع جامعتنا عنايتها بفقه الواقع وتخصيصها برنامجا خاصا به.

 بهذا المنظور المعتبر للإطار الواقعي يتسنى الربط بين النصوص والمقاصد، التي هي الغايات والحِكم والبواعث، أي أنها تحمل المكلف على أن يقوى بالعمل.

فهذه المقاصد التي يمكن أن تتعامل مع مختلف الظروف ومختلف الأوضاع والأحوال تمثل صمّام أمان دائم لتجنب الوقوع في العنف أو الفساد أو الفتنة، ووحده المنظور الكلي المؤسس على المقاصد قادر على مواجهة الأزمات.

يجب أن نتحرى التجديد دون إهمال أو إغفال الطرق القديمة للتعليم وبخاصة الحفظ الذي هو مقدمة الفهم:

لكي يسوغ الحفظ ثم الفهم بالعنصرين يستتب العلم

فحفظ المتون هو الملجأ حين تخون العيون، ويضعف البصر ويكل النظر، وهو دأب الأولين، وسبيل المحققين: قال الشافعي رضي الله عنه:

علمي معي أينما يممت يتبعني    صدري وعاء له لا جوف صندوق

إن كنت في البيت كان العلم فيه معي أو كنت في السوق كان العلم في السوق

 

أيها السادة الأفاضل،

رجاؤنا أن يؤسّس مؤتمرنا بجدّية مواضيعه، وجدّة تناوله، وجودة مخرجه، تقليدا علميا كبيرا في بلدنا والمنطقة جمعاء.

وأنتم أيها العلماء الأفاضل الذين تجمعون بين الرسوخ المعرفي والفكري المشهود والتّجربة العملية وألأكاديمية الرصينة، ولذلك فالمعوّل في إنجاح المسعى على ما تجودون به من أفكار سديدة ومقترحة مفيدة.

أتمنى لمؤتمرنا هذا التوفيق والنجاح وأشكركم على حسن إصغائكم.  والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الكلمة التأطيرية- عولمة الحرب وعالمية السلام: المقتضيات والشراكات

   
     

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين

معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان – وزير التسامح والتعايش بدولة الإمارات العربية المتحدة

معالي الشيخ الدكتور محمد عبدالكريم العيسى– الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي،

أصحاب المعالي، أصحاب السعادة،

أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

فيسرني أن أرحب بكم اليوم في الملتقى التاسع لمنتدى أبوظبي للسلم والذي نعقده هذا العام تحت شعار “عولمة الحرب وعالمية السلام: المقتضيات والشراكات”، وتسعدنا مشاركتكم جميعا من مختلف الأديان والعرقيات، ومن مختلف المناطق والقارات. أتيتم جميعا إلى عاصمة دولتنا أبوظبي من أجل السلام ولتفعيل مبادرات السلام. فمرحبا بكم وبجهودكم الخيّرة في خدمة البشرية جمعاء، فأهلا بكم في بيت السلام والوئام، بيت زايد الخير وأبناء زايد الأماجد.

إننا في منتدى أبوظبي للسلم نسير وفق رؤية القيادة الرشيدة لبلدنا والتي قررت أن يكون شعار هذه المرحلة هو “السلام والتعافي والازدهار” وحسب هذه الرؤية نعمل لحشد الجهود لتعزيز السلم والتعاون على الخير والبر وقول الحسنى للناس أجمعين، برعاية كريمة من سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان -وزير الخارجية والتعاون الدولي.

أيها الحضور الكريم،

إن ملتقى هذا العام يأتي في خضم وضع دولي مضطرب يزيد من مستوى التحديات التي تواجه البشرية، فمن تحديات الأزمة الصحية التي لا تزال تلقي بظلالها على أجزاء من العالم إلى تحديات الاقتصاد والتضخم الذي تشهده الأسواق العالمية إلى تحدي الأمن والحروب المشتعلة في مناطق من العالم.

ولقد أكدت الأزمات الراهنة والتوترات الحاصلة أن السلم كل لا يتجزأ وأن أي إخلال به ستنعكس آثاره على البشرية في كل مكان فالحروب في هذا الزمان لا تقف آثارُها عند الحدودِ الجغرافية لميدان المعركة بل تتعداها إلى باقي أصقاع العالم.

كما بينت الحروب الدائرة حاليا في أجزاء من العالم أن شياطين الحروب ما تزال كامنة في النفوس؛ ولذا فإن من مسؤولية القيادات الدينية كما رجال السياسة معالجة هذه الأفكار في النفوس والأذهان قبل أن تخرج إلى العيان.

إن الوعي بهذه الضرورة هو الذي يوجه ملتقانا هذا العام، حيث نستشعر جميعا الحاجة إلى أن تتكامل أدوارنا، لنسهم في استعادة الضمير الأخلاقي للإنسانية، الذي يعيد الفاعلية لقيم الرحمة والغوث ومعاني التعاون والإحسان.

إننا أمام هذه التحديات الخطرة التي تواجه البشرية نقف متسائلين:

نتساءل عن كيفية درء خطر الحروب والنزاعات المسلحة؟

كيف يمكن لسفينة البشرية أن تتفادى جبل الجليد- مثل الذي اصطدمت به سفينة “تيتانيك”- الفرق أننا هذه المرة نعلم بوجود هذا الجبل وندرك أننا للأسف نسير تجاهه وبسرعة فائقة! فهل يمكننا أن نسأل عن الطرق المناسبة لتلافي الاصطدام به؟

نتساءل عن دور القيادات الدينية والروحية في الإسهام في مواجهة هذه الأزمات وفي معالجة هذه التحديات.

كيف نصل إلى حلول مبتكرة فيما يخص الغذاء والدواء وخصوصا توفيرهما للدول النامية؟

كيف نزيد من الوعي في التعامل مع الجائحة الصامتة التي تتطلب تعاونا دوليا ألا وهي التحديات النفسية التي تحتاج إلى خبرة المتخصصين النفسيين، وعناية القادة الدينيين ورعاية صناع القرار والمنظمات الدولية.

وكيف يمكن أن نعزز جهود السلام لتصل إلى شرائح واسعة من العالم ويشارك جمهور عريض في أعماله ورفع أعلامه ؟ كيف نشرك مختلف شرائح المجتمع في هذا الجهد الجمعي الخيّر ؟

كل هذه الاسئلة الجوهرية والمواضيع الملحة تجعلنا نتطلع باهتمام إلى ما ستقدمونه حولها وتقترحونه فيها من أفكار وتصورات وخطط وخطوات عملية قابلة للتطبيق خلال فعاليات هذا الملتقى المبارك.

المشاركون الأفاضل،

إن شعار ملتقى هذا العام هو “عولمة الحرب وعالمية السلام: المقتضيات والشراكات” ونعني بعولمة الحرب ما هو مشاهد من انتشار حروب مستعرة في بقاع شتى من العالم، كما نعني به انتشار وانعكاس آثارها وتداعياتها على باقي دول العالم، وأما العالمية فهي دعوة لمقابلة عولمة الحرب برد فعل مضاد حسب الصيغة المشهورة أن (لكل فعل ردَّ فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه) بحيث نزيل العرض ونداوي المرض، فاعراض المرض تقابل بالعلاج السريع (الإسعافات الأولية)،  والبحث عن الدواء أو اللقاح كما جرى في الجائحة الصحية قريبة العهد وكذلك الحرب ودواعيها. ونعني بالعلاج السريع الإيقاف الفوري للإقتتال ونعني بالدواء إقامة السلام والوئام والمصالحات. ولذلك فإن القيادات الدينية المعنية بخطاب هذا المؤتمر يمكن أن نتصور إسهامها وفق مايلي:

أولاً: الدعوة إلى الحوار كوسيلة لا بديل عنها وطريق لا بد من سلوكها للوصول إلى السلام. اللسان بدل السنان، والكلام بدل الحسام (أو في عصرنا القنبلة والصاروخ). “ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين..” تلك هي أدوات الحوار التي وهبها الله للإنسان.

ثانياً: دور الإطفائي الذي لا يسأل عن المتسبب وإنما كيف نطفئ الحريق. لطالما تحدثنا في هذا المنتدى عن دور صانع السلام بوصفه إطفائياً. وإننا كاطفائيين نسعى إلى إطفاء الحريق قبل السؤال عن من أشعله أو الحكم عليه أو وصفه أو وصمه بأي جرم، المهم أولاً هو إطفاء الحريق وإيقاف القتل والقتال قبل الحكم على الأعمال والأفعال. فنحن لا نضع الإشكالية الكانتية (ايمانويل كانت) في تعليق السلام على تحقيق العدالة الدائمة، بل نرى أن العدالة تنال على بساط السلام، فلا عدالة مالم تتوقف الحرب. بفقد السلام تهدر كل المصالح الأخرى.

ثالثاً: روح ركاب السفينة. إن درجة التشابك بين مصائر الشعوب وأوضاعها في سياق العولمة المعاصرة فرضت الشعور الواعي بحقيقة الانتماء للبشرية كعائلة كبرى وللأرض كوطن أشمل، وهو ما يسميه البعض مواطنة كونية، المطلوب التحقّق بها من خلال تجسيد روح ركاب السفينة التي ضرب بها النبي صلى الله عليه وسلم المثل، روح ركاب السفينة الذين يؤمنون بالمسؤولية المشتركة وبالحرية المسؤولة المرشّدة وبواجب التّضامن والتعاون.

بهذه الروح ننشد أن نشيد عالما تتضافر فيه ثمرات العقول لفائدة الجميع فلا يستأثر بها القوي أو يحتكرها الغني، عالما تتنافس فيه الأمم في الخير، وتستبق فيه الدول في تقديم الضيافة التي تستند إلى الكرامة الإنسانية، والتي تجعلك ترى الغريب قريبا، تراه أخا وصديقا، تقابله بحسن الظن، تؤويه إلى بيتك وتبذل له البر والإحسان، من غير سابق معرفة بينكما.

رابعا: التزام القيادات الدينية بالبحث في نصوصها المقدسة وتراثها الديني وتقاليدها الأصيلة عن مسوغات السلام فلقد بينا في الملتقيات الثمانية السابقة نصوصاً كثيرة تدعو إلى السلم والأمن والأمان واحترام الإنسان، دمه وعرضه وماله، وتدعو المؤمنين كافة للدخول في السلم طبقا للأية الكريمة “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً”[1] التي دعت إلى السلم في عبارات بليغة واستعارات رائعة تمثل السلم ببيت فسيح، ومنزل مريح، يتسع للجميع، فكنى بالدخول عن حالة الانخراط في المصالحة والسلام. بالدخول وجاء بفي الظرفية التي تشير للظرف المكاني وهو السلم الذي هو البيت أو الحصن الحصين.

السَّلْمُ تأْخُذُ منها ما رَضِيتَ به***والحَرْبُ تَكْفِيك من أَنْفَاسِها جُزَع[2]

 

وكان لنا وقفة مع نصوص من العهد القديم والجديد تمجد السلم وتنشره بين أتباعها وأشياعها. ومن ذلك ما ورد في سفر أشعيا[3]: “ما أجمل على الجبال أقدام المبشّرين، المنادين على مسامعنا بالسلام، الحاملين بشارة الخير والخلاص”.

خامساً: تشكيل وفود من القيادات الدينية والروحية للوساطات والمصالحات، وبناء الجسور وفتح باب الحوار بين أطراف النزاعات المشتعلة.

سادساً: تفعيل الوثائق والمواثيق التي صدرت عن الجهات والمراجع الدينية المتضمنة دعوة للسلام.

ومن جملتها الحلف المعروف تاريخيا بـ “حلف الفضول”، الذي أبرم بمكة المكرمة وزكاه النبي صلى الله عليه وسلم. وفي عصرنا الحديث نجد الإعلان في الحقوق الدينية /Dignitatis humanae/ الذي أعلنته الكنيسة الكاثوليكية 1965 والذي مثل نقطة انطلاق الكثير من مبادرات الحوار، ويضاف إليه الإعلانات المختلفة التي أصدرتها الأديان والطوائف والتقاليد الأخرى. وفي العقدين الأخرين:

رسالة عمان (2004)، وكلمة سواء (2007)، وإعلان مراكش لحقوق الأقليات الدينية في البلدان المسلمة (2016)، وإعلان واشنطن لتحالف القيم (2018)، ووثيقة الأخوة الإنسانية (2019)، ووثيقة مكة المكرمة (2019)، وحلف الفضول الجديد (2019).

 

لقد عملنا في السنوات الماضية بالشراكة مع كثير من الهيئات والشخصيات الحاضرة على دعوة السلم لشعورنا أنها دعوة لازمة وضرورة ملحة، لكن هذه الضرورة تتأكد عندما تظهر الحروب وتراق الدماء وتستخدم القوة العنيفة بحيث يصبح التهديد عالمياً؛ ولذا قلنا إن هذه العولمة ينبغي أن تقابل بعالمية السلام.

إن حماية السلام بالحرب مثل تكليف الذئب برعي الغنم، فهذه الحروب والأزمات لا تولد إلا الخسائر في المنتظم الانساني أجمع (أو ما يسمى عند المسلمين بالكليات الخمس- الدين والحياة والعقل والملكية والعائلة)، فهذه الضروريات الخمس التي هي أسمى حقوق الإنسان التي منحها له الله عز وجل، لا ثبوت لها ولا ثبات إلا في إطار المجتمع الآمن الذي يتمتع بدرجة من السلم تضمن توفرها. ففي ظل السلام وما يوفره من الألفة والسكينة والأمل تقوم أسبابها وتتوفر شروطها وتنتفي موانعها.

إننا لا ندعو إلى السلم باعتباره ممكنا، بل باعتباره أمراً لابد منه، فالسّلام هو النهج وهو الغاية. والسلام ليس كلمة فقط، وإنما هو معنى عظيم يقوم في النفوس محبة وشفقة وأخوة، ويظهر على السلوك تعاوناً وتضامناً، هكذا تبنى الأمم وتتعايش المجتمعات ويزول شبح الخوف والمجاعات.

ولقد أظهرت جائحة كورونا أهمية التعاون الدولي والشراكات متعددة الاطراف في مواجهة التحديات ذات الطابع المعولم، والتي لا يمكن لبلد بمفرده أو منطقة لوحدها معالجتها أو التعامل معها.

وإذا كانت الحرب أوّلها كلام كما تقول العرب فإنّ السلم أوّله كلام أيضا؛ ولذا فلابد من الحوار والتباحث لايقاف الحروب ولتخفيف التوترات. بحيث يوضع السلاح ويقدم بديل للحرب؛ فإن الأبواب المغلقة والأسماع الموصدة لا تؤدي إلى التفاهم ولا إلى السلام.

إن القيادات الدينية تخاطب العقول والقلوب وطموحها أن يؤثر هذا الخطاب في الساحة، وتتلقاه آذان واعية، وقلوب مصغية؛ ليتحول إلى إدراك يجعل الحكمة أساسا، والتواضع منطلقا، والمصلحة هدفا، والترويج لقيم الحياة مبدأ، والقيم النبيلة قواعد للنظام العام؛ بحيث يحتكم الناس إلى قوة المنطق لا إلى منطق القوة.

ولذا فإننا نعتقد أنه من خلال جهود القيادات الدينية مع غيرها بإمكاننا أن نوصل صوت الحياة، صوت الحكمة للأخذ بحجزات الناس عن القفز إلى أتون الحرب والفناء.. ذلك هدفنا وتلك أمنيتنا.

أيها المشاركون الأفاضل،

لقد سجلت كتب التاريخ بمداد من ذهب أقواما أطفأوا نيران الحروب، وكظموا الغيظ، وأحيو الناس؛ فأثنى عليهم التاريخ وحمدت فعلهم البشرية.

   تَدَارَكتُما عَبْسًا وَذُبيان بَعْدَمَا               تفَانَوا وَدَقّوا بَينَهم عطرَ مَنشمِ

   وقد قلتما: إنْ نُدْرِك السّلمَ وَاسعًا           بمالٍ وَمَعْروفٍ من القول نَسلمِ

   فأَصْبَحْتُمَا منها عَلَى خَيرِ مَوْطِنٍ           بَعيدَينِ فيها مِنْ عُقُوقٍ وَمَأثَم

 

إننا في خضم هذه التحديات القاتمة والازمات الخانقة، مانزال نرجو ألا تخبو شعلة الأمل وأن تؤدي الأزمات الحالية إلى رد فعل معاكس من شأنه خلق معاهدات جديدة لنزع الاسلحة النووية وليس فقط لتقليصها (لتكون اتفاقية START جديدة)، من خلال مواثيق دولية تحمي حقوق الدول وتصون مصالحها دون الحاجة إلى دخول الحروب واختلاق النزاعات. إن اسلحة الدمار الشامل يجب أن تدمر هكذا يقول العقل.

ولما كان مؤتمرنا هذا يهدف إلى زيادة التعاون وبناء الشراكات بين الفاعلين في حقول السلم والمصالحات، ولعلّي في هذا الصدد أقترح فكرة قد تكون سهلة التنفيذ محمودة الأثر، وهي أن نخصص -كقيادات دينية ونخب اكاديمية وصناع قرار- أقرب فرصة قادمة للكلام أو الكتابة بعد المنتدى سواء كانت تلك الفرصة خطبة للجمعة، أو عظة للسبت أو الأحد، أو مقالا صحفيا، أو برنامجا تلفزيونيا، أو غيرها؛ من المناسبات للكلام والكتابة عن السلم وجهود السلم وإيصال رسالة السلام إلى مجتمعاتنا في مختلف القارات وبجميع اللغات؛ وبهذا نكون قد أسهمنا في نشر الوعي والخروج بهذه الأفكار والجهود الخيّرة إلى فضاء أرحب من إطار المؤتمرات للوصول بها إلى البشرية؛ لتتنزّل في المدارس تعليما للناس، وفي المعابد تعاليم للمؤمنين، وفي ساحات الصراع وميادين النزاع، طمأنينة تحلُّ في النفوس، وأملا يعمر القلوب ويثير في النفوس محبة الخير الكامنة في الفطرة البشرية.

وختاما، فإنكم أيها المشاركون في هذا المؤتمر رسل سلام، وسفراء فوق العادة لنشر رسالة السلم والوئام، ولا أكون مبالغا إذا قلت إن البشرية جمعاء تعلق على جهودكم وأعمالكم آمالاً عظيمة.

أجدّد الشكر لكم جميعا، على تلبية الدعوة، وأتمنى لأعمال ملتقانا هذا النجاح والتوفيق ولضيوفنا مقاما سعيدا وأوبا حميدا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.  

[1] سورة البقرة، 208

[2] العباس بن مرداس

[3] سفر أشعيا (52 /7)

الفلسفةوالأخلاق – كلمة العلامة عبدالله بن بيه

   
     

 

الحمدلله الذي كرم الإنسان بالعقل وميّزه، وكرم العقل بالعلم وعززه. والصلاة والسلام على سيدنا محمد المتمم لمكارم الأخلاق والمرشد للحكمة والرحمة والمعرفة وعلى آله وصحبه أجمعين،

معالي الدكتور حمدان مسلم المزروعي رئيس مجلس أمناء الجامعة

أصحاب المعالي والسعادة، أصحاب السماحة والفضيلة، أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

يسرني أن أرحب بكم في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، هذه الجامعة الحديثة النشأة، البعيدة الطموح، التي حازت مزيّة الاسم وخصوصيّة المجال، فقد شرفت بحمل اسم صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله. وهو شرف يحمل هذه الجامعة مسؤولية التميز والتفوق في كل مجالات البحث العلمي.

 

المنهج كما أتصوره:

وفي بداية كلمتي هذه اسمحوا لي بنبذة عن منهج هذه الجامعة كما أتصوره: إنّه منهج الموائمات الحضارية والوساطات، إنه منهج الجسور الممدودة بين الحقول المعرفية والممرات الواصلة بين الفضاءات الثقافية، إنه منهج التحالف بين القيم، والتكامل بين الكليات.

نعتقد أنه قد آن الأوان لنبذ المنظور الفصلي القطائعي الذي يرتكز على الخصوصيات ويهمّش ويلغي أوجه الاتصال ودوائر المشترك، ويقيم تقابلات سجالية وصراعا بين المركزيات، مآله المحتوم تفكيك الوئام وهلاك الأنام. فلا بُد من القطع المنهجي مع هذا المنظور الإقصائي، إذ هو منظور انفعالي قلق لا يمكن أن يؤسس لرؤية حضارية.

بهذه المنهجية التي تقوم على تجاوز المتقابلات ونبذ القطائع والمفاصلات، بالانتفاع بثمرات العقول ومحصولها، وإرساء التعايش بين الأفكار، حقّقت الإمارات بفضل الله ولا تزال تحقّق الاستئناف الحضاري الواعي والازدهار التنموي المثمر.

الوساطة بين الفلسفة والدين:

إن من الوساطات الضرورية التي نأمل أن تنجح فيها جامعتنا الوساطة بين الفلسفة والدين، فلقد درج الناسُ على افتراض تنافر جذري بينهما، إما على وجه التضاد، أو على سبيل الاستقلال.

إن الجوار بين الفلسفة والدين قد يتوتر، والخلاف بين ممثليهما قد يحتدم، كما جرى بين الغزالي وابن سينا وأبي نصر الفارابي، إلا أن ذلك لا يدفعنا إلى الاعتقاد باستحالة الحوار، بل إننا نؤمن بأن هذا الوصل ممكن وضروري، وأنّ هذه الخصومات التاريخية لا ينبغي أن تغيّب نجاحات وتحجب لقاءات سعيدة جرت على يد فقهاء فلاسفة وفلاسفة فقهاء، ومن أبرز هؤلاء رائد المصالحة ابن رشد الحفيد في كتابه “فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”. حيث انطلق من مجال وحدة الموضوع بين الدين والحكمة (الفلسفة) حيث إن الحكمة هي نظر في الموجودات والمصنوعات لمعرفة الصانع أو لما سوى ذلك والشريعة كذلك تأمر بالنظر في الموجودات (الآيات) :(قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) والقصد التعرف على الصانع كذلك. ولذا بذل جهداً لدرء وصمة التكفير عن الفلاسفة عن طريق التأويل.

الفلسفة التساندية التكاملية:

إننا نطمح إلى فلسفة تساندية لا تعارضية. فلسفة ثلاثية الأركان يتناغم فيها الحس فيأخذ نصيبه والعقل فيوضع في نصابه والوحي فيكون مهيمناً ومرشداً للحس والعقل فيما يقفان دونه من الماورائيات والحقائق التي لا يدركها الإنسان أو التي لم يكتشف بعد أنه لا يدركها على قاعدة أن عدم الوجدان لا يعني عدم الوجود وعدم العلم لا يعني علم العدم

فلسفة قائمة على النسبة والتناسب حيث تسلم المقدمة الأولى للحس وتعمل العقل للتوصل للنتيجة.

لماذا قلنا الحس؟ لأنا هناك من ينفي الحس من فلاسفة الشك كديكارت، والعقل لأن هناك من يلغي العقل ويعتبر التجربة فقط كهيوم. ونحن نقول هذه العناصر تتناسب وتتعاون في الكشف عن الحقيقة. لقد جاء العلم الحديث لينقل الجدل المتعلق بحدوث العالم إلى مجاله، حين سلم للدين المقدمة الصغرى ليبني عليها المقدمة الكبرى “كل محدث فلا بد له من محدث”، ليكون القديم الذي لم يسبق على وجوده عدم هو واجب الوجود. وهكذا يصلح برهان السببية بين الدين والعلم، فكما يقول ديكارت “أن العدم لا يخلق وجوداً”.

ولذلك يجب أن نميّز بين الفلسفة باعتبارها منهجا في التفكير يقوم على السؤال والتحليل والتّرْكيب والنّقد والاستنتاجِ، وبين الفلسفة كأجوبة وأطروحات ومواقف ومفاهيم تختلف من فيلسوف لآخر. إن قطار الفلسفة يتأخر عن موعده حين يكتفي العاملون في هذا الحقل بتاريخ الفلسفة عن ممارسة التفلسف، وعن الإضافة والتجديد بالترجمة والتقليد.

لقد كانت الفلسفة أوّل أمرها تطلق على جميع فصول المعرفة الإنسانية (علم الفلك والرياضيات والفيزياء أو علوم الطبيعة)، ثم لم تزل شجرتها تشذّب، وتفقد أغصانها غصنا بعد غصن، باستقلال العلوم عنها تباعا، حتى آلت إلى جوهرها وهو السؤال والاستفهام طلبا وبحثا وتحقيقا وتدقيقا.

هي إذاً أداة ووسيلة للحكم على الأشياء ووسيلة للتعلم. بل إن أقدم الطرق الفلسفية تعتمد على السؤال والتمحيص وطرح الفرضيات واستبعادها واحدة تلو الأخرى وهو منهج استخدمه المناطقة والأصوليون في سبر وتقسيم العلل. يصف سقراط عمله بأنه إنتاج وتوليد لأفكار الآخرين عن طريق حثهم على التفكير في أمر معين من زوايا مختلفة. وكثيراً ما يبدؤ محاوره وهو يتبنى موقفاً وينتهي الحوار وهو يدافع عن نقيضه فيما يسمى منهج إلِينخوس أو منهج سقراط.

لكن السؤال في الفلسفة ليس للتحدي وإنما للبناء على ما استقر لدى العقلاء ولإعمال التفكير وإجالة النظر بحثاً عن الوصول بدلالة معلوم إلى مجهول. إن السؤال ليس مرادفاً للشك، بل مرادفاً للرغبة الصادقة في التعلم. وإن من أهم المباديء الفلسفية التي يجب أن نغرس في طلابنا هو أن العالم أو الفيلسوف لا يفكر لوحده وإنما يفكر من خلال تقاليد علمية عريقة وفي حوار دائم مع من سبقوه في هذا المجال. إن الدعوات لتجاوز التراث قد تكون في حقيقتها دعوة للجهل. ولذلك نقول إن القطيعة مع التراث خطأ، والتقوقع فيه خطيئة.

فإذا فهمت الفلسفة فهما يتجاوز ثمراتها اللحظية، إلى جوهرها التساؤلي لم نجد فيها ما يفترض تناقضا أو تعارضا محتوما مع الدّين، بل لا يعدم المتكلم والفقيه وغيرهما من أصحاب النظر الديني فائدةً بمحاورتهم للقول الفلسفي، في توسيع مداركهم وإحكام مناهجهم وتبسيطها.

والغاية الكبرى من التعليم الفلسفي في عالمنا العربي ينبغي أن تكون إعادةَ المنطق إلى حياةِ الناس وأن نعيد برمجة العقول للتفكير الإيجابي ومركزة العقل في الخطاب الديني من خلال مفاهيم المصلحة والحكمة والعدل والرحمة.

 

سؤال الأخلاق في الفلسفة:

أيها الحضور الكريم، نجتمع اليوم وبالتزامن مع اليوم العالمي للفلسفة للحديث عن موضوع هام هو “الفلسفة والأخلاق”. لقد نال سؤال الأخلاق مكانة كبيرة في تاريخ الفلسفة منذ بواكيرها الأولى، لأن موضوعه هو الإنسان، كيف يعيش حياة فاضلة، وكيف يتعايش مع الآخرين في سلم. إنه مجال لا ينفك يشغل الفلاسفة في كل عصر وإن كان محل سؤاله يختلف من عصر إلى آخر. فإن كانت أخلاقيات الحرب والسلم والتعايش قد نالت نصيب الأسد من الدراسات بعد الحربين العالميتين، فسؤال الأخلاق في هذا العصر يتناول مواضيع كالأخلاقيات الطبية وأخلاقيات الذكاء الصناعي وإشكال الهجرة وغيرها من الإشكالات الراهنة.

ولعلنا نبدؤ بلمحة عن تعريف الأخلاق من ناحية فلسفية. الأخلاق هي تلك السجايا الكامنة في النفس، وهي أيضًا المظهر الخارجي لتلك السجايا. وقد رأى بعضهم: “أن الخلق هو صفة نفسية لا شيء خارجي، والمظهر الخارجي هو سلوك أو معاملة”.

والأخلاق تجاورها ثلاث كلمات: القيم – الفضيلة – المبادئ؛ إذا راجعنا ما يمكن أن يرادف هذه الكلمات في اللغات الغربية لوجدنا كلمة Valeurs باللغة الفرنسية، ومن معانيها ما يعتبر حقاً وجميلاً وخيراً طبقاً لمعايير شخصية أو اجتماعية، ويوظف كمعيار ومرجع لمبدأ خلقي. كذلك كلمة Éthiques التي تدل على ما يختص بالمبادئ الخلقية ومجموعة قواعد السلوك. وكذلك أيضا كلمة Vertu التي تدل على الفضيلة، وهي استعداد دائم لفعل الخير؛ فتدل على جزء من المعنى لأنها تدل على مكارم الأخلاق.

إن الأخلاق توفر الأمنَ النفسيّ للفرد، والأمنَ في العلاقات الاجتماعية، والأمنَ في المعاملات، والأمنَ في احترام النظام والتعليمات من خلال الصدق، والاستقامة، وحسن المعاملة، واحترام القيم، ذلك كله هو حسن الخلق: إيمان بالحق، وإحسان على الخلق.

بشكل عام يمكن رجع الأخلاق إلى مصدرين أساسيين: المصدر الديني، والمصدر المنطقي العقلاني، وسنبدؤ بهذا الأخير في هذه العجالة.

يقسم ابن مسكويه الأخلاق في كتابه “تهذيب الأخلاق” إلى قسمين: قسم طبيعي من أصل المزاج، وآخر مستفاد بالعادة والتدرب وهو يرد الأخلاق إلى العقل لأنه يعتبر الحس خداعاً لكنه ظل يشير إلى الفضيلة والوسطية.

وفي العصر الحديث ربما كان “كانط” أشهر العقلانيين في ميدان الأخلاق، فقد كان يعتقد أن خرق القانون الأخلاقي هو أيضًا خرق لقانون المنطق. فاللاأخلاقية تنطوي دائمًا على تناقض. وقد أصل الأخلاق بفصلها عن الدين وأسس على قاعدة الأمر الكلي القطعي.

إلا أن كانت مع عقلانيته يذكرنا في مكان آخر أن هذه المبادئ الإنسانية لا يمكن مراعاتها إلا بالدين، وذلك في النص التالي: “الأخلاق إذن تقود ولا بدّ إلى الدين، الذي بواسطته ترقى إلى فكرة مُشرّع أخلاقيّ خارج الإنسان، بحيث تكمن في إرادته تلك الغاية القصوى التي يمكن ويجب في نفس الوقت أن تكون الغاية القصوى للإنسان”.

إن أهم موجة فلسفية زعزعت ما استقر لدى البشرية من قيم خلقية هي فلسفة ما يسمى بـ(التنوير)، ذلك ما وصل إليه الفيلسوف الاسكتلندي ماكنتاير صاحب كتاب “بعد الفضيلة” Après la vertu. وخلاصة كتابه هو أن تجربة الفلسفات الأخلاقية الحديثة قد فشلت في إيجاد مقاربة عقلانية عرية عن الغائيات مجردة من الفضيلة لا مرجعية لها من تقليد أو دين.  لقد أنزلت هذه الفلسفات الإنسان من مخلوق مكرم إلى كائن محبوس في كينونته، فهو مختزل عند هيوم في عاداته، وعند فرويد في سلوكياته، وفي أصله ونسبته عند داروين.

 

إن التذمر من التحدي الأخلاقي ليس بالأمر الجديد. سأقرؤ عليكم نصاً وأريدكم أن تتوقعوا قائله:

“فقد الناس فضيلة الحياء، وصار التطاول علامة على الذكاء. صاروا يهتمون بالمنافع العاجلة، انعدم احترام الكبار. لم يعد الشباب يرجعون للكبار وصار الكبار يتصرفون وكأنهم صبية. تقلصت الفروق بين الجنسين. أصبح الناس يضيقون ذرعاً بأدنى قيد على حريتهم ويتذمرون من الأحكام والشرائع.”

 

قائل هذا النص ليس قساً أو راهباً أو واعظاً يتذمر من زمننا، بل أفلاطون وهو ينتقد الأخلاق في عصره[1]. لذا دافع في أكثر من حوار عن فكرة أن الإنسان لا يمكن أن يكون مصدراً أو معياراً للأخلاق والقيم بل لا بد من مصدر خارجي. وما أقرب هذا من قول أبي حامد الغزالي في التهافت: “وعلم الأخلاق طويل والشريعة بالغت في تفصيلها ولا سبيل في تهذيب الأخلاق إلا بمراعاة قانون الشرع في العمل حتى لا يتبع الإنسان هواه فيكون قد اتخذ إلهه هواه بل يقلد الشرع فيقدم ويحجم بإشارته لا باختياره فتتهذب به أخلاقه”.

المصدر الخارجي الذي يتحدث عنه أفلاطون والغزالي لا يمكن إلا أن يكون المصدر الديني وإلا فكيف نوفر خلق بر الوالدين والشفقة على الصغير وتوقير الكبير إذا لم نغرس في المجتمع: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً). إن الإلزام بهذه القيم والالتزام بها لا يحصل إلا بالإيمان بتسامي مصدرها وسمو غايتها. إن قيم العائلة والفضيلة والكرامة ضرورية حتى نحول دون التفكك العائلي والأنانية التي تقود إلى أخلاق الإنسان الأخير كما وصفه فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” وهو يقول إنه انسان نذل لا كرامة له ولاغيرة.

حلول للمستقبل:

إن انتهاج مبدأ الموائمة وأسلوب التجسير بين الفلسفة والدين الذي تحدثنا عنه في بداية هذه الكلمة سيكون من ميادينه إعادة الاعتبار للفضيلة كقيمة فلسفية مؤسّسة، وإعادة الاعتبار للمباديء الكبرى كمبدء السببية والغائية وهي مباديء يؤدي إهمالها إلى تقويض الفلسفة نفسها أو كما يقول ابن رشد إن إلغاء السببية هو إلغاء للعقل ذاته.

إن لقاء الفلسفة مع علم الكلام كان في بواكير العصر الإسلامي. وإننا مدعوون إلى تحقيق التوازن بين جملة من التجاذبات بين الكليات، ، وتجسير العلاقة بين عالمَيْ الأفكار والأشخاص، فبدلاً من واقع قيم تهاجم وقيم تقاوم، يكون التعاون والتعاضد والتآزر والتعارف هو عنوان المرحلة.

وأخيراً، فإن طموحنا أن تصبح جامعتنا في مصاف الجامعات العريقة التي تُكَوّن فقهاء فلاسفة وفلاسفة فقهاء على غرار كلية اللاهوت بجامعة كامبريدج التي تخرج لاهوتيين فلاسفة، وبذا نحقّق طموح دولتنا الساعي دوماً إلى الإبداع ولازدهار والاستقرار.

أتمنى لمؤتمرنا هذا التوفيق والنجاح وأشكركم على حسن إصغائكم.  والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

[1] الجمهورية، الفقرات٥٦٠-٥٦٤. النص من اختصار جوناثان ساكس في كتابه “الشراكة الكبرى”.

العلامة عبد الله بن بيّه: اللغة العربية جديرة بأن تنال حظها وتحظى بنصيبها في اهتمام الجامعات والمؤسسات العلمية

   


قال معالي العلامة عبد الله بن بيّه رئيس منتدى رئيس المجلس العلمي الأعلى لجامعة محمد زايد للعلوم الإنسانية إن اللغة العربية جديرة بأن تنال حظها وتحظى بنصيبها في اهتمام الجامعات والمؤسسات العلمية وبخاصة تلك التي تتمتع بطموح وسعي للتميز.

وأكد معالي العلامة اليوم الثلاثاء في كلمته الافتتاحية لمؤتمر اللسانيات الحاسوبية واللغة العربية، أنه “إذا كانت اللغة العربية من مبتدئ تدوينها دائرة على منطق دقيق واستقراء عميق فأحرى أن تكون بذلك أقرب وأيسر في البرمجة والحوسبة التي مدارها كذلك على المنطق الرياضي”.

وأضاف رئيس منتدى أبو ظبي للسلم أن “المراد هنا كيف نستطيع من خلال إمكانات الحاسوب البرمجية ومتاحات الذكاء الصناعي استيعاب اللغة العربية بمجازاتها واستعاراتها وكناياتها وظاهر دلالاتها”.

وخلص معالي الشيخ عبد الله بن بيه إلى أن “موضوع هذا المؤتمر هو اللغة العربية في جانب من جوانبها وزاوية من زواياها تتعلق بالتجديد، إن لم يكن في الأساس فهو تجديد في الوسائل”.

كلمة في مؤتمر اللسانيات الحاسوبية واللغة العربية

   

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين

 

كلمة في مؤتمر اللسانيات الحاسوبية واللغة العربية

يومي 25 و26 اكتوبر 2022م

 

معالي الدكتور حمدان مسلم المزروعي رئيس مجلس أمناء الجامعة

أصحاب المعالي والسعادة، أصحاب السماحة والفضيلة،

أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

وبعد، فيسرني الحضور معكم اليوم مرحباً بضيوف جامعتنا الكرام مثنيا على جهود إدارة الجامعة في تنظيم هذه الفعالية الهامة ودعوة هذه النخبة المميزة من أعلام الفكر واللغة وعلماء الحاسوب.

إن موضوع مؤتمركم هذا هو اللغة العربية في جانب من جوانبها وزاوية من زواياها تتعلق بالتجديد، إن لم يكن في الأساس فهو تجديد في الوسائل، وذلك يندرج في رؤية دولتنا، دولة الإمارات العربية المتحدة، وقيادتنا الرشيدة في تشجيع التجديد والابتكار في شتى الميادين ومختلف الفنون.

وإن اللغة العربية جديرة بأن تنال حظها وتحظى بنصيبها في اهتمام جامعاتنا ومؤسساتنا العلمية وبخاصة تلك التي تتمتع بطموح وسعي للتميز كمثل جامعتنا، جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية. ولذلك كان هذا المؤتمر بعنوان “مؤتمر اللسانيات الحاسوبية واللغة العربية”. وهو موضوع له جدته وجديته لما يمثل من سعي لتمكين اللغة العربية من الولوج في مجالاتٍ ظلت حصراً على بعض اللغات العالمية.

وإذ أرحب بكم باسم جامعتنا وأشارككم هذا الاجتماع العلمي الرفيع فأود أن أقول كلمة وجيزة عن هذه اللغة العربية القديمة الحديثة. إن تاريخ اللغات وبخاصة السامية يصعب تحديده بزمن أكيد إلا أن اللغة العربية حسب الروايات التاريخية ترجع إلى حوالي أربعة آلاف سنة إذ أن المؤرخين يذكرون أن سيدنا إسماعيل عليه السلام تعلم اللغة من جرهم وهي من القبائل العربية البائدة من أصول قحطانية كجديس وطسم وعاد وثمود. هذه هي الروايات التي يذكر المؤرخون العرب. ولا توجد نصوص أدبية ترجع إلى ذلك العهد بل إن بعض الروايات التي لا يمكن الحكم بصحتها تنسب شعراً إلى أبي البشرية آدم باللغة العربية.

تغيرت البلاد ومن عليها        فوجه الأرض مغبر قبيح

 

إلا أن الله علم آدم الأسماء كما جاء في القرآن الكريم فإذا كانت الأسماء هي اللغات كما يروى عن ابن عباس فلا شكّ أن العربية كانت من بينها. مهما يكن من أمر فالأشعار التي وصلت إلينا ترجع إلى أقل من ألفي سنة كأشعار الأفوه الأودي وغيره.

ولقد صارت العربية بفضل القرآن الكريم لغةَ عِبادَةٍ، وهي أيضاً وَسيلة فَهْم الشريعة، هذه الوظيفة التعبدية للغة العربية (على خلاف عن أبي حنيفة الذي رأى قراءة القرآن باللغة الدارية)، وهذه الميزة ربما لا يشارك فيها من اللغات الحية إلا العبرية القديمة. وأما النصارى الكاثوليك فكانوا يتعبّدُون باليونانيّة ثم اللاتينية، باعتبار أن الأولى هي التي ترجم إليها العهد الجديد من النسخة الأصلية الضائعة التي لا يعرف أكانت باللغة السريانية أم بالعبرية؟ وقد سمح الفاتيكان في المجمع المسكوني لسنة 1965 بأداء الطقوس بلغة كل قوم.

أما خارج الوظيفة الدينية، فإن اللغة العربية كسائر اللغات في أداءِ وَظِيفَتَيْ التَّعْبيرِ والاتِّصالِ، التعبير عن الأفكار والتواصل مع الآخرين، Communication. ولذلك فإن العربية محترمة ومعتبرة، وهو احترام واعتبار تشاركها فيه عند بعض العلماء كلُّ اللغات لأن الحرمة للحروف كما يقولون. كما أن اللغة العربية هي لغة الضاد ولغة المثنى أي صيغة التثنية وهي ما دل على اثنين وأغنى عن المتعاطفين بزيادة ألف ونون في حالة الرفع ، أو ياء ونون في حالتي النصب والجر، على أن اللغة العبرية -فيما علمنا- احتفظت بألفاظ قليلة تأتي فيها صيغة التثنية.

 

أيها الحضور الكريم،

إن اللغة العربية لغة تنتمي للمستقبل بخوارزمياته وعملياته المعقدة. وإن نظرة على تاريخ تطورها توضح هذا المنحى. فقد كان أحد روادها الأوائل وهو الخليل بن أحمد يتمتع بعقلية رياضية. يذكر أنه توفي وهو يبحث في معادلات رياضية دقيقة. من خلال ذلك اخترع العروض ووضع أول قاموس للغة العربية “كتاب العين” وكانت منهجيته أن يرتب الأحرف حسب ترتيبها في المخارج متدرجة من حلقية إلى شجرية إلى ذلقية إلى شفوية. أو ما سماه الشاطبي موازين الحروف.

وَهَاكَ مَوَازِينَ الْحُرُوفِ وَمَا حَكَى … جَهَابِذَةُ النُّقَّادِ فِيهاَ مُحَصَّلَا

وَلاَ رِيَبةٌ فِي عَيْنِهِنَّ وَلاَ رِبَا … وَعِنْدَ صَلِيلِ الزَّيْفِ يَصْدُقُ الاِبْتِلَا

 

فيأخذ جذراً وينظر تقلباته والإمكانات المتاحة لتصاريف هذا الجذر وبناء على هذه الإمكانات يضع قائمة للأصول المستعملة في مقابل الأصول المهملة. على سبيل المثال ج ذ ب هو جذر ثلاثي -والأقل من الثلاثي كما تعرفون لا يكون أصلاً-.

“وليس أدنى من ثلاثي يرى***قابل تصريف سوى ما غيرا” كما يقول ابن مالك

هذا الثلاثي له تصاريف مختلفة وإن شئت فقل تقلبات فهذه التصاريف بناء عليها وعلى ما سمع من العرب فيها نضع قائمة الأصول المستعملة بعضها يكون كل هيئة منه أصلاً وبعضها تكون فرعا. والفرق بين الأصل والفرع أن الأصل يتصرّف والفرع لا يتصرّف.

والجذر “ض ر ب”، يمكن أن نأخذ منها “ضرب” وهو مستعمل و”ضبر” و”ربض” و”رضب” و”برض” و”بضر” وكلها أصول مستعملة. ومن برض قول ذي الرمة:

“رعت بارض البهمى جميماً وبسرةً وصمعاء حتى آنفتها نصالها”

 

والمراد أن اللغة العربية بدء تدوينها بصفة شبه رياضية مذ عني بها الخليل ومن قبله قام أبوالأسود الدؤلي بوضع الشكل على الحروف كما أسس الخليل العروض كذلك بأشكال شبه موسيقية. وقد اهتم بتصاريف اللغة، والصرف يختلف عن النحو فهو يهتم ب”كينونة اللفظ” أما النحو فيهتم بأواخر الكلم وعلاقته بالعوامل الخارجية. فالحروف وأشباهها لا تتصرف بمعنى أن هيئاتها لا تتقلب:

حرف وشبهه من الصرف بري***وما سواهما بتصريف حري

 

وإذا كانت اللغة العربية بدأت هكذا فهي إذاً قابلة للتطوير والتطور. ويمكن أن نعتبر أن الأجيال التي تعاقبت اهتمت بالنحو على حساب الصرف وأن ابن جني وشيخه أباعلي الفارسي لم يتابعهما الناس في عنايتهما بما يسمى بالاشتقاق الكبير أو الأكبر. وهو ما يدعى بالقلب المكاني وهذا معنى الاشتقاق الكبير، أما الاشتقاق الأكبر فهو قلب حرف إلى حرف آخر فالأحرف تتعاقب وتتعاور.

فهل يمكن الآن أن نعود إلى أصول هذه الصناعة عند الخليل وعند ابن جني وشيخه لنفيد منها في الحاسوبية علماً أن الأبجدية العربية وإن اشتملت على ثمانية أو تسعة وعشرين حرفاً فيمكن رجعها إلى عدد أقل عندما نعرف أن أربعة أحرف تمثل حرفاً واحداً الباء والتاء والثاء والياء هي في الحقيقة حرف واحد إذا عريناه من النقاط التي دخلت متأخراً في رسم القرآن الكريم، وكذلك الجيم والحاء والخاء حرف واحد. وحتى التشكيل فإن الفتحة والكسرة كما يقول أهل رسم القرآن عبارة عن ألف مبطوحة في الأعلى والأسفل والضمة عبارة عن واو مطموسة الرأس.

فإذا كانت اللغة العربية من مبتدئ تدوينها دائرة على منطق دقيق واستقراء عميق فأحرى أن تكون بذلك أقرب وأيسر في البرمجة والحوسبة التي مدارها كذلك على المنطق الرياضي. والمراد هنا كيف نستطيع من خلال إمكانات الحاسوب البرمجية ومتاحات الذكاء الصناعي استيعاب اللغة العربية بمجازاتها واستعاراتها وكناياتها وظاهر  دلالاتها…ذلك ما نأمل أن يسهم هذا المؤتمر فيه من خلال التعاون والتكامل بين علماء اللغة والمختصين في التقنية والشراكات بين المؤسسات الأكاديمية والقطاع الخاص.

هذه أفكار متناثرة لكن المختصين والخبراء في مؤتمرنا هذا بإمكانهم أن يجدوا فيها أو في الرجوع إلى أصلها ما ينجدهم في البرمجة ويسعدهم في الحوسبة.

 

وختاماً، أشكركم جميعاً وأدعو الله أن يبقي بلدنا هذا بلد خير ونماء وعطاء ونفع للناس، وأن يحفظ قيادتنا الرشيدة من كل ضر وباس، وأن يصلح أعمالنا وأن يجعل اجتماعنا اجتماع خير وأن يكلّله بالنجاح إنّه ولي ذلك والقادر عليه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

     

خطاب الى مؤتمر طاولة طوكيو المستديرة للسلام:ما بعد الحرب ونحو المصالحة

   
     

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين

 

كلمة في مؤتمر أديان من أجل السلام

في الفترة من 20 إلى 24 سبتمبر في طوكيو باليابان

 

سعادة الدكتورة عزة كرم، الأمين العام لمنظمة أديان من أجل السلام

القس الدكتور شينوهارا، الأمين العام لمنظمة أديان من أجل السلام آسيا وأديان من أجل السلام اليابان

 

أصحاب المعالي والسعادة، أصحاب السماحة والفضيلة،

أصحاب الغبطة والنيافة،

أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

يطيب لي بادئ ذي بدء أن أتوجّه إلى منظمة “أديان من أجل السلام” بجزيل الشكر على الدعوة لهذا اللقاء الهامّ.

مع الاعتذار لعدم التمكن من الحضور معكم مباشرة لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، واسمحوا لي بين يدي هذه الجلسة أن أقدم بعض الأفكار السّريعة التي أرجو أن تكون مساهمة في التفكير في هذا الموضوع الملح ومنطلقا للحوار حوله.

 

أيها الأخوة والأخوات،

يأتي مؤتمرنا هذا في وضع دولي مضطرب يزيد من مستوى التحديات التي تواجه البشرية، فمن تحديات الأزمة الصحية التي لا تزال تلقي بظلالها على أجزاء من العالم إلى تحديات الاقتصاد والتضخم الذي تشهده الأسواق العالمية إلى تحدي الأمن وخطر الحروب والتوترات الحاصلة في مناطق من العالم.

ولقد أكدت الأزمات الراهنة والتوترات الحاصلة أن السلم كل لا يتجزأ وأن أي إخلال به ستنعكس آثاره على البشرية في كل مكان فالحروب في هذا الزمان لا تقف آثارَها عند الحدودِ الجغرافية لميدان المعركة بل تتعداها إلى باقي أصقاع العالم.

كما بينت الحروب الدائرة حاليا في أجزاء من العالم أن شياطين الحروب ما تزال كامنة في النفوس ولذا فإن من مسؤولية القيادات الدينية كما رجال السياسة معالجة هذه الأفكار في النفوس والأذهان قبل أن تخرج إلى العيان.

إن الوعي بهذه الضرورة هو الذي يوجه لقاءنا اليوم، حيث نستشعر جميعا الحاجة إلى أن تتكامل أدوارنا، انطلاقا من مواقعنا ودوائر تأثيرنا، لنسهم في استعادة الضمير الأخلاقي للإنسانية، الذي يعيد الفاعلية لقيم الرحمة والغوث ومعاني التعاون والإحسان.

ولاشك أن درجة التشابك بين مصائر الشعوب وأوضاعها في سياق العولمة المعاصرة فرضت الشعور الواعي بحقيقة الانتماء للبشرية كعائلة كبرى وللأرض كوطن أشمل، وهو ما يسميه البعض مواطنة كونية، المطلوب التحقّق بها من خلال تجسيد روح ركاب السفينة التي ضرب بها النبي صلى الله عليه وسلم المثل، روح ركاب السفينة الذين يؤمنون بالمسؤولية المشتركة وبالحرية المسؤولة المرشّدة وبواجب التّضامن والتعاون.

بروح ركاب السفينة ننشد عالما تكون فيه ثمرات العقول مبذولة لفائدة الجميع فلا يستأثر بها القوي أو يحتكرها الغني، عالما تتنافس فيه الأمم في الخير، وتستبق فيه الدول في تقديم الضيافة التي تستند إلى الكرامة الإنسانية، والتي تجعلك ترى الغريب قريبا، تراه أخا وصديقا، تقابله بحسن الظن، تؤويه إلى بيتك وتبذل له البر والإحسان، من غير سابق معرفة بينكما.

أيها الحضور الكريم،

لقد برز دور المجتمعات الدينية في العقود الأخيرة من خلال عملها الدؤوب لإيجاد فرص للسلام وذلك من خلال جهود نظرية وعملية. أما النظري منها فيتعلق بتأكيد دعوة الدين إلى السلام وأن الدين في أصله دعوة للسلم، وهذا يستبطن الرد على النظريات التي تعتبر أن السلام لايمكن أن يكون دائما ومستمرا الا باستبعاد الدين من الحياة العامة وتربط بشكل تلقائي بين الدين والعنف، ليكون ذلك أساسا للدعوة إلى المفاصلة بين الدين والدنيا كحلٍّ وحيد لإرساء أسباب التسامح والتعايش في المجتمع.

لكن الحروب في القرن الأخير على الأقل وبخاصة الحربين العالمية الأولى والثانية لم تكن دينية أو من منطلق ديني، بل كانت حروبا استراتيجية، حروب نفوذ تعيد توزيع المجالات والفضاءات وترسم خرائط الموارد وتقسم الأسواق، وتحدد طرائق المبادلات والمواصلات.

وهكذا قامت القيادات الدينية من مختلف الأديان بجهود لتبرهن على أن الدين قوة سلام، من خلال العودة إلى نصوصهم المقدسة ليستثيروها وإلى تراثهم ليستمدوا منه الأسس المتينة للتسامح والتعايش ويستلهموا النماذج المضيئة التي يسهم إحياؤها في إرساء قيم الخير والسلام في نفوس معتنقي الديانات، لأنّه بالرجوع إلى النصوص وإلى التأويل المناسب والمقارب يمكننا التصدي لمروجي الكراهية والعنف.

كما انتهضت هذه القيادات في الآن نفسه للكشف عن المشتركات بينها لتستبعد الحروب والصدام فيما بينها. تلك المشتركات التي تصون كرامة الإنسان وترفع من شأنه، من خلال العناية بما نسمّيه في الإسلام بالكليات الخمس، وهي الدين والحياة والعقل والملكية والعائلة، والتي نعتبر أنها هي أساس المشترك الديني بين كل الشرائع والملل، فجميعها جاءت بحفظها ورعايتها.

كما نشترك على مستوى أشمل مع سائر البشرية في المشترك الإنساني الذي هو القيم الكونية التي لا تختلف فيها العقول ولا تتأثر بتغيّر الزمان أو محددات المكان، أو نوازع الإنسان، إنها الحقوق الطبيعية الفطرية التي يرثها كل إنسان بفضل وجوده، “وهي حقوق إلهية المصدر ممنوحة للمؤمن وغير المؤمن”.

و في هذا السياق أصدرت وثائق لها وزنها. وهي مواثيق ووثائق تقوم على تشجيع مبادئ الكرامة الإنسانية، كما تدعو في الوقت نفسه إلى مبادئ التسامح والسلم والرحمة والتضامن، فتؤسس بذلك لنموذج متوازن من التسامح المهذب والحرية المسؤولة والمواطنة الإيجابية والاقتصاد الإيجابي المتضامن. ومن ذلك على سبيل المثال وثيقة الأخوة الإنسانية ووثيقة كلمة سواء ووثيقة مكة المكرمة وكذلك الوثائق التي أصدرناها في منتدى ابوظبي للسلم كوثيقة حلف الفضول (٢٠١٩) وإعلانات مراكش (٢٠١٦) وواشنطن (٢٠١٨) وأبوظبي (٢٠٢١).

 

أيها السادة الأجلاء،

إن الانتقال بهذه المبادئ من حيز التنظير إلى واقع التجسيد أمر ممكن ومطلوب،  بحيث لا تكون هذه الوثائق مجرد مبادئ نظرية مبتوتة الصلة بالواقع، لا فاعلية لها، بل يجب العمل على ترجمتها وبلورتها في مناهج عملية وبرامج تطبيقية، تتنزّل في المدارس تعليما للناس، وفي المعابد تعاليم للمؤمنين، وفي ساحات الصراع وميادين النزاع، طمأنينة تحلُّ في النفوس، وأملا يعمر القلوب.

وقد تحقق شيء من ذلك حيث وصلت بعض هذه الوثائق والمبادرات إلى صناع القرار وتبنتها الدول فانتقلت من إطار الأفكار إلى ميدان العمل والتطبيق.

وإن مؤتمركم اليوم مدعو لمتابعة النظر في أفضل السبل لتفعيل جهود القيادات الدينية والخروج بخطوات عملية لتحقيق ذلك.

وفي سياق السلم، أصبحت دولتنا -الإمارات العربية المتحدة- بقيادة صاحب السمو رئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد حفظه الله، مثابة للسلم ومأوى لمريدي الخير، حيث احتضنت وثائق ومبادرات الحوار والسلام وكانت أول دولة تنشيء وزارة خاصة (بالتسامح والتعايش) بل جعلت قيمة السلم احدى المبادئ العشر الرئيسية لاستراتيجية الدولة في الخمسين سنة القادمة.

وختاماً أرجو أن يستمر إسهام القيادات الدينية في نشر السلام والوئام في العالم أجمع، متمنيا لهذا المؤتمر النجاح والتوفيق.

 

أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة

   

أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة
فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الحى القيوم، العزيز الحكيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الصراط المستقيم ، وعلى آله وصحبه أهل العلم الصحيح والمنهج القويم والذوق السليم . وبعد؛ فهذا بحث في نقود الكاغد محذوف الشواهد، مطروح الزوائد، يحتوي – إن شاء الله – على بعض الفوائد، لا يدعي اقتناص الشوارد، ولا تقيد الأوابد، في مجال لم يترك الرواد فيه وشلا لوارد، صغته في شكل مسائل، وسلكت فيه سبيل أهل الفتوى في النوازل، لا أقول فيه كما قال الشاعر :
كَمْ تَرَكَ الْأَوْلُ لِلْآخِر
بل اكتفى على قدر الجهد بالاتباع، واغتني بنصيف المد عن تطفيف الصاع .
فضيلة الشيخ عبد الله ولد بيه
أستاذ بجامعة الملك عبد العزيز
كلية الآداب
جدة في 20/1/1407هـ
__________

(2/2020)

————–

التعريف :
النقود جمع نقد ، وهو في الأصل مصدر لنقد إذا ميز الدراهم الجياد من الزايفة، أو إذا أعطاها معجلة، إلا أنه مصدر وُصف به ، فقيل : درهم نقد : أي جيد، وأصبح فيما بعد اسما لواسطة التبادل ، وتنوسي أصل المصدرية كما تنوسي أصل الوصفية، فأصبح مرادفًا للدرهم والدينار وما في معناهما، وذلك ليس بمستبعد من الناحية اللغوية .
فالوصف إذا كثر استعماله يقوم مقام الموصوف ، فلا يحتاج إلى تقدير موصوف ، كقولهم : هبت الجنوب والشمال، بدون حاجة إلى ذكر الريح، وكالهجان أصلها صفة للأبل البيض الكرام ، يستوي فيها الفرد والجمع ، والمذكر والمؤنث ، يقال : جمل هجان وإبل هجان قال جرير :
سيكفيك العواذل أرحبي   هجان اللون كالفرد اللياح

ويجمع على الهجن والهجائن، وأصبحت الهجن وصفًا قائما ًمقام الإبل مهما كان لونها ، فيقولون : سباق الهجن، وله أصل في اللغة العربية قال الشماخ :
أعائش ما لقومك لا أراهم   يضيعون الهجان مع المضيع

يريد به الإبل، وكانت زوجته عائشة تلومه على عدم إتلاف ماله فردّ عليها بأن قومها لا يتلفون مالهم، (ذلك رأى سيبويه الذي حكم بأصالة (لا) في البيت) .
__________

(2/2021)

————–

ونعتقد أن هذا التفسير سائغ لدى النقاد ، فلا نحتاج إلى ذكر النقاد، وتتبع مادة نقد كما فعل القس الكرملي الذي جعله من النقاد لجنس من الغنم وهو بعيد ، بل أصله وصف أخذ محل الموصوف بسبب كثرة الاستعمال ، فأصبح يوصف كما قال مرتضى في التاج : ونقود جياد . وكذلك الزمخشري في أساس البلاغة فوصف النقود بأنها جياد، يعنى أنها أصبحت اسما يوصف بدلاً من أن تكون وصفًا يصف .
التعريف الاصطلاحى :
كلمة (النقود) قد مرت بمراحل وتطورات فقهية جعلت من الصعب تعريفها تعريفًا ثابتًا لا علاقة له بالزمن، ولا يعرف المخاطبين . إذن فالتعريف يمكن أن يكون عرفيا، ومن المعلوم أن الحقيقة العرفية لا يُلجأ إليها إلا بعد عزل الحقيقة اللغوية ؛ لعدم أدائها للمعنى المطلوب وانعدام الحقيقة الشرعية، فهذه الكلمة بعد أن رأينا أنها كانت يعنى بها الدرهم الجيد الكامل – لغةً – نجدها تطلق على النقود : الذهب والفضية، ونجدها بعد ذلك تختص بالمضروب منها دنانير ودراهم .
قوله : ” نقد ” يوهم قصر الربا على المسكوك ؛ لأن النقد خاص به ، فتكون مرادفة للعين . قال الخطابي : التبر قطع الذهب والفضة قبل أن تضرب وتطبع ، والعين المضروب دنانير ودراهم . القرطبي .
وانتشر التعبير بالنقد في كل ما استعمل ثمنًا للأشياء وغيرها مما يكون واسطة للتبادل، ويشعر إمام الحرمين بالحرج لذلك فيقول : “قال قائلون ممن يصحح العلة القاصرة : فائدة تعليل تحريم التفاضل في النقدين تحريم التفاضل في الفلوس إذا جرت نقود” إلى آخر كلامه الذي قد نتعرض له في مناقشة الربوية (1) .
__________
(1) البرهان : 2/1082-1083 .

(2/2022)

————–

فإمام الحرمين لا ينفي إطلاقا إطلاق الاسم على الفلوس ؛ لأنه مرادف للوساطة في التبادل أي الثمنية، وإنما ينفي النتائج المترتبة على ذلك .
وقد انتشر هذا التعريف للنقد في أوساط الفقهاء، وهنا يلتقي الفقهاء مع تعريف الاقتصاديين الذي يتمثل باختصار في كون النقد كل شيء يلقى قبولاً ورواجًا كوسيط للتبادل ، مهما كان ذلك الشيء، وعلى أي حال يكون . ولا نطيل عليكم بذكر التعريفات المختلفة .
وهذا التعريف للنقد لا نجد حرجًا من قبوله كمصطلح اقتصادي ، فقد رأينا أن الفقهاء وصلوا إليه في النهاية، وخصوصًا المدرسة المعللة بالثمنية المتعدية ، فقد بالغت في ذلك حتى إن ابن العربي ضرب مثلاً بالخبز في بغداد ، وقد شاهده كوسيلة تبادل حتى إن الحمام يُدخل به .
فهذا هو غاية تطور كلمة النقد عند الفقهاء، ولا نطيل عليكم بتطور النقود في أوربا من سندات إلى أوراق معتمدة لها غطاء وبدون غطاء ، فهذه أمور معروفة لديكم .
__________

(2/2023)

————–

أحكام النقود الورقية في مسائل
المسألة الأولى
حكم طبع النقود الورقية هو الجواز إذا خضع لضوابط تمنع إنزال الضرر بالناس لحديث (( لا ضرر ولا ضرار )) . أخرجه مالك في الموطأ مرسلاً وأحمد وأبو داود ، وقال السيوطي : إنه صحيح .
ولهذا فيمنع إحداث نقود تؤدي إلى الفوضى والتضخم ، فلا يجوز للأفراد ولا للسلطة أن تحدث ذلك للقاعدة الشرعية .
فالعفو هو الأصل، وإن كانت السكة في ذلك الوقت تعني الدنانير الهرقلية والدراهم البغلية الفارسية التي كانت ترد على العرب، وأقرب في زمنه صلى الله عليه وسلم وفي زمن الخلفاء الراشدين ، حتى زمن دولة بنى أمية ، حيث ضرب عبد الملك بن مروان سنة خمس وسبعين السكة (1) .
وقد ظهرت الفلوس في صدر الإسلام بجانب الدناير والدراهم ، كما تدل عليه فتاوى الأئمة الكبار في ذلك الوقت؛ قال السيوطي في الحاوي : التعامل بالفلوس قديم . وبعد ذكره التعريف اللغوي قال : “قال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا محمد بن أبان عن حماد عن إبراهيم قال : لا بأس بالسلف في الفلوس” . أخرجه الشافعي في الأم، والبيهقي في سننه دليلاً على أنه لا ربا في الفلوس . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن مجاهد “لا بأس بالفلس بالفلسين يدا بيد” .
وأخرج عن حماد مثله، وأخرج عن الزهري أنه سئل عن الرجل يشتري الفلوس بالدراهم ، قال : “هو صرف فلا تفارق حتى تستوفيه” .
وذكر الصولي في كتاب الأوراق أنه سنة إحدى وسبعين ومائتين ولي هارون بن إبراهيم الهاشمي حسبة بغداد في زمن الخليفة المعتمد ، فأمر أهل بغداد أن يتعاملوا بالفلوس ، فتعاملوا بها على كره ثم تركوها” .
__________
(1) البلاذري في فتوح البلدان .

(2/2024)

————–

وكانت خاصة باشتراء المحقرات كما يقول المقريزي في كتابه : “إغاثة الأمة بكشف الغمة” : “إن سبب ضرب الفلوس أيام الكامل من الدولة الايوبية ، هو شكوى امرأة إلى خطيب الجامع بمصر أبي الطاهر المحلي مسألة من مسائل الصرف الربوي تصعب السلامة منها ؛ لأنها تشتري الماء من السقاء بنصف درهم ، فتعطي درهما ويرد السقاء نصف درهم ورقا، فكأنها اشترت الماء ونصف درهم، فأنكر أبو الطاهر ذلك وكلم السلطان ، فضرب الفلوس ، واستمر الناس في ذلك حتى أصبحت هي الرائجة في مصر، وحلت محل الذهب والفضة ، وخصوصًا أيام السلطان برقوق إلى أيام المقريزي في القرن التاسع .
ولعله يشير بهذه الحكاية إلى المسألة المشهورة عند الشافعية بمد عجوة ودرهم ؛ وهي : أن يبيع أحد ربويين بمثله ومع أحد العوضين جنس آخر، فالبيع باطل عند الشافعية والمالكية ، إلا أن هؤلاء يتسامحون في المحقرات .
أما النقود الورقية فإنها ظهرت في الصين لأول مرة كما يذكر ابن بطوطة : ثم ظهرت في الغرب فكان بنك استكهولم بالسويد أول حلقة سنة 1608م في سلسلة تطور النقود الورقية الذي استمر إلى عصرنا الحالى من سندات إلى أوراق مغطاة بالذهب ، إلى أوراق غير مغطاة .
ولا أرى ضرورة للتوقف عند ذلك، المهم أنه لا اعتراض للفقهاء على توسيط أي شيء في التبادل ما لم يكن محرم العين أو مغشوشًا بشكل لا يمكن تحديد نسبته ولم يتواضع عليه، علمًا بأن بعض العلماء كالمقريزي في كتابه “إغاثة الأمة” أنكر إنكارًا شديدًا التعامل بالفلوس واستبعاد الذهب والفضة من دورة التعامل قائلاً بعد أن ذكر أن الفلوس أصبحت عوضًا عن المبيعات كلها ، من أصناف المأكولات والمشروبات، وسائر أنواع المبيعات : ويأخذونها في خراج الأرضيين ، وعشور أموال التجارة ، وعامة مجابي السلطان ، ويصيرونها فيها في الأعمال جليلها وحقيرها، ولا نقد لهم سواها، ولا مال إلا إياها ، بدعة أحدثوها، وبلية ابتدأوها ، لا أصل لها في سنة نبوية، ولا مستند لفعلها من طريقة شرعية، ولا شبهة لمبتدعها في الاقتداء بفعل أحد ممن غبر . إلى آخر كلامه ، حيث أبرز ما حل بالبلاد من الدمار والاضمحلال بسبب التعامل بالفلوس .
وقال : إن النقود المعتبرة شرعًا وعقلاً وعادة ، إنما هي الذهب والفضة فقط ، وما عداهما لا يصح أن يكون نقدًا .
__________

(2/2025)

————–

إلا أن ضابط الجواز هو ما ذكرناه سابقا من عدم إلحاق الضرب الناس في ممتلكاتهم، ومعاملاتهم وعدم بخس أشيائهم وتعريض اقتصادهم للفوضى والاضمحلال، فالأصل الجواز فيما سلم من ذلك ، خصوصًا إذا عري عن سبب يجعل شبهة التحريم قائمة ، كنيابة النقود الورقية عن العين الغائبة، مما يؤدي إلى الصرف المؤجل ، ومع ذلك فنحن نشاهد فوضى نقدية تتلاعب بأموال الناس ، وتحيل أرصدتهم إلى أوراق من الكاغد لا قيمة لها ، مما يجعل جوازها خاضعًا للقاعدة الشرعية المتمثلة في أن الحاجي ينزل منزلة الضروري كالإجارة ، حيث خالفت القياس لورود العقد على منافع معدومة . فالحاصل أنها إذا لم تترتب عليها أضرار اقتصادية فهي جائزة .
المسألة الثانية
هل بيع هذه النقود بعضها ببعض يدخله الربا؟
إذا كان بيع هذه النقود بعضها ببعض أو بالذهب والفضة يدخلهما الربا كما يدخل في الذهب والفضة ، أولا يدخل فيها الربا إلا ما يدخل في العروض ، فما هو الحكم في هذه المسألة؟
__________

(2/2026)

————–

إن هذه المسألة مطروحة منذ ظهرت الفلوس، وأفتى فيها الأئمة ، ولم يخل مذهب من خلاف في داخله حول هذه القضية ، حتى وصلت إلى عصرنا هذا .
ولا يزال النقاش مفتوحًا لصعوبة إقناع أيٍّ من الفريقين الآخرَ في غيبة نص صريح أو أثر للخلاف رافع ، أو إجماع قاطع، أو قياس جلي ناصع .
ويمكن أن نقسم اختلاف الفقهاء إلى موقفين : موقف يعتمد النص الحرفي أو دلالته القريبة، ويتمثل في مذهب أهل الظاهر ، وهو رأي كثير من علماء المذاهب الأخرى . وموقف يبتعد عن النص إلى حد ما عن طريق التعليل واستكناه مغزى النصوص ومراميها، ويجد سندا في بعض المذاهب الأخرى .
ولكثرة ما كتب في الموضوع فسأتحدث بإيجاز عن كلا الموقفين ، ثم أذكر مختاري في المسألة .
الموقف الأول : يتمثل في انتفاء الربوية ، وقد يختلف معتنقوه في التعبير عنه بسبب اختلاف مشاربهم ومذاهبهم بين مانع القياس مكتفيا بالنص كأساس في سائر الأصناف ، وبين من لا يتخذ هذا الموقف المبدئي فهو يجيز القياس ، إلا أنه ينفي وجود علة في هذا المكان بالذات ، أو يعترف بوجود علة فيه ، غير أنه يدعي فيها القصور .
واقتصارا للبحث فإننا نجعل تحت هذا الموقف من يعتبرها كالفلوس وهو ينفي الربوية عن الفلوس، ومن يجعلها كالعروض لأنه يثبت للفلوس نوعًا من الربوية لا يخضع لعلة الثمنية .
أما الظاهرية فإن موقفهم ينسجم مع مذهبهم الذي يرفض القياس ويرى من النصوص كفاية للقضايا المتجددة، وقد دافع ابن حزم عن موقفهم، ورد عليه ابن القيم وغيره بضراوة لا تقل قوة . فموقف الظاهرية معروف له ما له وعليه ما عليه . وقد نحى منحى الظاهرية في هذه المسألة جملة من العلماء، فمن السلف طاوس وقتادة وعثمان البتي وأبو سليمان .
__________

(2/2027)

————–

كما حذا حذوهم ابن عقيل من الحنابلة، وأبو بكر الباقلاني من المالكية ، والأخير عن ابن رشد في البداية، واللخمي أيضًا من المالكية عن أحمد بن علي المنجور ، في شرحه القواعد في مخطوطة ابن التلاميذ الشنقيطي ص60 .
ونصف في نفس الاتجاه من يعلل علة لا تتناول النقود الورقية ، كالوزن عند أبي حنيفة وأحمد في أحد قوليه، ولا داعي لنقل كلام هؤلاء لوضوح كلامهم واشتهاره ، كما نصف في نفس الاتجاه أيضًا من يعلل بالثمنية أو الثمنية الغالبة ، وهو يصرح بأن هذه العلة قاصرة وليست صالحة للتعدية إلى غير محلها، وهؤلاء يجدر بنا أن نتعرض لبعض أقوالهم وآرائهم نظرًا للالتباس الذي يوحي به التعليل بالثمنية .
ونقف وقفة قبل أن نسترسل معهم لنشير إلى أن بعض العلماء ممن يعترف بمبدأ القياس يقترب في تحليل فقهه من الظاهرية، وكمثال على ذلك نذكر ما نقله إمام الحرمين عن القاضي أبي بكر الباقلاني المالكي – وقد رأينا أنه غير معلل في هذه المسألة – حيث قال القاضي : الكتاب والسنة متلقيان بالقبول والإجماع ملحق بهما، والقياس المستند إلى الإجماع هو الذي يعتمد حكما وأصله متفق عليه .
__________

(2/2028)

————–

أما الاستدلال فقسم لا يشهد له أصل من الأصول الثلاثة ، وليس يدل لعينه دلالة أدلة العقول على مدلولاتها ، فانتقاء الدليل على العمل بالاستدلال دليل انتفاء العمل به، وقال أيضًا : المعاني إذا حصرتها الأصول ضبطتها النصوص ، كانت منحصرة في ضبط الشارع .
وإذا لم يكن يشترط استنادها إلى الأصول لم ينضبط واتسع الأمر ورجع الشرع إلى اتباع وجوه الرأي واقتنفاء حكمة الحكماء . فيصير ذوو الأحلام بمنزلة الأنبياء ، إلى أن قال : ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان وأصناف الخلق ، وهو في الحقيقة خروج عما درج عليه الأولون (1) .
ولعل كلام القاضي ، وإن كان إمام الحرمين اعترضه ، إلا أنه ليس بعيدًا من تفكير الشافعية، فهم وإن كانوا يقولون بالثمنية أو غلبة الثمنية لعلة ، إلا أنهم يقولون بأنها علة قاصرة، والعلة القاصرة عند من يقول بها هي التي لا تتعدى معلولها؛ لكونها محل الحكم أو جزء علة أو وصفًا لازمًا .
وقد ناقش علماء الأصول العلة القاصرة لإثبات وجودها ، ثم بعد ذلك لتحديد وظيفتها وعلاقتها بهذه المسألة ، ومن هؤلاء إمام الحرمين في البرهان (2) .
مسألة : إذا استنبط القائس علة في محل النص ، وكانت مقتصرة عليه منحصرة فيه لا تتعداه ، فالعلة صحيحة عند الامام الشافعي رضي الله عنه .
ونفرض المسألة في تعليل الشافعي تحريم ربا الفضل في النقدين بالنقدية ، وهي خاصة بالنقدين لا تتعداهما، وقد أطال النفس وناقش نفاة العلة القاصرة كالأحناف . وفي هذه المناقشة عرج على مسألة الفلوس أكثر من مرة ، فقال : ولقد اضطرب أرباب الأصول عند هذا المنتهى ، ونحن نذكر المختار من طرفهم ، ونعترض على ما يتطرق الاعتراض إليه ، ثم نص على ما نراه .
قال قائلون ممن لا يصحح العلة القاصرة : فائدة تعليل تحريم التفاضل في النقدين تحريم التفاضل في الفلوس إذا جرت نقودا ، وهو خرق من قائله، وضبط على الفرع والأصل ، فإن المذهب أن الربا لا يجري في الفلوس إن استعملت نقودا، فإن النقدية الشرعية مختصة بالمصنوعات من التبرين، والفلوس في حكم العروض ، وإن غلب استعمالها ، ثم إن صح المذهب قيل لصاحبه : إن كانت الفلوس داخلة تحت اسم الدراهم فالنص متناول لها، والطلبة بالفائدة قائمة، وإن لم يتناولها النص فالعلة متعدية إذًا، والمسألة مفروضة في العلة القاصرة .
__________
(1) البرهان : 1115 قطر .
(2) البرهان : 1080 .

(2/2029)

————–

كلام إمام الحرمين واضح في أن النقدية قاصرة على النقدين، وافتراضه الجدلي ظاهر في صعوبة منحاه ، حيث يجعل النقدية وهي الثمنية علة ، ثم يمنع طردها .
ثم قال بعد ذلك : فإن قيل : ما ذكرتموه تصريح باطل إلى التعليل بالنقدية قلنا : لم نر أحدًا ممن خاض في مسائل الربا على تحصيل فيما نورده . والصحيح عندنا أن مسائل الربا شبهية ، ومن طلب فيها إخالة اجترأ على العرب ، كما قررناه في مجموعاتنا .
ثم الشُّبَهُ على وجوه ، فمنها التعلق بالمقصود ، وقد بينا أن المقصود من الأشياء الأربعة الطعم، ومن النقدين النقدية، وهي مقتصرة لا محالة وليست علة ، إذ لا شبهة فيها ولا إخالة فيها . . . إلى آخر كلامه .
وقال بعد ذلك في التعارض بين العلة القاصرة والمتعدية وما قررناه لا يجري في النقدين، فإن العلة التي عداها الخصم فيهما باطلة من وجوه سوى المعارضة .
وقال أيضًا فإن قيل : قد علل أبو حنيفة رحمه الله في باب النقدين بالوزن وهو متعد إلى كل موزون، وعلل الشافعي رحمه الله بكونهما جوهري النقدين . وهذا مقتصر على محل النص فما قولكم في ذلك؟
قلنا : الوزن علة باطلة عند الشافعية ، والقول في التقديم والترجيح يتفرع على اتصاف كل واحدة من العلتين بما يقتضي صحتها لو انفردت (1) .
وقد أوضح النووي في المجموع مذهب الشافعي فقال : وأما الذهب والفضة فالعلة عند الشافعية فيهما كونهما جنس الأثمان غالبًا، وهذه عنده علة قاصرة عليهما ؛ إذ لا توجد في غيرهما . وبعد ذلك يوضح المسألة فيقول : إذا راجت الفلوس رواج النقود لم يحرم الربا فيها، هذا هو الصحيح المنصوص وبه قطع المصنف والجمهور (2) .
وقد أطال جلال الدين المحلي في شرحه لجمع الجوامع للسبكي حيث قال ممزوجا بالنص ” والعلة القاصرة وهي التي لا تتعدى محل النص منعها قوم أن يعلل بها مطلقًا” ، والحنفية منعوها إن لم تكن ثابتة بنص أو اجماع، قالوا جميعا : لعدم فائدتها، وحكاية القاضي أبي بكر الباقلاني الاتفاق على جواز الثابتة بالنص معترضة بحكاية القاضي عبد الوهاب .
__________
(1) البرهان : 1269 .
(2) المجموع مطبعة العاصمة : 9/444-447 .

(2/2030)

————–

كما أشار إلى ذلك المصنف بحكاية الخلاف .
والصحيح جوازها مطلقًا، وفائدتها معرفة المناسبة بين الحكم ومحله ، فيكون أدعى للقبول ومنع الإلحاق بمحل معلولها ، حيث يشتمل على وصف متعد لمعارضتها له ما لم يثبت استغلالها بالعلة ، إلى أن قال : ومن صورها ما ضبطه بقوله : “ولا تعدي لها” أي العلة عند كونها محل الحكم ، أو جزءه الخاص بأن لا يوجد في غيره، أو وصفه اللازم بأن لا يتصف به غيره لاستحالة التعدي حينئذ .
مثال الأول : تعليل حرمة الربا في الذهب بكونه ذهبًا، وفي الفضة كذلك .
ومثال الثاني : تعليل نقض الوضوء في الخارج من السبيلين بالخروج .
ومثال الثالث : تعليل حرمة الربا في النقدين بكونهما قيم الأشياء .
وبمراجعة كلام السبكي وشارحه جلال الدين يتضح أن الثمنية لا تعني التعدي ، وأنها ثمنية تختص بمحل الحكم لكونها وصفه اللازم .
وقد نظم سيدي عبد الله الشنقيطي المالكي في “مراقي السعود” كلام السبكي فقال :
وَعَلَّلُوا بِمَا خَلَتْ مِنْ تَعْدِيَهْ   لِيُعْلَمَ امْتِنَاعُهُ وَالتَّقْوِيَهْ
مِنْهَا مَحَلُّ الْحُكْمِ أَوْ جُزْء وَزَدْ   وَصْفًا إِذَا كُلٌّ لُزُومِيًّا يَرِدْ

قال في شرحه “نشر البنود” : يعنى أن المالكية والشافعية والحنابلة جوزوا التعليل بالعلة القاصرة ، إلى أن قال : فتعدية العلة شرط في صحة القياس ا اتفاقًا، والجمهور على أنها ليست شرطا في صحة التعليل بالوصف كتعليل طهورية الماء بالرقة والنظافة دون الإزالة . وتعليل الربا في النقدين بالنقدية أو بالثمنية أو بغلية الثمنية . . . إلى أن قال : يعني أن من صور العلل القاصرة أن تكون العلة محل الحكم أو جزءه الخاص به أو وصفه اللازم له، والمحل ما وضع اللفظ له كالخمرية، إلى أن قال : والمراد بالوصف اللازم هنا هو ما لا يتصف غير المحل به ، كالنقدية في الذهب والفضة ، أي كونهما أثمان الأشياء ، فإنهما وصف لازم لهما في أكثر البلاد (1) .
ونلاحظ حرصهم على التمثيل للعلة القاصرة بالنقدية أو الثمنية أو غلبة الثمنية، أو كونهما قيمة للأشياء ، كل هذا يدل على أن المعللين بالثمنية أو غلبتها ويقولون بقصور العلة ، يرون أنها ثمنية من نوع خاص، وهذا كقول البهوتي الحنبلي في زكاة الذهب والفضة في كتابه”كشاف القناع” : وهما الأثمان فلا تدخل فيها الفلوس ولو كانت رائجة .
إن النقدية الشرعية – كما سماها إمام الحرمين – تعني فيما يبدو كون النقدين أثمانًا بالخلقة ، حين تعتبر ثمنية غيرها ثمنية عارضة .
ونرى أن علماء الفروع بنى كثير منهم على هذه النظرية فقال الشيخ زكريا الشافعي : إنما يحرم الربا في نقدين ذهب وفضة ، ولو غير مضروبين كحلي تبر ، بخلاف العروض ، كفلوس وإن راجت .
وفي الدر المختار للشيخ محمد علاء الدين قوله : يحل بيع فلس بفلسين أو أكثر . وفي حاشية ابن عابدين جوازه عند أبي حنيفة ، وأبي يوسف : ليست أثمان خلقة فهي كالعروض .
__________
(1) المنجور : 60 .

(2/2031)

————–

وقد أسقط جل المالكية الزكاة في الفلوس ، إلا أن موقفهم ظل من الربوية مترجحًا بين الحكم بها وعدمه، فهي إذًا ثمنية من نوع خاص ؛ لأنها وحدها الغالبة ، ولأنها : “أصل الأثمان عند الشافعي ” (1) ، ولأنها النقد الشرعي ، كل هذه العبارات تدل على تهرب المعللين بالعلة القاصرة من شمولها للفلوس وما جرى مجراها .
أما وجهة النظر الأخرى التي تقول بالثمنية المتعدية – سواء عبر عنها بغلبة الثمنية، أي غلبة الاستعمال في التبادل ، أو مطلق الثمنية – ويمثلها المالكية ؛ لأن مالكًا رحمه الله كره ذلك .
قال ابن القاسم : سألت مالكًا عن الفلوس تباع بالدنانير والدراهم نظرة – أي تأخيرا – ويباع الفلس بالفلسين؟ قال مالك : إني أكره ذلك ، وما أراه مثل الذهب والورق في الكراهة .
وفي المدونة نصوص تدل على كراهة مالك لبيع الفلوس بالذهب والفضة نظرة، ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود ، وكانت لها عين وسكة فإن مالكًا يكره بيعها بالذهب والفضة نظرة .
وانطلاقا من نص الامام فإن علماء المالكية وضعوا قاعدة الثمنية أوغلبيتها ، أي هل تعتبر مطلق الثمنية كافيا لتلحق الفلوس بالنقدين، أو لا بد من أن يكون استعمالها غالبا ؟ وكلا العلتين متعدية عند أكثر المتأخرين من أصحاب مالك ، إلا أنهم بسبب الترجح بين العلتين، أي بين علة واقعة وهي الثمنية القائمة في الفلوس فعلا، وبين علة لم تقع زمانهم وهي غلبة الثمنية ، وعلى أصل مالك في التوسط بين الدليلين وهو ما يسمى بالبينية، أي وجود حكم بين دليلين، وهو إعمال كل من الدليلين من وجه يناسب أعماله .
__________
(1) المنجور : 60 .

(2/2032)

————–

قال الزقاق في المنهج المنتخب :
وَبَيْع ذِمِّيٍّ وَعِتْق هَلْ وَرَدْ   الْحُكْم بَيْنَ كَوْنِهِ اعْتَقدْ
كَالْبَيْعِ منْ شَرط يَصِحّ وَبَطلْ   وَحُكْمُ زِنْدِيقٍ وَشُبهة نقلْ

قال المنجور في شرحه (مخطوطة) ابن التلاميذ الشنقيطي ص57 : اختلف هل ورد الحكم بين بين، أي حكم بين حكمين ، فأثبته المالكية وهو من أصولهم، ونفاه الشافعية، ويعمل به عند من أثبته في بعض صور تعارض الأدلة ولا ترجيح، كما أذا اشبه الفرع أصلين ولم يترجح أحد الشبهين، ونقل أمثلة منها البيع بشرط عدم القيام بالجائحة ، فإن البيع يصح والشرط يبطل، وساق الأدلة المتعلقة بالشروط ، إلى أن قال : قال أبو عبد الله المقري : قاعدة : قال ابن العربي : القضاء بالترجيح لا يقطع حكم المرجوح بالكلية، بل يجب العطل عليه بحسب مرتبته ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام (( الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة )) .
وهذا مستند مالك فيما كره أكله ، فإنه حكم بالتحليل لظهور الدليل وأعطى المعارض أثره، فتبين مسائله تجدها على ما رسمت لك .
وقد نقل قبل ذلك انتقاد تقي الدين ابن دقيق العيد حيث قال عنه : “جعل بعض المالكية الحديث دليلا لقاعدة من قواعد مذهبهم ، هي أن الفرع إذا أشبه أصلين ودار بينهما يعطى حكمًا بين حكمين ؛ لأنه لو أعطى حكم أحدهما فقط لزم إلغاء شبهة بالآخر، والفرض أنه أشبه” إلى آخر كلامه (1) . انتهى محل الاستشهاد منه .
ولهذا فإن كثير من علماء المذهب المالكي جزموا بالكراهة وقالوا : إن ” أَكْرَهُ ” على بابها ولا تعنى الحرمة، وبنوا هذه المسألة أيضًا على قاعدة أخرى هي قولهم : هل يعطى النادر حكم نفسه ، أو يلحق بالغالب في حكمه؟ قال أبو عبد الله المقري في قواعده :
قاعدة : اختلف المالكية في مراعاة حكم النادر، في نفسه أو إجراء حكم الغالب عليه، وقد نظم ذلك أبو الحسن على بن القاسم الفاسي الشهير بالزقاق في المنهج المنتخب فقال :
وَهَلْ لِمَا نَدُرْ حُكْمُ مَا غَلَبْ   أَوْ حُكْمُ نَفْس كَالْفُلُوسِ وَالرُّطَبْ
وَكَسُلَحْفَاةٍ وَقُوتٍ نَدُرَا   كَذَا مُخُالِطٌ وَعَكْسٌ ذُكٍرَا .
__________
(1) المنجور(مخطوط) : 57 .

(2/2033)

————–

قال أحمد بن علي الشهير بالمنجور في شرحه لهذه الأبيات : أي نوادر الصور هل تعطى حكم نفسها أو حكم غالبها؟ وعليه إجراء ابن بشير الربا في الفلوس، ثالثها يكره، ورد إجراء اللخمي على أنه في العين غير معلل، والعلة الثمنية والقيمة . يقول أشهب : إن القائسين مُجمعون على التعليل، وإن اختلفوا في عين العلة، اللخمي : من رأى أن علة الربا في النقدين كونهما أثمان المبيعات وقيمة المتلفات ، ألحق بهما الفلوس . ومن رأى أنه شرع غير معلل منع لحوق الفلوس بهما، ابن بشير : وهذا غير صحيح للإجماع أنه معلل، وإنما اختلفوا في عين العلة ، وإنما سبب الخلاف في الفلوس الصور النادرة هل تراعى؟ فمن رعاها ألحق الفلوس بالعين ، ومن لا فلا . ويمكن أن يتخرج الخلاف فيها على اختلاف العوائد ، فيحمل على الجواز حيث لا يعمل بها والمنع على العكس . ثم قال بعد ذكر بعض الأمثلة وذكر نص المقري في القاعدة السابقة : هو عندي على أن العلة في العين كونها ثمنًا أو قيمة أو كونها أصلاً في ذلك الشافعى .
وقال النعمان بالوزن وأجرى الربا في كل موزون، وقال ابن العربي : ليست العلة القاصرة في الأصول إلا في هذه المسألة (1) .
__________
(1) المنجور (مخطوط) : 60 .

(2/2034)

————–

يلاحظ عزو المنجور الإجماع على التعليل لابن بشير ، وقد علمت مما مر أن الإجماع غير وارد، والصواب مع أشهب أن الإجماع إجماع القائسين، ثم أن اللخمي من علماء مذهب الإمام مالك يعتبر خلافه مؤثرا داخل المذهب ، حتى إن خليلاً في مختصره التزم ذكر اختياراته .
وقد أوجز ميارة الفاسي موقف المالكية بقوله في التكميل :
الثَّمَنِيَّة وَقِيلَ الْغَلَبَهْ   فِي الثَّمَنِيَّة فَحَقِّقْ مَذْهَبَهْ .
عِلَّة ذَا الرِّبَا عَلَيْهِمَا الْفلُوس   نُقُودًا أَوْ عَرَضًا فَحقِّقِ الْأُسس
وَجُلُّ قَوْلِهِ الْكَرَاهِيَةَ بِذَا   تَوَسُّطًا بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ خُذَا

قال الرهوني في حاشيته على الزرقاني : إن مالكا رحمه الله تردد في علة الربا في النقدين ، هل هي الثمنية المطلقة فتكون الفلوس ربوية؟ أو الثمنية المقيدة بالغالبية فلا تكون الفلوس ربوية؟ ففى بعض أبواب الفقه جعل العلة هي الثمنية المطلقة كالسلم ؛ لأنه جعل الفلوس فيه كالعين، وكذلك في باب الرهن وغيرهما، وفي بعض الأبواب جعلها الثمنية المقيدة بالغالبية كالقراض ؛ لأنه قال : لا يقارض بالفلوس ؛ لأنها تؤول إلى الفساد والكساد ، فجعلها كالعرض ، ولم يجعلها كالعين في كل شيء، وقد اختصر مذهبه ابن عرفة بقوله : وفي كون الفلوس ربوية ثالث الروايات يكره فيها . . . إلى آخره .
ومع أن جميع شروح خليل ذكروا القول بالحرمة في باب السلم ، فإنهم ذكروا الكراهة، وقال الرهوني : إنها الراجحة، ولكنهم تركوا الباب مفتوحًا لتحقيق المناط، أي للحكم بالربوية عندما تتحقق غلبية الثمنية ؛ لأنهم لا يفسرون الغلبية كما يفسرها غيرهم بأنها صفة لازمة للنقدين لتكون العلة قاصرة .
وإنما اعتبروها حالة واقعة بحيث إذا تحققت تلك الحال فلا مناص من تحقق الحكم طبقا لتعريف جمهور الأصوليين، فإن تحقيق المناط إثبات الصلة المتفق عليها أصلا في الفرع .
قال سيدي عبد الله الشنقيطي ناظما كلام السبكي في جمع الجوامع :
تَحْقِيق عِلّة عَلَيْهَا ائْتَلَفَا   فِي الْفَرْعِ تَحْقِيقُ مَنَاط ألفَا

قال في نشر البنود : يعنى أن تحقيق المناط، أي العلة هو إثبات العلة المتفق عليها في الفرع كتحقيق أن النباش الذي ينبش القبور ويأخذ الأكفان سارق، فإنه وجدت فيه العلة وهي أخذ المال خفية من حرز مثله ، فيقطع خلافا لأبي حنيفة .
__________

(2/2035)

————–

وتجدر الإشارة هنا إلى أن : تحقيق المناط ليس من المسالك ، بل هو دليل تثبت به الأحكام ، فلا خلاف في وجوب العمل به بين الأمة ، وإليه يحتاج في كل شريعة . قال أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله : “لابد من الاجتهاد فيه في كل زمن، ولا ينقطع ؛ إذ لا يمكن التكليف إلا به ومنه” .
وقال القرافي في شرح التنقيح في تعريفه ما نصه : “وأما تحقيق المناط فهو تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع” .
مثاله : أن يتفق على أن العلة في الربا (يعنى في البر والشعير) هي القوت الغالب ويختلف في الربا في التين ، بناء على أنه يقتات به غالبا في الأندلس أو لا ، نظرا إلى الحجاز وغيره، فهذا هو تحقيق المناط، ينظر هل هو محقق أم لا بعد الاتفاق عليه . ومثله في البيضاوي .
وعرفه الآمدي في الإحكام بأنه النظر في معرفة وجود علة الحكم ومناطه في آحاد الصور بعد معرفتها في نفسها . ومثل له بالنظر في وجود علة تحريم الخمر، وهي الشدة المطربة في النبيذ .
وسلك الإمام الغزالي في تعريفه طريقا آخر ترجع إلى الاجتهاد في تطبيق حكم كلي منصوص عليه في بعض جزئياته ، فقال في كتابه المستصفى ما نصه : “أما الاجتهادي في تحقيق مناط الحكم فلا نعرف خلافا بين الأمة في جوازه، مثاله : الاجتهاد في تعيين الإمام بالاجتهاد مع قدرة الشارع على تعيين الإمام الأول بالنص، وكذا تعيين الولاة والقضاة، وكذلك في تقدير المقدرات وتقدير الكفايات في نفقة القرابات وإيجاد المثل في قيم المتلفات، وأروش الجنايات وطلب المثل في جزاء الصيد ، فإن مناط الحكم في نفقة القريب الكفاية ، وذلك معلوم بالنص، أما أن الرطل كفاية لهذا الشخص أم لا فيدرك بالاجتهاد والتخمين .
فتحصل من مراجعة كتب المالكية والعلل التي أشاروا إليها والقواعد التي قعدوها في المسألة قيام ثلاثة أقول :
1- قول بالتحريم .
2- وقول بالجواز .
وقول بالكراهة .
__________

(2/2036)

————–

ومن المعلوم أن بعض العلماء الأعلام خارج المذهب المالكي شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى يتخذان موقفا متميزًا يجعل الثمنية المطلقة علة صالحة وكافية للحكم بربوية النقود، وقد أكدوا ذلك تأكيدا لا يضاهيه إلا موقف القاضي أبو بكر بن العربي رحمهم الله جميعًا حيث قال في ” العارضة” عند كلامه على حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ما نصه : “نبه بالبر على ما يقتات في حال الاختيار ، وبالشعير على ما يقتات في حال الاضطرار ، وبالتمر على القوت الذي يتحلى به كالزبيب والعسل، ونبه بالملح على ما يصلح الأقوات من توابل الطعام . ونبه بالذهب والفضة على ما يتخذ أثمانًا للأشياء وقيما للمتلفات كالفلوس ونحوها . وهذه حكم ما غاص على جوهرها إلا مالك ، وقد بيناها في مسائل الخلاف للنظر هنالك، وذكر علماؤنا عن مالك أن علة الربا في النقدين كونهما أثمانًا للأشياء ، وقيما للمتلفات ، وأنهما علة قاصرة لا تتعدى، وقال مالك : إنها تتعدى إلى ما يتخذه الناس أثمانًا للأشياء ، حتى لو اتخذ الناس الجلود بينهم أثمانًا لجرى فيها الربا، وقد رأيت أهل بغداد يتجرون بالخبز ، حتى إن الحمام يُدخل به، وبه يبتاع كل إدام ، فإذا اجتمع عندهم أوردوه على الخباز باردًا ، وباعه بسعر آخر حتى يفنى بالأكل ، إذ لا يعاد ثانية إلى الشراء به ، فصارت العلة عند مالك معنوية، وهو الصحيح” .
__________

(2/2037)

————–

وتكلم أبو عبد الله محمد بن خليفة الوشتاتي المالكي الشهير بالأبي في شرح صحيح مسلم عند كلامه على حديث أبي سعيد الخدري (( لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز )) .
فذكر قولين في الفلوس واستشهد لربويتها بقول المدونة في آخر السلم ” الثالث : لا يصح فلس بفلسين لا نقدا ولا مؤجلاً” .
ثم قال في تعريف الصرف : الصرف بيع الذهب بالفضة أو أحدهما بفلوس لقوله في المدونة ” ومن صرف دراهم بفلوس ، فأطلق على ذلك اسم الصرف . والأصل في الإطلاق الحقيقة” .
وذكر كل شراح خليل الخلاف في المسألة مفرعين على الحرمة غالبًا في الصرف وعلى الكراهة أيضًا، ويجري مثل ذلك في السلم، وكلامهم معروف لا نطيل عليكم بنقله .
المناقشة
فتلخص مما مر قيام مذهبين أو موقفين من النقود الورقية :
أولهما : موقف من يقول بعدم ربوية النقود ، أو على الأصح يذهب إلى عدمها ؛ لأنه لا نص من الأقدمين في النقود الورقية ، ولكنها مشمولة بالعموم، وبالنص على المثيل، وهذا الموقف هو رأي أكثر العلماء كما أسلفنا .
ويمكن إرجاع بواعثهم حسب رأينا إذا قرأنا كلامهم قراءة متأنية إلى ما يلي :
1- أن تحريم الربا أمر تعبدي لا تظهر له علة واضحة معقولة ، فهو من قبيل الابتلاء والاختبار، وما كان من هذا القبيل يقتصر فيه على محل الورود .
2- أن الذهب والفضة لهما مزايا وخصائص لا توجد في غيرهما، فهما معدنان نفيسان قابلان للكنز واختزان الثروة ، ويبقيان على الزمن، هذا من ناحية الخلقة، أما من الناحية الشرعية فيحرم اقتناء آنيتهما، ولا يجوز التحلي بهما للرجال غير ما استثنى الشارع . فهما أثمان بالخلقة ، وهما أصل الثمنية ، وهما النقدان الشرعيان .
3- صعوبة إبراز علة مقنعة سالمة من القوادح مطردة منعكسة، وقد قدمنا قول إمام الحرمين أنه لا شبهة فيها ولا إخالة .
__________

(2/2038)

————–

4- نوع من الخوف من التجاوز والافتيات على النصوص، نجد مثالاً له في ترجيح العلة القاصرة على المتعدية على رأي الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني إذا صح التعليل بهما “ومن رجح العلة القاصرة احتج بأنها متأيدة بالنص، وصاحبها آمن من الزلل في حكم العلة ، فكان التمسك بها أولى” (1) .
5- أن ثمنية غير النقدين ثمنية مستعارة ومعرضة الزوال في أي لحظة، ومن شأن هذا أن يجعل الثمنية فيه صفة عارضة .
6- أن التحريم تكليف والتكليف يحتاج إلى ورود النص كحديث (( الطعام بالطعام )) الذي جعل الشافعي رحمه الله يرجع عله الطعمية ، ويسهل ذلك على أصحابه المترددين في قبول العلة، وقبول تعديها ، ولأن جهة التحريم محصورة، وجهة الإباحة لا حصر لها، فالواقعة إذا ترددت بين الطرفين ووجدت في شق الحصر فذلك، وإلا حكم فيها بحكم الآخر الذي أعفي من الحصر .
7- في الربا من الخطورة والتحريم ما لو كان قائمًا في هذه المسألة ما ترك بيانها ، والله سبحانه وتعالى يقول : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } [الأنعام : 119] .
أما الفريق الآخر فيعتضد بما يلي :
1- الشريعة جاءت لمصالح العباد ويستحيل أن تحرم شيئًا لمفسدة ، وتترك شيئا فيه نفس المفسدة فنظير الحرام حرام (2) .
2- التعليل أولى لأنه أكثر فائدة، وترك التعليل خشية، وما في ترجيح العلة القاصرة من الأمن لا وقع له ، فإنه راجع إلى استشعار خيفة ، لا إلى تغليب ظن وتلويح متلقى من مسالك الاجتهاد (3) .
3- إعمال التعليل في أربعة من الستة وتركه في اثنين تحكم، أي ترجيح بلا مرجح .
4- أن الغلبة الثمنية أصبحت واقعًا للنقود الورقية ، فالاعتراف لها بأحكام النقدين إنما هو من تحقيق المناط وليس إحداثًا لاجتهاد جديد إلا بقدر ما يقتضيه تحقيق المناط ؛ لأن الحكم كان موجودا معلقًا، وقد تحقق شرطه في جزئيته ، فيجب إثبات الحكم .
__________
(1) البرهان : 1266 .
(2) ابن القيم . إعلام الموقعين .
(3) البرهان : 1267 .

(2/2039)

————–

5- أن عدم إجراء الربا فيها تعطيل لحكم يتعلق بمسألة خطيرة من مسائل المعاملات .
وبعد، فإن تصفح كلام العلماء لا شك يساعد على تكوين رأي وإعطاء صورة مميزة لأي موضوع، ذلك هو الهدف وراء مراجعة كلام الأقدمين والمتأخرين ، ومقارنة أقوال المحللين والمحرمين .
إلا أن النتيجة الأولى التي يمكن أن يخرج بها المرء بعد أن طالع أقوال الفقهاء ، هي ملاحظة الاضطراب الواضح عند أكثرهم في هذه المسألة، فلا يكاد أحدهم يبرم رأيا إلا كر عليه بالنقض ، ولا يبسط وجها إلا عاد عليه بالقبض ، وهكذا دواليك ، حتى يقول القارئ : حنانيك بعض القول أهون من بعض، والفلوس إلا تكن عينًا فإنها ليست غير عرض (( ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه )) .
والشبهة بدون شك قائمة إذ حدها : ما تجاذبته الأدلة، أو أشبه أصلين دون قياس علة مستقل، وهنا تجاذب هذه القضية العفو ، وهو أصل يرجع إليه عند سكوت الشارع، وعدم ثبوت سبب أو قيام مانع لحديث : (( وما سكت عنه فهو عفو فاقبلو من الله عافيته ، فإن الله لم يكن ينسى شيئًا . ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [ مريم : 64] )) (1) .
__________
(1) أخرجه البزار في مسنده ، والحاكم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه . وقال الحاكم : صحيح الإسناد، وقال البزار : إسناده صالح .

(2/2040)

————–

والأصل الثاني : هو شبه النقود الورقية بالعين لوجود علة مظنونة وحكمة مقدرة، وقد أجمل الفخر الرازي حكمة الربا في أربعة أسباب :
1- أولهما أنه أخذ مال الغير بغير عوض .
2- ثانيهما : أن في تعاطي الربا ما يمنع الناس من اقتحام مشاق الاشتغال في الاكتساب؛ لأنه إذا تعود صاحب المال أخذ الربا ؛ خف عليه اكتساب المعيشة ، فإذا فشى في الناس أفضى إلى انقطاع منافع الخلق ؛ لأن مصلحة العالم لا تنتظم إلا بالتجارة والصناعة والعمارة .
3- الثالث : أنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس بالقرض .
4- الرابع : أن الغالب في المقرض أن يكون غنيًا، وفي المستقرض أن يكون فقيرًا ، فلو أبيح الربا لتمكن الغني من أخذ مال الضعيف (1) .
وعلله الشيخ ابن عاشور بأنه حكم معلل بالمظنة .
أن كثرة العلل قد يدل على صعوبة التعليل، وفي التعليل بالمظنة خروج من المأزق، وكل ذلك يدل على صعوبة مركب القائسين وتوجه وجه حكم بين حكمين ، لاشتباه الشبه في أوجه السالكين، فالشبهة تنشأ عن أسباب منها كون النص خفيا وورود نصين متعارضين، ومنها ما ليس فيه نص صريح ، وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس، فتختلف أفهام العلماء في هذا كثيرا” (2) .
ومعلوم أن موضوعنا لا يوجد فيه نص خفي أو ظاهر ، فضلا عن وجود نصين متعارضين ، فهو بالطبع من النوع الثالث الذي يؤخذ من القياس ، وقد اختلف فيه العلماء ، فهو إذًا شبهة ، فما هو حكم الشبهة؟
وقد فسر الإمام أحمد رحمه الله الشبهة بأنها منزلة بين الحلال والحرام (3) .
وقال الماوردي “هي المكروه ؛ لأنه عقبة بين الحلال والحرام” (4) .
__________
(1) التحرير والتنوير للشيخ ابن عاشور : 3/85-86 .
(2) جامع العلوم والحكم . ابن رجب : 60 .
(3) نفس المصدر 61 .
(4) الشبرخيتي على الأربعين النووية : 113 .

(2/2041)

————–

فإذا كان الأمر على ما ذكرت، والإمام مالك يصرح بالكراهة ، ومن أصول مذهبه قيام حكم بين حكمين، والأئمة الآخرون لا يكرهون، فأنا أكره ما كرهه مالك رحمه الله، والكراهة حكم من الأحكام الخمسة يجب أن يعاد إلى حياة المسلمين العملية في بيوعهم وأنكحتهم، فيمتاز أهل الورع عن غيرهم، ويترك لذي الحاجة مندوحة عن ارتكاب الأثم السافر، إلا أنها كراهة تحريم شديدة ، والله أعلم .
وكأني بقائل يقول : أحللت الربا، وأنا أقول ما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أفتى في الخمر بأنها إذا طبخت وتخللت حتى ذهبت شدتها يجوز شربها ، فقال له قائل : احللتها ياعمر . فقال : والله لا أحل إلا ما أحل الله ولا أحرم إلا ما حرم الله ، والحق أحق أن يتبع” .
__________

(2/2042)

————–

المسألة الثالثة
التغيرات التي تطرأ على العملات من غير الذهب والفضة من بطلان ونقصان أو رجحان ، وأثرها في المعاملات :
1- إذا بطل التداول بعملة كانت رائجة في جميع البلدان ، فهل لذلك تأثير على العقود التي وقعت بها؟
ومن كانت مترتبة في ذمته ، فهل له أن يدفعها بعينها وإن كانت باطلة ، أو عليه أن يدفع قيمتها؟
في ذلك مذاهب، ومذهب أبي حنيفة أن العقد يفسد ببطلان رواج الثمن ، ويفسخ البيع ما دام ذلك ممكنا بوجود المبيع بحاله قبل قبضه ، فيرده المشتري، وإن تلف رد مثله أو قيمته، وإن كانت قرضا أو مهرا مؤجلاً رد مثلها وإن كانت كاسدة ؛ لأنها هي الثابتة في ذمته .
والمشهور عند الشافعية والمالكية أن ذلك لا يفسد العقد، وأن الذي ترتب في ذمة المدين وليس عليه الدائن سواه، ويعتبر ذلك كجائحة نزلت به ، سواء كان الدين قرضا أو ثمن مبيع أوغير ذلك، وذهب بعض المالكية إلى أن الواجب على المدين السلعة يوم قبضها من العملة الرائجة .
ومن الجدير بالملاحظة أن الخلاف في المذهب المالكي ، وإن كان الراجح فيه أن يدفع مثل الفلوس الباطلة ، كما قال خليل في مختصره : “وإن بطلت فلوس فالمثل ، أو عدمت فالقيمة” ، فإنهم مع ذلك بنوا هذه المسألة على قاعدة يفهم منها اعتبار القول المقابل ؛ لأنهم بنوا عليه لزوم القيمة إذا مطل المدين، وبناء القول الراجح على قول مرجوح يدل على أن له حظا من النظر، تلك القاعدة هي : إذا فقد المعنى المقصود مع وجود العين المحسوسة ، هل يجعل الحكم تابعًا للمعنى فيقرر بعدمه عدم العين ، أو لا يقدر كالعدم لوجود عينه؟
قال ميارة الفاسي في تكميل المنهج :
إِن فقدَ الْمعنَى الذي قَد قَصَدَا   مع بقاءِ العينِ فِي حسٍّ بَدَا
هلْ يجعلُ الحكمَ لمعنًى تَبعا   أو يتبعُ العين خلافٌ سُمِعَا
كَسِكةٍ فِي ذمةٍ ثم انقطعْ   بِهَا التعاملُ فَحقّقْ تتبعْ
لِلأولِ القيمةُ والثاني المثل   وشهرَ الثاني نعم به العمل
لكنه مقيدٌ بما إِذا   لم يحصلِ المطلُ فقلْ ياحبَّذَا
وإن يكن فأوجبنْ عليهِ ما   آلَ لهُ الأمرُ لظلمٍ قد سَمَا
قلتُ وهذا ظاهرٌ إِن كان ما   آلَ له الأمرُ رفيعًا فَاعْلَمَا

(1) .
__________
(1) تكميل المنهج شرح الفقيه محمد الأمين بن أحمد زيدان الشنقيطي دار الكتاب المصري : 53 .

(2/2043)

————–

2- بطلان رواجها في بعض البلاد دون بعض ، فالمشهور عند الأحناف أن ذلك لا يوجب فساد العقد ، وأن البائع بالخيار بين أن يدفع له المشتري العملة التي وقع العقد عليها ، أو التي تروج في بعض البلدان، وإن كانت لا تروج في بلد البيع ، وبين أخذ قيمتها من عملة رائجة فيه، وحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أن الحكم في ذلك مثل الحكم في بطلان العملة في جميع البلدان .
3- انعدام العملة المترتبة في الذمة بفقدانها وعدم توفرها في الأسواق، والجمهور على أنه تجب قيمتها ، إلا أنهم اختلفوا في الوقت الذي تجب فيه، فعند الحنابلة أنه آخر وقت قبل الانقطاع، وهو مذهب الحنفية المفتى به عندهم وهو ، قول محمد بن الحسن ، وقال أبو يوسف : إنه يوم التعامل .
وأما أبو حنيفة فقال : إن ذلك يوجب فسادا لبيع كبطلان العملة ، وعند الشافعية أن القيمة تجب في وقت المطالبة .
والمشهور عند المالكية أنها تجب في أبعد الأجلين من الاستحقاق والانعدام، على ما اختاره خليل بن إسحاق في مختصره تبعًا لابن الحاجب، والقول الثاني أنها تعتبر يوم الحكم ، قال أبو الحسن : وهو الصواب . البرزلي : وهو ظاهر المدونة .
__________

(2/2044)

————–

فكان على المصنف أن يذكر القولين أو يقتصر على الثاني .
4- طرق النقصان والرجحان ، أي أن العملة بعد تقررها في ذمة المدين تغيرت قيمتها بالزيادة أو بالنقص ، فماذا عليه أن يؤديه للداين في هذه الحال؟
فيه ثلاث أقوال :
الأول : وهو المشهور عند المالكية والشافعية والحنابلة وقولٌ لأبي حنيفة : أن الواجب على المدين أداؤه نفس العملة التي وقع التعاقد عليها وإن نقصت أو زادت .
الثانى : قول أبي يوسف وهو : أن على المدين أن يؤدي قيمة العملة التي تغيرت بالنقصان أو بالزيادة ، ولا يلزم الدائن أن يقبل ما وقع عليه التعاقد إذا نقص .
الثالث : ما استظهره الرهوني من التفصيل مقيدا به القول المشهور في مذهب المالكية من كون اللازم في بطلان الفلوس وأولى تغيرها بالزيادة والنقصان ؛ هو المثل . قال : وينبغى أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه ؛ لوجود العلة التي علل بها المخالف (1) .
__________
(1) الزرقاني على مختصر خليل : 5/60 .

(2/2045)

————–

وبعد، فإن تفصيل الرهوني جيد ، إلا أنه لم يحدد النسبة التي إذا وصل إليها الرخص رجع بها الدائن على المدين ، سواء كان دين قرض يقصد به المعروف والإحسان أو دين بيع تتوخى فيه المكايسة والربح، ونحن نقترح للبحث نسبة الثلث قياسا له على الجائحة في الثمار ؛ لأن الجائحة أمر خارج عن إرادة المتعاقدين ، وليست من فعل أحد حتى يرجع عليه البائع أن شاء . أما ما كان بفعل آدمي فقال القاضي : المشتري بالخيار بين فسخ العقد ومطالبة البائع بالثمن ، وبين البقاء عليه ومطالبة الجاني بالقيمة ، وهنا لا يوجد شخص معين مسئول حتى يقيم عليه المتضرر دعوى، فالحكمة في الجائحة أنه لما كان الناس لابد لهم من بيع ثمارهم أَمَرَ الشارع برد الجائحة .
ففى الحديث (( إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة ، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ، لم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ )) ، رواه مسلم في صحيحه وابن ماجه وأحمد ، يدل على أن العلة في وضع الجائحة هو أخذ المال بغير حق، وهو إيماء إلى العلة ، وذهب إلى اعتبار الجائحة في الجملة أحمد ومالك وأكثر أهل المدينة ، وبه قال الشافعي في القديم، ، وقد رد الاستشهاد بالحديث الذي تمسك به الشافعي في الجديد وأبو حنيفة .
وقال مالك : إن الجائحة تكون في ضمان البائع إذا وصلت إلى الثلث فما فوق، وهي رواية عن أحمد .
__________

(2/2046)

————–

كما أن الثلث يعتبر في الغبن الذي يقع على أحد المتعاقدين قبل الاكتفاء بالثلث ، لتحقيق الغبن عند ابن عاصم، وقيل : لا بد من الزيادة على الثلث عند ابن القصار، ونفى خليل اعتباره مطلقًا فقال : “لا بغبن ، ولو خالف العادة” .
وقال ابن عاصم الغرناطي :
وَمَنْ بِغَبْنٍ فِي مَبِيعٍ قَامَا   فَشَرْطُهُ أَنْ لاَ يَجُوزَ الْعَامَا
وَأَنْ يكونَ جَاهِلاً بِمَا صَنَعْ   وَالْغَبْنُ بِالثُّلُثِ فَمَا زَادَ وَقَعْ .
والحاصل أن الغرر اليسير مغتفر، والغرر الكثير معتبر، والثلث مرة كثير ومرة يسير عند الفقهاء . قال الزقاق في المنهج المنتخب :
وكثرةُ الثلثِ فِي الْمعَاقلهْ   جَائِحَة خَفَّ وحملُ العاقلهْ
وَذَنب الأضْحَاةِ وَالَّذي اسْتحَقّ   مِن فندقٍ وشبهه قاضٍ يحقّ
أَن ْيَنْقَسمَ كَدَارِ سُكْنَى رَدفْ   لاَ ضرَّ لا نَقْصَ وفِي الْعَيْبْ اخْتلفْ
فِي الدَّارِ كالمِثلي مُطلقًا كَما   فِي ذنب وَنَزر نصفٌ عُلِمَا

إلى أن قال في المسائل التي يعتبر الثلث فيها نزرًا، إذ لابد من الزيادة عليه لإحداث حكم مؤثر :
__________

(2/2047)

————–

أمَّا مسائل الوصايا وَالْغَلثْ   تَبرعُ العرسِ فَمن نزرَ الثلثْ
فِي قصدِهَا لا ذِي خلافٍ وَثمرْ   كصُبْرةٍ دَانيةٍ وَمن ذكرْ
غَبنًا فَمنْهُ وبياض قَد ألفْ   فِي أُذنِ أصخاةٍ تَرددٌ عُرفْ
كَحليةٍ وَالحوزِ والأباري   مَسَائل الزَّكاةِ غرس جَارِي
تَبرعُ المريضِ أو حَابى وما   ضُمِن كالعرسِ وَشبه عُلِمَا

أجمل المنجور في شرحه هذه الأبيات عند كلامه على الغبن أقوال المالكية .
فقال ابن عبد السلام : مشهور المذهب عدم القيام بالغبن، وعن ابن الحاجب قيل : الثلث غبن، وقيل : ما خرج عن المعتاد. ابن القصار : يقام بالغبن إذا زاد على الثلث .
ولعل هذه المسألة يرجع فيها إلى قاعدة أخرى، وهي : هل يتعين ما في الذمة أو لا يتعين، فإذا قلنا بتعيينه لزمه ما تقرر في الذمة يوم التعاقد قدرًا وصفة، وإذا قلنا بعدم تعينه لم يلزمه إلا ما آل إليه الأمل، وهذه القاعدة ذكرها صاحب المنهج المنتخب فقال :
وَهل تعين لِمَا فِي الذمةِ   هل ينقل الحكم بعَيدِ نيتى

تبدلت … إلخ . يراجع في هذه المسألة المنجور، والفرق السابع والثمانون من فروق شهاب الدين الفراقي .
والله ولي التوفيق والهادي إلى سواء الطريق .
__________

(2/2048)

————–

الخلاصة
الحاصل أن هذه المسألة وإن كانت أكثر نصوص الفقهاء فيها على عدم إلزام المدين بجبر الضرر الذي نزل بالدائن ؛ فإن وجه المصلحة بيّن ، واندراج هذه الجزئية تحت عمومات كثيرة ترقى بها عن المصالح المرسلة لتجعلها في نطاق المصالح المعتبرة للشارع ؛ لعموم قوله تعالى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [البقرة : 188] وخبر (( لا ضرر ولا ضرار )) ، (( ولم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ )) .
وهي جديرة بالاجتهاد ؛ لأن تغير العملة يقترب من الجوائح كالثمار في مهب الرياح الغوادي والروائح مما يستدعي الاستنجاد بمقيدات ومرسلات المصالح .
وبهذا يقيد استرسال الأقلام، ونكتفى من طرق الموضوع بالإلمام، وإن لا نكن قد وفقنا في فتق رتقه وفتحه، فعسى أن نكون قد ساهمنا في إثارة بحثه وطرحه .
ونستغفر الله العظيم ونتوب إليه مما بدر منا فيه من هفوة أو زلل، أو تقصير في حق أو تجاوز في نطق أو علم .
اللهم صل على عبدك ونبيك سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلم تسليمًا .
__________

(2/2049)

————–

 

     

ورشة حول العلامة عبد الله بن بيه ومنهجه في الاجتهاد والتجديد في طرابلس ليبيا

نظم مجمع ليبيا ورشة حول رسالة ماجستير: العلامة عبد الله بن بيه ومنهجه في الاجتهاد والتجديد

في صباح السبت 13 أغسطس 2022 بمقره بالعاصمة الليبية طرابلس، أقيمت ورشة حول رسالة ماجستير بعنوان: الشيخ العلامة عبد الله بن بيه ومنهجه في الاجتهاد والتجديد، حضرها عدد من المهتمين والأساتذة.

هذه الرسالة للباحث: عبد السلام حسن القاضي نوقشت وأجزيت هذه الرسالة في جامعة غريان بتاريخ 7 مارس 2022، وكانت لجنة المناقشة: أ.د. جمعة محمد الأحول مشرفا ومقررا، أ.د.محمد بشير سويسي ممتحنا خارجيا، أ.د. ناجي امحمد الصادق ممتحنا داخليا.

   

عرض الباحث في ورشة العمل الفصل الأول من الرسالة، والمعنون بـ العلامة عبد الله بن بيه النشأة والتحصيل، وتحدّث في هذا الفصل عن ميلاده ونشأته، وحياته الأسرية والعلمية، وشيوخه، ومكانته العلمية، ومناصبه ومشاركاته البحثية المحلية والعالمية، في إشارة ذات أهمّية عالية إلى أن النتائج الجيدة يسبقها استعدادات أكثر جودة.

   

وتأتي هذه الورشة للتعريف بأعلام الإسلام المعتدل في العالم الإسلامي، ويأتي العلامة عبد الله بن بيه في مقدمة من جمعوا بين الأصالة والمعاصرة بتميّز وإبداع، مع الحفاظ على الموروث الثقافي والمعرفي في مواجهة التحديات، ليضرب المثل لطلاب العلم اليوم والواجبات المترتبة عليهم علما ووعيا وثقافة واستعيابا وفهما وأصالة ومعاصرة وخدمة ومحبّة وتزكية وأخلاقا.